خطبتا الجمعة بالحرمين: أبناؤنا خير ما ندَّخره لآخرتنا.. والقوامة لا تعني القهر وسوء الخلق
تاريخ النشر: 11th, August 2023 GMT
ألقى الشيخ الدكتور ماهر المعيقلي خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه، وتجنب مساخطه ومناهيه.
وأردف: إنَّ بقاء المرء في الدنيا يا أمة الإسلام له أمد محدود، وأجل معدود، والعمر قصير، والانتقال إلى الدار الآخرة قريب، فمن الناس من يموت فينقطع عمله وتطوى صحيفته، ومنهم من يبقى أثره ويدوم عمله، فيثقل ميزانه بما قدم من عمل، وبآثار تبقى له بعد انقطاع الأجل {إِنَّا نَحْنُ نُحْيي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاه في إِمَامٍ مُّبِينٍ}.
وإن من الآثار التي لا ينقطع أجرها بانقطاع الأجل الولد الصالح؛ فالولد الصالح من خيرة ما يدّخره المرء لنفسه، في دنياه وآخرته، فأولاد الرجل من كسبه، وعملهم الصالح من عمله.. ففي صحيح مسلم أَنَّ رَسُولَ الله –صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ: “إِذَا مَاتَ الْإنسان انْقَطَعَ عَنْه عَمَلُه إِلَّا مِنْ ثَلَاث: إِلَّا مِنْ صَدَقَة جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ”.
وأضاف الدكتور المعيقلي في خطبته: إن الولد الصالح زينة الدنيا وسرورها، وبهجتها وفرحتها، تحبه ويحبك، وتأنس به ويأنس بك، وتأمره فيبرّك، وإذا كبر سنك، ودق عظمك، عطف عليك، وأعانك على أمر دينك ودنياك، وكان خيراً لك في حياتك وبعد مماتك.. ففي مسند الإمام أحمد قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَة لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ”.
وتابع قائلاً: إن طلب الولد الصالح يبدأ منذ اختيار الزوجة الصالحة، فالمرأة تُنكح لأربع: “لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك”. وإن صلاح الأبناء والبنات يكون بغرس التوحيد في قلوبهم، ومحبة الله، والخوف منه، ورجاء رحمته، وتعليمهم بأن الصلوات الخمس من أعظم أسباب صلاح النفس، فالصلاة عماد الدين، وسبب مرضاة رب العالمين. فيجب على الوالدين العناية بشأنها، وحث الأبناء عليها، وهم أبناء سبع سنين، والسؤال عن أدائها، وتعليمهم أحكامها؛ لتتعلق بها قلوبهم، وتعتاد عليها نفوسهم، فيحافظوا عليها طيلة حياتهم.
وأردف بالقول: إن الولد الصالح يا عباد الله يُطلب بصلاح الوالدين، فهدايتهم بإذن الله سبب لصلاح أبنائهم، قال جل في علاه: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَة وَكَانَ تَحْتَه كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَة مِنْ رَبِّكَ}، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “حفظهما الله بصلاح والدهما”. فعلى الآباء والأمهات أَنْ يَكُونَا قُدْوَة حَسَنَة للأبناء والبنات، خاصة في مرحلة الطفولة؛ فهي الأساس الذي يُبنى عليه بقية حياتهم، وتتكوَّن فيها سلوكياتهم، وهي فترة غرس القيم الفاضلة، والأخلاق النبيلة، وَالخير كل الخير في التأسي بالْمُرَبِّي الْأَعظم، بأبي هو وأمي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ، فهديه خير الهدي، وسنته أفضل السنن، فَقَدْ كان تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأطفال مبنيًا على الشفقة والرحمة، مُحِبًّا لهم، يَحْنُو عَلَيْهِمْ، يَلِينُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَيُشْعِرُهُمْ بِحُبِّهِ، وَيُعَبِّرُ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ، ففي الصحيحين: جَلَسَ النبي صلى الله عليه وسلم بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ، فَقَالَ “أَثَمَّ لُكَعُ، أَثَمَّ لُكَعُ”، يعني: الحسن، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَه وَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: “اللهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّه وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ”. وفي سنن ابن ماجه: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه إلى طَعَام، فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي السِّكَّةِ، فَتَقَدَّمَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ أَمَامَ الْقَوْمِ، وَبَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَفِرُّ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَيُضَاحِكُه النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ، حَتَّى أَخَذَه فَقَبَّلَهُ. وقال صلى الله عليه وسلم لرجلٍ كان لا يُقبِّل أولاده: “أَوأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّه مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ” رواه البخاري.
وأردف: حتى في لحظات الصلاة، والوقوف بين يدي الله، يتحمل صلى الله عليه وسلم لعب الأطفال ولهوهم، مراعاة لمشاعرهم، ففي مسند الإمام أحمد: خرَج النبي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ إلى الصلاة، وَهُو يحَمِل الْحَسَنَ أو الْحُسَيْنَ، فلما صلى أطال في إحدى سجداته، فَلَمَّا قَضَى صَّلَاته، قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَي صَلَاتِكَ هَذِهِ، سَجْدَة قَدْ أَطَلْتَهَا، فَظَنَنَّا أَنَّه قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أو أنه يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ: “كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَه حَتَّى يَقْضِي حَاجَتَهُ”.
والحديث مع الأطفال فيما يخصهم، وإدخال السرور عليهم، مِنْ هدي النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ، ففي الصحيحين: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَه أَبُو عُمَيْرٍ، وَكَانَ إذا جَاءَ قَالَ: “يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ”، قال أنس: “مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ، مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ”، ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالصغار أنه كان يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم، ويدعو لهم بالرزق والبركة.
وتابع خطبته متحدثًا: معاشر المؤمنين، إن الإحسان إلى الصغار، ومراعاة مشاعرهم، والصدق في التعامل معهم، من أسباب صلاحهم، ومما كان يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي سنن أبي داود: عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَامِرٍ قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّه صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ: “وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟”، قَالَتْ: أُعْطِيه تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ: “أَمَا إِنَّكِ لَو لَمْ تُعْطِه شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ”. بل سلك صلى الله عليه وسلم في تقديره للصغار مذهبًا بعيدًا، ففي مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جلس ابن عباس رضي الله عنهما عن يمينه، وكبار الصحابة عن يساره، فأُتِي بشراب فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى منه قَالَ: “يَا غُلاَمُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِي الأَشْيَاخَ”، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاه إِيَّاهُ. رواه البخاري.
والْعدل بين الْأَبناء حق من حقوقهم، وسبب لصلاح قلوبهم، وغرْس الْمحبّة بيْنَهم، لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على العدل بين الأبناء، ولو كان ذلك في أدق الأشياء، ففي صحيح مسلم: عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إلى رَسُولِ اللَّه صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي، فَقَالَ: “أكل بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟”، قَالَ: لاَ. قَالَ: “فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي”، ثُمَّ قَالَ: “أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟”، قَالَ: بَلَى، قَالَ: “فَلاَ إِذًا”.
وتابع خطبته قائلاً: أمة الإسلام، مَا أَجْمَلَ أَنْ نربي أبناءنا على الصلاح، والسير معهم في طريق الفلاح، بكل حلم ورحمة ورفق، فالصغير لا يدرك الواجبات والحقوق، والقيم والمعاني، والأصول والمبادئ، وإنما يتلقى ذلك شيئاً فشيئاً عبر سنوات حياته، ولا يعني ذلك عدم الاهتمام بتصحيح الأخطاء، ولكن يجب أن يكون التصحيح بأسلوب يبني ولا يهدِم، ويؤدِّبُ ولا يُثرِّب. ومن نظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجد حرصه على تعديل السلوك بأحسن أسلوب، بلا إهانة ولا تجريح، ولا لومٍ ولا توبيخ.. فهذا عُمَر بْنَ أَبِي سَلَمَة رضي الله عنه يذكر موقفاً له مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيَقُولُ: “كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ: “يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ”. قال: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ رواه البخاري. وشواهد السيرة العطرة في هذا الباب كثيرة، فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: هذا هو هدي رسولنا فاستنُّوا به، وهذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم فاقتدوا به، فقد قال الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّه أُسْوَة حَسَنَة لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّه وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّه كَثِيرًا}.
وأشار متحدثًا في خطبته الثانية إلى أن من عظيمِ فضلِ الله تعالى ورحمته بعبادِه أن جعل الدعاءَ من أفضلِ العبادات نفعًا، وأعظمها أثرًا، فأمر عباده بدعائِه، ووعدَهم سبحانه بالإجابة، فضلاً منه وكرمًا، ومنَّة وجودًا {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. فلدعاء الوالدين أثر كبير في صلاح الأبناء والبنات، وهو أحد ثلاث دعوات مستجابات، قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ: “ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَة الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَة الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَة الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ”، رواه ابن ماجة. فدعاء الآباء للأبناء منهج الرسل والأنبياء، والصالحين من عباد الله، فهذا خليل رب العالمين يسأل ربه الولد الصالح فيقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}، فيأتيه الجواب: {فَبَشَّرْنَاه بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، وبعد أن رزق بالولد الصالح، مع أخذه بأسباب حسن التربية والإصلاح، لم ينقطع دعاؤه لأبنائه، فيسأل ربَّه لنفسه ولولده أن يُجنِّبهم عبادة الأوثان، وأن يجعله وذريته من مقيمي الصلاة؛ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمنا وَاجْنُبْنِي وَبَنِي أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاة وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}. ومن شفقة الخليل عليه السلام على ابنه إسماعيل وذريته أن دعا الله عز وجل فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فاستجاب الله دعاءه، فكان من ذريته سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: “أنا دعوة أبي إبراهيم” رواه أحمد. ودعاء الوالدة لولدها لا شك أنه أحرى بالقبول وأولى؛ فهذه امرأة عمران قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، فلما وضعتها أنثى قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، فاستجاب الله دعاءها، وبارك في ابنتها، واصطفاها، وجعلها آية من آياته الكبرى، فوهبها عيسى عليه السلام، وأعاذها وابنها من الشيطان الرجيم. كل ذلك ببركة دعاء الأم الصالحة.
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان من هديه الدعاء لأبنائه وأحفاده، وأبناء أصحابه، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ وَقَالَ: “اللَّهُمَّ عَلِّمْه الْكِتَابَ” رواه البخاري. وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ: “اللَّهُمَّ فَقِّهْه فِي الدِّينِ”؛ فأصبح ابن عباس رضي الله عنهما حَبْرِ الأُمَّة وتُرجُمانِ القُرآنِ. وفي الصحيحين: قَالَتْ أُمِّ أنس رضي الله عنها: يا رَسولَ اللَّهِ، خُوَيْدِمُكَ أنَسٌ، ادْعُ اللَّه له، قَالَ فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا لِي بِه أَنْ قَالَ: “اللَّهُمَّ أكثر مَالَهُ، ووَلَدَهُ، وبَارِكْ له فِيما أعْطَيْتَهُ”، قال أنس رضي الله عنه: “فَإِنِّي لَمِنْ أكثر الأَنْصَارِ مَالاً. وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ أَنَّه دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ البَصْرَةَ، بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ” رواه البخاري.
ودعاء الصالحين الأخيار، وصفوة عباد الله الأبرار: {رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّة أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً}.
وحذر المعيقلي في الخطبة الوالدين من الدعاء على أولادهم، ولو أغضبوهم، قائلًا: بل يدعون لهم بالصلاح والاستقامة، ويسألون الله لهم الرشد والهداية، ففي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أولادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ الله سَاعَة يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ”. فكم من دعوة خرجت من أب أو أمٍّ على أحد أبنائهم فوافقت ساعة إجابة؛ فلربما كانت سببًا في فساده وهلاكه، نعوذ بالله من مقته وغضبه. مستشهداً بقوله تعالى {رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّة أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً}.
* أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ عبدالباري الثبيتي المسلمين بتقوى الله؛ فهي سبيل النجاة وطريق السعادة في الدنيا والآخرة.
وبيّن فضيلته أن الأسرة هي أساس بناء المجتمع، وهي اللبنة الأولى في كيانه.
وأوضح أن لمقام الأسرة ومكانتها العالية نالت نصيباً وافراً من النظم والتشريعات التي رسمت الحقوق وحددت الواجبات وميزت الاختصاصات بين الزوجين.
وتابع فضيلته: التشريع الإسلامي راعى ما يناسب كلاً منهما من جهة القدرة الجسدية والطبيعة النفسية، وما يلائم مؤهلاته وإمكاناته.
وبيّن أن كل زوج ينشد بناء أسرة مستقرة مطمئنة، تملك مقومات الحياة والمستقبل الزاهر.
وأوضح فضيلته أن للمرأة دوراً لا يسده غيرها؛ فهي المربية، وهي السند لزوجها، وركن الأسرة والرحمة الغامرة.. ففقدها لا يعوض، وغيابها يهز أركان المجتمع.
أوضح الثبيتي أن المؤسسة لا بد لها من يدير دفتها، وهذا للزوج، قال تعالى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.
مبيناً أن القوامة ولاية تمنح الزوج حق القيام على شؤون الأسرة وتدبيرها، فهي تشريف وتكليف وزيادة أعباء.
اقرأ أيضاًالمملكة“أبشر”: أكثر من 12 مليون عملية إلكترونية خلال النصف الأول من عام 2023
وتابع: من الزلل التمرد على منصب القوامة ومنازعة الرجل ما كلفه الله به، كما أن من الخطأ ممارسة الرجل القوامة خارج إطار الشرع. موضحًا أن كلا الأمرين يعرّض الأسرة والمجتمع للتصدع.
وأشار فضيلته إلى أن بعض الرجال يخطئ في فهم معنى القوامة التي لا تعني ممارسة القهر والاستبداد، واستغلال القوامة للتقليل من شأن الزوجة وتكليفها ما لا تطيق، أو إيذائها. مشيرًا إلى أن هذا السلوك يحجم مواهب وقدرات الزوجة، ويسلبها الشخصية وقدرتها على المشاركة في تحمل المسؤولية.
وبين فضيلته أن قصر فهم بعض الأزواج للقوامة على تأمين الطعام والمأكل والشراب والمسكن لا يكفي لإنشاء أسر مستقرة.
وتابع إمام وخطيب المسجد النبوي: القوامة تكليف، والتكليف مناط به الثواب والعقاب، ويقتضي أن يتمثل الزوج سمات القيادة وحس المسؤولية بحسن الخلق. قال صلى الله عليه وسلم: “أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم”.
وشدد فضيلته على أن القوامة تقتضي الحث على طاعة الله، والترغيب في شعائر الإسلام، قال جل من قائل: {وَأْمُرْ أهلكَ بِالصَّلَاة وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا، لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ، وَالْعَاقِبَة لِلتَّقْوَى}.
وبيّن الثبيتي أن من القوامة المعاشرة بالمعروف ومشاركة شريكة الحياة، قال تعالى {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. موضحًا أن من المعاشرة بالمعروف حسن التعامل والكلمة الطيبة وأدب الحوار، وعدم تحميلها ما لا تطيق، وإدخال السرور عليها، والتجاوز عما يكدر الصفو والبعد عن الغلظة والفظاظة وعدم إفشاء أسرارها أو إظهار العيوب.. قال صلى الله عليه وسلم “ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذي“.
وتابع الثبيتي: النبي صلى الله عليه وسلم كان دائم البشر، يتلطف أهله ويداعبهم، ويتودد إليهم.. ففي الحديث سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها ماذا يصنع النبي صلى الله عليه وسلم في البيت؟ فقالت “كان يكون في مهنة أهله”.
وأوضح فضيلته أن الشورى مبدأ حث عليه الإسلام، وأن إحياءه في الأسرة يعزز قوتها، ويحفز أفرادها على المشاركة في تحمل المسؤولية.
وتابع إمام وخطيب المسجد النبوي: الزوجة شريكة الحياة؛ فهي قادرة بما حباها الله من عقل وقلب وعاطفة أن تقدم الرأي. فالشرع حمّلها مسؤولية إدارة البيت؛ وهذا يقتضي المشاركة في القرار؛ فقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة في مسألة تتعلق بالأمة.
وبيّن أن وصف الرجولة يوحي بأن يكون قائد الأسرة الرجل يتحلى برجاحة العقل والحكمة وسعة الصدر وبعد النظر والقدرة على الحوار واستيعاب أفراد الأسرة ومهارة في إدارة المشكلات والترفع عن الترهات وتتبع السقطات.. ففي الحديث “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”.
وفي الخطبة الثانية أكد إمام وخطيب المسجد النبوي أن من مقتضيات القوامة قيام الزوجة بواجباتها تجاه زوجها بالطاعة بالمعروف وعدم الخروج إلا بإذنه.
وختم فضيلته بأن شرف الزوجة ورفعة قدرها في طاعة زوجها.
المصدر: صحيفة الجزيرة
كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية النبی صلى الله علیه وسلم ى الله ع ل ی ه و س ل س رضی الله ی الله ع الله عن النبی ص ا ر س ول
إقرأ أيضاً:
"ما معنى الغوث" وحكم إطلاقه على الولي الصالح
قالت دار الإفتاء إن الغوث هو اسم مصدر من الإغاثة لُقِّب به بعض من اشتهروا بالنجدة والفتوة من باب إطلاق الحدث على الذات لتمكُّن الشخص في المعنى كأنه تجسد فيه، ويُقصَد به أنه سببٌ للإغاثة، أما الله سبحانه وتعالى فإنه المغيث على الحقيقة أي المُؤَثِّرُ الخالق، والاشتراك في لفظ الوصف لا يقتضي الاشتراك في تَمَام المعنى بين الخالق والمخلوق؛
وأوضحت الإفتاء أن تلقيب الولي الصالح بالغوث سواء كان حيًّا أو ميتًا، ليس فيه معنًى سوى أنه سببٌ في إغاثة الخلق، والإغاثة مندوب إليها شرعًا، سواء في مصالح الدنيا أو في مصالح الدين.
وأضافت أنه لا يوجد مانع في الشرع من إطلاق لقب "الغوث" على بعض الأولياء الصالحين الذين اشتُهر في الناس تسبُّبُهم في الإغاثة واستجابة الدعاء، وقد أسند اللهُ إلى عيسى عليه السلام الخلقَ والإحياءَ وإبراءَ الأكمه والأبرص باعتبار أنه تعالى قد أجرى هذه الأمور والتصرفات على يديه فجعله سببًا فيها؛ فقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 110].
وأكدت الإفتاء أن هذا الإطلاق باعتبار هؤلاء الأولياء سببًا، والفاعل على الحقيقة والمؤثر هو الله تعالى، وهو الذي أجرى على يد بعض عباده مِن الأحياء والأموات أسبابًا لإغاثة الخلق، يؤكد هذا المعنى قولُه صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ، فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، فَإِنَّ للهِ عِبَادًا لا نَرَاهُمْ» أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
حكم إطلاق لقب "الغوث" على الولي الصالحوقالت الإفتاء إن العقيدة الإسلامية ناطِقةٌ بأمرين على السواء، وهم:
الأول: أن الخلق والتأثير في الإغاثة على الحقيقة إنما هو لله تعالى وحده دون أحدٍ مِن خَلقِه؛ حيًّا كان هذا المخلوق أو ميتًا؛ وقد ورد وصف الله تعالى "بالمغيث" كما ورد ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في عد الأسماء الحسنى عند الحاكم في "المستدرك على الصحيحين".
الثاني: أنه قد يُسنَد إلى بعض الخلائق شيءٌ أُسند للذات الإلهية مِن باب أن الله تعالى أقام هذا المخلوق سببًا في هذا الأمر على سبيل المجاز المرسل أو العقلي؛ كما أسند إلى عيسى عليه السلام الخلق والإحياء وإبراء الأكمه والأبرص باعتبار أن الله تعالى أجرى هذه الأمور والتصرفات على يديه فجعله سببًا فيها؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 49].
وفي قوله: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 110]؛ ولذا قيدت هذه الأمور في الآيات بقوله: ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ و﴿بِإِذْنِي﴾، ولذلك جاز طلب الغوث من الخلق على جهة التسبب لا على جهة التأثير؛ كما في قوله تعالى حكاية عن سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [القصص: 15].