القراءة مع صديقٍ من الدرجة الثانية.. البابا فرنسيس متحدثاً عن الأدب
تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT
لعل أطروحة "عن دور الأدب في التنشئة" أفضل وثيقة جادَت بها قريحة البابا فرنسيس طيلة فترة باباويته. فهي قصيرة وعذبة وحافلة بالسطور البديعة المقتبسة والأصلية.
ومع ذلك ما يزال البابا فرنسيس "صديقاً من الدرجة الثانية" للكثيرين من رعيته لأنهم يرون عالمهم الخاص بطرق مختلفة جوهرياً عما يراه هو، حسب ما أفاد ديفيد ديفيل، مساهم أول في The Imaginative Conservative وأستاذ مشارك علم اللاهوت في جامعة سانت توماس (هيوستن) الأمريكية.وقال ديفيل في مقاله بموقع المجلة الإليكترونية الأمريكية: كانت فترة باباوية البابا فرنسيس، على أقل تقدير، مثيرةً للجدل. فقد أسعَدَت أحكامه - اللاهوتية والإدارية وغيرها - بشكلٍ عام الذين يبدو أنهم يريدون أن تشبه الكنيسة الكاثوليكية الجماعات البروتستانتية الليبرالية التي تتلاشى أمام أعيننا. أما الغموض الذي عبَّرَ به فرنسيس عن العديد من هذه الأحكام، فقد أفضى إلى حشد جيش صغير من "المفسّرين للبابا"، الذين خالجهم شعور بأنه لزاماً عليهم أن يُخبروا أي شخص قلق بشأن التصريحات أو التعيينات أو أي تصرف بابويّ آخر بأن هذا القلق علامة على ضعف الإيمان، وأنه ينبغي عليه الثقة بالبابا والانضمام إلى الأجواء التي تنأى عن إصدار الأحكام لباباوية فرنسيس.
إن التجربة كلها مرهقة للغاية، يضيف الكاتب.
وتابع: "مع ذلك، لا تمرُّ أي ردود فعل مبالغ فيها دون أن تقابلها ردود فعل مبالغ فيها من الاتجاه المعاكس. فإذا كانت ميليشيا مفسّري البابا تعذِّبنا باتهاماتٍ سخيفة من جانبٍ، فإننا نواجه من الجانب الآخر الإصرار على أن البابا فرنسيس ينتمي إلى فئة من الأشرار الذين يجب أن تكون أفعالهم كلها شراً محضاً، وكل تصريحاتهم ملتوية إلى أقصى حدٍ ممكن. ولا أعتقد حتى أن دانتي، الذي زجَّ بخمسة باباوات في الجحيم في قصته العظيمة، كان بمثل هذا التشاؤم الذي يُبديه بعض الكاثوليكيين.
وزاد: بما أنني، مثل القديس بولس، ليس لدي أدنى اهتمام بإصدار أحْكَام نهائية عن روحي، فلا أهتم أيضاً بإصدار أحكام على روح البابا فرنسيس. يبدو من الواضح أن هذه الباباويّة لن يتلطف بها المؤرخون الكاثوليك أو العلمانيون في أحكامهم مُستقبلاً. لكنَّ هذا لا يعني أن جميع أعمال البابا، أو حتى كل أفكاره، كانت خبيثة سيمتها الشر.
من أكثر الصعوبات الكبيرة التي واجهتني في ما يتعلق بفرنسيس حقيقة أن أذواق فرنسيس في القراءة تتداخل بشكلٍ كبير مع أذواقي. فكلانا معجب بكتاب بنسون "سيد العالم"، وكتاب "الرب" لرومانو غوارديني، و"ملاحظات من تحت الأرض" و"الإخوة كارامازوف" لدوستويفسكي، وكتاب "المخطوبون" لأليساندرو مانزوني. فكيف لنا أن نهيم عشقاً بالكتب ذاتها ونرى العالم رغم ذلك من منظورٍ مختلف؟ يتساءل الكاتب. الصديق من الدرجة الثانية ربما تكون طريقة النظر المُثلى للبابا فرنسيس هي طريقة "الصديق من الدرجة الثانية". وصف سي س. لويس في سيرته الذاتية "مفاجأة الفرح" ألواناً مختلفة من الصداقة. فـ "الصديق من الدرجة الأولى" هو "الصديق البسيط" الذي يرى كل شيء تقريباً بنفس الطريقة التي تراها أنت:
لكن الصديق الذي يشغل المرتبة الثانية هو الشخص الذي يختلف معك في كل شيء. فهو ليس بمنزلة "الأنا الأخرى"، وإنما هو "النقيض". وهو بالطبع يشارككَ اهتماماتك؛ وإلا لَمَا كان صديقك من الأساس. لكنه يتناولها من زاوية مختلفة تماماً. فقد طالعَ كل الكتب العظيمة، لكنه استخلصَ منها كل النتائج الخاطئة. وهو يكاد يجيد لغتك، لكنه ينطقها بشكلٍ غير صحيح. فكيف يمكن أن يكون قريباً من الصواب، لكنه رغم ذلك يجانبه الصواب كل مرة؟ دور الأدب في التنشئة يقول الكاتب: لقد خطرت لي طريقة التفكير هذه عندما طالعت رسالة البابا فرنسيس "حول دور الأدب في التنشئة" التي صدرت في 10 أغسطس (آب) الماضي. ففي هذه الرسالة، التي يبدو أنها تتذبذب بين تقدير الأدب في حياة جميع البشر ودوره في التنشئة الكهنوتية، وهو هدف المسودات الأولى بحسب تصريح البابا، يقتبس الحبر الأعظم من لويس نفسه (مرتين)، وخورخي لويس بورخيس، وتي س. إليوت، ومارسيل بروست، من بين مؤلفين آخرين.
وأضاف: منذ الأسطر الأولى، وجدتُ نفسي أومئ برأسي متفقاً مع كثيرٍ من الموضوعات الأساسية، بما ذلك "قيمة قراءة الروايات والقصائد الشعرية على طول درب المرء إلى النضج"، وقوة الكتاب المُحْكَم في الأوقات العصيبة "إذ يساعدنا على تجاوز الاضطرابات حتى نعثر على راحة البال"، وتفوُّق الكلمة المكتوبة على "الوسائط السمعية والبصرية" لأن "الكِتَاب يقتضي مشاركة شخصية أكبر من جانب قُرّاءه"، وقوة أثر الكتاب وتلك المشاركة الأكبر في "تجديد نظرتنا للعالم وتوسيع نطاقها". ولو لم أكن أعرف هوية كاتب هذه الكلمات، لبدأ قلبي يقفز طرباً لاحتمالات وجود صديق لي من الدرجة الأولى يشاركني أفكاري.
وتابع: راقني أيضاً إشادته بالمعاهد الدينية التي تحدُّ عمداً من الوقت المخصص للشاشات وتجعل "تكريس الوقت والاهتمام للأدب" جزءاً لا يتجزأ من تكوينها. فأنا أُدرِّس في معهد ديني، وتأسيّاً برأيه حظرت على طلابي العلمانيين الآخرين الشاشات في المحاضرات الدراسية العام الجاري كي يتسنى لنا الاهتمام بالنصوص التي نكتشفها والاهتمام ببعضنا بعضاً. فكلنا بحاجة إلى هذه القيود في بعض الأحيان. وبالنسبة للبابا فرنسيس، يؤسفني أنَّ كثيراً من المعاهد الدينية لا تدرج "التأصيل في الأدب" جزءاً من برنامج التكوين الرسمي لديها.
ومضى الكاتب يقول: من واقع تجربتي في التدريس لطلاب الكليات في برنامج الدراسات الكاثوليكية في جامعة سانت توماس بولاية مينيسوتا، حيث كان التفاعل مع الإيمان والثقافة الكاثوليكية يتحقق على الأغلب عبر الأدب، أدركتُ أن هذا التكوين يمكن أن يفرز كهنةً أفضل. وإنني لأتفق مع البابا فرنسيس في أنّ "للأدب علاقة، بطريقةٍ أو بأخرى، بأعمق رغباتنا في الحياة، وذلك لأن الأدب يتعاطى على مستوى عميقٍ مع وجودنا المادي بكل ما ينطوي عليه من توترات واضطرابات ورغبات وتجارب ذات مغزى". إن الكهنة
والمُستَقبلين للكهنوت الذين لا يُطالعون الأدب تفوتهم فرصة التأمل الخيالي في هذه الحياة الحافلة بالغموض والأسرار.
ورغم ذلك، لو كان البابا فرنسيس قد استمالَني بـ "الروايات والقصائد" من الأسطر الأولى، فإن الرسالة (القصيرة نسبياً بمقاييسه البالغ عدد كلماتها زهاء 5 آلاف كلمة) ساقتني، ربما حتماً، من التفكير فيه صديقاً من الدرجة الأولى إلى عدّه صديقاً من الدرجة الثانية. يروي البابا إذ استرجعَ تدريسه في مدرسة يسوعية في منتصف الستينات، كيف كان يُفترض أن يُدرِّس مادة تاريخية عن "السيِّد" (القائد الإسباني المشهور باسم رودريغو دياث دي بيبار)، غير أنه قرر نزولاً على رغبات طلابه مُطالعة أعمال أدبية معاصرة. ورغم أنني لست معارضاً البتة لهذا القرار وأتفق معه على أن تدريس الأدب العظيم يمكن أن يفتح أمام الطلاب "أبواباً أوسع على الأدب والشعر"، فقد أصابتني الدهشة من حُكمه المقتضب الذي صرَّحَ به في هذا الصدد إذ قال: "ليس هناك ما هو أكثر ضرراً من قراءة شيء بدافع الواجب، وبذل مجهود مضنٍ لمجرد أن الآخرين قالوا إنه ضروري".
إن جزءاً من النضج، وتحديداً جزءاً من التعليم، يكمن، حسب الكاتب، في إدراك أنه إذا انتظرنا حتى تروق لنا الأمور وتُمسي مواتية لنا، فربما لن نُقْدِم عليها أبداً. ولذلك يُجبِر المعلمون الطلاب على قراءة أعمال معينة في الفصول الدراسية. لقد تراجعَ البابا فرنسيس نوعاً ما عن هذا الحكم الصارم إذ أقرَّ لاحقاً بقوله: "إن الصعوبة أو الملل الذي نشعر به عند قراءة بعض النصوص ليس بالضرورة أمراً سيئاً أو غير مفيد". غير أن موضوعات مناهضة الصرامة الشديدة التي كانت شائعة جداً في تصريحاته ظهرت مجدداً في هذه الوثيقة. إغواء المرجعية وأضاف: كنت أتفق كل الاتفاق مع بيانه الذي مفاده أننا نشرع في الوصول إلى جوهر الثقافات التي نرغب في أن نقدم لها كمال المسيح إذا "نحيّنا جانباً أو أخفقنا في تقدير [القصص] التي سعى [أصحاب تلك الثقافات] إلى التعبير من خلالها عن الأحداث المثيرة لخبراتهم المُعاشة في الروايات والقصائد". وصحيح جداً أن الفهم المسيحي يتعمق بالتلاقي مع كل ما هو حقيقي في الثقافات الأخرى. إننا نود فعلاً أن نتحرر "من إغواء المرجعية الذاتية الأصولية المتحيزة التي تعدُّ أن [قواعد] ثقافية تاريخية بعينها قادرة على التعبير عن ثراء الكتاب المقدس وعمقه تعبيراً كاملاً وافيّاً". لكنه عندما يَنسِب هذه المرجعية الذاتية إلى الآخرين الذين يريدون "زرع اليأس" في الكنيسة أو يتحدث لاحقاً في الرسالة عن "التأييد الأعمى للتشريعات والقوانين دون النظر إلى روحها"، لا يسع المرء سوى أن يرى في ذلك هجوماً آخر على الكاثوليكيين التقليديين والمهتمين بالتقليد الأعمى.
وأكد الكاتب أن هناك كاثوليكيين تقليديين وملتزمين بالتقاليد ربما كانوا ضيقي الأفق بعض الشيء في أحكامهم الأدبية والفنية على الآخرين. وإننا لنراهم، كما نرى غيرهم من المختلين، على شبكة الإنترنت كل يوم. غير أن هؤلاء استثناء للقاعدة، كما أشارَ فرنسيس في رسالةٍ سابقة إلى كهنة الاعتراف الذين يحوِّلون كرسي الاعتراف إلى "غرفة تعذيب". الغرب يفتقر إلى قليلٍ من الشِّعر لا، لقد عادَ الأب الأقدس مجدداً وبقوةٍ إلى مرتبة الصديق الثاني في هذا السياق. إن الإغراءات الحديثة في ما يتعلق بالفن والأدب تملي علينا أن ننبذ كل ما سَبَقنا، وأن نقع في فخ طغيان عالمنا الحديث المتخبط الذي يستحيل فيه استخدام أي قواعد ثقافية تاريخية عدا قواعدنا العلمانية الفقيرة، وأن نعجز عن الوصول إلى ثروات جميع الثقافات والتواريخ التي آل بها المآل إلى أنْ دُمِجَت في الثقافة الكاثوليكية. ويروي لنا البابا كيف أجابَ أحد مراسليه عند عودته من اليابان عمّا يمكن أن يتعلم الغرب من الشرق إذ قال: "ظني أن الغرب يفتقر إلى قليلٍ من الشِّعر". ومع ذلك، فإن شِعر الشرق يُنظَر إليه في إطار طقوسه وأشكاله الدقيقة جداً. ويُلمَح هذا الشِّعر أكثر بكثير في الطقوس الأقدم واللغة التي يهيم بها كثير من الكاوثوليكيين التقليديين عشقاً ولطالما ندَّد البابا بها. والواقع أنه حتى في هذه الرسالة يتحدث البابا عن الأدب باعتبار أنه "يطيح بأصنام اللغة ذات المرجعية الذاتية المكتفية بذاتها على نحوٍ خاطئ والتقليدية على نحو ثابت التي تُعرِّض في بعض الأحيان خطابنا الكنسي للخطر، مُقيّدةً حرية الكلمة".
وتكمن المشكلة، برأي الكاتب، في أنَّ اللغة اللاهوتية الأقدم أقل مرجعيةً ذاتية بكثيرٍ مما يحل محلها في كثير من الأحيان. وبطبيعة الحال تحتاج اللغة اللاهوتية التقنية إلى ترجمة. غير أن الترجمة تميط اللثام عن النحو الذي تطورت به هذه اللغة وكيف خضعت للنقاش والمحاجّة على مدى قرون وفي قارات مختلفة على ألسنة اللاهوتيين والفلاسفة. فهي تحمل في طياتها ثِقَل قرون مديدة. لطالما خدمَ أصحاب أفضل الأصوات الأدبية الكاثوليكية حرية "كلمة الرب" بإبداعهم، غير أنهم فعلوا ذلك لأنهم أتقنوا اللغة التقليدية وفهموها وكان بوسعهم ترجمتها.
وما تزال الإغراءات الكاثوليكية في ما يتعلق بالحُكْم الأخلاقي في القصص أو في الحياة الواقعية في أيامنا هذه في المقام الأول تتمثل في إغراءات التراخي في إصدار الأحكام. وفي الوقت الحالي، في عالم الأدب العلماني حيث "الحُكْم بالإعدام أو إقصاء الناس أو قمع إنسانيتنا من أجل حُكْم مُطلق لا روح فيه" ما برحَ تفشي الأحكام الصارمة موجوداً. وذلك لأن حركات النسبية هناك استسلمت للاستبداد باسم الصواب السياسي. وإذا قرأنا أعمالَ البابا بتسامحٍ في هذا السياق، فسيسعنا أن نقول إن هذه السطور ما تزال مفيدة. الأدب ينطوي على مخاطر رغم كل ما يتمتع به الأدب من منافع، فإن ما تفتقر إليه هذه الرسالة، رغم لغة "التمييز" التي تهيمن عليها، الاعتراف بأنَّ الأدب يمكن أن ينطوي على مخاطر. فلا شك في أن الكُتّاب المعاصريين أقل تشدداً بكثير من سابقيهم. ولا شك في أنّ مزايا الأدب الكلاسيكي الوثني (وبالتالي الأدب غير المسيحي الآخر) كثيرة، بحسب اقتباس البابا منباسيليوس القيصري. غير أنَّ مخاوف القديس جيروم الشهيرة بشأن تعلُّقه بالمؤلفين الكلاسيكيين لم تكن ببساطة نتاج خوفه من أن يضل طريقه وينصرف عن دراساته اللاهوتية. إذا كان للأدب قوةً تصبُّ في صالح الخير، فمن المؤكد أنه يتمتع بقوةٍ تعينه على إحداث الشر.
لقد كان جون هنري نيومان، الذي أقامَ وزناً للأدب بلا شك (إذ نشرَ مئات القصائد وروايتين)، مصراً على أنَّ الواجب ربما أملى عليه مُطالعة أعمال خطرة. ومع ذلك، فقد أصرَّ على أن لهذه المغامرة مخاطرها، مشيراً إلى أن "الإلمام بوجهتي النظر المتعارضتين بشأن قضيةٍ جدلية ربما ساقَكَ إلى الظن بأن وجهتي النظر صحيحتان بالقدر ذاته، حتى لو كانت إحداهما خاطئة بما لا يدع مجالاً للشك". علينا أن نُلمُّ بوجهات النظر المخالفة لوجهات نظرنا، لكننا لا ندرك دائماً على الفور أنها مخالِفَة.
إن تأكيد البابا فرنسيس المُستخلص من بورخيس على أننا نسمع في الأدب صوت الآخر رائع. وكذلك اعتقاده بأنه يجوز لنا أن نرى الأمور بأعين الآخرين. وصحيح أيضاً أنه من خلال الكلمة الأدبية يمكننا أن نكون متأهبين "لاستقبال الرسائل السامية الموجودة فعلاً في كلام البشر"، غير أن المشكلة تكمن في أنَّ في الأدب أصواتاً كثيرة لا تعود علينا كلها بالنفع والفائدة في إعدادنا لتلك الكلمة. وبعضها يعوقنا ويقف حجر عثرة أمامنا.
قد يكون الحديث عن هذا التمييز مفيداً في عصر لا يكون فيه الرواة أشبه بالمؤلفين الكلاسيكيين الذين يتلمسون النور في الظلام. في كثير من الأحيان، يَكتُب أدبنا الحديث أولئك الذين يستترون من النور. وهذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نتعلم منهم. ولكن، إذا كنا بحاجة إلى شيء من الحذر في تعاطينا مع الأعمال الكلاسيكية، فإننا بحاجة إلى قدرٍ أكبر من الحذر في تعاملنا مع الأدب الحديث. ورغم ذلك، فلا يوجد ما يوحي بذلك في هذا السياق إلا قليلاً.
ربما كانت هذه أفضل وثيقة لفرنسيس في باباويته. فهي مقتضبة وعذبة وحافلة بالأسطر البديعة المُقتبسة والأصلية على حدٍ سواء. ورغم ذلك، فما برح فرنسيس صديقاً من الدرجة الثانية لكثيرين في رعيته لأنه يرون عالمهم الخاص بطرقٍ تختلف جوهريّاً عن رؤيته لها. فعالمنا ليس عالماً يكون فيه الإلمام بالكتاب المقدس أو التقليد المسيحي أو اللغة المسيحية حاضراً ومتكرراً دون ترجمة. وإنما عالمنا عالم تكون فيه المعرفة إما مشوشة أو، في كثير من الأحيان، غائبة ببساطةٍ شديدة.
واختتم الكاتب مقاله بالقول: في هذا العالم نجد الكلمات و"كلمة الرب" غريبة على حدٍ سواء. وما تزال الأصولية المسيحية، سواء الكاثوليكية أو البروتستانتينية، حاضرة. لكنها محدودة جداً مقارنةً بعَالَم الأصوليات الأخرى غير المسيحية والمعادية حتى للمسيحية. ويرى كثير من أصدقاء البابا فرنسيس الذين يحتلون المرتبة الثانية ضمن زمرة رفاق القراءة أن دقة اللغة والعقيدة والطقوس التي يعدُّها البابا فرنسيس عقيمةً بطريقةٍ مختلفة جداً. فلعله نشأ وتربّى عليها، أمّا هم فلا. وبالنسبة لهم، فإن هذه الدقة والعقيدة والطقوس تفتح الطريق أمامهم نحو ماضٍ منسي ومستقبل أكثر ثراءً أيضاً، حيث يمكنهم الانفتاح على "تعاليم الرب" التي يرغب فرنسيس في أن يكون الوصول إليها أيسر.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: الهجوم الإيراني على إسرائيل رفح أحداث السودان غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية البابا فرنسيس من الدرجة الثانیة البابا فرنسیس فی التنشئة فرنسیس فی الأدب فی ی الأدب رغم ذلک یمکن أن کثیر من فی هذا الذی ی على أن التی ت غیر أن مع ذلک فی هذه
إقرأ أيضاً:
هيئة الكتاب تُشعل المشهد الثقافي في 2025.. إصدارات تغوص في عمق التاريخ وتُعيد وهج الأدب
في وقت يتراجع فيه الاهتمام بالقراءة لصالح ثقافة الصورة والمحتوى السريع، تواصل الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، أداء دورها المحوري كحارس للوعي، ومنارة للثقافة في العالم العربي، فخلال الشهور الماضية من عام 2025، أطلقت الهيئة موجة واسعة من الإصدارات التي تنوّعت بين التاريخ والسياسة والفكر والأدب، لتفتح أمام القارئ المصري والعربي نوافذ متعددة على العالم والذات والذاكرة.
هذه الإصدارات لا تمثل مجرد كتب مطبوعة، بل تُجسد مشروعا ثقافيا ممنهجًا لإعادة تشكيل العقل الجمعي، وتحفيز النقاش المعرفي، وإحياء رموز الفكر العربي والمصري.
نبش في الذاكرة التاريخية وبناء وعي سياسي متجددأبرزت سلاسل الهيئة حضورها القوي بإصدارات نوعية مثل: "تاريخ بلاد ما وراء النهر في زمن المغول" للدكتور إبراهيم الشرقاوي، الذي يسلط الضوء على منطقة شكلت قلب التفاعل الحضاري بين الشرق والغرب، و"الإمبراطورية البريطانية" للدكتور فطين فريد، الذي يتناول صعود وسقوط أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ الحديث، مسلطًا الضوء على علاقاتها الاستعمارية وتداعياتها المعاصرة.
"قراءة في الفكر الاستراتيجي لليهود" للواء محمد الغباري، الذي يحلل العلاقة بين الدين والسياسة في الفكر الصهيوني من خلال التوراة والتلمود، هذه الإصدارات تعكس اتجاهًا واضحًا نحو إعادة قراءة التاريخ من زوايا استراتيجية، لا لمجرد التأريخ، بل لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.
الأدب والفكر.. رسائل متعددة الأبعادلم تغفل الهيئة البعد الجمالي والإنساني، حيث أصدرت عددًا من الأعمال الأدبية التي تتنوع بين الرواية والقصة والدراسات الأدبية: "عرافة هافانا" لغدير أبو سنينة، مجموعة قصصية تدور بين أمريكا اللاتينية والعالم العربي، مفعمة بالرمز والغموض، "شمشون وتفاحة" لأمير تاج السر، رواية تلامس قضايا المرأة والحب والهوية، "النساء لن تدخل الجحيم" لسليمان العطار، تعبير عن فلسفة وجودية تنحاز للحياة والتأمل، "من الماء إلى عنان السماء" مذكرات السباحة المصرية نجوى غراب، التي تتجاوز السيرة الذاتية إلى تأريخ اجتماعي وسياسي.
أما في حقل الفكر، فقد صدر: "الخيال عند ابن عربي" لسليمان العطار، دراسة فلسفية عميقة لنظرية الخلق الإبداعي عند أحد أعلام التصوف الإسلامي، "دراسات في الأدب الفارسي المعاصر" لسامية شاكر، تسلط الضوء على تحولات المجتمع الإيراني من خلال الأدب.
حضور قوي للرموز والذاكرة الثقافيةأطلقت الهيئة عدة إصدارات احتفالية وسيرية، تُعيد الاعتبار لشخصيات كان لها الأثر في تشكيل الوعي الجمعي، منها: "حافظ إبراهيم.. شاعر النيل" لعبد السلام فاروق، قراءة ممتعة في مسيرة شاعر مصر القومي، "د. أحمد مستجير.. رائد التكنولوجيا الحيوية"، الذي يقدم شخصية نادرة جمعت بين العلم والشعر، "سيدات من مصر": سيرة جماعية لرائدات غيرن وجه الثقافة والمجتمع المصري، وإعادة إصدار "صوت أبي العلاء" لطه حسين، في مشروع طموح لاستعادة إرث عميد الأدب العربي.
تنوع جغرافي وزمني وشمولي في الطرحلم يقتصر الاهتمام على مصر والمنطقة العربية، بل امتد ليشمل مناطق حضارية كبرى مثل آسيا الوسطى (بلاد ما وراء النهر)، وإيران، وأمريكا اللاتينية، كما شهد المزج بين التاريخ القديم (إقليم باثيريتيس في العصر البطلمي) والتاريخ المعاصر (الحرب الأوكرانية ونظام عالمي جديد).
في عالم تتزايد فيه الضوضاء الرقمية، تبدو الهيئة المصرية العامة للكتاب كمؤسسة تقاوم التفاهة بالمعلومة، وتواجه الضحالة بالعمق، والتسطيح بالتأصيل.
إصدارات الشهور الأولى من 2025 تمثل حالة ثقافية تستحق الدعم والمتابعة، وتؤكد أن مصر ما زالت تنبض فكرًا، وتكتب مستقبلها بحبر المعرفة، لا بهوامش النسيان.