أصدر ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي ورئيس الوزراء الإيطالي السابق، تحذيرًا شديد اللهجة بشأن التدهور الاقتصادي المتزايد في القارة العجوز، واصفًا الوضع بأنه "معاناة بطيئة" ناجمة عن سنوات من الإهمال الاقتصادي والاستثماري.

وجاء هذا التحذير وسط أمثلة ملموسة على التدهور الاقتصادي بالقارة، بما في ذلك حادث انهيار أجزاء من جسر في دريسدن بألمانيا، لم يسفر عن إصابات لكنه يعكس الواقع الذي يواجهه الاقتصاد الأوروبي وفق دراغي، حيث يشير إلى الفشل في الاستثمار بشكل كافٍ في البنية التحتية والصيانة، كما أشار بتقريره المفصل.

أرقام تشير إلى أزمة حقيقية

وأوضح دراغي أن أوروبا ليست في مواجهة أزمة مفاجئة بقدر ما هي في خضم "معاناة بطيئة" بسبب سنوات من الإهمال. ووفقًا للتقرير -الذي يتألف من 400 صفحة- تحتاج أوروبا إلى استثمارات إضافية تصل إلى 800 مليار يورو (حوالي 881 مليار دولار) سنويًا لتعزيز اقتصادها المتدهور.

وأشار إلى أن أوروبا لم تعد قادرة على الاعتماد على العوامل التي ساعدت في تعويض النمو البطيء في الإنتاجية مثل الطلب العالمي القوي، والطاقة الروسية الرخيصة، والاستقرار الجيوسياسي.

وأضاف دراغي أن التحديات الديموغرافية، مثل تقلص عدد السكان في العديد من البلدان الأوروبية، والبطء في التحول إلى الاقتصاد الرقمي، تشكل عقبات كبيرة أمام مستقبل القارة. وقد قال "الأزمة ليست وليدة اليوم، بل نتيجة لإهمال طويل الأمد، وإذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة، فإن أوروبا ستواجه معاناة متواصلة".

أوروبا بحاجة إلى استثمارات إضافية تصل إلى 800 مليار يورو سنويًا لتعزيز اقتصادها المتدهور (رويترز) استثمارات بمئات المليارات

ويتضمن تقرير دراغي توصيات طموحة للغاية، مثل إصدار ديون مشتركة عبر أوروبا وإنشاء استثمارات إضافية تصل إلى 800 مليار يورو سنويًا لتعزيز البنية التحتية والاقتصاد الرقمي.

لكن مثل هذه المقترحات تواجه تحديات سياسية كبيرة، حيث يعتبر إصدار ديون مشتركة بين الدول الأعضاء أمرًا مثيرًا للجدل.

ومع ذلك، يؤكد دراغي أن هذه الإجراءات ضرورية لتجنب "المعاناة البطيئة" التي تهدد القارة بأكملها.

مؤشرات وأرقام تؤكد الأزمة

وشهدت أوروبا مؤخرًا سلسلة من الأحداث التي تعزز التحذيرات التي أطلقها دراغي وفق بلومبيرغ. فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة "فولكس فاجن" عن إنهاء اتفاق أمني وظيفي طويل الأمد وتدرس حاليًا إغلاق بعض مصانعها في ألمانيا لأول مرة منذ تأسيسها عام 1937.

كذلك، أعلنت شركة "رينو" عن خطط لتخفيض الوظائف في فرنسا. وفي مجال التكنولوجيا، اضطرت شركة "ألف ألفا" للتخلي عن المنافسة مع عمالقة التكنولوجيا مثل "أوبن إيه آي" مما يشير إلى التراجع المستمر لأوروبا بسباق الابتكار الرقمي.

وتؤكد هذه الأوضاع المتدهورة -وفق توصيف بلومبيرغ- الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في أوروبا. ومع تزايد الأعباء، تواجه القارة تحديات هائلة للحفاظ على تنافسيتها على الساحة العالمية. وقد قال دراغي في تقريره "إذا لم تتمكن أوروبا من توفير الازدهار والعدالة والحرية والسلام لمواطنيها، فإنها ستفقد سبب وجودها".

ردود فعل سياسية.. دعم ومخاوف

تقرير دراغي لم يمر دون ردود فعل، فقد حصل على دعم من بعض القادة الأوروبيين، حيث وصفت كريستين لاغارد (رئيسة البنك المركزي الأوروبي) التقرير بأنه "تشخيص قاسٍ ولكنه عادل".

وزير الاقتصاد الألماني هابيك أقر بأن أوروبا تحتاج "تغيير المسار" لتحقيق التنافسية العالمية (أسوشيتد برس)

وأضافت لاغارد أن "التقرير يشير إلى ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة التحديات الاقتصادية المتزايدة". كما أعرب وزير المالية الفرنسي برونو لو مير عن قلقه بشأن الفجوة المتزايدة في الإنتاجية بين أوروبا والولايات المتحدة، قائلاً "أشارك دراغي قلقه بنسبة 100%".

من جانبه، ورغم رفض ألمانيا فكرة إصدار ديون مشتركة، أقر وزيرها للاقتصاد روبرت هابيك بأن أوروبا تحتاج إلى "تغيير المسار" لتحقيق التنافسية العالمية. وقال "علينا أن نقلب الموازين ونجمع الإرادة والموارد لجعل أوروبا قادرة على المنافسة عالميًا".

سيناريوهات محتملة

ويشير دراغي إلى أنه بدون اتخاذ إجراءات فورية، فإن أوروبا تواجه خطر الدخول في مسار محفوف بالمخاطر. وتشمل السيناريوهات المستقبلية المحتملة انسحاب الحكومات الوطنية من المبادرات الأوروبية المشتركة والعودة إلى التركيز على الحلول المحلية، أو ظهور أزمة جديدة تجبر القارة العجوز على اتخاذ إجراءات جماعية.

ولكنه يأمل أن يتمكن تقريره من توفير دافع جديد لاتخاذ إجراءات جماعية. ويضيف "قيم أوروبا الأساسية هي الازدهار والعدالة والحرية والسلام في بيئة مستدامة. وإذا لم تتمكن أوروبا من تقديم هذه القيم لمواطنيها فإنها ستفقد جوهر وجودها".

ويختتم الرئيس السابق للمركزي الأوروبي تقريره بنداء عاجل للعمل المشترك "إذا لم تتمكن أوروبا من اتخاذ إجراءات حاسمة الآن فإنها ستواجه معاناة طويلة الأمد".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات اتخاذ إجراءات أن أوروبا

إقرأ أيضاً:

هل تدفع تهديدات ترامب والقلق الأوروبي ألمانيا للتسلح النووي؟

برلين- ألقت تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب الضمانات الأمنية الأميركية للاتحاد الأوروبي بظلالها على العلاقات بين ضفتي الأطلسي، فالبعض يرى أن واشنطن لم تعد العمود الفقري لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي ضمن أمن القارة العجوز ودوله الأعضاء لما يقرب من 8 عقود.

وقد ازدادت المخاوف الأوروبية بعد انتقاد ترامب اللاذع للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وتهديده بعدم ضمان الدفاع عن حلفاء الناتو ما لم يدفعوا مقابل تلك الحماية، مما دفع قادة أوروبا إلى التفكير بجدية في مستقبلهم الأمني، خاصة بعد تصريحات وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث الذي قال "لا يمكننا الافتراض أن الوجود الأميركي في أوروبا سيستمر إلى الأبد".

ويرى بعض الخبراء أن تهديدات ترامب قد تكون مجرد تكتيك سياسي لدفع الأوروبيين إلى زيادة إنفاقهم الدفاعي، لكنهم يحذرون من أن هذه التصريحات يجب أن تؤخذ على محمل الجد، حتى وإن كانت مجرد مناورة.

ويُذكر أن فكرة انسحاب الولايات المتحدة من الناتو طرحها ترامب خلال ولايته الأولى، مما أثار قلقا كبيرا في أوروبا، خاصة مع استمرار هذا التهديد حتى اليوم، ورغم تأكيد الكونغرس أن أي انسحاب من الحلف يتطلب موافقة ثلثي أعضائه، فإن ذلك لم يبدد تماما المخاوف الأوروبية.

إعلان مخاوف

يحذر الدكتور هينينغ ريكه، رئيس مركز الكفاءة للرؤية الإستراتيجية الحكومي، أن هذا النهج قد يؤدي إلى إضعاف التأثير الرادع لحلف شمال الأطلسي، مما قد يشجّع على شن هجمات ضد الحلفاء.

وأضاف ريكه، في حديثه للجزيرة نت، أن على الأوروبيين الاستثمار في قدراتهم الدفاعية بشكل أكبر، مشددا على أن هذا لا ينبغي أن يقتصر على شراء الدبابات والطائرات والسفن فقط، بل يجب أن يشمل أيضا تعزيز قدرات القيادة والاستطلاع الإستراتيجية، والدفاع الجوي والصاروخي، والخدمات اللوجيستية البرية والجوية، والذخيرة.

وأكد أن على الأوروبيين التحرك بسرعة لشراء الأسلحة من الأسواق العالمية، والعمل على تطوير صناعات دفاعية أوروبية مستقلة، بعيدا عن المصالح الوطنية الضيقة.

كما دعا ألمانيا إلى توسيع دورها كمركز لوجيستي في أوروبا، مشيرا إلى أن تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية لن يكون مفيدا لأوروبا فحسب، بل سيسهم أيضا في تقوية "الناتو"، مما قد يدفع الولايات المتحدة إلى البقاء ملتزمة بالحلف وفقا لمصالحها الإستراتيجية.

ويحذر الدكتور ريكه من أن انسحاب القوات الأميركية سيضعف الالتزام الأميركي بحماية أوروبا داخل إطار "الناتو"، موضحا أن وجود القوات الأميركية في أوروبا يمثل عنصرا عمليا للردع والدفاع، كما أنه بمثابة تعهد أميركي صريح بحماية الأمن عبر الأطلسي.

وأضاف أن نشر قوات تابعة لدولة عضو في "الناتو" على أراضي دولة أخرى يبعث برسالة واضحة مفادها أن "أي هجوم على أحد شركاء التحالف سيُعتبر هجوما على الحلف بأكمله".

فكرة انسحاب الولايات المتحدة من حلف الناتو طرحها ترامب خلال ولايته الأولى (رويترز) القوة ضمان للسلام

أكد وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس أن التهديد المستمر الذي تمثله روسيا يستوجب من الحلفاء تكثيف الجهود لتعزيز قدراتهم الدفاعية، وقال "علينا أن نستثمر بشكل أكبر وأسرع في دفاعاتنا".

إعلان

وشدد الوزير الألماني على أن ذلك يتطلب زيادة الإنفاق العسكري، داعيا إلى تحديث نظام كبح الديون في ألمانيا لضمان استثمارات طويلة الأمد في مجال الأمن، كما أشار إلى إمكانية تعديل معايير "ماستريخت"، التي تحد من ديون الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بحيث يسمح ذلك بزيادة الإنفاق الدفاعي.

وفي ظل تصاعد التهديدات الأمنية، بدأت أوروبا بمناقشة ضرورة إنشاء منظومة ردع نووي مستقلة، وفي هذا السياق، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في مقابلة صحفية، أنه إذا كانت أوروبا تسعى إلى تحقيق "استقلالية دفاعية أكبر"، فعليها أن تبدأ مناقشة مسألة الردع النووي، وأضاف "أنا مستعد لفتح النقاش إذا كان ذلك سيساعد في بناء قوة عسكرية أوروبية مشتركة".

أما رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، فقد شدد على ضرورة بناء "تحالف من الدول الراغبة في تعزيز القدرات الدفاعية لأوروبا"، وأشار إلى أن أوروبا يجب أن تستعد لتعويض "أي فشل محتمل للولايات المتحدة" في دعمها ضد تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ويرى الدكتور هينينغ ريكه أن فرنسا وبريطانيا تلعبان دورا محوريا في الأمن الأوروبي، إذ إنهما دولتان نوويتان وحليفتان رئيسيتان للناتو، وكانتا من بين أبرز داعمي أوكرانيا منذ بداية الغزو الروسي، وأضاف أن البلدين هما أيضا ضامنان لأمن أوكرانيا بموجب مذكرة بودابست لعام 1994، التي تخلت بموجبها أوكرانيا عن أسلحتها النووية لصالح روسيا مقابل ضمانات أمنية.

ألمانيا والسلاح النووي

أثار العقيد الألماني المتقاعد وعضو البرلمان الألماني عن حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني، هانس-روديغر لوكاسن، جدلا حول مسألة امتلاك ألمانيا الأسلحة النووية، وذكر أن هذه المطالبات ليست جديدة، فقد سبق أن دعا وزير الدفاع الأسبق فرانس جوزيف شتراوس، إلى ضرورة امتلاك ألمانيا قدرات نووية مستقلة.

إعلان

وقال لوكاسن "الدولة التي تمتلك ترسانتها النووية الخاصة لا تحمي أراضيها فحسب، بل تضمن أيضا سيادتها وأمنها"، وأشار إلى أن تطوير وشراء الأسلحة النووية يجب أن يتم بالتنسيق مع فرنسا وبريطانيا، لكنه أكد في الوقت ذاته أن هذا المسار سيكون مكلفا ومعقدا من الناحية التقنية.

وأضاف متسائلا "ما الثمن الذي يمكن أن ندفعه من أجل تحقيق الاستقلالية الإستراتيجية والسيادة الوطنية؟"، مشددا على أن الأسلحة النووية هي أدوات ردع سياسي، صُممت لتُمتلك دون أن تُستخدم أبدا.

لكن في المقابل، يذكّر الدكتور هينينغ ريكه بأن تخلي ألمانيا عن الأسلحة النووية موثق منذ عام 1954 بموجب معاهدات باريس، كما أكدت ذلك مجددا بانضمامها إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية عام 1970، ثم عند إعادة توحيد البلاد عام 1990.

وقد شدد رئيس الاتحاد المسيحي الديمقراطي فريدريش ميرتس على أن هذا الموقف لا لبس فيه، وأن ألمانيا ملتزمة بالبقاء دولة غير نووية.

وفي حين يسعى الأوروبيون إلى تعزيز قدراتهم الدفاعية، تتصاعد التساؤلات حول مدى قدرتهم على تحقيق الاستقلال العسكري دون الدعم الأميركي، ويثير التوتر المتزايد بين أوروبا والولايات المتحدة في ظل تهديدات ترامب مخاوف حقيقية بشأن مستقبل الأمن الأوروبي.

مقالات مشابهة

  • من الإنتاج إلى التمويل... 5 تحديات تواجه قانون الأدوية الحرجة في الاتحاد الأوروبي
  • الاتحاد الأوروبي يشدد موقفه تجاه المهاجرين.. ومقترح لإنشاء "مراكز عودة"
  • المركزي الأوروبي يحذر من آثار الحرب التجارية على الاقتصاد العالمي
  • الاتحاد الأوروبي يقترح مساعدات عسكرية لأوكرانيا بين 20 و40 مليار يورو
  • البنك الأوروبي يحذر من آثار الحرب التجارية على الاقتصاد العالمي
  • الاتحاد الأوروبي يقترح مساعدات عسكرية لأوكرانيا هذا العام بقيمة لا تقل عن 20 مليار يورو
  • شرخ في جدار الغرب.. الطلاق بين الولايات المتحدة وأوروبا
  • البرلمان الأوروبي: أوروبا مطالبة بضمان أمنها عاجلاً
  • المديرية العامة للموانئ تعلن عن إجراءات عاجلة لمعالجة المشكلات التي ‏تواجه ‏البحارة ‏
  • هل تدفع تهديدات ترامب والقلق الأوروبي ألمانيا للتسلح النووي؟