لجريدة عمان:
2025-03-12@10:58:19 GMT

أين يقود العلمُ البشريةَ؟

تاريخ النشر: 14th, September 2024 GMT

يرشدنا الواقعُ البَدَهِيّ إلى حالة منطقية تفيد أننا نحن من نقود العلم ونصنع مساره الذي يمكننا بواسطته أن نحدد مسارنا في الحياة وتطوراتها؛ ولا يمكن أن نجهل أن العلمَ منبثقٌ من منطقة الشك التي تتفرع منها أسئلة البحث الحائرة، ولكن لهذا المسار المنطقي منعطفات جديدة تأخذه إلى منطقة تتجاوز مظاهر الشك وفلسفته النسبية التي لم تعد أسيرة العقل البشري؛ إذ أوكلت المهامُ إلى دماغ رقمي غير بشري يفتقد منطق الشك، ويتبنّى منطق الاحتمالات المفتوحة التي تُنبىء بمستقبل جديد للعلم يكون فيها قائدا للبشرية ومستقبلها ، وفي مقال سابق تحدثت فيها عن تقلّص دهشة العالَم بالذكاء الاصطناعي الذي انتقلت دهشته إلى مرحلة جديدة لا نراها في ماهية الذكاء الاصطناعي وكونه الخاص، ولكن في إسهاماته العلمية وكونه العام والموضوعي التي ستحدث نقلة نوعية في النظام الإنساني وحضارته، وأوجزنا أن إحدى هذه الإسهامات ستكون معنية بالتطوّر البيولوجي الرقمي التي ستسجّل للذكاء الاصطناعي، والتي ستحدث دهشةً تُذهب دهشتنا بالذكاء الاصطناعي نفسه.

علم الجينوم وهندسته من العلوم المعقّدة التي أبدع العقل البشري في تأسيسها ومحاولة فك أسرارها، ويمكن أن نقول إن هذا العلم هو حجر الفلاسفة المفقود الذي ارتبطت به الأساطير؛ فجاء بمنزلة «أكسير الحياة» الذي وصفته الأساطير بأنه يمنح الإنسان الخلود، ومن هنا نرى أن علم الجينوم وسيلة يسعى الإنسان بواسطتها إلى تحقيق شيء من هذا الحلم عبر فك أسرار حياته وإصلاح ما يفسدها. يكمن التعقيد الذي صاحب هذا العلم بارتباطه ببيانات بيولوجية كبيرة يشوبها تشابك جيني غير مفهوم يتفاعل مع قواعده النيتروجينية التي تشكّل الحمض النووي «DNA» وفقَ منهج يتمظهر بالعشوائية التي نعرّفها بالطفرة الجينية، ولكن لهذه العشوائية الظاهرة باطن خفي يحكمه الانتظام غير المفهوم الذي يمكن وصفه بالعقل الكوني الخفي نظرا إلى ماهيته المفعمة بالارتباط بما وراء الحس الذي يعرّفه «دين هامر» «Dean Hamer» بـ «جين الإله».

بجانب الطفرة الجينية وتفاعلها مع مسار حياتنا الذي بات من الممكن تتبع مساره الماضي والحاضر والمستقبل عبر آلية التحليل الجيني، نجد أن الذكاء الاصطناعي بتفوقه المدهش حاضر في مواجهة التحديات المصاحبة للتعقيد الجيني، وبسؤالنا: أين يقودنا العلم؟ لا نتردد أن نجيب أن العلم ذاته صار بيد الذكاء الاصطناعي الذي امتلك ناصية اللغة الكونية «الرياضيات» واستطاع أن يسخّر بيانات الوجود بما فيها بياناتنا البيولوجية ليجعل من هذه الوسائل منطلقات للولوج إلى عالَمنا البيولوجي العميق، وحينها فيقودنا العلمُ -بوجود الذكاء الاصطناعي إلى دهشة جديدة تهدي الإنسان «حجر الفلاسفة» الذي سيحقق بدوره رغبات دفينة تتلخص في كشف دقيق لمستقبل الإنسان الصحي وتحديد آفاته القادمة وسبل تجنّب حدوثها، وكذلك تمنح الأجيال القادمة فرصةً للتعديل الجيني المسبّق؛ فيمنحه جسدا معافًى من الأمراض والعاهات، وفي كل الأحوال تظل هذه الدهشة ظرفية بنسبية نتائجها التي ستصطدم بقانون الفناء.

يحاول العلم بمساعدة الذكاء الاصطناعي أن يجد حلولا أكثر دقة وسرعة للمشكلات المصاحبة لهندسة الجينات والجينوم وعلومها العميقة، وتكمن القدرة في آلية تعامل خوارزميات الذكاء الاصطناعي مع البيانات البيولوجية التي تخص معلوماتنا الجينية الضخمة، من هذه الإسهامات التعديل الجيني الذي بدأ الذكاء الاصطناعي في تحقيقه والسعي إلى تجاوز كل تحدياته السابقة؛ فتكمن وظيفة التعديل الجيني المقترح عبر طريقة تسمى بـ «CRISPR-Cas9» في إحداث تصحيح للنظام الجيني المسؤول عن النظام الصحي للإنسان الذي يكون في كثير من حالاته مرتبطا بالنظام الجيني الوراثي والطفرات الجينية التي لا نملك أيَّ شأنٍ في قبول وجودها أو رفضها، ولكن يقترح العلم تصحيحًا لهذا النظام عبر آلية التعديل الجيني، و أمكن للعلم -بوجود الذكاء الاصطناعي- أن يسرّع من وتيرة هذه النقلة العلمية التي ستقود البشرية إلى محطات جديدة تتجاوز حدود الدهشة الرقمية والتقنية الخارجية؛ فيصنع العلم دهشته في داخلنا المعقّد عبر فك أسراره البيولوجية؛ فمن بين الأدوات التي مهّدت الخوارزميات الذكية الولوج إلى هذا النظام المعقّد أداة تُعرف بـ «DeepCRISPR»، وتستعمل هذه الأداة خوارزمية التعلّم العميق للتنبؤ بالمواقع المحتملة غير المستهدفة بناءً على تسلسل الحمض النووي المستهدف، ورُصدَ للذكاء الاصطناعي قدرةٌ على تصميم الحمض النووي الريبي الموجِّه الذي يُستعمل في توجيه أنزيم «Cas9» إلى الجزء الصحيح من الجينوم، وكذلك عبر أداة مثل «CRISPR-Net»؛ فيمكن للذكاء الاصطناعي بناء آلية اختيار دقيقة للجزيئات المناسبة في عملية التعديل الجيني.

ساهمت هذه التطويرات العلمية المتسارعة في الحقل البيولوجي بفهم أسرار الإنسان الدفينة عبر آلية الاقتران بين النظام الرقمي المتمثّل في الذكاء الاصطناعي والنظام البيولوجي المتمثّل في الحقل الجيني؛ فيمكن عبر هذه القدرات الرقمية قراءة المكتبة البيولوجية في الداخل البشري وترجمة لغتها الصعبة، واكتشاف ما تحويه من أسرار لا يظهر كثير منها إلا في مستقبلٍ قادمٍ منها أمراض يصعب حلها حال حدوثها، وهذا ما ساعد العلم أيضا مستعينا بهذه الخوارزميات الذكية في تطوير أدوية وعلاجات فعّالة، ولكن تطلُ علينا مع هذه التوقعات المشرقة بعضُ الثغراتِ المقلقة التي تخص بياناتنا البيولوجية المعرّضة بوجود الطفرة الرقمية -حال تعذّر إحكامها بالأطر القانونية والأخلاقية- إلى مخاطر تتعلق بالخصوصية البشرية التي يمكن أن يكشفَ عنها عبر الفحص الجيني وتحليله -كما يُعرف أيضا بالبصمة الوراثية-؛ فتكون أداة ضارة بيد من يملك هذه البيانات ويملك قدرة اكتشاف أسرارها البيولوجية التي يسهل بواسطتها تطوير أسلحة بيولوجية مهددة للبشرية، ويمكن بواسطتها الولوج إلى المكتبة البيولوجية للإنسان وإدراك ما يحويه من أسرار تتحول إلى بيانات أمنية بيد مجموعات أخرى، ولهذا من الضروري أن تُحكمَ منظومة التحليل الجيني بأطر قانونية تحد من السرقات الجينية التي نعني بها الاستحواذ الممنهج للبيانات البيولوجية، وللحديث في هذا الشأن سرديته المستقلة التي تتطلب قراءة عميقة يتخللها الفهم العلمي للمنظومة البيولوجية وتفرعاتها المنوطة بالوعي المجتمعي والأمني.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی التی ت

إقرأ أيضاً:

مصطفى عيسى: الذكاء الاصطناعي غير مفيد على المستويين الفني والنقدي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قال الفنان والناقد الدكتور مصطفى عيسى، التشكيلي والباحث في جماليات الفن المعاصر، إن الذكاء الاصطناعي لا يزال مجالا مفتوحا على مستقبل غامض، موضحًا انه لم يصلنا منه سوى ما قد نقرنه بـ "الاسكتش" الذي يستحضر الفكرة فقط. 

وأضاف عيسى، فى تصريحات خاصة لـ "البوابة نيوز"، ان الذكاء الاصطناعي حاليًا غير مفيد على كلا المستويين الفني والنقدي، ما يعني أننا سوف ننتظر لبعض الوقت حتى نتفهم الكيفية التي تصلح لتعامل الفنان والناقد مع هذا الفتح الجديد، بكلام يتصل بنفس الفهم فإن كل جديد قابل للتطور من داخله، مؤكدا انه سوف يأتي الوقت الذي نتعامل فيه مع الذكاء الاصطناعي باعتباره ركنا مهما ومادة جيدة تضيف للفنان ولا تخذله.

 

بسؤاله عن اذا كان النقد التشكيلى يقرب المسافة بين المبدع والمتلقى، أكد : "كل الطرفين المبدع والناقد يمثلان وجهين لعملة واحدة نظرا لهذا المعنى من خلال تفهمنا بأن النقد في حقيقته ممارسة إبداعية غير منغلقة على ذاتها، كونها موجهة بالأساس للمبدع."

وتابع عيسى : " لهذا فإننا نؤكد على ضرورة أن ينظر كل طرف للآخر باهتمام وأن يتبادلا الحوار الجاد وليس النظرة العابرة الانطباعية والتي تمتلئ أحيانا باستخفاف غير مقبول".

مقالات مشابهة

  • «الذكاء الاصطناعي» في خدمة المسنين
  • مصطفى عيسى: الذكاء الاصطناعي غير مفيد على المستويين الفني والنقدي
  • الجابر: التفوق في الذكاء الاصطناعي يعتمد على إمدادات الطاقة
  • هل حقق الذكاء الاصطناعي قفزة في الروبوتات البشرية؟ بعضها قام بمهام حقيقية
  • كيف يعزز الذكاء الاصطناعي من تحسين تجربة المستخدم ؟
  • أول رد من سيلين ديون بعد وقوعها ضحية الذكاء الاصطناعي
  • المعركة القادمة من أجل الذكاء الاصطناعي
  • ذكاء Apple المتعثر.. هل فقدت الشركة سباق الذكاء الاصطناعي؟
  • موقف الشريعة من التطورات الحديثة في الذكاء الاصطناعي
  • «الذكاء الاصطناعي» يرسم تصوراً لـ«شكل العالم» بعد 30عاماً