كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته
تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT
د. محمد بن خلفان العاصمي
قال رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم "كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عنْ رعِيَّتِهِ" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كثيرٌ من المشاهدات الحياتية تمر علينا خلال اليوم الواحد ولعلنا لا نلقي بالًا لكثير من هذه المواقف ولا نتمعن فيها باعتبارها مواقف مكررة أصبحت مألوفة في وقتنا الحاضر، ومع تسارع رتم الحياة نجدنا في كثير من الأحيان غير مبالين حتى لمجرد بذل محاولة في فهم السلوك البشري الذي اختلف كليًا عن السابق مع طغيان المدنية وسيطرتها على حياتنا بشكل شبه كامل جعلتنا أقرب للآلات منَّا للبشر الذين يشعرون ويعانون ويتعاطفون ويلقون بالهم للآخرين.
ترى شابًا يخرج للتنزه في مكان عام مرتديًا السروال القصير، وترى فتيات تتعالى ضحكاتهن في أحد الأماكن العامة المكتظة بالناس دون الشعور بالحرج، وآخر يرتدي سلسال في رقبته وأسورة في معصمه، وشاب عند مدخل أحد الجوامع يتقدم في الدخول كبار السن دون أن يُفسِح لهم، ومجموعة أخرى في سيارة يصدر منها صوت أغنية غربية بصوت عالٍ يسمعه كل من في الشارع، وآخرون في وسائل التواصل الاجتماعي بأسماء ومُعرَّفات مختلفة يُطلقون العنان لأنفسهم ويكتبون عبارات مُسيئة وردود خارج سياق الذوق العام والقيم، وكثير من المشاهد التي انتشرت وأصبحت تؤذي العين والمشاعر في نفس الوقت وتقودنا للتساؤل هل هذا المجتمع يشبه مجتمعنا.
إنَّ ما نراه يُعطي مؤشرات تجعلنا مجبرين للوقوف عليها طويلًا وتجبرنا على مراجعة أنفسنا وطرح عديد الأسئلة في محاولة لفهم أسباب ما يحدث، هل قمنا بدورنا في تنشئة الأجيال الجديدة وفق سياق القيم والأخلاق التي كانت سائدة في مجتمعنا قبل أن تغزو التكنولوجيا الرقمية بيوتنا؟ كم من الوقت نقضيه في محاولة نقل هذه القيم لأبنائنا؟ هل وضعنا محددات للسلوك العام الذي لا يمكن التنازل عنه في تعاملنا معهم؟ هل قمنا بتحديد الخطوط العريضة والحمراء التي لا يجب الاقتراب منها؟
على كل مسلم إدراك أن دوره في الحياة أكبر من فكرة التكاثر؛ بل هي تتعدى ذلك لتصل إلى عمارة الأرض ونشر القيم الحميدة ومكارم الأخلاق وترسيخ مبادئ الإسلام السمحة وإخراج أجيال صالحة تحمل الرسالة وتنقلها للأجيال القادمة، وأن الحفاظ على استمرار الحياة وفق منهج الله تعالى وسننه المثلى لا يتأتى إلا من خلال تحقيق التربية الصحيحة التي تحفظ الأخلاق الفاضلة وتحافظ على القيم والمبادئ وتعظم دور الإنسان في هذا الشأن. دون إغفال ودون تهاون وتخاذل يدفع بالمجتمع لهاوية السقوط القيمي والأخلاقي كما سقطت أمم سابقة واندثرت حضارات كانت في يوم من الأيام رائدة.
كلكم راعٍ.. أوكل الله سبحانه وتعالى إليه مهمة عظيمة عليه أن يؤديها وفق ما شرع الله تعالى وإلا سوف يكون ذلك وبالا عليه يوم القيامة، وسوف يسأل عن رعيته من أسرة أو جماعة أو عاملين أو ممن جعل الله تعالى له عليهم سبيلًا، وأناط إليه مسؤوليتهم في كل جانب من جوانب الحياة، وعلى الإنسان أن يدرك إنما ذلك فضل الله عليه إذا أحسن كان له أجر عظيم وثواب جزيل، وهذا أمر ليس بصعب على من يعرف دوره بشكل سليم ويقوم به على نحو صحيح مستعينا بالله تعالى راجيًا أداء أمانته بكل إخلاص وصدق.
لقد ابتُليت المجتمعات بكثرة الموثرات التي يمكن أن تشكل تحديًا في سبيل الحفاظ على القيم والمبادئ والعادات والتقاليد الاجتماعية الصحيحة، وهذه المؤثرات تتعقد يومًا بعد يوم وتتطور بشكل متسارع، فلم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة قبل عشرون عامًا ولكنها اليوم تؤدي دورًا رئيسيًا في التأثير على المجتمعات وأحد مصادر تشتيت الأجيال وتقويض مساعي التربية القويمة والحفاظ على قيم المجتمع، وفي القريب سوف تضاف تقنيات أكثر صعوبة في الضبط وسوف تصبح هذه التقنيات أهم منابع السلوكيات الخاطئة التي تؤثر على أفراد المجتمع فتجعلهم جاهزين للتأثر واستقبال ما تحمله من أفكار وسلوكيات.
إنَّ مسؤولية الرعاية لا تنحصر في المنزل والعائلة وإنما تشمل كل فرد جعل أمره بين يدي الإنسان من مسؤولية وظيفية أو مسؤولية مجتمعية أيًا كان شكلها، وفي مجال الأسرة يشدد المتخصصون على أهمية معرفة أساليب التربية والتنشئة الصحيحة والإلمام بمبادئ السلوك البشري وكيفية حل مشكلاته وعلى رب الأسرة أن يقضي وقتاً أطول مع أبنائه وأن يكون النموذج الذي يحتذون به فلا يوجد أسلوب للتربية أنجع من التربية بالمُثل والنمذجة والقدوة الحسنة التي ينتقل من خلالها السلوك بكل سلاسة من الآباء إلى الأبناء.
علينا أن نحرص على القيام بدورنا؛ فهذه مسؤولية وأمانة وتأثير عدم القيام بها يتخطى الفرد ليضر المجتمع والوطن والمواطن الذي لا ذنب له سوى أن أحدهم قصر في أداء دوره وترك الحبل على الغارب لينتشر السلوك السيئ في المجتمع.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عودة: الاستقامة مطلوبة بشكل خاص ممن يتولى مسؤولية عامة
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "وصلنا إلى نهاية الأسبوع الأول من الصوم الكبير المقدس، الذي تتوجه الكنيسة، في الأحد الأول، بذكرى رفع الأيقونات المقدسة وانتصار الأرثوذكسية، أي الإيمان القويم.اليوم، نستذكر حدثا هاما من تاريخ كنيستنا، أي دحر هرطقة محاربة الأيقونات الشريفة. لقد ثبتت الكنيسة في مجمع القسطنطينية المنعقد عام 842، عيد انتصار الأرثوذكسية أي استقامة الرأي، بعد نضال دام أكثر من قرن، ضد جماعة سببت المعاناة للمؤمنين. وكان عقد قبله، في العام 787 في مدينة نيقيا، المجمع المسكوني السابع الذي أدان تلك الهرطقة وأعاد إكرام الأيقونات ورفعها".
وقال: "الأرثوذكسية التي نعيد لها اليوم هي أن نتبع تعاليم المسيح دون تحريف، وأن نتوب عن سقطاتنا، وأن نسعى، بجهاد وصلاة وتواضع ومحبة، إلى المثال الذي خسره آدم ، فنصبح أيقونات حية تنقل صورة المسيح إلى الجميع: الجائع والمريض والمسجون والوحيد والمظلوم والمعنف... إستقامة الرأي ليست تغنيا بالعقائد والتعاليم الآبائية بل هي تثمير حي لها، وهذا لا يحدث بمعزل عن الآخر الذي نصل به ومعه إلى الملك السرمدي. طبعا التمييز هو من الصفات الأساسية عند المؤمن المستقيم الرأي، لذا عليه أن يعي ألا أحد يجبره على اعتناق ما لا يرغب فيه. المؤمن الحق لا يتعدى على الآخرين بحجة أن لديه الإيمان الحق، لأنه بذلك يجعلهم ينفرون من الحق، أي من المسيح نفسه. المؤمن يحب الجميع، ولا يشعر بالخوف أو الخطر على إيمانه إذا كان ثابتا، لأن من يخاف يكون إيمانه مؤسسا على الرمل. لذلك علينا أن نسعى إلى استقامة الرأي في كل جوانب حياتنا، وهذه الاستقامة لا تتم إلا عبر المحبة الحقيقية التي دعانا إليها سيدنا وربنا يسوع المسيح ابن الله الحي".
أضاف: "هذه الإستقامة في الرأي والسلوك ليست من صفات المؤمن وحده بل مطلوب وجودها في كل إنسان ذي عقل واع وقلب رحوم. وهي مطلوبة بشكل خاص ممن يتولى مسؤولية عامة، لأن واجبه الإنفتاح على الجميع ومحبتهم وخدمتهم وتقديم الأفضل لهم، بما يرضي الرب والضمير. قد يتساءل البعض أين هو المسيح الرب في أيامنا؟ نجيب بما أجاب فيلبس نثنائيل: تعال وانظره في كل إنسان مؤمن ينعكس إيمانه في أعماله محبة ورحمة وخدمة وتضحية. هذا ما نتوقعه من كل مسؤول نذر نفسه لخدمة بلده وشعبه. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: «هل أنت صائم؟ أعطني البرهان بأعمالك: لا تصوم فمك فقط ولكن صوم يديك عن الأخذ والجشع وأعمال الشر، صوم رجليك عن الجري وراء الذنوب والمعاصي، صوم عينيك عن السرور برؤية ما هو شرير، وأذنيك عن كلام الشر والنميمة، صوم فمك عن كلمات الكراهية والنقد والظلم. جميل جدا أن تحرم نفسك من أكل لحوم الطيور والحيوانات، لكن الويل لمن يستمر بأكل لحم إخوته». إن لقاء الرب ليس بالأمر المستحيل لكن المشكلة والحل في حرية الإنسان الممنوحة له من الله الذي لم يشأ، عند خلقه الإنسان، أن يلغي حريته في اتخاذ قراراته، حتى تلك المتعلقة بعلاقته مع خالقه. لذا نجد من لا يهتم بخلاصه، ومن يبحث حقا عن الله ويسعى جاهدا للقياه، بملء إرادته، فيكشف له الله ذاته، ويفتح الباب الذي يقرعه، ويجعله من مختاريه كما حصل مع زكا العشار، ومع الإبن الضال، ومع كل من يبادر إلى طلب الله. يقول لنا الرب يسوع: «كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له» (متى 7: 8).
وختم: " هذا الأحد هو المحطة الأولى في رحلتنا نحو القيامة التي تشكل أساس إيماننا. فلنجاهد باستقامة لكي نصل إلى فرح الفصح المقدس".