رسالة السنوار للسيد حسن نصر الله.. الأبعاد والدلالات
تاريخ النشر: 14th, September 2024 GMT
يمانيون/ تقارير في رسالةٍ حملت عدةَ أبعادٍ استراتيجيةٍ ودلالاتٍ مهمة؛ عكست قوةَ وثباتَ المقاومة الإسلامية في غزة وصمودها لما يقارب العامَ من معركة “طوفان الأقصى” البطولية؛ ومستوى التضامن والوَحدة في مواجهة كيان الاحتلال الصهيوني.
رسالة القائد “يحيى السنوار”، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إلى الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، جاءت كردٍّ على رسالة تهنئة وتعزية أرسلها السيد نصر الله بعد استشهاد القائد “إسماعيل هنية”، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحماس، الذي استشهد في طهران في 31 يوليو الماضي.
في رسالته، شكر “السنوار” السيد “نصر الله” على دعمه ومساندته لحماس في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وأكّـد أن دماءَ الشهداء، بما في ذلك دماء القادة مثل إسماعيل هنية، ليست أغلى من دماء أبناء الشعب الفلسطيني، وأشَارَ إلى أن هذه التضحيات ستزيدُ من صلابة وقوة المقاومة في مواجهة الاحتلال.
وأكّـد “السنوار” أن حركةَ حماس ستظل ثابتةً على مبادئها، والتي تشمل وحدة الشعب الفلسطيني على خيار الجهاد والمقاومة، ووحدة الأُمَّــة في مواجهة المشروع الصهيوني، حتى تحرير الأرض وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
رسالةٌ للتأكيد على الوَحدة والتضامن والاستمرارية:
في هذا الإطار؛ يعكسُ شكرَ القائد “السنوار” في الرسالة السيد “نصر الله” على دعمه؛ وَحدةَ الصف بين حماس وحزب الله في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ويقرأ فيها ما يعزز فكرة التضامن بين مختلف فصائل الجهاد والمقاومة في عموم محور الجهاد والمقاومة.
كما أن الرسالة تشير إلى التأكيد على استمرارية المقاومة، إذ يشدّد القائد “السنوار” على أن دماء الشهداء، بما في ذلك القادة، ليست أغلى من دماء الشعب الفلسطيني، وأن هذه التضحيات ستزيد من عزيمة المقاومة، وتعكس التزام حماس بمواصلة العمل المقاوم حتى تحقيق أهدافها.
هذه الرسالة -بحسب مراقبين- تؤكّـد على ثبات حماس على مبادئها، مثل: “وحدة الشعب الفلسطيني وخيار الجهاد والمقاومة، ووحدة الأُمَّــة في مواجهة المشروع الصهيوني”؛ وهذا يعكس الرؤية الاستراتيجية لفصائل الجهاد والمقاومة الفلسطينية طويلة الأمد.
كما أن جوهرَها يتضمَّنُ الرَّدَّ على التحديات، في ظل الظروف الصعبة التي تواجهها حماس، بما في ذلك الاغتيالات والضغوط الدولية، وتأتي هذه الرسالة كإشارة إلى أن الحركة لن تتراجع وستظل متمسكة بمواقفها ومبادئها مهما كانت تلك التحديات.
رسالة إظهار الثبات والقوة للمقاومة:
في السياق، وفي قراءةٍ متصلة يرى عدد من الخبراء أن الرسالة عكست مستوى التحالف العالي بين حماس وحزب الله؛ ما يعزز من قوة المحور المقاوم في المنطقة، وهذا التحالف يمكن أن يكون له تأثير كبير على التوازنات الإقليمية، خَاصَّة في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والدولية، من خلال التأكيد على الاستمرار في المقاومة وعدم التراجع.
وترسل حماس رسالة إلى أعدائها وحلفائها على حَــدٍّ سواء بأنها لا تزالُ قويةً ومتماسكة، في تأكيدٍ على التمسك بالمبادئ الأَسَاسية؛ ما يعزز من شرعية حماس بين أنصارها وحاضنتها الشعبيّة، مؤكّـدةً التزامها بأهدافها الطويلة الأمد.
وفي إطار الرد على اغتيال “إسماعيل هنية”، يؤكّـد مراقبون أن الرسالة تأتي كإشارة إلى أن هذه الاغتيالات لن تضعف الحركة بل ستزيدها إصرارًا على مواصلة النضال، كما أنها ترسلُ رسالةً إلى المجتمع الدولي، من خلال التأكيد على وحدة الأُمَّــة في مواجهة المشروع الصهيوني، تسعى إلى كسب دعم أوسع من الدول والشعوب التي تتعاطف مع القضية الفلسطينية.
بشكلٍ عام، فهذه الرسالة تعكس استراتيجية حماس في تعزيز تحالفاتها، وإظهار قوتها وثباتها، والتمسك بمبادئها، والرد على التحديات بصلابة.
رسالةٌ للردع وتعزيز التنسيق:
ميدانيًّا، رسالة القائد “يحيى السنوار” يمكن أن تُقرأ على عدة مستويات عملياتية، من خلال التأكيد على العلاقة القوية مع حزب الله والتي تشير إلى تعزيز التنسيق العملياتي بين الجانبين، وقد يشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية، والتخطيط المشترك للعمليات، وتقديم الدعم اللوجستي.
في السياق؛ يرى مراقبون أنها تحمل رسالة ردع قوية إلى “إسرائيل”، مفادها أن اغتيال القادة لن يضعف الحركة بل سيزيدها إصرارًا، وهذا سيكون له تأثير على حسابات حكومة الكيان في اتِّخاذ قراراتها العملياتية المستقبلية، وقد تضطر إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الأمنية والعسكرية في التعامل مع حماس.
في إشارة إلى أن حركة حماس لا تزال قادرة على تنفيذ عملياتها ولن تتراجع تحت أي ظرف؛ ما يعكس استعدادها لمواصلة الجهاد وتعزيز تحالفاتها، حتى لو تطلب الأمر تصعيدًا كبيرًا للمواجهات العسكرية.
في رسالة تهدف أَيْـضاً؛ إلى رفع معنويات المجاهدين في الميدان العسكري، والأعضاء السياسيين للحركة؛ ما يعزز من الروح القتالية في الميدان (العسكري والسياسي) ويزيد من استعدادهم للتضحية، وتعزيز وحدة الصف الداخلي.
تأثير رسالة “السنوار” على المستقبل القريب:
في السياق، يجمع كثير من المحللين بأن رسالة “السنوار” قد تؤدي إلى زيادة العمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، حَيثُ يمكن أن تشجّع المجاهدين على تنفيذ هجمات جديدة كرد فعل على الجرائم اليومية بحق سكان غزة.
الرسالة تشير إلى أن العلاقة مع حزب الله يمكن أن يؤديَ إلى تنسيق أكبر بين الجانبين؛ ما يزيد من فعالية العمليات المشتركة ويعزز من قدرات المقاومة، بعد التأكيد على أن هذه العلاقة قوية؛ ما يعزز من موقف حماس في المفاوضات، حَيثُ يمكن أن تستخدم هذا التحالف كورقة ضغط إضافية.
وفي إطار تعزيز الموقف التفاوضي، يلفت محللون أن الرسالة تضمنت التأكيد على الثبات وعدم التراجع، حَيثُ تسعى حماس إلى تعزيز موقفها التفاوضي، وهذا يمكن أن يجعلها أكثر صلابة في المطالبة بشروطها، مثل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين ورفع الحصار عن غزة، ويزيد من الضغط على الوسطاء العرب والدوليين، مثل مصر وقطر وأمريكا، لتقديم ضمانات أكثر جدية لتنفيذ أي اتّفاق يتم التوصل إليه.
وعلى اعتبار أن حركة حماس تطالب بجدول زمني واضح وخطة تنفيذية محدّدة؛ ما قد يعقّد المفاوضات؛ بحسب مراقبين، ولكنه يضمنُ التزامَ الأطراف المختلفة، إذ ترسل حماس رسالةً إلى “إسرائيل” بأن أية محاولات للضغط العسكري لن تؤدي إلى تنازلات في المفاوضات، وهذا يدفع حكومة “نتنياهو” إلى إعادة تقييم استراتيجياتها التفاوضية؛ لأَنَّ المماطلة والتسويف قد يزيد الأعباء والمترتبات الكارثية على الكيان.
ووفقاً للمراقبين، فَــإنَّ الرسالة قد تؤثر على الرأي العام الفلسطيني والعربي؛ ما يزيد من الدعم الشعبي والجماهيري لحماس ويعزز من موقفها في المفاوضات، ويضع ضغطًا إضافيًّا على الأطراف الأُخرى لتقديم تنازلات.
تأثيراتُ الرسالة على جبهة الضفة الغربية المحتلّة:
وفقاً لتقاريرَ ميدانية، فَــإنَّ رسالةَ القائد “السنوار” قد تؤدِّي إلى زيادة التوترات في الضفة الغربية المحتلّة، من خلال تشجيع المجاهدين فيها على تصعيدِ العمليات ضد القوات الإسرائيلية، مع التأكيد على وَحدة الصف الفلسطيني، وتشجيع فصائل الجهاد والمقاومة المختلفة في الضفة المحتلّة على تنسيق جهودها بشكلٍ أكبر؛ ما يزيد من فعاليتها ويعزز من تماسك الجبهة الداخلية فيها.
وأكّـد مراقبون أن الرسالةَ رفعت من معنويات المقاومين في الضفة الغربية المحتلّة، مع رصد ارتياح شديد لها؛ ما قد يشير استعدادهم لمواجهة التحديات والمخاطر، وزيادة العمليات الفردية والجماعية ضد الأهداف الإسرائيلية الضفة والداخل المحتلّ.
كما أن الرسالة زادت من الضغط على السلطة الفلسطينية لتبني موقف أكثر صلابة في مواجهة الاحتلال، خَاصَّة إذَا شعرت الفصائل بأن السلطة لا تتخذ خطوات كافية لدعم المقاومة؛ لأَنَّه وفي حال تصاعدت العمليات في الضفة الغربية المحتلّة، يأمل المقاومون من السلطة فك الارتباط بالاحتلال لما يسمى “التنسيق الأمني”، كأقل واجب.
تأثير رسالة “السنوار” على الداخل الإسرائيلي:
وفي السياق؛ أشَارَت تقارير عبرية إلى زيادة القلق الأمني داخل “إسرائيل”، حَيثُ تم تفسير الرسالة على أنها إشارة إلى تصعيد محتمل في العمليات العسكرية من قبل حماس وحلفائها، وهذا ما دفع حكومة الكيان إلى تعزيز الإجراءات الأمنية وزيادة التواجد العسكري في المناطق الحساسة.
كما أن الرسالة -بحسب وسائل إعلام عبرية- قد أثّرت بشكل مباشر على الرأي العام الإسرائيلي؛ ما زاد من الضغط على حكومة “نتنياهو”، وانقسمت آراؤهم إلى قسمَين: الأول والذي يمثله التيار اليميني المتشدّد، يرى ضرورة اتِّخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد حماس، وخطوات عسكرية أَو سياسية جديدة لمواجهة التهديدات الأمنية.
كما يرى تيار اليسار وعائلات الأسرى الإسرائيليين في غزة التي تعيش حالة من القلق والضغط الشديدين، وتنظم احتجاجات واسعة في “إسرائيل” للمطالبة بإتمام صفقة تبادل أسرى مع المقاومة الفلسطينية في غزة، بعد أن تعزز اعتقادها بأن العمليات العسكرية لن تكون كافية لإعادة جميع الأسرى، وتطالب حكومة “نتنياهو” بالتوصل إلى صفقة تبادل أسرى كحلٍ وحيد لإنهاء معاناتهم.
وفي الآونة الأخيرة، شهد الداخل الصهيوني موجة من الاحتجاجات في أكثر من 40 موقعًا، حَيثُ هدّد المتظاهرون بالتصعيد ضد حكومة “نتنياهو” إذَا لم يتم التوصل إلى صفقة تبادل، هذه الاحتجاجات تعكس الضغط الكبير الذي تمارسه العائلات على الحكومة، وتزيد من تعقيد الوضع السياسي والأمني في الكيان.
وبحسب تقارير عبرية، فَــإنَّ رسالة “السنوار” زادت من قلق العائلات بشأن مصير أحبائهم، خَاصَّة تضمنها تأكيدات على عدم التراجع عن المطالب، وزاد من الضغط النفسي على العائلات.
وأشَارَت وسائل إعلامية إلى أن “السنوار” في رسالته استخدم العائلاتِ كوسيلةٍ للضغط على الحكومة الإسرائيلية لتسريع المفاوضات والتوصل إلى صفقة تبادل أسرى، وأثار الاحتجاجات والمطالبات باتِّخاذ إجراءات فورية، وزاد من تعاطف الشارع مع مطالب هذه العائلات من قبل المجتمع المدني والسياسيين.
إلى ذلك، يؤكّـد مراقبون أن الرسالة قد تؤثر على مسار المفاوضات، حَيثُ يمكن أن تجعل حكومة “نتنياهو” أكثر حذرًا في التعامل مع حماس، وقد تدفعها إلى تقديم تنازلات لتحقيق صفقة تبادل أسرى.
وبشكلٍ عام، فرسالة قائد بحجم “السنوار” إلى قائد بحجم السيد نصر الله، تعكس استراتيجية المقاومة في استخدام الضغط النفسي والسياسي لتعزيز موقعها وتأكيد ثباتها وصمودها وتواجدها في الميدان وتعزيز موقفها التفاوضي.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الضفة الغربیة المحتل ة فی مواجهة الاحتلال الجهاد والمقاومة الشعب الفلسطینی صفقة تبادل أسرى التأکید على ة فی مواجهة أن الرسالة مراقبون أن فی السیاق فی الضفة نصر الله من الضغط یمکن أن یزید من من خلال کما أن إلى أن أن هذه
إقرأ أيضاً:
(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد القائد 1446هـ
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في موضوع القصص القرآني، كُنَّا عرضنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي عدداً من القصص القرآني، عن بعضٍ من أنبياء الله، وتحدثنا في هذا السياق عن بعضٍ من مميزات القصص القرآني، وعن ما يتعلق بهذا الموضوع، في مقدمة ذلك: لماذا أتى في القرآن الكريم نماذج معينة من القصص والأحداث التاريخية، وما يميِّز العرض القرآني والتقديم القرآني لما قَصَّهُ من قصصٍ عن الماضي، ونبهنا أن القرآن الكريم هو كتاب هداية، هو في الأساس ليس كتاباً تاريخياً، يُقدِّم العرض والسرد التاريخي كما هي الكتب التاريخية، أو يقدِّم القصص كذلك كما هي الكتب المتخصصة في هذا المجال، ولكنه أكبر وأهم من كل ذلك.
القرآن الكريم هو كتاب هداية؛ ولـذلك فما قدَّمه من نماذج متنوعة من القصص والأحداث التاريخية، قدَّمه كأسلوب من أساليب الهداية؛ ولـذلك ضمَّنه الكثير من الدروس والعبر، وعرض فيه الكثير من الحقائق المهمة جدًّا؛ ولـذلك فهو غنيٌ بمحتواه من الدروس، ومن العبر، ومن الحقائق، ومن المفاهيم العظيمة، التي هي كلها تندرج تحت عنوان (الهداية)، فيها هدايةٌ لنا نحن في واقعنا، في ظروف حياتنا، في ديننا، في استلهام القيم العظيمة والأخلاق العظيمة، عندما نسمعها ونراها متجسدةً في الواقع، فيما عرضه الله لنا من النماذج الراقية من أوليائه من الأنبياء، والرسل، والمؤمنين... وهكذا.
فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" قال في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[الإسراء:89]، فكان من ضمن ذلك هو: ما أتى به من القصص والأنباء في نماذج معينة، مختارة بهداية الله، بعلمه، بحكمته، يختار لنا أحسن القصص، التي تتضمن دروساً مهمة، نحن في أمسِّ الحاجة إليها، وتعرض لنا حقائق مهمة، وتعرض لنا السنن الالهية، وهذا من أهم ما في القصص القرآني.
أيضا هي- كما أشرنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي- هي من معالم الرسالة الإلهية؛ لأنها من أنباء الغيب، وأوحاها الله إلى رسوله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، وهو أميٌّ في مجتمعٍ أميٍّ، لم يكن يعلم شيئاً عن ذلك؛ ولهـذا قال الله "جَلَّ شَأنُهُ": {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[هود:49].
هي أيضاً ملهمةٌ في مقام التأسي والاهتداء، كما ذكرنا عن قصص الأنبياء والمؤمنين، وقال الله "جَلَّ شَأنُهُ": {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[هود:120].
الممــيزات للقصـص القـــرآني ممــيزات عظيمــــة ومهمـــة:
الله "جَلَّ شَأنُهُ" قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3].
في مقدمة هذه المميزات: أنــه مــن الله:الذي قصَّ علينا تلك النماذج من القصص هو الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ وبالتالي فهي حقٌّ، كل ما ورد فيها من تفاصيل وحقائق، ليس فيها أي شائبة من الشوائب التي يتعرض لها الكثير من القصص التاريخية، والأحداث التاريخية، والكتب التاريخية؛ أمَّا ما قدَّمه الله لنا في القرآن الكريم فهو حقٌّ خالص، ليس فيه أي شيءٍ من الزيف، ولا من الخرافات، ولا من الأساطير، ولا من الروايات غير الصحيحة، فهو يأتي لنا بالحقِّ في ذلك، وبالحقيقة الخالصة النقية، التي لا يشوبها أي شائبة؛ ولهـذا يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}[الكهف:13].
ثم أيضاً الاختيار من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى":اختار لنا؛ لأن سِجِلّ التاريخ هو سجلٌ كبيرٌ جدًّا، ونحن آخر الأمم، حتى على المستوى التخصصي، لا يستطيع الإنسان أن يستوعب كل الأحداث التاريخية على كثرتها، لو أمضى كل عمره، لكن الله اختار لنا بعلمه، بحكمته، وهو العليم بما نحتاج إليه أكثر شيء، وما هو الأكثر فائدةً لنا، فقدَّم لنا نماذج متنوعة، متنوعة، وسنتحدث عن قيمة وأهمية هذا التنوع.
فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" باختياره لنا من سِجِلّ التاريخ الهائل نماذج معينة، تتناسب مع ظروف حياتنا، حتى لا يحتاج الإنسان أن يمضي كل عمره، ولا يصل بعد إلى استقراء الحقائق والأحداث التاريخية والقصص في التاريخ، اختار نماذج معينة، متنوعة، مهمة، مفيدة جدًّا، وإذا كان الاختيار هو من الله، فهل هناك أحد يمكن أن يكون أكثر دقةً وحكمةً في هذا الاختيار نفسه؟ معاذ الله!
كذلك العــرض القــرآني عرض راقٍ جدًّا:على مستوى الأسلوب، والتعبير، والطريقة، وعرض فيه هداية بكل ما تعنيه الكلمة، وسليم من كل المؤثرات السلبية، يعني: حتى عندما يعرض حقائق فيها جوانب سلبية كحقائق، كوقائع حصلت، هو يُقدِّمها بشكلٍ يبعدها عن التأثير السلبي، وأنت تسمعها، أو تتلوها في القرآن الكريم، فأنت لا تتأثر سلباً؛ وإنما يقدمها بطريقة راقية جدًّا، وذكرنا أمثلة لذلك في العام الماضي، ونذكر- إن شاء الله- أمثلة لذلك في هذه المحاضرات إن شاء الله.
كذلك في غناها بالدروس والعبر:في عرض الحقائق، في عرض المفاهيم، في تصحيح التصورات، في الجانب التربوي لها، في جوانب كثيرة ومهمة، في بيان السنن الإلهية، ولـذلك يقول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف:111]؛ ولـذلك فمسألة التركيز على موطن العبرة من القصة هي مسألة أساسية في العرض القرآني؛ لأنه- كما قلنا- كتاب هداية.
كما أن من المميزات لما في القرآن الكريم من القصص: أنهــا قصـصٌ واقعيــة:ليست خيالية، بل هي أمثلة من الواقع، وهذا يمنح الإنسان ثقة تجاه تلك القصص، وتجاه ما فيها من حقائق، وما يستلهم منها من دروس وعبر... وغير ذلك؛ لأن الواقع البشري فيه الكثير من القصص- يعني كأسلوب- التي فيها إمَّا الكثير من الزيف والخرافات، ليست نقيةً في النقل، أو كأسلوب آخر بعيداً عن الواقع، هناك أيضاً الكثير من القصص الخيالية في واقع البشر التي تُنقل، لتصور شيئاً من الحياة، لكنه ليس بواقعٍ في الحياة؛ إنما هو جانبٌ خيالي، ويراد له أن يكون إما من قبيل التسلية، أو من قبيل التأثير في النفوس، أو بشكلٍ أو بآخر.
من مميزات العرض القرآني للقصص وما فيه أيضاً: أنه يقدِّم لنا جوانب نفسية، ولكن ليس من باب التخمين والتقدير؛ وإنما من باب الحقيقة:لأنه من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، الذي يعلم ما في النفوس، يعلم الواقع النفسي، عندما يعرض قصصاً لأشخاص، لنماذج معينة، لأمم؛ فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" هو العليم بذات الصدور، العليم بخفايا النفوس، عندما يقدِّم لنا صورةً عن الدوافع، عن الواقع النفسي، وعن الحالة النفسية، يُقدِّمه وهو العليم به كحقائق، حقائق ممن يعلم ما في النفوس، حتى ما هو في خفايا الفكر والتفكير، يقدِّمه وهو العليم بذلك؛ ولـذلك فهو لا يقدِّم لنا فقط الأحداث بشكلها الخارجي، بل في عمقها، في الواقع النفسي، في الدوافع، في الحالات النفسية، وهذه دروس مهمة حتى في هذه الأمور، التي نحتاج فيها حتى هي إلى دروس وإلى عبر؛ لأنها جانبٌ أساسيٌ في واقع حياتنا.
التنوع في القصص القرآني هو كذلك مهمٌ، وغنيٌ، ومفيدٌ جدًّا:
نماذج من قصص الأنبياء، مجموعة كبيرة من أنبياء الله ورسله، وكذلك حتى هذا الجانب (في قصص الأنبياء) فيه أيضاً نماذج لظروف مختلفة، وأحوال مختلفة، ومقامات متنوعة. نماذج من قصص المؤمنين من أولياء الله، من غير الأنبياء: مثلما هي قصة أصحاب الكهف، مؤمن آل فرعون، مؤمن أهل القرية في (سورة يس)... وغير ذلك. نماذج من قصص النساء: على مستوى الجانب الإيماني، مثلما في قصة الصديقة الطاهرة (مريم ابنت عمران)، وباسمها سورة في القرآن الكريم، وتحدث القرآن عنها في مواضع متعددة، وكذلك عن غيرها. نماذج عن الأقوام والأمم: قوم نوح، عاد، ثمود، قوم فرعون... وغيرهم. نماذج عن التجار. نماذج عن المزارعين. نماذج عن العلماء. نماذج عن الملوك...وهكذا... قصصٌ واسع.
فهي نماذج نستفيد منها في مختلف مجالات حياتنا، يعني: في الجانب العقائدي، في الجانب السياسي، في الجانب الاقتصادي، في الجانب الاجتماعي، في المجال الأخلاقي، في شؤون حياتنا نحن أيضاً، الشؤون المختلفة، ونحن آخر الأمم، بين أيدينا رصيدٌ هائلٌ من الأحداث، من التجارب في الواقع البشري، وهذا ما يساعدنا على أن نستفيد منها كتجارب واقعية، عرضت لنا نماذج متعددة ومتنوعة، تُقدِّم لنا الدروس المهمة، التي تزيدنا حكمةً، ورشداً، وبصيرةً، ووعياً، وفهماً، وتساعدنا على تَجَنُّب المزالق، المزالق في هذه الحياة، الأخطاء الكبيرة، التوجهات التي لها نتائج كارثية، العواقب الخطيرة، التي تكون نتيجةً لتوجهات معينة، أو مواقف معينة، كذلك دروساً في مجال الدعوة إلى الله، دروساً في مجال معرفة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وهذا من أهم ما نستفيده من القصص القرآني حتى في مجال معرفة الله، وهذا مما سنلحظه- إن شاء الله- فيما نعرضه.
عرضنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي من قصص القرآن:
عن نبي الله آدم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وزوجه حواء "عَلَيْهَا السَّلّامُ". وكذلك عن قصة ابني آدم. وعن نبي الله إدريس "عَلَيْهِ السَّلَامُ". وعن نبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وكذلك عن قومه في سياق قصته. وعن نبي الله هود "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وقومه عاد. وعن قصة نبي الله صالح "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وقومه ثمود.ويتضح لنا كم تضمن العرض القرآني لتلك القصص من دروسٍ مهمة، وحقائق كثيرة، وعِبر عظيمة، بالرغم من أنَّا عرضناها باختصار، وبمحدودية ما نعرفه وما نقدمه.
في هذا الشهر المبارك، نبدأ مشوارنا مع القصص القرآني مع نبي عظيمٍ، من أبرز رسل الله وأنبيائه، ورد ذكره في القرآن الكريم (تسعاً وستين مرة)، وتحدث القرآن الكريم عنه في (خمسٍ وعشرين سورة) في قصصٍ عنه، وحقائق مهمة تتعلق به، منها سورةٌ باسمه في القرآن الكريم (سورة إبراهيم).
الحديث عن نبي الله ورسوله وخليله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، فيما قَصَّهُ القرآن الكريم عنه، متنوعٌ تنوعاً مفيداً، في أحوالٍ وظروفٍ متنوعة، ومقاماتٍ متعددة، وشؤونٍ مختلفة، وكلها غنيةٌ بالدروس والعِبر، ومسيرة حياته مدرسةٌ متكاملة في الهداية، في الأخلاق، في القيم، في الحكمة، في الرشد، في العلاقة مع الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"... في جوانب كثيرة، نتحدث عن الكثير منها إن شاء الله، بقدر ما يوفقنا الله له.
رسول الله ونبيه وخليله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ" منحه الله الوسام الرفيع، والحديث عنه في القرآن الكريم يبيِّن لنا عظيم مقامه، ورفيع منزلته، ودرجته العالية، الله قال عنه: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:125]، هذا وسام رفيع جدًّا، من أعلى وأعظم الأوسمة، التي تبيِّن منزلته الرفيعة عند الله "جَلَّ شَأنُهُ".
مقامه أيضاً بين الأنبياء والرسل، هو من أرفعهم مقاماً، ومن أفضلهم، ومن أعلاهم منزلة، فمنزلته بينهم هم كأنبياء ورسل منزلة عالية جدًّا؛ لأن مقامات وفضل الأنبياء يتفاوت في مستوى منزلتهم، وكمالهم، وأدوارهم، كما قال الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في القرآن الكريم: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[البقرة : 253]، وكما قال "جَلَّ شَأنُهُ": {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}[الإسراء:55]، فمقامه بين الأنبياء والرسل مقامٌ عظيم، قدوةٌ لغيره من الرسل والأنبياء ممن أتى بعده؛ ولهـذا تُقَدّم الكثير من الدروس والعبر من حياته، من سيرته، لهم في مقام القدوة، واستلهام الدروس والعبر.
قبل أن ندخل في تفاصيل القصص القرآني عنه، نعرض عرضاً موجزاً عن مقامه العظيم، وعناوين عن شخصيته وكماله الإنساني والإيماني:
نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، كما قال الله عنه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}[البقرة: 124]، هو شخصيةٌ عالمية، تلتقي على تعظيمه وتقديره الكثير من الأمم، والطوائف، والملل، والأديان، بل وتدَّعيه رمزاً لها، كُلٌّ منهم يدَّعي أنه رمزٌ له، وتدَّعِي الاقتداء به، إلى درجة أن مشركي العرب، الذين كانوا على الوثنية في الجاهلية، كانوا يدَّعون أنهم يقتدون به، ويعتبرونه الرمز العظيم لهم، مع ما هم عليه من انحراف كبير، وكفر بالرسالة والرسل والأنبياء، وهم في حال الشرك والوثنية، كذلك هو حال اليهود، يدَّعونه رمزاً لهم، وينسبونه منهم، في انتمائه العقائدي والديني، وكذلك هو الحال بالنسبة للنصارى، وبالنسبة لغيرهم، هناك كذلك أقوام، وأمم، وطوائف، وملل، لها نفس الدعوى.
ولهـذا رد الله عليهم في القرآن الكريم، في قوله "جَلَّ شَأنُهُ": {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران:67]، ليرد عليهم في تلك الادَّعاءات، ويقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}[آل عمران:68]، بين كل للذين يدَّعون أنه رمزٌ لهم، وأنهم يقتدون به، وأنهم منتمون عقائديًا ودينياً إليه، أولى الناس به من؟ {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:68]، يعني: هم الذين- فعلاً- يمثلون امتداداً لنهجه: رسول الله محمد "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، والذين آمنوا معه، هم الذين يمثلون امتداداً لنهج نبي الله إبراهيم وملته ودينه، وهم أولى الناس بهذا الانتماء.
فيما يتعلق بنماذج من العناوين القرآنية عن شخصيته: وهو- كما قلنا- من منحه الله الوسام الرفيع، العظيم، العجيب، الذي يندهش الإنسان أمامه، عندما قال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:125]، فيما يفيده هذا من علاقته العظيمة بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ومنزلته الرفيعة جدًّا، (معنى: خليلاً، يعني: حبيباً وولياً)، الله اتَّخذه حبيباً له وولياً، وهو في مقام المحبة لله، والمحبة من الله له في مستوى عالٍ جدًّا، مُقَرَّبٌ جدًّا من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، يحبه الله محبةً عظيمة، ويحظى بمنزلةٍ رفيعة، وهذا بنفسه وسامٌ عظيم، يبيِّن ما هو عليه من الكمال الإيماني والطهارة، وسنتحدث عن هذه النقطة- إن شاء الله- في سياق القَصص، عندما ندخل في التفاصيل؛ ولـذلك هو حظي برعايةٍ عجيبةٍ من الله، وهذا من الدروس المهمة في قصص نبي الله ابراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ": ما حظي به من رعايةٍ عجيبةٍ من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وما منحه الله، هذا درسٌ مهمٌ جدًّا في رعاية الله لأوليائه، وما يمنحهم، ما يمنحهم ويَمُنُّ به عليهم في إطار رعايته لهم، فله مكانته الراقية، ومنزلته الرفيعة في علاقته بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
يقول الله "جَلَّ شَأنُهُ" في القرآن الكريم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا}[النحل:120]، هذا التعبير العجيب: {كَانَ أُمَّةً}، يُقدِّم لنا صورةً عن كمال إبراهيم، عن منزلته الرفيعة، عن دوره العظيم:
كَانَ أُمَّةً فيما حازه من كمالٍ إنسانيٍ وإيمانيٍ ومواصفاتٍ راقية، وفيما حمله من قيم، وجسَّده من مبادئ، يعدل أُمَّةً بكلها، يساوي أُمَّةً بكلها، فاجتمع فيه ما لو تفرَّق في أُمَّة، من مواصفات الكمال الإيماني والأخلاقي والإنساني، لكانت أُمة نموذجية، لكانت أُمَّةً صالحة، هذا تعبير عظيم جدًّا، هذا يُقرِّب لنا وإلى أذهاننا مستوى عظمة شخصيته، ومستوى كماله. وكَانَ أُمَّةً في أهليته العالية، في مقام الاهتداء والقدوة؛ فكان رمزاً للأنبياء، وإماماً للناس، ومعلماً عالمياً للمجتمع البشري. وكَانَ أُمَّةً في دوره العظيم، الذي قام به في إرساء دعائم الحق والخير والهدى، وفي تصديه للطغيان والضلال، وما بذله من جهدٍ في ذلك، بالرغم من أنه بدأ بمفرده، لكنَّ حجم هذا الدور الذي نهض به، بما تنهض به أُمَّة، إلى هذا المستوى، شخص له هذا الدور، له هذا التأثير، يعادل مجهود أُمَّة، ودور أُمَّة، ونهضة أُمَّة، وحركة أُمَّة، هذا يفيد مستوى الدور العظيم الذي قام به، وما بذله من جهد، وما حققه من تأثير ونتائج.ولهـذا عندما قال الله عنه هذا التعبير، فهو تعبير جامع، جمع كل هذه الدلائل والمفاهيم.
{كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ}[النحل:120]، هنا يعرض لنا القرآن الكريم مواصفات راقية جدًّا، تبيِّن لنا كيف كان في مستوى إيمانه، كيف كانت علاقته بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وهذا من أهم ما أهَّله لهذا الدور، وارتقى به إلى هذه المنزلة، وهذا المقام العظيم.
{قَانِتًا لِلَّهِ}، هذه مواصفات مهمة، مجموعة من المواصفات تندرج تحت عنوان (قَانِتاً لِلَّهِ)، كان خاضعا لله، مطيعاً له؛ ولـذلك ففي قوله "جَلَّ شَأنُهُ": {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} كم يجتمع لنا؟ يجتمع لنا أنه كان نموذجاً عظيماً:
في المحبة لله تعالى، والإخلاص له، والاستقامة على نهجه. وفي الخضوع التام لله. وفي الخشوع لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى". وفي الثبات على نهج الله.كل هذه العناوين تجتمع تحت قوله تعالى: {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِفًا}، وسنتحدث أيضاً في سياق التفاصيل، في القَصص عن نبي الله إبراهيم، عن كيف تجسَّدت هذه العناوين في واقعه، في حركته، في أعماله، في مواقفه، بشكلٍ عظيمٍ ومميَّز.
عَـــرَض القُـــرْآنَ الكريـــم عنـــه أيضــاً أنه:
كان رمزاً عظيماً في التسليم لله تعالى والإسلام له: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة:131]، في التفاصيل في القصص عنه سيأتي نماذج في واقعه العملي، عن هذا الإسلام والتسليم لله "جَلَّ شَأنُهُ" قدَّمه على أنه نموذج راقٍ في المصداقية، {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[مريم: 41]، (صِدِّيقًا): مصدقاً بكلمات الله تعالى، وكانت مصداقيته في أقواله، في انتمائه، في أعماله، تامة وراقية جدًّا. نموذج في اليقين، وسيأتي الحديث عن ذلك. في الشكر: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}[النحل:121]، يُقدِّر نعم الله عليه، ويُعظِّم نعم الله عليه، ويشكر الله على نعمه في أقواله، في أفعاله، وفي أعماله، بقلبه وسلوكه، وسيأتي أيضاً تفاصيل عن هذا الموضوع، وهذا العنوان. في الرشد، والعلم، والحجة، والحكمة، والبصيرة كذلك: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}[الأنبياء:51]، كان راشداً، حكيماً، على بصيرة، على معرفة، على علم، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}[ص:45]، فهو من المتمسكين، والمقدمين، والمسهمين، في إقامة الحق، وفي مسيرة النبوة والرسالة أعطى دفعاً كبيراً للحق والهدى، استمر لأجيالٍ طويلة، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}[الأنعام:83]، وستأتي التفاصيل أيضاً عن ذلك. في الحلم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114]، وفي آيةٍ أخرى: {لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75]، فهو من ذوي الحلم، ونموذج في الحلم، وستأتي التفاصيل، وتعريف هذا العنوان ودلالاته. في الكرم، في حسن الضيافة: كذلك في القصص تأتي التفاصيل. رمزٌ في البراءة، والموقف الحاسم من أعداء الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}[الممتحنة:4].العناوين كثيرة، والتفاصيل كثيرة، وكثيراً من العناوين نأتي اليها مع المفاهيم، مع الحقائق، مع الدروس، مع العبر، في سياق القَصَص الذي قَصَّهُ الله عنه، وقدَّم في ذلك القصص- كما قلنا- نماذج من ظروف متنوعة، وشؤون مختلفة، وأحوال متعددة.
نَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَامَ، وَالقِيامَ، وَصَالِحَ الأَعْمَال، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِي هَذَا الشَّهْر الكَرِيم مِنْ عُتقَائِهِ وَنُقذَائِهِ مِنَ النَّار.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛