عربي21:
2024-11-21@20:08:35 GMT

مخبر أمن دولة.. يوميات معتقل (9)

تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT

كيف يتحول إنسان من ناشط ثوري إلى مخبر للأمن؟ وكيف يتحول نفس الإنسان من قيادي إقليمي في حركة "تمرد" إلى معتقل سياسي؟ في سجون النظام الذي كان ولا يزال يؤيده؟ كيف تحدث هذه التحولات الانقلابية في الأفراد وفي المؤسسات؟

أسئلة عادية لا بد وأنها شغلت تفكيركم في ظرف ما، لكن الجديد في هذا المقال هو التفاصيل التي رواها لنا "عادل" في ليلة "عفريت الشوكولاتة".

.

عادل نفسه هو أحد نماذج التحولات بشكل ما، فقد تحول من شرطي إلى سجين سياسي، مع ملاحظة أنه لم يمارس السياسة أبدا، ولم يعارض النظام في أي حركة معارضة رسمية أو شعبية، لكن مشكلته أنه شعر بالظلم، وبدأ يسأل نفسه عن طبيعة عمله كشرطي: هل هي حلال أم حرام؟

الأسئلة التي فرضت نفسها عليه بوازع الضمير في البداية، تطورت إلى بحث شرعي وقراءات في الدين، قرر بعدها أن يواصل عمله باحترافية والتزام بالأوامر، لكن بإنسانية وبدون تجاوزات، أو حسب تعبيره "قررت طاعة القانون قبل طاعة الأوامر، فلا طاعة لأوامر الباشاوات إذا تعارضت مع القانون"..

يضحك عادل بمرارة وهو يفسر لي أصل مشكلته مع الشرطة، ففي أحد الأيام كان مكلفا بتسليم متهم من مكان إلى آخر، وأثناء إنهائه للأوراق، لاحظ أن المتهم مرهق فسمح له بالجلوس على إحدى "الدكك" الخشبية"، واشترى له زجاجة مياه، وجلس بجواره يبادله الحديث المعتاد في مثل هذه الظروف عن القانون والسجون وظروف القضية، والمواساة التي لا تخرج عن الفضفضة والراحة بالكلام، وإذا بضابط يخرج من مكتبه ويوبخ عادل: إيه اللي انت عامله ده يا سي عادل؟.. احنا في قهوة هنا؟.. قاعد مع المجرمين قعدة صحوبية وفاكك إيدك من الكلابش مع المجرم وسايبه كده لوحده؟

عادل نفسه هو أحد نماذج التحولات بشكل ما، فقد تحول من شرطي إلى سجين سياسي، مع ملاحظة أنه لم يمارس السياسة أبدا، ولم يعارض النظام في أي حركة معارضة رسمية أو شعبية، لكن مشكلته أنه شعر بالظلم، وبدأ يسأل نفسه عن طبيعة عمله كشرطي: هل هي حلال أم حرام؟
حاول عادل التحقيق من الحرج وحدة الموقف فقال للضابط وهو يبتسم: ولا قهوة ولا صحوبية ولا حاجة يا "فلان" باشا.. أولا ده متهم مش مجرم، وحضرتك سيد مين يفهم في القانون، ثانيا أنا فكيت الكلابش عشان أعرف أخلص الأوراق، وكلبشت المتهم في اليدين الاتنين، ومفيش خوف من هروبه لأننا داخل المكان واستحالة متهم مكلبش يقدر يخرج لوحده، و..

قاطعه الضابط: انت هتعلمني شغلي..

- العفو يا فلان باشا، الموضوع بسيط، واللي تؤمر به هننفذه..

ويفسر لنا عادل أن للقصة خلفية قديمة، هي السبب في كل هذه الزوبعة، فقد كان يعمل مع الضابط كفريق واحد، وفي أحد الأيام نادى عليه الضابط: روح با عادل هات لنا علبتين كشري وطبقين حلو، وأنا عازمك،

تعجب عادل من الطلب، وقال للضابط بأدب: حاضر هبعت لك حد من البوفيه يجيب اللي حضرتك عاوزه، وشكرا على العزومة لأني أكلت الحمد لله؟

- انت مستكبر تجيب لي أكل، وبتعلمني الأدب؟

وحدثت قطيعة نفسية انعكست في التقارير الدورية والوشايات الكاذبة وسوء المعاملة، وتعمد اختيار مهام تتعارض مع مواعيد الإجازات وحاجة عادل للسفر الأسبوعي لأسرته في مدينة تبعد كثيرا عن القاهرة، وانتهت "أزمة الكشري" بخيار اضطراري تم فرضه على عادل: "الفصل أو الاستقالة".

رفض عادل الاستقالة وتم فصله تعسفيا، ودخل في شوط طويل من الشكاوى الإدارية والتظلمات واللجوء للتقاضي في المحاكم، وانتهت الجولة بأحكام قضائية لصالحه، لكن "بلها واشرب ميتها!.. ابقى شوف بقى مين يقدر ينفذ لك الأحكام دي!

بعد خروجه من الخدمة وانقطاع كل الخيوط مع وزارة الداخلية، جرب عادل العمل الحر في أكثر من مجال، حتى استقر أخيرا في شركة أمن خاصة، وترقى سريعا نظرا لكفاءته، لكن "سيكولوجية الكشري" منتشرة في المؤسسات، وعادل لم يدرب نفسه على طاعة أوامر الباشاوات بدون تفكير، كان ضميره ينغص عليه حياته العملية، ويحرضه أن يفكر ويلتزم بالقانون ويتصدى للفساد، خاصة وأن دائرة المراقبة الأمنية للمؤسسة كانت تحت إدارته، وفي أحد الأيام "عزمته" مديرة الموارد البشرية على فنجان قهوة في مكتبها، وأثناء الدردشة الودية في ظروف الحياة وأعباء العمل، فتحت درجة مكتبها وناولته علبة مغلفة بغلاف أنيق.

- إيه ده؟

* حاجة بسيطة.. هدية للمدام..

- انت تعرفيها.

* لحد دلوقتي لسه، بس بإذن الله نتعرف ونعمل صداقة عائلية.

شكرها عادل، واعتذر عن قبول الهدية، لكن بعد إلحاحها وإصرارها قبل الهدية وهو يشعر أن الهدية مقدمة لشيء لا يعرفه ولا يطمئنه، وبعد أيام بدأت الأسباب تتكشف، طلبت المديرة تعطيل الكاميرات في أماكن معينة تحيط بمكتبها، وكانت الحجة أنها تحب أن تتحرك بحرية، وإحساسها بوجود كاميرات تراقبها يؤلمها نفسيا، ولا يجعلها على طبيعتها، حتى أنها أصبحت تخاف من دخول الحمام في المكان، ومن الحديث العادي مع أي شخص في المؤسسة، كل شيء ممكن استخدامه غلط في لحظة معينة، وأنا عاوزة أستعيد إحساسي بالأمان والراحة في المكان.

- ما اقدرش يا دكتورة، ده مخالف لنظام العمل، ولو انت مصممة أشوف طريقة قانونية لعمل ده عشان خاطر حضرتك.

* هايل.. أنا مصممة طبعا، وأشكرك جدا إنك مهتم تلاقي حل.. اتصرف وبلغني لما تنفذ، والهدية المرة الجاية لك انت، بالمناسبة: المدام رأيها إيه في الهدية؟

- بتشكرك جدا على ذوقك الراقي.

بعد أيام مرت الدكتورة على عادل في مكتبه، وسألته بود: عملت إيه في الطلب اللي طلبته منك؟.. انت نسيتني وللا إيه؟

- لا أبدا، أنا عرضت الأمر على الإدارة ورفضوا أي استثناءات.

* بتقول إيه.. عرضت الأمر على مين؟.. انت اتجننت؟.. انت مش عارف بتتكلم مع مين وممكن يحصل لك إيه بسبب اللي عملته؟.. انت بتبلغ عني الإدارة، والله لأوريك.. هتدفع ثمن التصرف ده غالي..

الدكتورة زوجها عميد في الشرطة، وافتعلت أسبابا تحريضية للخلاف ونقلتها لزوجها: ده بيعاملني بجليطة وقلة ذوق، بيهين كرامتي ويكلمني من فوق ويراقب تصرفاتي بطريقة مريبة.. يانا يا هو في الشركة.. شوف لك حل قبل ما أعمل مصيبة..

- اهدي وأنا هتصرف.

بعد أسبوعين كانت قوة من الأمن الوطني في بيت عادل: اتفضل معانا.

- خير.. فيه حاجة؟

* لا أبدا.. خمس دقايق وهترجع.

يقول عادل: استدعاني الأمن قبل ذلك للسؤال عن بعض الشباب في المنطقة، وأبلغوني لو لاحظت أي حاجة بلغنا.. انت برضه بتاعنا واحنا واثقين فيك، عندنا تقرير إنك منتظم في الصلاة في مسجد (كذا).. بلاش المسجد ده، ابعد عن القلق أسلم.

تصورت أن الاستدعاء يتعلق باستفسارات عن أشخاص غيري، لأنهم تعاملوا معي في المرة الأولى كفرد من أفراد الشرطة حتى لو خرجت من الخدمة، لكن حجم القوة ونوعية الحملة التي أحاطت بالبيت تطرح أسئلة كثيرة، ورجحت أنهم كانوا في طريقهم لمهمة أخرى لم تكتمل فجاءوا بعدتهم وعتادهم لاستدعائي.. صدفة.. أكيد صدفة..

في مقر الأمن الوطني فوجئت بأن كل توقعاتي ساذجة، وكل تفكيري خاطئ، الكائنات في هذا الجهاز لا تصون زمالة ولا قانونا ولا منطقا، أوامر وتعليمات واستسلام للوشايات والخدمات المتبادلة، لم يواجهوني باتهامات مباشرة:

- احنا بننفذ تعليمات، أكيد فيه التباس، انت عارف اننا لا بد نطيع الأوامر حتى لو على أولادنا، كام يوم كده وتخرج لما تظهر الحقيقة..

تحولت الدقائق الخمس (وترجع بعدها على طول) إلى ثلاث سنوات؛ تخللها تغيير التهم والقضية مرتين لزوم تجديد الحبس الاحتياطي
وتم ترحيلي إلى النيابة واتهامي بنشر أخبار كاذبة وتحولت الدقائق الخمس (وترجع بعدها على طول) إلى ثلاث سنوات؛ تخللها تغيير التهم والقضية مرتين لزوم تجديد الحبس الاحتياطي، وكان من السهل أن أعرف أن الدكتورة زوجة العميد نفذت تهديدها الغاضب: انت اتجننت، وهتشوف اللي هيجرالك.

طال الحديث عن الراوي، فماذا عن الرواية؟

يقول عادل: أنا وصلت بينكم هنا بعد رحلة طويلة في السجون والعنابر، كنت حريصا فيها على إخفاء معلومة عملي بالشرطة، لأن السجناء يتوجسون من أي فرد له صلة بالشرطة، ويعتبرون أنه يظل على صلة بمهنته ومن السهل أن يبلغ أخبارهم لإدارة السجن والتسبب لهم في الأذى. وفي أحد الأيام رآني زميل سابق أثناء "ساعة التريض" وكشف السر الذي أخفيه، وحدثت الفتنة في العنبر، وكبرت الخلافات والمشاكل حتى تم نقلي إلى هنا لتهدئة الأزمة التي تصاعدت بين السجناء، وبيني وبينهم وبين بعضهم.

في ذلك العنبر تعرفت على شاب مؤدب ومتعاون وكثير الكلام والمزاح والمرح، بما يخلق جوّا من الحيوية والتسلية في السجن، ولم تمر أيام حتى وجدت الشاب في صورة معاكسة تماما، مكتئبا وغاضبا وعنيفا ويشتم الجميع بألفاظ بذيئة وينام فترات طويلة دون طعام أو شراب، ويهاجم كل من يقترب منه.

ومثل كل زنزانة توجد فئة مشاكسة، كانت تتسلى بالشاب في الحالتين، تجاريه في المزاح والمرح، ثم تستفزه في حالة الاكتئاب والعزلة لدفعه نحو حالة الجنون التي يشتم فيها الجميع دون استثناء، حتى أنه كان يقف على "النضارة" (فتحة ضيقة في مواجهة العين بباب الزنزانة) ويشتم إدارة السجن وقيادات الدولة بألفاظ مبتذلة. وكانت هذه الحالة تعجب فريق المتنمرين، فلا يتركونه ينام لفترات طويلة ويفتعلون الحجج للذهاب إلى سريره لإيقاظه، فكان يملأ زجاجات المياه الفارغة بالبول والأوساخ، فإذا جاءوا إليه رشهم بالقاذورات وسط هرج ومرج وفوضى بالعنبر.

فشلت كل محاولات التهدئة والاحترام المتبادل، وكان اللقب الذي يطلقونه عليه للسخرية والتنمر هو "الفلحوس بتاع تمرد".

كان الأمر بالنسبة لي مؤلما جدا، أن أرى إنسانا في هذه الحالة، يتقلب بين المرح والاكتئاب، بين السهر المتصل ليلا ونهارا وبين النوم المتصل ليلا ونهارا، بين الوداعة وخدمة الزملاء وبين الشراسة والبذاءة والعنف..

مأساة بشرية تتحرك أمامي، كتلة من المتناقضات تحتاج إلى تفسير، وجعلتني هذه الحالة أنشغل به وأراقب تصرفاته، فوجدته يجلس منزويا على سريره بالساعات يمزق ملابسه إلى شرائح مهلهلة، ثم يأتي نهار يزعق فيه على الحارس ويطلب مه ملابس جديدة، فإذا رفض يطلب مقابلة "فلان بك"، وكنت أعرف بحكم خبرتي ومعلوماتي أن هذا "الفلان بك" ليس رئيس المباحث ولا من طاقم إدارة السجن، لكنه مندوب الأمن الوطني في سجون طرة، وهو الضابط الذي يملك تقرير مصير السجناء السياسيين، فالقاعدة التي كان يرددها علنا: إدارة السجن هنا مسؤولة عن الجنائيين بس، أما انتوا (السجناء السياسيين) فأنتم بتوعي وأنا صاحب الأمر والنهي في كل ما يخصكم..

زادت حيرتي تجاه هذا السجين، فمن السهل أن تحبه وتشعر بالود تجاهه عندما يكون في حالة الهدوء والمرح اللطيف، ومن السهل أن تكرهه أو تخاف منه (أو عليه) في حالة العنف والاكتئاب والهذيان والبذاءة، ومن السهل في الحالين أن تشعر بالقلق والتفكير في تصرفاته التي تحتاج إلى ترابط وتفسير:

لماذا يمزق ملابسه ثم يطلب غيرها؟

لماذا يطلب مقابلة مندوب الأمن الوطني، ويهدد الحرس إذا لم يبلغوا "فلان بك" برغبته في مقابلته: "نهار أبوكم أسود لو ما قلتوش لفلان بيه (..) عاوز يقابلك"؟!

لماذا يتنمر عليه فريق المشاكسين بألفاظ غامضة من نوع "ياحلوة".. "ليلة الدخلة".. "شكلك عاوز فرج"... وإيحاءات لها دلالت جنسية مشهورة شعبيا؟

لم يكن لديّ الجرأة الوقحة لكي أسأله أو أسأل غيره مباشرة عن القصة الخفية، أو المعلومات المتوفرة عن ذلك الشاب، لكنني ظللت أفكر في تصرفاته وعلاقتها بالسجن، ويبدو أن أحدهم شعر بحالي ونظراتي وتطوع ليحكي لي بعضا مما يعرفه:

"الواد حصل له صدمة بعد القبض عليه، مكانش مصدق انه يدخل معتقل الدولة اللي كان في صفها، كان يهذي عن فضله في جمع الاستمارات ومعارضته للإخوان كلاب جهنم: "احرقوهم وخلصوا البلد منهم"، وتطورت الحالة إلى هياج وعنف وإحساس بالعظمة، فكان يقول لضابط الأمن: انت مش عارف بتكلم مين.. انا من قيادات تمرد اللي رجعت لكم البلد، وبدأت وصلات التعذيب المتنوعة بين الضرب والتهديد بالاغتصاب والصعق بالكهرباء، فكان يرتد في الاتجاه المعاكس وتوجيه العنف واللوم نحو الذات: "احنا طلعنا شوية (خ...) ولبسنا الخابور بإيدينا.. أنا استاهل كده وأكتر، ويلطم على وجهه ويضرب رأسه في أقرب شيء، أو ينهار على الأرض ويدخل في حالة تشنجات، وبيقولوا ان فعلا نفذوا التهديد باغتصابه، وان هذا الأمر تكرر. الله أعلم بهذا الموضوع بس ده الكلام اللي ماشي على لسان الناس".

الأخ الذي تطوع ليروي لي جانبا من القصة الحزينة، كان هادئا ويتطوع عادة للقيام بأي خدمة للزملاء في العنبر، خاصة الأكبر سنا، والأقوى شكيمة، إذا رأى أحدا يحمل ملابسه ليغسلها، يخطفها من يده بشهامة ويقول له: عنك انت، انا هغسلهم، يساعد من يطبخ ومن يكنس ويتطوع لأي شيء كما حدث معي في التطوع بالحكي وإفشاء المعلومات الخاصة.

إدارة السجون أيضا مدربة على التقاط الضعفاء والمكسورين والوضعاء، تراقبهم وتضعهم تحت ضغط حتى ينهاروا تماما، فيتم تحويلهم على ممرات للوشاية والمراقبة والاستخدام السيئ ضد السجناء الآخرين، وفي العجلة الجهنمية للسجون تتداخل الصور والأوصاف والأعراض ويصعب الحكم على الأشخاص من تصرفاتهم الظاهرة
بعد أسابيع قليلة حدثت المشكلة معي، وانقلب ضدي الشخص المتطوع وتقوّل علي بأكاذيب كثيرة، وظهر أن له وجها خفيا أكثر قبحا من الوجوه الخبيثة التي اصطدمت بها في السجن، وانتهت مشكلتي بنقلي إلى عنبر آخر، وهناك وصلتني الإجابة المدوية عن سر تمزيق الملابس.. كان الشاب يمزق ملابسه ليصنع منها حبلا متينا، صنع منه مشنقة ربطها في دورة المياه بعد صلاة العشاء عندما يبدأ الهجوع والهدوء في العنبر، وأقدم على الانتحار..

نجا الشاب لأن في عمره بقية، فقد دخل أحد السجناء في اللحظة الذي كان فيه الشاب يشنق نفسه، واندفع نحوه وحمله من ساقيه وهو يصرخ، مما خفف من أثر الشنق، وتدافع السجناء في ذعر لمساعدته وبدأ الطرق بجنون على الباب الحديد والنداء على الحرس: دكتووور.. إسعاف.. واحد مات.. سجين انتحر يا إدارة.. الحقونا، وانقلب السجن في لحظات، وحضرت كل القيادات، وحدثت حالة من الاهتمام المؤقت، والتعبير عن الفرح بنجاة السجين، لكن المشكلة الأساسية لم يتم حلها، ولم يهتم أحد بمعرفة أسبابها الحقيقية، ولأنني شغلت نفسي بالبحث عن إجابة، فقد توصلت إلى الحقيقة الصادمة: الشاب الذي شنق نفسه لم يكن مخبرا للأمن بالمعنى الشرير والمباشر، كان مجرد ضحية وضعتها الظروف في مهمة لا يمارسها ويحاول استغلالها لصالح نفسه دون إيذاء غيره، وكان طلبه لمقابلة ضابط الأمن الوطني ضمن حالة التناقضات والأوهام التي تصور له أحيانا أنه مشهور وقيادي، وله فضل على النظام في إسقاط نظام الإخوان، لكن شروره كانت بالأساس موجهة ضد نفسه، ثم تنتقل إلى الآخرين كرد فعل، بينما "المتطوع الطيع" كان هو المخبر الواشي الشرير الذي يختلق الأكاذيب ليؤذي الآخرين، حتى الذين يحسنون إليه ويعاملونه بالحسنى.

عندما وصل عادل إلى هذه النقطة من الحكاية، قاطعته لأسال عن بعض التفاصيل، وتذكرت تعبيرا لمتخصص أمريكي في علم نفس السجون يقول فيه إن "السجون مراكز قسرية لتدريب السجناء على الوضاعة، فكلما ازدادت وضاعة السجين، ازدادت فرصته في البقاء على قيد الحياة".

إدارة السجون أيضا مدربة على التقاط الضعفاء والمكسورين والوضعاء، تراقبهم وتضعهم تحت ضغط حتى ينهاروا تماما، فيتم تحويلهم على ممرات للوشاية والمراقبة والاستخدام السيئ ضد السجناء الآخرين، وفي العجلة الجهنمية للسجون تتداخل الصور والأوصاف والأعراض ويصعب الحكم على الأشخاص من تصرفاتهم الظاهرة، فتحت الضغط تصبح الجريمة الأكثر خطورة في القوة التي تهيمن، وليس في الضحايا الذين سقطوا وفقدوا الكثير من إنسانيتهم لأسباب ترتبط بالسجن أكثر مما تنبع من السجناء.

وفي المقال المقبل نواصل مدى ارتباط السجن بالحياة خارجه، كأن السجون مجرد عينة من دم الوطن المصاب بالسرطان.

[email protected]

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سجون مصر سجون معتقلين ذكريات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك صحافة سياسة صحافة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأمن الوطنی إدارة السجن أحد الأیام فی حالة

إقرأ أيضاً:

عبقرية صلاح جاهين

يقول عمنا «كما أحب أن أناديه» عن نفسه فى الرباعيات «فى يوم صحيت شاعر براحة وصفا الهم زال والحزن راح واختفى... خدنى العجب وسألت روحى سؤال.. أنا مت؟ و لا وصلت للفلسفة؟»، كان جاهين الفيلسوف يدعو الناس دائماً أن يشربوا كلماتهم ليدركوا طعمها إذا كانت حلوة أو مُرة، حقيقى إننى أشرب أشعار هذا الفيلسوف بغض النظر عن طعمها، وأنا أنضم إلى رأى الكاتب الكبير «يحيى حقى» عندما قال «لقد خدعنا صلاح وهو يصف نفسه تارة بالبهلوان وتارة بالمرح– فإن الغالب على الرباعيات هى نغمة الحزن»، فهذا الشاعر الذى فارق الحياة منذ حوالى نصف قرن تقريباً، ما زالت الطاقة الإبداعية التى غرسها فى وجداننا سوف تأتى ثمارها كلما اقترب أحد من قراءة أشعاره التى تكشف روعة الشعر ووعى الفيلسوف الذى يلاحظ ما لا يلاحظه عامة الناس. وإننى أشعر كلما قرأت رباعية من رباعياته أن الرجل يحيا بيننا ويحكى لنا عما يراه فى زماننا، من تلك الأبيات التى ذكرتنى به «النـدل لما اغتنى أجر له كام طبال.. والطبل دار فى البــــلد عمَّال على بطَّال.. لاسمعنا صوت فى النغم ولا شعر فى الموال.. أصـــــل الندل مهمــا عِلى وكتر فى أيده المال.. لا فى يوم هيكون جدع ولا ينفع فى وســـط رجال.» الله عليك يا عمنا.. فقد أنتشر الأندال فى كل مكان وسيطروا وأصبح الكون كله داخل بطونهم.

لم نقصد أحداً!

مقالات مشابهة

  • بيان منزلة النفس الإنسانية في الإسلام.. الإفتاء تجيب
  • إدارة التوحش من داعش إلیٰ مليشيا آل دقلو!!
  • بريطانيا تبدي استعدادها لحماية إسرائيل مرة أخرى.. استمرار الحرب لا يدمر حماس
  • بنغازي | العقوري وقنصل مصر يبحثان سبل تسهيل السفر وتبادل السجناء بين البلدين
  • “العقوري” يلتقي بقنصل مصر في بنغازي لبحث عدد من الملفات المشتركة
  • العقوري وقنصل مصر ببنغازي يناقشان ملف تبادل السجناء بين البلدين
  • دراسة تكشف: دولفين وحيد في بحر البلطيق .. بدأ يكلم نفسه
  • عبقرية صلاح جاهين
  • الحوثيون يعتذرون لأحد السجناء في المحويت بعد سجنه لأكثر من ثمان سنوات عن طريق الخطأ !
  • مجلس القضاء يعتمد مصفوفة الإصلاحات ويؤكد على حقوق السجناء