لجريدة عمان:
2025-03-31@07:17:06 GMT

مهانة المهنة ... الشاعر في سوق العمل

تاريخ النشر: 14th, September 2024 GMT

قيل لي إن الشعر لا يُطعم خبزا. نعم إن موهبتكَ جيدة؛ وفي وسعكَ أن تصبح شاعرا أسوأ بقليل من كبار الشعراء، ولكن لا تنسَ أن «أذكى» التلاميذ الذين سيتخرجون من هذه المدرسة عليهم أن يكونوا إما أطباء أو مهندسين.

كنتُ عائدا للتو من قراءة أولى قصائدي على منصة الإذاعة المدرسية في طابور الصباح، ولم يتسنَّ لي بعد أن أتنفس كامل نشوتي بذلك الانتصار الصغير حين داهمتني «النصيحة» من معلم الرياضيات على باب الحصة الأولى.

وحتى وأنا أقف الآن على بعد سنوات ومسافات من البيت والمدرسة، لا أكاد أنسى المواقف الكثيرة التي سمعت فيها المقولة المشهورة عن الشعر والخبز، تلك التي يعاد تدويرها على مسمعي بأشكالٍ مختلفة على سبيل النصيحة، سواء من المعلمين أو من قِبل الأوصياء في العائلة. وللسخرية أنها لاحقتني إلى قاعة المحاضرات بالجامعة من بعض الأساتذة.

بطبيعة الحال لم يكن مساري الجامعي أو احتمالات الوظيفة المستقبلية أكبر همومي حينها. من نظرة إلى نهاية الشارع المرصوف، في انتظار حافلة الصباح، بدا المستقبل مسألة مؤجلة تتسع لأعظم الأحلام. مع ذلك لم أكن لأفكر سوى بكتابة قصيدة أفضل حتى أصبح بالفعل «أسوأ بقليل من كبار الشعراء». ولم يكن أمامي خيار آخر سوى المكابرة بزعم أن الشعراء لا يحتاجون لأكل الخبز أصلا. كان ذلك قبل سنوات قليلة من اكتشافي التاريخي المهول لحقيقة أن الشعراء كائنات حية، لنقل إنهم مبدئيا لا يختلفون كثيرا عن أسماك البحر، حتى وإن كانت أسماكُ حوض الزينة أليقَ تشبيها لبعضهم.

على أية حال فإن هواجسي عن الوظيفة والمكسب ومناخ سوق العمل المأزوم لم تستفق إلا متأخرة نسبيا، ربما بعد سنة أو سنتين من التحاقي بكلية الهندسة في جامعة السلطان قابوس. كنت أعي بأن دراستي للهندسة كانت نوعا من التفاوض مع واقعية المقولة المقيتة التي لا يتورَّع الكثير من المثقفين للأسف عن تكريسها أكثر فأكثر كحقيقة لا مفر منها، بل وتعميمها على مجمل العمل الثقافي، مجددا لأن الثقافة لا تطعم خبزا كما يقولون.

ما كان يشعرني حقا بالتهديد هو رؤيتي للمصائرِ المحزنة التي آلت إليها مواهب عدد من الأصدقاء الأكبر مني؛ فكتاباتُهم التي وعدت بالكثير خلال سنوات الجامعة سرعان ما تلاشت بعد صورة «السلفي» الجميلة بلباس حفل التخرج؛ إذ لم يكد أحدهم يخلع تلك التمصيرة المرتبة بعد الحفل حتى وجد نفسه صباح اليوم التالي واحدا من بين آلاف الخريجين، السابقين واللاحقين، المنتظرين لأدوارهم في الطابور الطويل للباحثين عن العمل.

كنت في مطعم عادة ما يقصده موظفو القطاع الخاص للغداء المتأخر قبل المغرب. صادفت على المدخل أحد أولئك الذين عرفتهم أيام الجامعة. كان موهبة ولادة للاستعارات ومخيلة منفتحة على الصور الشعرية الغريبة، وتذكرت هوسه برائحة الكتب الجديدة التي يهرع بها فورا من معرض الكتاب إلى غرفته الصغيرة بالخوض ليتفحَّص فيها رائحة الورق. سألته إن كان قد استقال من الكتابة للأبد؟ بل تقاعدتُ، هكذا رد على السؤال المباغت بسرعةِ بديهةٍ لم تفارق منطقَه يوما. أصبح موظفا في إحدى الشركات الثقيلة بالسوق، تقاعد من الكتابة - على حد تعبيره - ليمتهِن المهنة البعيدة عن تخصصه الدراسي، أي نعم، لكنها الآن محور حياته ومصدر عيشه، وأن يكون مديرا للمشاريع فيها فتلك أمنية تستحق التضحية برائحة الكتب والركض خلف سراب الاستعارات.

لست هنا لأحكي حكاية شخصية، فمن المؤكد أن النصيحة التي سمعتها، على واقعيتها البغيضة، قد صادفت آذان غيري في بواكير تفتُّح الموهبة وسنوات التجريب والتخريب الأولى من مغامرة الكتابة، منذ هولدرين إلى رامبو الشقي الذي توسَّل أمه من أجل بعض الفرنكات ليذهب بديوانه الأول للناشر: «سيُباع عدد جيد من كتابي، وسيعود علي بخمسمائة فرنك. لو أعطيتني المصاريف الأولية فسأكون في وضع أستطيع فيه أن أدفع أجور الطباعة بنفسي». لم تكن الأم تدرك جدوى ما يفعل الصبي من كتابته «قصصا ليس لها معنى أو داعٍ» بدلا من استثمار الفرنكات في قطعة أرض. في كتابه «رامبو الشاعر والإنسان» يخبرنا بيير بتفيز بالحكاية نقلا عن إيزابيل، شقيقة رامبو: «طلب رامبو من أمه أن تلقي نظرة على مخطوطة الكتاب، لكنها لم تفلح في العثور على رأس أو ذنب منها».

الأم: «ماذا تريد أن تقول»؟

رامبو: «أردت أن أقول ما تقوله المخطوطة، حرفيا ومن جميع النواحي».

ما الذي يمكن قوله إذن عن علاقة الشاعر العربي، أو المثقف عموما، بقلق المهنة وهاجس المال؟ عن دوامة الإهانات والتنازلات، من المهد إلى اللحد، سعيا للعيش الكريم ووفاء للكتابة في حياة واحدة؟ من المرعب والمحزن أن أتذكر كيف شرَّدت مهانة المهنة حياة واحد من أهم تجارب الشعر العربي في العصر الحديث، بدر شاكر السيَّاب. ففوق هشاشة الجسد المريض والحرمان من الحب ونكال الحياة الحزبية ومؤامراتها ذاق السيَّاب مرارات تأمين القوت وقسوة أرباب العمل. استحضرتُ مأساة السيَّاب مجتمعة حين صادفت على الإنترنت وثيقة مصورة تعود لتاريخ 12 أغسطس 1964، إخطار من المدير العام لمصلحة الموانئ العراقية يقول: «إلى السيد بدر شاكر السيَّاب: بناء على انتهاء إجازتك المَرضية وتغيبك عن العمل منذ يوم 1964/7/9 فإننا نخطرك بوجوب التحاقك بالوظيفة خلال مدة ثلاثين يوما من تاريخ نشر هذا الإخطار وبعكسه فسوف تُعتبر مستقيلا من الخدمة استنادا إلى أحكام الفقرة (2) من المادة 37 من قانون الخدمة المدنية». في ذلك التاريخ المذيَّل بالإخطار كان مُجدد القصيدة العربية يحتضر منفيا ووحيدا ومطرودا من الوظيفة في المستشفى الأميري بالكويت حتى وفاته في 24 من ديسمبر 1994 عن 37 عاما فقط.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ليلة القدر التي ضاعت مني

كلير دالي، البرلمانية الأوروبية المناصرة للقضية الفلسطينية بشجاعة وصدق وإخلاص لا نظير له في القارة الأوروبية. القارة التي تدعم حكوماتها كيان إسرائيل بسخاء، ويتماهى قياداتها في كثير من مواقفهم مع أكثر الصهاينة تطرفا وعنفا .

كلير دالي، أكثر الأصوات نقدا لسياسات ومواقف الاتحاد والبرلمان الأوروبي، حتى انها وصفت رئيسة المفوضية الأوربية، ارسولا فان دير، بأنها ” سيدة الإبادة الجماعية ” لمواقفها الداعمة لإسرائيل خلال الحرب على غزة .

خطاباتها من منبر البرلمان الأوروبي في ستراسبورج، وتصريحاتها في الكثير من الوسائل الإعلامية الداعمة لفلسطين واليمن ولبنان، تبعث الأمل في قلوب المستضعفين والمضطهدين، في عالم يعيش “حالة مرعبة ” كما تصفها دالي التي تحذر من مساع أمريكية أوروبية لإلغاء القانون الدولي .

مواقفها الشجاعة والجريئة تخفف عنا الوجع الذي نعانيه من مشاهد القتل والدمار والإبادة التي تتعرض لها غزة، رغم انها تشاطرنا نفس الحزن وبعض اليأس، ولا تستطيع كبح دموع عينيها في بعض الحالات .

كلير دالي غير راضية عن السياسات الأوربية والأمريكية .. غير راضية عن سياسة حكومة بلادها رغم مواقفها الداعمة للفلسطينيين ومنها اعتراف ايرلندا بالدولة الفلسطينية مؤخرا، وتلوم بلدها لأن الاعتراف جاء متأخرا، بعد اعتراف 141 دولة، وتقول، ان بأمكان بلادها فعل الكثير .

رغم كل ما تظهره دالي من مواقف داعمة لفلسطين، ومناهضة للحلف الصهيوني، وما يكلفها ذلك على المستوى الشخصي، إلا أنها ترى ان فعلها متواضعاُ مقارنة بما قدمته ” اختها ” وهي ناشطة داعمة لغزة .

دالي غير راضية من أداء الأحزاب اليسارية، وتقول اليسار لم يفعل ما ينبغي لمواجهة الإمبريالية في العالم .

وأنت تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، لا بد لك أن تتوقف لمتابعة مشهد أو موقف لكلير دالي، مرات ومرات، وتشعر أنك أدمنت متابعة صوتها وكلماتها التي لا تمل لما فيها من صدق مشاعر، وشجاعة نادرة، ووعي ومعرفة .

تبدو دالي وكأنها الضمير الحي لأوروبا، وفي مواقفها تجسيد صادق لمعنى الأخوة الإنسانية، أخوة الخلق التي وصفها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ويتجسد في مواقفها الإيمان بالمبادئ السماوية السمحة في مختلف الأديان .

لم اكن أتوقع أن يأتي اليوم التي تزور فيها دالي بلادنا اليمن، وخصوصا في ظل الحصار والعدوان والحملة التحريضية المعادية التي تعمل لتشويه صورة اليمن واليمنيين والمتعاطفين معهم في العالم .

ومع ذلك زارتنا دالي، وهو دعم يؤكد شجاعتها وعدم اكتراثها بأي تداعيات سلبية عليها بسبب الزيارة .

هاهي تقضي العشر الأواخر من رمضان بيننا ..اقتربت منا مسافة لم نكن نتوقعها، صارت بيننا تسمع دوي انفجارات الصواريخ بالقرب من مقر إقامتها .

قبل يومين ألتقيت بمواطنها وزميلها في البرلمان الأوروبي مايك والاس عضو البرلمان الأوروبي، توأمها في الثورية والشجاعة ونصرة المستضعفين. أجريت معه حواراً مطولا، وكذلك مع حفيد مانديلا . واتفقت معها. عبر والاس، أن ألتقي بها الليلة التالية، ليلة 29 رمضان .

وكان الموعد بالنسبة لي وكأنه “ليلة القدر ” .

حضرت قبل الموعد بنصف ساعة، وكنت على بعد أمتار من مكانها . لكن، لأسباب لا داعي لذكرها، تعذر اللقاء، وضاعت ليلة القدر .

aassayed@gmail.com

مقالات مشابهة

  • فاي هال.. ما قصة الأميركية التي أطلقت طالبان سراحها؟
  • تعرف على الدول التي تضم أكبر عدد من الأغنياء (إنفوغراف)
  • بعض الأسئلة التي تخص قادة الجيش
  • الدول العربية التي أعلنت غدًا الأحد أول أيام عيد الفطر 2025
  • الدول التي اعلنت غدا رمضان
  • تعرف على القنابل الخمسة التي تستخدمها إسرائيل في إبادة غزة
  • ليلة القدر التي ضاعت مني
  • ماذا قال ترامب عن المسيرات الإيرانية التي تستخدمها روسيا لضرب أوكرانيا؟
  • نجم «رأس الغول»
  • أنقرة: أردوغان أكد هاتفيا لبوتين أهمية العمل معا لوقف الأعمال التي تغذي العنف الطائفي في سوريا