برحيل الفنان التشكيلى الكبير الأستاذ حلمى التونى فى 7 سبتمبر الجارى تفقد الحركة التشكيلية المصرية والعربية واحدًا من أبرز مبدعيها وأكثرهم إنتاجًا، فقد عاش الرجل 90 عامًا، (مولود فى 1934)، عاشقا للوحة بتجلياتها المختلفة، عاكفا على التعامل معها بمحبة واحترام، فقد رسم آلاف اللوحات، وصمم المئات من أغلفة الكتب والمجلات، كما ابتكر العديد من إعلانات الأفلام والمسرحيات.
عرفت الأستاذ حلمى عن قرب قبل ثلاثين عامًا تقريبًا، حيث أجريت معه عدة حوارات مطولة نشرتها آنذاك فى صحيفة العربى المصرية، وفى صحيفة البيان الإماراتية. كما دعانى إلى بيته بالزمالك غير مرة، وأطلعنى على مكتبته العامرة بكل ما تحويه من كتب فى فروع المعارف المختلفة، وأشهد أنه مثقف من طراز فريد، يملك رؤية شاملة للحياة والكون والإنسان، كما أنه خفيف الظل جدًا.
أذكر أننى كنت أجرى معه حوارًا فى عام 1996 تقريبًا بمناسبة افتتاح معرضه المقام حينئذ فى مجمع الفنون بالزمالك. جلس أمامى بأناقته المعروفة وذوقه الرفيع فى اختيار ثيابه، بينما عيناه صوب مدخل القاعة.
مضى يجيب عن أسئلتى بهدوء، لكنه لا يتوقف عن مراقبة المدخل باهتمام، فسألته: ما الخبر يا أستاذ حلمي؟ فابتسم وقال لي: (أنتظر مفاجأة سارة ستراها بعد دقائق يا ناصر)، وبالفعل، أقبل علينا الكاتب الصحفى القدير بحق الأستاذ محمد حسنين هيكل بكامل أناقته وهيبته، وبرفقته زوجته السيدة هدايت.
آنذاك نهض الأستاذ حلمى حيث تصافح الاثنان بمودة، ثم تفضل مشكورًا بتقديمى بشكل لائق للأستاذ هيكل. وبعد دقائق أخرى وصل الأستاذ فهمى هويدى فأقبل نحو الأستاذ هيكل وصافحه باحترام شديد، ومضى فناننا الكبير يشرح لهما ما أبدع من لوحات، بينما كنت أراقب المشهد كله بتركيز شديد.
أذكر أنه أخبرنى مرة أنه حفيد إسماعيل باشا المفتش ناظر مالية الخديو إسماعيل، وأنه كان يخجل فى طفولته من هذه العلاقة بسبب ما أشيع عن (خيانة المفتش)، لكن قراءاته أثبتت له أن الرجل كان وطنيًا بحق.
أذكر أيضاً أننا كنا فى مؤتمر بإحدى العواصم العربية، ودعتنا أحد الرموز الثقافية فى هذا البلد لسهرة فنية فى قصرها الجميل، وبالفعل ذهبنا الأستاذ حلمى التونى والشاعر الكبير الأستاذ أحمد عبدالمعطى حجازى والمرحوم الدكتور جابر عصفور والكاتب الصحفى الأستاذ مجدى الدقاق وأنا لحضور السهرة، التى ضمت أكثر من 45 مثقفا وفنانا عربيًا يمثلون معظم الدول العربية.
وهكذا شرع مطرب السهرة فى الغناء على رنات العود وإيقاع الطبلة، وقد أسعدنا الأستاذ حجازى بغنائه (يا دنيا يا غرامي) لعبدالوهاب،
أما المفاجأة فكانت إقدام الأستاذ حلمى التونى على غناء (الناس المغرمين) لمحمد عبدالمطلب، وأشهد أن أداءه كان بالغ الفخامة والجمال، فاستحوذ على إعجاب الحضور.
مع السلامة يا أستاذ حلمى.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ناصر عراق الفنان التشكيلي
إقرأ أيضاً:
حقائق مدرسية من أعماق الذاكرة
بقلم: كمال فتاح حيدر ..
يبقى المعلم هو العمود الفقري في جميع هياكل وأسس التربية والتعليم، فهو الذي ينفخ في عقولنا، ويُجري في عروقنا دماء العلوم والفنون والآداب. ففي عوالم التعليم هنالك عوامل شتى ومؤثرات كثيرة تجمع بين المناهج والمقررات والكتب والمحاضرات والإدارة والأجواء المدرسية والتوجيهية والواجبات البيتية والنشاطات الأخرى، تشترك كلها في التوجيه والتأثير بنسب متفاوتة، ولكن يظل المعلم هو العصب الحي للتعليم. .
وهنالك حالات بعيدة كل البعد عن هذه الأجواء، حالات يمكن ان نعدها صادمة أو غير عادلة. ولا تنتمي إلى الأوساط التربوية والتعليمية. .
اذكر في عام 1966 كنا طلابا في متوسطة الوحدة الواقعة خلف مستشفى الموانئ بالبصرة. وكان مديرها: الأستاذ (عدنان أحمد عبد الرحيم). واذكر ان الطائرة المروحية، التي كانت تقل الرئيس عبد السلام عارف، سقطت في منطقة النشوة، داخل الحدود الإدارية للبصرة، فخرج المدير (عدنان) يبكي ويذرف الدموع حزنا وألما على فراق السيد الرئيس، وكان بيده راديو ترانزستور يسمع منه الأخبار. .
كان المدير (عدنان) محسوبا على القوميين العرب، ومن المؤيدين لعبد الناصر وعبد السلام. فقرر في ذلك اليوم تعطيل الدوام الرسمي، وطلب من التلاميذ العودة إلى بيوتهم. .
كانت المدرسة تضم شريحتين متناقضتين من التلاميذ. بعضنا ينتمي إلى الطبقة الثرية المترفة، وبعضنا ينتمي إلى الطبقة الفقيرة المسحوقة. .
أنا بطبيعة الحال كنت من الطبقة المسحوقة جدا، وكان معي اثنان من أشقائي. فذهبنا في العام التالي إلى غرفة الإدارة لطلب المساعدة بغية الحصول على المقررات الدراسية بلا مقابل مادي. كان الأستاذ (عدنان) يجلس في الصدارة والى جانبه الأستاذ (حميد الفريح). قال لنا بنبرة حادة: ماذا تريدون ؟. قلنا له نريد أعفاءنا من مبالغ الكتب الدراسية ونحن اخوة. فزجرنا بغضب، وقال لنا: انتم من بيئة منحطة. .
لم نكن نعرف معنى مفردة (منحطة) فهي غير متداولة في القرى والأرياف. حتى اصدقائي لا يعرفون معناها، لكن تلك الكلمة ظلت عالقة في ذهني. . حزنت كثيرا عندما اكتشفت معناها، فالرجل كان يعامل أبناء الذوات بطريقة تختلف عن أبناء الفقراء، كان يكرهنا ويبغضنا دونما سبب. .
وفي بداية عام 1981 كنت اعمل بالموانئ بدرجة ضابط خفارة ملاحية، فلمحت الأستاذ (عدنان) من بعيد، واندهشت من عمله في القسم القانون بدرجة موظف في الأرشيف، ثم تبين لي أنهم طردوه من سلك التعليم بسبب تبعيته غير العراقية، وغير العربية. .
من كان يتوقع ان الرجل القومي المتشدد لم يكن عربيا !؟!. .
لم اكلمه ولم أعامله مثلما كان يعاملنا في تلك الأيام. ثم سألت عنه بعد حين، فقالوا انه طلب الإحالة إلى التقاعد، ورحل. . .
ظلت ارواحنا مقيدة بين شيئين: الذكريات والأقدار. فلا هذا يرحم، ولا ذلك نستطيع الفرار منه. ومع ذلك لا تفكر في الانتقام من أي إنسان، ولا تتشفى به. فقط راقب المشهد من بعيد وانظر لما سوف تفعله الأيام، فهي كفيلة بكل المتغيرات والانقلابات. .