«هل تلك المدينة المهشّمة المحطمة التي رأيتُها، أو ظننتُ أنني رأيتُها، وتجوّلتُ فيها، وهي محمولة على رائحة الموت القوية، كانت، بالفعل موجودة؟»، هكذا تساءل الأديب الفرنسي جان جينيه بحزن شديد في نصه الأدبي الشهير «أربع ساعات في شاتيلا»، معبِّرًا عن صدمته الكبيرة من المشاهد المروعة للجثث الملقاة في الشوارع، وإحساسه العميق بالصدمة والعجز أمام عنف وحشي تجلى في مجزرة صبرا وشاتيلا في بيروت التي حدثت في مثل هذه الأيام من عام 1982.
يُخبرنا الأرشيف الوحشي للتاريخ أنه في السادس عشر من سبتمبر 1982 اجتاحت ميليشيات حزب الكتائب اللبناني مخيمَي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين تحت غطاء الجيش الإسرائيلي، بعد حصار عنيف لبيروت واغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل. على مدى ثلاثة أيام، نفذت هذه الميليشيات مجزرة بشعة راح ضحيتها المئات من اللاجئين الفلسطينيين وسكان المخيمات من النساء، والأطفال، والشيوخ، كل ذلك تحت أعين الجيش الإسرائيلي الذي أضاء سماء المخيمات بالقنابل المضيئة.
يُخبرنا الأرشيف أيضًا أن جان جينيه كان حاضرًا، وقد شاء التاريخ أن يصل إلى بيروت في أيام المجزرة بدعوة من المناضلة الفلسطينية ليلى شهيد، فيكون أحد أهم شهودها، مقدِّمًا في نصّه «أربع ساعات في شاتيلا» مرافعةً أدبية بليغة ضد الظلم والطغيان ووحشية الإنسان وهمجيته تجاه أخيه الإنسان. وصف جينيه الفظائع التي شاهدها كما رآها، دون محاولة لتلطيف كلماته كي لا تصدم القارئ. المخيم كان مليئًا بجثث ملقاة في الأزقة الضيقة، والمرور بين تلك الأزقة يتطلب تخطي الجثث المتعفنة التي يغطيها الذباب. أول جثة رآها كانت لرجل في الخمسينيات أو الستينيات من عمره، مفتوحة الجمجمة بضربة فأس، ونخاعه الأسود مسكوب على الأرض. كان الجسد ملقى فوق بقعة من الدم الأسود المتخثر، بينما كانت ساقاه عاريتين بلون بنفسجي وأسود، مما يشير إلى تعفنهما تحت الشمس. ثمة جثث أخرى ليست أقل بشاعة، منها جثة رجل منتفخة بفعل الشمس والحرارة، تحولت ملابسه إلى مجرد قماش ممزق يغطي جسمه المتضخم. وصف جينيه فخذ الرجل المثني وقد ظهرت جروحه التي خَمَّن أنها ناتجة عن سكين أو فأس، وكان الذباب يحوم حول الجرح ويتغذى على بقايا اللحم المتعفن.
أحد المشاهد الأكثر إيلامًا التي وصفها الأديب الفرنسي كان لجثة مسنّة فلسطينية، ممددة على الأرض وسط الركام، ويدها مربوطة بحبل مع ذراعها الآخر وكأنها مصلوبة. وجهها مفتوح، وفمها يغطيه الذباب، وأصابعها العشر مقطوعة وكأنما قُطعت بمقص حاد، يُعلّق جينيه على هذا المشهد قائلًا: «لا شكّ أن جنودًا قد استمتعوا وهم يكتشفون هذا المقص ويستعملونه، ضاحكين مثل أولادٍ يغنون فَرِحين». باختصار؛ لم يكن العنف في مجزرة صبرا وشاتيلا مجرد قتل، بل كان تعذيبًا وحشيًا ممتزجًا بالسادية الوحشية واللامبالاة، وقد سجّل جينيه أيضًا كيف جُرّتْ الجثث وعُذِّبتْ بوحشية؛ بعضها مربوط بحبال، وسُحِب عبر الأزقة قبل أن يُتَخَلّص منها بطرق مهينة. كانت حفلة تعذيب وحشية نُفِّذتْ بدم بارد تحت سمع وبصر الجيش الإسرائيلي، وسوف يقول رئيس وزراء إسرائيل -حينئذ- مناحيم بيجن بعد ذلك العبارة المُستفِزّة، الملأى باللامبالاة وباسترخاص الروح البشرية، التي صدَّر بها جان جينيه نَصّه: «في شاتيلا وصبرا، أشخاص غير يهود ذبحوا أشخاصًا غير يهود، ففي أي شيء يعنينا ذلك؟».
أكثر ما شدني في نص جان جينيه هو رؤيته المختلفة للجَمال، وربطه لدى الفلسطينيين بالمقاومة والصمود والإصرار على الحياة رغم الدمار والخراب. يقول في أحد المقاطع: «إن الوضوح البديهي العجيب لما حدث، وقوة تلك السعادة المرافقة لوجودهم «أي الفدائيين الفلسطينيين»، يسميان أيضًا: الجَمال». يدرك جينيه أن الجمال الفلسطيني ينبع من المقاومة، ومن الحراك الثوري. يجد الشعب الفلسطيني الجمال في نضاله من أجل الحرية. وقد وصف جينيه في مشاهد من النص كيف كانت المقاومة لدى الفلسطينيين تعبيرًا عن الحياة رغم الموت المحيط بهم. يقول في مقطع آخر: «خلال ربيع عام 1971، عندما كنت أزور القواعد الفلسطينية، كان الجمال منتشرا بذكاء وسط غابة تنعشها حرية الفدائيين. وفي المخيم كان الجمال مختلفًا، مكتومًا بعض الشيء، ينشر ظلاله من خلال سيادة النساء والأطفال. كانت المخيمات تتلقى نوعا من الضوء الصادر عن قواعد القتال». بل إن الأديب الفرنسي يلتقط الأمل والإصرار في عيون الناجين من المجزرة، ليرى جمالًا في إنسانيتهم التي لم تُقهَر.
في «أربع ساعات في شاتيلا»، قدم جان جينيه شهادة فريدة على واحدة من أبشع المجازر في القرن العشرين. نصٌّ مليء بالغضب، لكنه أيضًا مفعمٌ بالتعاطف العميق والحب للشعب الفلسطيني، الذي عكس نضاله ضد المحتلّ -ولا يزال- أعمق المعاني للتضحية والصمود والكرامة الإنسانية.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
وزيرة البيئة: جوائز مبادرة معالجة تغير المناخ بالابتكار تغطي أربع فئات
شاركت الدكتورة ياسمين فؤاد، وزيرة البيئة، بإحتفالية توزيع جوائز مبادرة Africa Grows Green Awards لمعالجة تغير المناخ من خلال الابتكار وريادة الأعمال، والتى تنظمها مؤسسة استدامة جودة الحياه للتنمية و التطوير بحضور رومينا خورشيد علم ممثلة رئيس الوزراء الباكستانى لشؤون تغير المناخ والتنسيق البيئى ، الدكتورة ريم عبد المجيد رئيس مجلس إدارة المؤسسة، على هامش مشاركتها في الشق الوزاري بمؤتمر المناخ COP29 المنعقد في العاصمة الأذربيجانية باكو، وبحضور ممثلي الهيئات والمنظمات الدولية والقائمين على المبادرة.
وأكدت وزيرة البيئة أن المسابقة تعد فرصة حقيقية لرواد الأعمال البيئيين من الشباب، وخاصة المرأة، في شمال أفريقيا والشرق الأوسط لإظهار قدراتهم على ابتكار حلول ومشروعات لمواجهة التغيرات المناخية، مشيرة إلى أن العلم والابتكار يمثلان الأساس للتحول الأخضر والتصدي لآثار التغيرات.
وأضافت ياسمين فؤاد، أن مبادرة “أفريقيا تتحول للأخضر” تمثل إحدى هذه الطرق التي تقدم رسالة بأن رحلة الانتقال العادل للقارة ستتحقق بأيدي شبابها من رواد الأعمال، للوصول إلى أفريقيا خضراء، لافتة الى أن المبادرة خلقت منصة للتواصل بين رواد الأعمال في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لتسليط الضوء على الحلول المبتكرة التي يتم تنفيذها لتحريك القارة نحو مستقبل منخفض الكربون وأكثر مرونة، مع تنمية فرص الاستثمار داخل المنطقة لدعم حماية البيئة والتنمية.
وأوضحت وزيرة البيئة أن جوائز المبادرة غطت أربع فئات تعترف بجهود جميع أصحاب المصلحة في الحد من آثار التغيرات المناخية، بما في ذلك دمج منظور النوع الاجتماعي للوصول إلى مجتمعات أكثر استدامة ومرونة ومساواة ومن أهمها تكنولوجيا التخفيف والتكيف مع آثار تغير المناخ، وتشمل مجالات تكنولوجيا الأغذية الزراعية، وإدارة المياه، وتوزيع الطاقة وتخزينها، والتنقل الذكي والنقل.
وأوضحت وزيرة البيئة أن الفئات شملت جائزة التمويل الأخضر، التي تستهدف البنوك والمشروعات الاستثمارية والمستثمرين الذين يسعون لتحقيق بصمة كربونية صافية صفرية في مبانيهم ومحافظ استثماراتهم بالإضافة إلى جائزة البحث والتعليم والتدريب في مجال المناخ، التي تستهدف المؤسسات البحثية والأكاديمية لبناء قدرات أصحاب المصلحة في مجال الابتكار المناخي، كذلك جائزة She Goes Green، المخصصة للشركات الناشئة التي تقودها النساء، وتشمل مجالات الإنتاج الأخضر وعمليات التصنيع والاستهلاك الأخضر، بهدف خلق فرص عمل وأسواق جديدة.
وأشارت وزيرة البيئة إلى أن معايير تقييم الجوائز أستندت على قدرة الشركات الناشئة فى إظهار التأثير والابتكار وقابلية التوسع فيها ، حيث تم تقييم المشاركات وفق معايير محددة مسبقًا. وبعد ذلك، قدم المرشحون النهائيون مشاريعهم خلال عروض تقديمية عبر الإنترنت مدتها 15 دقيقة، وتم التحكيم من قبل لجنة مستقلة مكونة من 3-5 أعضاء خبراء في المجال، ويكون قرار اللجنة نهائيًا وغير قابل للتغيير، وقد تمت عملية تقديم المشاركات من خلال البوابة الإلكترونية لجمعية جودة الحياة.
وفي ختام كلمتها، ثمنت وزيرة البيئة جهود الفائزين، متمنية لهم المزيد من النجاح للوصول إلى إجراءات تنفيذية قائمة على العلم والابتكار لمواجهة آثار التغيرات المناخيةكما شكرت الداعمين للمبادرة، مؤكدة أن هناك حاجة مستمرة لأفكار وابتكارات جديدة تدعم البيئة وتحد من آثار تغير المناخ.
جدير بالذكر أن جائزة Africa Grows Green Awards تهدف إلى مواجهة تغير المناخ من خلال تشجيع القطاعات الصناعية، والكيانات الصغيرة والمتوسطة الناشئة التي تقودها النساء، وجهات التمويل الأخضر والجامعات والمراكز البحثية، على اتباع نهج صديق للبيئة. كما تعمل الجائزة على تخفيف وطأة التغير المناخي عبر تطبيق مبادرات مبتكرة في مجال العلوم والتكنولوجيا، لدعم إجراءات مواجهة تغير المناخ وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وقد تم تنفيذ المبادرة والاحتفال بالفائزين سابقًا في COP27 وCOP28.