اليوم 24:
2024-09-18@11:09:40 GMT

الفضاء الرقمي بين التفاهة والمسؤولية ورهان المعالجة

تاريخ النشر: 14th, September 2024 GMT

يشهد الفضاء الرقمي اليوم زيادة ضخمة في حجم المحتوى بمختلف أنواعه وأشكاله، حيث يمكن من خلاله لأي شخص الوصول إلى جمهور واسع بسرعة وسهولة، دون الحاجة إلى معرفة عميقة أو خبرة كبيرة، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار المحتوى السطحي على منصات التواصل الاجتماعي، مما يثير تساؤلات حول العوامل التقنية، الاقتصادية، القانونية، والاجتماعية التي تعزز هذه الظاهرة.

وعلى الرغم من أن التكنولوجيا أتاحت الفرصة للجميع للمشاركة، إلا أن هذه المشاركة غالبًا ما تأتي مع ثقة زائدة ومحتوى لا يرتقي إلى المعايير المعرفية أو الذوق العام.

تأثير دانينغ-كروجر ودور الاقتصاد الرقمي

للإحاطة بهذه الظاهرة، يمكن الإشارة إلى تأثير « دانينغ-كروجر »، وهو مفهوم يوضح كيف يميل الأشخاص الذين يمتلكون معرفة محدودة إلى المبالغة في تقدير قدراتهم. هذه الثقة الزائدة تدفعهم إلى نشر محتوى رقمي سطحي وغير مستند إلى أسس معرفية متينة، في المقابل، يميل الأشخاص الأكثر معرفة إلى الشك والتدقيق، مما يقلل من تواجدهم الرقمي.

من جهة أخرى، يلعب الاقتصاد الرقمي دورًا رئيسيًا في هذه الظاهرة، حيث تعتمد منصات التواصل الاجتماعي بشكل كبير على الربح السريع من خلال الإعلانات، وهذا يدفع صناع المحتوى، في بحثهم عن دخل مادي، إلى إنتاج مواد تجذب المزيد من المشاهدات والتفاعل، حتى وإن كانت ذات جودة ضعيفة، هذا التركيز على الانتشار الواسع والسريع غالبًا ما يأتي على حساب المحتوى المفيد والمثمر.

الفضاء الرقمي كامتداد للفضاء العام

وفي نفس السياق نحتاج لفهم الفضاء الرقمي، وذلك بالرجوع إلى مفهوم الفضاء العام الذي طرحه الفيلسوف يورغن هابرماس. في الأصل، كان الفضاء العام يمثل الساحة التي يجتمع فيها الناس لمناقشة القضايا العامة بشكل عقلاني ومنظم ويشكل دائرة تتوسط السلطة والمجتمع، تأثر مع مرور الوقت لعوامل اقتصادية وسياسية. لكن اليوم، في عصر الأنترنت وما تلاها من تطورات تكنولوجية، امتدت هذه الساحة التقليدية إلى فضاء جديد للتواصل والتفاعل وصياغة الرأي العام، وبدوره أصبحت الساحة الرقمية خاضعة لتأثيرات أخرى، مثل الخوارزميات والمصالح الاقتصادية. 

هذه الخوارزميات، التي تدير منصات التواصل الاجتماعي، تفضل المحتوى الذي يولد أكبر قدر من التفاعل، بغض النظر عن جودته. وبالتالي، نجد أن المحتوى السطحي والمثير هو الذي يهيمن على هذه المنصات، في حين يتم تجاهل المحتويات التي تقدم معلومات معرفية أو نقاشات هامة، مما يساهم في تشكيل مزاج ورأي عام بطرق غير صحيحة تعتمد على الإثارة أكثر من المعرفة.

أهمية التنظيم التقني ودور التأهيل والتكوين

وللحد من هذه الظاهرة، هناك حاجة ملحة لتطوير إطار تنظيمي وتقني يحكم الفضاء الرقمي، بجعل هذه الفضاءات شفافة الخوارزميات وتُوجه نحو تشجيع المحتويات ذات الجودة وتثري الفضاء، بدلًا من تلك التي تركز فقط على الانتشار الواسع والسريع دون قيد ولا شرط.

إلى جانب التنظيم التقني، يبقى التأهيل والتكوين أمرًا أساسيًا لتحسين جودة المحتوى الرقمي، ويحتاج صناع المحتوى إلى تطوير مهاراتهم الفكرية والرقمية، ليكونوا قادرين على إنتاج مواد ذات قيمة حقيقية، كمايشمل التأهيل أيضًا تعلم مهارات التفكير النقدي وفهم أخلاقيات الإعلام الرقمي والحقوق والواجبات في هذا الفضاء.

المقاربة القانونية بين الحرية والمسؤولية

كما يحتاج الفضاء الرقمي إلى إطار قانوني ينظم السلوك الرقمي بنفس المقاصد التي تنظم الفضاء العام التقليدي. اذ لا يمكن السماح للممارسات غير الأخلاقية أو المحتويات التي تتسبب في إلحاق الضرر أو التي تحمل مخاطر للأفراد أو المجتمع بأن تكون شائعة في الفضاء الرقمي في حين أنها مجرمة في الفضاء العام. لذلك، هناك حاجة لوضع قوانين تنظم هذه المحتويات بهدف الحفاظ على سلامة الجميع. فالعديد من الدول شرعت في تطوير تشريعات تهدف إلى مكافحة انتشار الأخبار الزائفة والمحتويات المسيئة لعقلنة وتنظيم الفضاء الرقمي. هذه القوانين يجب أن تكون مرنة لتواكب التطورات التكنولوجية السريعة، وأيضًا أن تكون صارمة في التعامل مع التهديدات الرقمية الجديدة. 

في ظل التحولات الكبيرة التي يشهدها الفضاء الرقمي، تبرز الحاجة إلى تنظيم تقني وقانوني يوازن بين حرية التعبير والمسؤولية الاجتماعية. وذلك بتضافر جهود الحكومات، الشركات الكبرى للتكنولوجيا، وصناع المحتوى وفعاليات المجتمع المدني من أجل تعزيز الشفافية في عمل الخوارزميات، والتأهيل المستمر لصناع المحتوى، وتطبيق قوانين صارمة لحماية المتلقي، لجعل الفضاء الرقمي ساحة مثمرة للنقاشات الجادة والمعرفية، تعزز جودة التفاعلات ومساهمة في صياغة حقيقية للرأي العام ودعم لمجتمع المعرفة، وليس فقط ساحة مليئة بالفوضى والإثارة والانتشار الواسع والسريع للتفاهة.

المصدر: اليوم 24

كلمات دلالية: الفضاء الرقمی الفضاء العام هذه الظاهرة

إقرأ أيضاً:

النقد.. محتوى مختلف فيه

هل تصدقون أن هناك من يتهم المحتوى على أنه المقوض للوحدة والاتفاق، مع أن المحتوى هو من صنع الجماهير؟ وهل يوجد محتوى أوجد نفسه بنفسه حتى يوجد إشكالية النقد بينه وبين منتقديه؟ وهل تنساق الجماهير وراء محتويات غير ذات قيمة قبل أن تدخل معركة نقدها والاختلاف معها قبل التسليم المطلق لها؟ هناك جماهير غاضبة، لأن نوع من المحتوى يتصادم مع كثير من قناعاتها، مع أن هناك جماهير أخرى تتقاسم المحتوى ذاته ولا تتصادم معه كحال الأولى، إذن الإشكالية ليست في المحتوى، وإنما الإشكالية في الوعي الجماهيري، ووجود بون واسع بين الجمهورين، وإن تقاسما البيئة ذاتها، واستظلوا بذات السماء، وجمعتهم صفوف أو قاعات المحاضرات، وتلقوا المادة المعرفية نفسها الذاهبة إلى تصويب الأخطاء، وفك الرموز المغلقة، وتبسيط الإجراءات، وإنارة العقول، وإطفاء شمعات الجهل المشتعلة في الرؤوس. كل ذلك عائد أكثره إلى مخزون ذاتي، لا علاقة له كثيرا بالمؤثرات الخارجية، فأي رسالة تصل إلى الذات، فإنها سريعا ما تذهب إلى المختبر الذاتي لتبدأ مجموعة من التفاصيل تمحص، وتفند، وتقبل/ ترفض، وتجهز لمشروع طويل من النقاش، وإبداء المسوغات، سواء للقبول أو للرفض، ومن ثم تطغو المواقف على السطح. وهذه العملية الذاتية ربما لا تستغرق كثيرا من الوقت، ولكنها تؤثر في النتائج، ولذلك فكثير منها يأتي غير متزن، وانفعالي، وردات فعله قد تكون متهورة، لا تحتكم على رؤية مدركة لمآلات النتائج، ولذلك فكثير منها ما يسقط في مأزق «عقلية القطيع» الموسومة بالشطط والتسرع، والانسياق دون وعي، وهذه لحالها إشكالية موضوعية في مجمل عمليات النقد التي يقيمها الناس على كل ما يتلقونه من محتوى، ويختلفون عليه، ولا يتفقون، وقد يصل الخلاف إلى خلاف بيني كبير ومعقد.

ولكم أن تحضروا جلسة نقاش واحدة ليتبين لكم هذا التفاوت في الفهم والإدراك للمحتوى المطروح للنقاش، وفي إدارة المناقشات، وفي تفاعلات المجموعة المحتدمة الكثير من الأمثلة، ولأن حرب غزة التي بادرت بها حماس، بشجاعة باسلة، وغير معهودة للتفاوت الكبير في الإمكانيات وفي الدعم، بين الضحية الجلاد، والمآسي يراكمها الواقع المأساوي، ولاقتراب من تمام سنتها الأولى، إلا أنه لا تزال هناك أصوات تنتقد حماس، وتسوغ ردة الفعل القاسية التي يقوم بها الجلاد ـ الأفعى التي تضرب بذيلها يمنة ويسرة من هول المعاناة والعجز واليأس والانهزام ـ فالحرب محتوى واضح الدلالة والتأثير، ومع ذلك لا يزال هذا المحتوى لم يتفق عليه على كل المستويات الجماهيرية بصورة مطلقة، ولأن ليس هناك اتفاق قطعي، فلا تزال مآسيه مستمرة، وبقسوة نتائجه حيث تذهب التقديرات إلى انتهاء أحد الطرفين انتهاء مطلقا لا عودة بعده، فإما هزيمة مطلقة أو انتصار مطلق لأي طرف من طرفي النزاع. وهذا ما يتخوف منه أطراف كثيرة حاضرة على المشهد، وتعي الحقيقة، ومع ذلك لا تزال تختلف على مآلات المحتوى الختامية، ولكنها مكبلة بقيود الاستسلام والرضوخ والانبطاح، والله غالب على أمره.

وتأتي الأحداث الرياضية - مثال آخر - مع الفارق النوعي بين الحدثين، ففي الأحداث الرياضية في عموميتها الجماهير تختلف على المحتوى الفني لممارسة اللعب، فهناك من يذهب إلى إلقاء اللوم على اللاعبين وإلقاء اللوم معناه النقد بكل مستوياته وهناك من يلقي اللوم على الفريق الفني والإداري، وهناك من يلقي اللوم على الحكم، وهنا من يلقي اللوم على الإمكانيات الفنية للملعب والظروف الطبيعية المحيطة. هذا في مجمله محتوى، ولكن الجماهير مختلفون حوله، ويصوب سهام النقد كل من زاويته، ومن خلال مجموعة القناعات التي عليها، ومن خلال التجارب التي مر بها، ومستوى السن الذي عليه، فهناك من يسوغ بقبول مجموعة الإخفاقات كلها، ويرى فيها أن ذلك واقعا لا يمكن تجاوزه، وهناك من لا يقبل كل ذلك بالمطلق، ويحمل الجميع مسؤولية الإخفاقات، وإن تحقق نصر ما، فقد يتم التغاضي عن بعض مما يثير الحفيظة لدى طرف آخر أقربهم حيادية ولكنه في المجمل هناك نقد غير متفق عليه، فكل ينظر من زاويته الخاصة جدا، بغض النظر عن مآلات النقد، وهل ستكون له غايات يسعى الجميع إلى تحقيقها؟ أما أنه مجرد تفريغ مجموعة من الانفعالات اللحظوية، لتهدأ عاصفة التشنج؟ ويحضر البعد الاجتماعي كأهم المحطات لتنوع المحتوى من ناحية، ولتنوع جماهيريته من ناحية ثانية، وعددها الضخم من ناحية ثالثة، ومن هنا تأتي جملة: «رضى الناس غاية لا تدرك» ومن هنا يشار إلى العودة إلى القناعات الشخصية، وعدم التماهي في رأي الجماهير، وكل ذلك يعكس عدم القدرة على اتفاق على محتوى ما يطرح حول مجموع الإشكاليات التي تتدافع على زوايا المجتمع الأربعة، ولعل الإشكالية الأكبر أن هناك من ينتقد ولا يقدم الحلول، وذلك حال كل المناقشات التي تثار على مجمل الموضوعات في الحياة العامة في شؤونها المختلفة.

ويذهب التقييم غالبا وهذه لحالها معضلة كبرى، على أن كل ما يثار من مناقشات هو مجرد تنظير لا قيمة له، ولأنه لا قيمة له، فلذلك لا يتفق على أهمية المحتوى، مع أن النقاشات ساخنة، وتحظى بتفاعلات كبيرة وكثيرة، وهناك من يجهد نفسه في المناقشات، وهي الإشكالية ذاتها التي تواجهها المجالس التشريعية، وعلاقتها بالسلطة التنفيذية، حيث ترى الأخيرة أن مجمل ما يثار تحت قبة السلطة التشريعية هو مجرد تنظير لا قيمة له، على الرغم من إدراكها أن ما يناقش هو ذات محتوى كبير، وعلى الرغم من تقييم المناقشين على أنهم تنظيريون، ويأتي هذا التقييم انعكاسا من عدم وجود سلطة تنفيذ القرار الذي يذهب بمناقشات المحتوى إلى التطبيق، فالقرار هو بيد السلطة التنفيذية، لأنها الأكثر إحاطة بالأرقام الصحيحة، والأكثر إحاطة بالخطط التنموية وبرامجها المختلفة، والأكثر إحاطة بما سوف تؤول إليه الأحوال من أثر تطبيق برامج معينة دون غيرها، لوجود الدراسات، والخبراء، والمستشارين، والإمكانيات المادية الكبيرة، القادرة على التنفيذ، أما السلطة التشريعية فهي غارقة في التنظير – وفق تقييم السلطة التنفيذية – مع أن محتوى المناقشات مهم بالنسبة السلطة التنفيذية لتصويب عملها الذي تتعاطى به مع الجمهور، وهذه الإشكالية بين السلطتين إشكالية تاريخية متجذرة تتوارثها السلطتان عبر مراحل فتراتها المتتالية على الرغم من أهمية المحتوى المطروح على طاولتيهما وهو محتوى التنمية، ولذلك فالتقييم هو الآخر متوارث، ويذهب كثيرا إلى المسألة الخلافي، والخروج من هذا الخلاف، كنتيجة حتمية حتى هذه اللحظة هو البقاء على إشكالية تعويم القضايا الخلافية، والإيمان بأن النقد لا يتجاوز المساحة المتاحة تحت قبة المؤسسة التشريعية.

من يستطيع أن يجزم اليوم أن الجماهير غير واعية، وغير مدركة بما يدور حولها، وما يستجد عليها من قضايا وأحداث؟ بالتأكيد لا يستطيع أحد أن يجزم بالمطلق، ومع ذلك فنتائج الرهانات خاسرة للاتفاق على محتوى معين: سواء فارض نفسه بحكم الواقع، أو متبنى من جهة معينة، أو مجموعة معينة، وغالبا تعود مآلات هذا الاختلاف هو النزاع، والتفرق، وعدم التوافق، وربما قد يجلب مضار لمختلف الأطراف من حيث نشأة عداوات ما كان لها أن تحدث لولا نقد المحتوى المطروح وعدم الاتفاق عليه، ومقولة: «الاختلاف لا يفسد للود قضية» في واقع الأمر غير صحيحة، وهو لن يقف عند إفساد الود فقط، بل قد يتعداه إلى الأبعد من ذلك، ويكون ذلك حتى على مستوى الأسرة الواحدة إن لم يحكمها عاقل يطلب من الجميع أن يأخذ بطرف الرداء، ليضعه في مكانه الصحيح، قبل أن يتضعضع، فتسقط حبات اللؤلؤ، وينفرط العقد، مع أنه يقينا أن ما تناقشه الأسرة هو محتوى مهم، وعائده يهم الجميع، ولكن في المقابل أن هؤلاء الجميع تتحكم فيهم مشاعر مختلفة، ورؤى متباينة، وتجاذبات نفسية متفاوتة، وتجارب شخصية غير متساوية، وهذه – كما أسلفت أعلاه – منغصات تقض مضاجع المتحاورين، سواء على المستوى المجموعات صغيرها وكبيرها، أو على مستوى الأفراد عبر جماهيريتهم الواسعة، وما نراه وما نعيشه من مناقشات عبر مجموعة وسائل التواصل المختلفة ما يؤكد هذه الحقيقة، وهي ليست غائبة عن الجميع بكل تأكيد.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

مقالات مشابهة

  • محجوب فضل بدری: أنقذو عبد الرحيم
  • تقليل الأطعمة فائقة المعالجة يقلل خطر السكري من النوع الثاني
  • محافظ بني سويف يبحث جهود المشاركة المجتمعية لدعم منظومة المخلفات
  • أبو الغيط: إسرائيل تزرع الكراهية وتقوض هيكل السلام الذي استقر لعقود
  • السعودية تبدأ التشغيل التجاري لمصنع معالجة الزنك والنحاس
  • ضريبة بنسبة 15% على صانعي المحتوى في الفيسبوك بالعراق
  • استعدادا للعام الدرسي.. تفعيل ورش عمل تحليل المحتوى بمنطقة الشرقية الأزهرية
  • “بين الحرية والمسؤولية: دور القادة في دعم المعلمين”
  • النقد.. محتوى مختلف فيه
  • بنك بوبيان يحصد جائزة التميز في المعالجة المباشرة للمدفوعات بالدولار من Citi