د. محمد بن عوض المشيخي **
"المُسامح كريم".. عبارة نُردِّدُها ونفتخر بنطقها على الدوام لتشجيع أنفسنا والآخرين للتسامح والعفو عن من أساء إلينا بالقول أو بالفعل من أجل استقرار الأمور في هذه الحياة التي تشهد خلافات في وجهات النظر بل وحتى سلب الحقوق والاعتداء على الممتلكات والأرواح في كثير من الأحيان.
بالطبع الأقوياء هم الذين يبادرون بالصفح عن الآخرين، لكونهم يمتلكون الشجاعة وينطلقون من مراكز القوة وليس الضعف ويحتسبون عند الله سبحانه وتعالى أعمالهم العظيمة وماوقفهم الشجاعة والمتمثلة بالتسامح وفتح صفحات جديدة مُضئية من العفو والغفران لإسعاد الآخرين من حولهم من الذين لا يدركون ما اقترفوه من أعمال شريرة وأقوال سوقية بحق من حولهم من الناس.
صحيحٌ أن هناك من ينظر لهؤلاء المسامحين والمتنازلين عن حقوقهم؛ إذ يوصفهم البعض بالضعفاء ولا حيلة لهم سوى التنازل عن حقوقهم والعفو عن من اعتدى عليهم. وحقيقة الأمر أن الحياة تتطلب من البشر أن يتحلوا بأعلى درجات الصبر والعفو عند المقدرة لكي نعيش بسلام مع من حولنا، فالله عزَّ جلاله تكفل بدخول الصابرين على الأذى من عباده للجنة بغير حساب جزاءً على صبرهم وإحسانهم.
لا يمكن أن تسقيم أمور الدنيا والناس تتخاصم وتقاضي بعضها بعضا في المحاكم والمجالس العرفية على كل كبيرة وصغيرة، وذلك لكي لا تكبر الأمور وتتدهور العلاقات الإنسانية بين الأهل والجيران والأصدقاء وتتحول الحياة إلى جحيم، لا شك بأنَّ هناك من يتربص وينتظر حماقات الناس للاستفادة من تلك الصراعات التي لا تنتهي؛ فهؤلاء يحاولون بكل إمكانياتهم نشر الفتن ونقل النميمة ثم المحاولة من جديد إطفاء تلك النيران المشتعلة مقابل مصالح مادية وكسب صداقات أحد الأطراف المتخاصمين. يجب أن يعرف الجميع بأن من يبادل السيئة بمثلها وما أكثرهم من حولنا، سوف يدركون بعد فوات الأوان أنهم في طريق الخطأ، والأجدر بهؤلاء القوم أن يُجرِّبُوا الطريق الآخر، وهو أن نُحسن لمن أساء ونمنحه فرصة لعله يُصحِّح من سلوكه العدواني، ويتعلم من تجارب الحياة، وأن نتجاهل من يُسيء إلينا؛ فهناك 3 أشياء وصفها الله بالجمال: "صفحٌ جميل.. صبرٌ جميل.. هجرٌ جميل".
في واقع الأمر، إننا لكي نعيش سعداء لا نحتاج إلى معجزات؛ بل أكثر ما نحتاجه في هذا الكون الرحب، قلوبٌ متسامحة مُحِّبة لبعضها بعض، إذ إن نسيان إساءات الغير بمثابة هدية لنفوسنا ورحمة لقلوبنا. فما أجمل ابتسامتنا في وجه الآخرين للتعبير عن المحبة الصادقة مهما حصل من الذين يكيدون لنا ويحاولون التقليل من شأننا؟! ردُنا عليهم دائمًا هو التسامح ونسيان تلك العثرات والكلمات البذئية التي لا تُعبِّر إلّا عن أصحاب النفوس الضعيفة التي تعودت دائمًا على الحروب الكلامية والضغائن التي لا تنتهي.
يجب أن يدرك الجميع أننا مغادرون هذه الدنيا وراحلون عنها إلى الأبد، وتبقى خلفنا الذكرى الطيبة والأعمال الصالحة فقط. أما اصطياد أخطاء من حولنا من النَّاس وعدم التجاوز عنها بأي حال من الأحوال فسوف يجعلنا نعيش في مستنقع القلق الدائم بزعم المطالبة بالحقوق واتباع ما يعرف بمبدأ المحاسبة بالمثل والمطالبة بمكاسب الدنيا التي لا جدوى منها. صحيحٌ أننا إذا رجعنا إلى الأعراف الموروثة في بعض المجتمعات العربية، فثمة اعتقاد على نطاق واسع بأن التنازل عن الحقوق والتغاضي عنها يعني ضعفًا وتهاونًا في المكانة الاجتماعية للأشخاص وتشجيع الآخرين على الاستمرار في الابتزار وتكرار تلك الأخطاء والإساءات، وأن الرد على هؤلاء يجب أن يكون بالمثل. وعلى الرغم من ذلك، يبدو لكثير من النَّاس أنَّ الاعتذار للآخرين يُشير إلى أعلى درجات الكرم والتسامح، وليس بالضرورة الاعتراف بالأخطاء المزعومة؛ فالعظماء هم الذين يتحملون تلك المسؤولية التي تمكن هؤلاء النُبلاء من احتواء المواقف الصعبة وإذابة الجليد وحل المشاكل بسبب الاعتذارات التي تهدف إلى التئام الجروح وتهدئة النفوس والخواطر ونشر ثقافة التسامح بين الناس.
هكذا.. بالتسامح تُبنى الأوطان وتتآلف القلوب بين أفراد المجتمع الواحد، ذلك لكون أن التسامح قيمة إنسانية نعترف من خلالها بقبول الآخرين بمختلف معتقداتهم ومذاهبهم الفكرية، في إطار مظلة وطنية تسوعب الجميع وتمنحهم آفاقاً رحبة من التعاون والاندماج الفكري مع اختلاف الحوارات في سوق مفتوحة يتنافس فيه الكل لتحقيق التكامل وليس التنافر؛ مهما اختلفت الآراء والتوجهات الفكرية التي تساعد في نهاية المطاف على الاجتهاد والإبداع في خدمة الإنسانية وتوحيد الصفوف والاستفادة من تجارب الغير، انطلاقًا من روائع الإمام الشافعي رحمه الله الذي قال في هذا المعنى: «رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ».
وفي الختام.. تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف أفردت قيماً ومبادئ خالدة في التسامح والتعامل بحسن الخلق مع الآخرين من البشر مع المحافظة على حرية المعتقد لأهل الكتاب، فقد عاش اليهود والمسيحيون في كنف الدولة الإسلامية عبر التاريخ بأمن وسلام في الوقت الذي تعرض اليهود- على وجه الخصوص- للقتل والاضطهاد من الأوروبيين، ولعل التسامح مع أتباع الديانة اليهودية قد شجّع اليهود على الإقامة الدائمة والعمل كأطباء وتجار ومستشارين للخلفاء والحكام في كل من بغداد والأندلس وبعض الأقطار العربية الأخرى، لكن ردهم على ذلك المعروف هو التنكيل بالشعب الفلسطيني وإبادته في قطاع غزة، وقبل ذلك كله احتلال فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
سنن صلاة العيد ووقتها وكيفية أدائها .. علي جمعة يكشف عنها
قال الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، إن عيد الفطر هو أول أيام شهر شوال بغروب شمس آخر أيام رمضان تبدأ ليلة عيد الفطر.
وقت صلاة العيدوأضاف علي جمعة، في منشور له على فيس بوك، أن وقت صلاة العيد يبدأ عند ارتفاع الشمس قدر رمح بحسب رؤية العين المجردة - وهو وقت صلاة الضحى - ويمتد وقت صلاة العيد إلى ابتداء الزوال ويستحب تأخيرها قليلا عن هذا الوقت بالنسبة لعيد الفطر , وذلك انتظارا لمن انشغل في صبحه بإخراج زكاة الفطر.
ويستحب للمسلم أن يكبر الله في عيد الفطر من بعد غروب شمس ليلة العيد وحتى يصعد الخطيب المنبر، وصيغة التكبير هي: « الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ».
كيفية صلاة العيدويستحب للمسلم في صلاة العيد أن يغتسل قبل خروجه من بيته ويتعطر ويلبس أفضل الثياب ثم يأتي المصلى أو الساحة التي يصلى فيها للعيد ويبدأ بالصلاة مع إمامه.
وذكر علي جمعة، أن صلاة العيد ركعتين جهراً ولكن بعد تكبيرة الإحرام يكبر الإمام سبع تكبيرات ثم يقرأ الفاتحة وسورة الأعلى استحبابا، وبعد تكبيرة القيام للركعة الثانية يكبر خمس تكبيرات، ثم يقرأ الفاتحة وسورة الغاشية.
ثم بعد ذلك يخطب الإمام خطبة العيد كخطبة الجمعة فيخطب خطبتان يجلس بينهما تماماً كالجمعة، ثم يسن للمسلم بعد انتهاء الصلاة أن ينصرف من طريق غير الذي جاء منه إلى المسجد، ويسن له في العيد أن يزور أقاربه وينهي الخصومات ويصلح ذات البين.
العيد من مظاهر الفرحوأشار علي جمعة، إلى أن أن الأعياد تعد مظهرا من مظاهر الفرح والسرور في الإسلام, وشعيرة من شعائره التي تنطوي على حكم عظيمة, ومعان جليلة, فالإسلام لم يأت ليكون طوقا حول رقبة معتنقيه ، بل جاء تلبية لحاجة الإنسان الفطرية مادية وروحية, وكان مقصده الأسمى في تشريعاته وأحكامه ضبط العلاقة بين الروح والجسد, وبين الدنيا والآخرة, فقال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا).
وأوضح أن صلاة العيد تعد مظهرا من مظاهر الفرحة فترتفع الأصوات فيها بالتكبير في بهجة وسرور، وقال تعالى: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) والتكبير هو التعظيم، والمراد به في تكبيرات العيد تعظيم الله عز وجل على وجه العموم، وذلك في كلمة: (الله أكبر) كناية عن وحدانيته بالألوهية لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للألوهية : ولذلك شرع التكبير في الصلاة إبطالا لعبادة غير الله، وإشعارا بوحدة الأمة وإظهارا للعبودية وامتثالا وبيانا لقوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) وفيه خص النبي النساء بمزيد عناية واهتمام، فقد أمرهن بالخروج إلى صلاة العيد مهما كانت أحوالهن.
فعن أم عطية رضي الله عنها أنها قالت: أمرنا رسول الله أن تخرج في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب قال: «لتلبسها أختها من جلبابها» (صحيح البخاري)