أين يقود العلمُ البشريةَ؟
تاريخ النشر: 14th, September 2024 GMT
يرشدنا الواقعُ البَدَهِيّ إلى حالة منطقية تفيد أننا نحن من نقود العلم ونصنع مساره الذي يمكننا بواسطته أن نحدد مسارنا في الحياة وتطوراتها؛ ولا يمكن أن نجهل أن العلمَ منبثقٌ من منطقة الشك التي تتفرع منها أسئلة البحث الحائرة، ولكن لهذا المسار المنطقي منعطفات جديدة تأخذه إلى منطقة تتجاوز مظاهر الشك وفلسفته النسبية التي لم تعد أسيرة العقل البشري؛ إذ أوكلت المهامُ إلى دماغ رقمي غير بشري يفتقد منطق الشك، ويتبنّى منطق الاحتمالات المفتوحة التي تُنبىء بمستقبل جديد للعلم يكون فيها قائدا للبشرية ومستقبلها ، وفي مقال سابق تحدثت فيها عن تقلّص دهشة العالَم بالذكاء الاصطناعي الذي انتقلت دهشته إلى مرحلة جديدة لا نراها في ماهية الذكاء الاصطناعي وكونه الخاص، ولكن في إسهاماته العلمية وكونه العام والموضوعي التي ستحدث نقلة نوعية في النظام الإنساني وحضارته، وأوجزنا أن إحدى هذه الإسهامات ستكون معنية بالتطوّر البيولوجي الرقمي التي ستسجّل للذكاء الاصطناعي، والتي ستحدث دهشةً تُذهب دهشتنا بالذكاء الاصطناعي نفسه.
علم الجينوم وهندسته من العلوم المعقّدة التي أبدع العقل البشري في تأسيسها ومحاولة فك أسرارها، ويمكن أن نقول إن هذا العلم هو حجر الفلاسفة المفقود الذي ارتبطت به الأساطير؛ فجاء بمنزلة «أكسير الحياة» الذي وصفته الأساطير بأنه يمنح الإنسان الخلود، ومن هنا نرى أن علم الجينوم وسيلة يسعى الإنسان بواسطتها إلى تحقيق شيء من هذا الحلم عبر فك أسرار حياته وإصلاح ما يفسدها. يكمن التعقيد الذي صاحب هذا العلم بارتباطه ببيانات بيولوجية كبيرة يشوبها تشابك جيني غير مفهوم يتفاعل مع قواعده النيتروجينية التي تشكّل الحمض النووي «DNA» وفقَ منهج يتمظهر بالعشوائية التي نعرّفها بالطفرة الجينية، ولكن لهذه العشوائية الظاهرة باطن خفي يحكمه الانتظام غير المفهوم الذي يمكن وصفه بالعقل الكوني الخفي نظرا إلى ماهيته المفعمة بالارتباط بما وراء الحس الذي يعرّفه «دين هامر» «Dean Hamer» بـ «جين الإله».
بجانب الطفرة الجينية وتفاعلها مع مسار حياتنا الذي بات من الممكن تتبع مساره الماضي والحاضر والمستقبل عبر آلية التحليل الجيني، نجد أن الذكاء الاصطناعي بتفوقه المدهش حاضر في مواجهة التحديات المصاحبة للتعقيد الجيني، وبسؤالنا: أين يقودنا العلم؟ لا نتردد أن نجيب أن العلم ذاته صار بيد الذكاء الاصطناعي الذي امتلك ناصية اللغة الكونية «الرياضيات» واستطاع أن يسخّر بيانات الوجود بما فيها بياناتنا البيولوجية ليجعل من هذه الوسائل منطلقات للولوج إلى عالَمنا البيولوجي العميق، وحينها فيقودنا العلمُ -بوجود الذكاء الاصطناعي إلى دهشة جديدة تهدي الإنسان «حجر الفلاسفة» الذي سيحقق بدوره رغبات دفينة تتلخص في كشف دقيق لمستقبل الإنسان الصحي وتحديد آفاته القادمة وسبل تجنّب حدوثها، وكذلك تمنح الأجيال القادمة فرصةً للتعديل الجيني المسبّق؛ فيمنحه جسدا معافًى من الأمراض والعاهات، وفي كل الأحوال تظل هذه الدهشة ظرفية بنسبية نتائجها التي ستصطدم بقانون الفناء.
يحاول العلم بمساعدة الذكاء الاصطناعي أن يجد حلولا أكثر دقة وسرعة للمشكلات المصاحبة لهندسة الجينات والجينوم وعلومها العميقة، وتكمن القدرة في آلية تعامل خوارزميات الذكاء الاصطناعي مع البيانات البيولوجية التي تخص معلوماتنا الجينية الضخمة، من هذه الإسهامات التعديل الجيني الذي بدأ الذكاء الاصطناعي في تحقيقه والسعي إلى تجاوز كل تحدياته السابقة؛ فتكمن وظيفة التعديل الجيني المقترح عبر طريقة تسمى بـ «CRISPR-Cas9» في إحداث تصحيح للنظام الجيني المسؤول عن النظام الصحي للإنسان الذي يكون في كثير من حالاته مرتبطا بالنظام الجيني الوراثي والطفرات الجينية التي لا نملك أيَّ شأنٍ في قبول وجودها أو رفضها، ولكن يقترح العلم تصحيحًا لهذا النظام عبر آلية التعديل الجيني، و أمكن للعلم -بوجود الذكاء الاصطناعي- أن يسرّع من وتيرة هذه النقلة العلمية التي ستقود البشرية إلى محطات جديدة تتجاوز حدود الدهشة الرقمية والتقنية الخارجية؛ فيصنع العلم دهشته في داخلنا المعقّد عبر فك أسراره البيولوجية؛ فمن بين الأدوات التي مهّدت الخوارزميات الذكية الولوج إلى هذا النظام المعقّد أداة تُعرف بـ «DeepCRISPR»، وتستعمل هذه الأداة خوارزمية التعلّم العميق للتنبؤ بالمواقع المحتملة غير المستهدفة بناءً على تسلسل الحمض النووي المستهدف، ورُصدَ للذكاء الاصطناعي قدرةٌ على تصميم الحمض النووي الريبي الموجِّه الذي يُستعمل في توجيه أنزيم «Cas9» إلى الجزء الصحيح من الجينوم، وكذلك عبر أداة مثل «CRISPR-Net»؛ فيمكن للذكاء الاصطناعي بناء آلية اختيار دقيقة للجزيئات المناسبة في عملية التعديل الجيني.
ساهمت هذه التطويرات العلمية المتسارعة في الحقل البيولوجي بفهم أسرار الإنسان الدفينة عبر آلية الاقتران بين النظام الرقمي المتمثّل في الذكاء الاصطناعي والنظام البيولوجي المتمثّل في الحقل الجيني؛ فيمكن عبر هذه القدرات الرقمية قراءة المكتبة البيولوجية في الداخل البشري وترجمة لغتها الصعبة، واكتشاف ما تحويه من أسرار لا يظهر كثير منها إلا في مستقبلٍ قادمٍ منها أمراض يصعب حلها حال حدوثها، وهذا ما ساعد العلم أيضا مستعينا بهذه الخوارزميات الذكية في تطوير أدوية وعلاجات فعّالة، ولكن تطلُ علينا مع هذه التوقعات المشرقة بعضُ الثغراتِ المقلقة التي تخص بياناتنا البيولوجية المعرّضة بوجود الطفرة الرقمية -حال تعذّر إحكامها بالأطر القانونية والأخلاقية- إلى مخاطر تتعلق بالخصوصية البشرية التي يمكن أن يكشفَ عنها عبر الفحص الجيني وتحليله -كما يُعرف أيضا بالبصمة الوراثية-؛ فتكون أداة ضارة بيد من يملك هذه البيانات ويملك قدرة اكتشاف أسرارها البيولوجية التي يسهل بواسطتها تطوير أسلحة بيولوجية مهددة للبشرية، ويمكن بواسطتها الولوج إلى المكتبة البيولوجية للإنسان وإدراك ما يحويه من أسرار تتحول إلى بيانات أمنية بيد مجموعات أخرى، ولهذا من الضروري أن تُحكمَ منظومة التحليل الجيني بأطر قانونية تحد من السرقات الجينية التي نعني بها الاستحواذ الممنهج للبيانات البيولوجية، وللحديث في هذا الشأن سرديته المستقلة التي تتطلب قراءة عميقة يتخللها الفهم العلمي للمنظومة البيولوجية وتفرعاتها المنوطة بالوعي المجتمعي والأمني.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی التی ت
إقرأ أيضاً:
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
مع تزايد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات الرقمية التي توفر هذه التقنية سعيا إلى حماية حقوق المؤلفين، وإبرام عقود مع الجهات المعنية بتوفير هذه الخدمات لتحقيق المداخيل من محتواها.
واقترحت دار نشر "هاربر كولينز" الأميركية الكبرى أخيرا على بعض مؤلفيها عقدا مع إحدى شركات الذكاء الاصطناعي تبقى هويتها طي الكتمان، يتيح لهذه الشركة استخدام أعمالهم المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وفي رسالة اطلعت عليها وكالة الصحافة الفرنسية، عرضت شركة الذكاء الاصطناعي 2500 دولار لكل كتاب تختاره لتدريب نموذجها اللغوي "إل إل إم" لمدة ثلاث سنوات.
ولكي تكون برامج الذكاء الاصطناعي قادرة على إنتاج مختلف أنواع المحتوى بناء على طلب بسيط بلغة يومية، ينبغي تغذيتها بكمية متزايدة من البيانات.
وبعد التواصل مع دار النشر، أكدت الأخيرة الموافقة على العملية. وتشير إلى أن "هاربر كولينز أبرمت عقدا مع إحدى شركات التكنولوجيا المتخصصة بالذكاء الاصطناعي للسماح بالاستخدام المحدود لكتب معينة بهدف تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتحسين أدائها".
وتوضح دار النشر أيضا أن العقد "ينظّم بشكل واضح ما تنتجه النماذج مع احترامها حقوق النشر".
"هاربر كولينز" هي إحدى كبرى دور النشر التي أبرمت عقودا من هذا النوع لكنّها ليست الأولى (شترستوك) آراء متباينةولاقى هذا العرض آراء متفاوتة في قطاع النشر، إذ رفضه كتّاب مثل الأميركي دانييل كيبلسميث الذي قال في منشور عبر منصة "بلوسكاي" للتواصل الاجتماعي "من المحتمل أن أقبل بذلك مقابل مليار دولار، مبلغ يتيح لي التوقف عن العمل لأن هذا هو الهدف النهائي من هذه التكنولوجيا".
ومع أنّ هاربر كولينز هي إحدى كبرى دور النشر التي أبرمت عقودا من هذا النوع، فإنّها ليست الأولى. فدار "ويلي" الأميركية الناشرة للكتب العلمية أتاحت لشركة تكنولوجية كبيرة "محتوى كتب أكاديمية ومهنية منشورة لاستخدام محدد في نماذج التدريب مقابل 23 مليون دولار"، وفقما قالت في مارس/آذار الماضي عند عرض نتائجها المالية.
ويسلط هذا النوع من الاتفاقيات الضوء على المشاكل المرتبطة بتطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي يتم تدريبه على كميات هائلة من البيانات تُجمع من الإنترنت، مما قد يؤدي إلى انتهاكات لحقوق الطبع والنشر.
ترى جادا بيستيلي رئيسة قسم الأخلاقيات لدى "هاغينغ فايس"، وهي منصة فرنسية أميركية متخصصة بالذكاء الاصطناعي، أنّ هذا الإعلان يشكل خطوة إلى الأمام لأن محتوى الكتب يدرّ أموالا. لكنها تأسف لأن هامش التفاوض محدود للمؤلفين.
وتقول "ما سنراه هو آلية لاتفاقيات ثنائية بين شركات التكنولوجيا ودور النشر أو أصحاب حقوق الطبع والنشر، في حين ينبغي أن تكون المفاوضات أوسع لتشمل أصحاب العلاقة".
يقول المدير القانوني لاتحاد النشر الفرنسي "إس إن إي" (SNE) جوليان شوراكي "نبدأ من مكان بعيد جدا"، مضيفا "إنّه تقدم، فبمجرّد وجود اتفاق يعني أن حوارا ما انعقد وثمة رغبة في تحقيق توازن في ما يخص استخدام البيانات كمصدر، والتي تخضع للحقوق والتي ستولد مبالغ".
المدعون يعترضون على استخدام الذكاء الاصطناعي للنصوص والصور لتطوير قدراته (شترستوك)وفي ظل هذه المسائل، بدأ الناشرون الصحافيون أيضا في تنظيم هذا الموضوع. ففي نهاية 2023، أطلقت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية اليومية ملاحقات ضد شركة "أوبن إيه آي" مبتكرة برنامج "شات جي بي تي"، وضد "مايكروسوفت" المستثمر الرئيسي فيها، بتهمة انتهاك حقوق النشر. وقد أبرمت وسائل إعلام أخرى اتفاقيات مع "أوبن إيه آي".
وربما لم يعد أمام شركات التكنولوجيا أي خيار لتحسين منتجاتها إلا باعتماد خيارات تُلزمها دفع أموال، خصوصا مع بدء نفاد المواد الجديدة لتشغيل النماذج.
وأشارت الصحافة الأميركية أخيرا إلى أن النماذج الجديدة قيد التطوير تبدو وكأنها وصلت إلى حدودها القصوى، لا سيما برامج "غوغل" و"أنثروبيك" و"أوبن إيه آي".
يقول جوليان شوراكي "على شبكة الإنترنت، يمكن جمع المحتوى القانوني وغير القانوني، وكميات كبيرة من المحتوى المقرصن، مما يشكل مشكلة قانونية. هذا من دون أن ننسى مسألة نوعية البيانات".
تلقين التكنولوجياويحتج المدعون على حق الذكاء الاصطناعي في معالجة مليارات النصوص أو الصور، مما سمح بـ"تلقين" هذه التكنولوجيا لبناء قدراتها وساعدها على تطوير إمكانياتها بالاستعانة بالنصوص والصور التي تمت معالجتها.
وتتيح مذكرة أوروبية صادرة عام 2019، اعتُمدت في 22 دولة من الاتحاد الأوروبي بينها فرنسا، هذا "الحق في التنقيب عن البيانات"، بما في ذلك المحتوى المحمي بحقوق الطبع والنشر، إذا كانت هذه البيانات متاحة للجمهور، إلا إذا اعترض صاحب الحقوق صراحة.
وبدأ مؤلفون رفع دعاوى لحماية حقوقهم لمواجهة الذكاء الاصطناعي الذي يستخدم أعمالهم لتوليد محتوى، إلا أن معاركهم القضائية لن تكون سهلة، ففي أوروبا وأميركا الشمالية يميل القانون إلى تأييد الذكاء الاصطناعي مع أنّ الوضع قد يتغيّر، وفق قانونيين.