عود على بدء

في دروسه في كلية الحقوق في جامعة القاهرة في 1959 ـ 1960 يستعرض الدكتور محمد نجيب حسني خطوات ولادة ما نسميه القانون الجنائي الدولي بدءا من نهاية الحرب العالمية الثانية (دار النهضة العربية "دروس في القانون الجنائي الدولي")، مركزا على المادتين الأولى والثانية من ميثاق الأمم المتحدة باعتبار مهمة هذه الهيئة الدولية الأولى الحفاظ على السلم والأمن، والثانية الامتناع عن التهديد باستخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة.

مذكرا بأن الجهاز الذي يشرف على ذلك، وفق المادة 43 من الميثاق هو مجلس الأمن.

في 11 ديسمبر 1946، أقرت الجمعية العامة مبادئ القانون الدولي لمحكمة نورنبرغ في تحديد الصفة الجرمية أي (الجرائم ضد السلام، جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية). وفي 9 ديسمبر 1948، صدرت اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية وعلينا انتظار 28 نوفمبر 1953 لإدخال جريمة العدوان باعتبارها أخطر جريمة ضد السلم والأمن الدوليين.

تكفلت "لجنة القانون الدولي" في 1950 بصياغة المبادئ التي يقوم عليها القانون الجنائي الدولي الوليد بتعريف الحقبة له كالتالي:

ـ المسؤولية الدولية للأفراد
ـ سيادة القانون الدولي على القانون الوطني
ـ سقوط الحصانة في الجريمة الدولية
ـ سيادة القانون على أوامر السلطة الوطنية ورئيسها
ـ الحق في محاكمة عادلة
ـ تحديد الجرائم الدولية
ـ مسؤولية الشريك في الجريمة الدولية.

كما لاحظ ألبرت آينشتاين مبكرا، تجنبت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية عن سابق إصرار وتصميم، اعتبار الحرب في حد ذاتها جريمة، وتجنبت أن تتمتع محكمة نورنبرغ بالصفات الدنيا لاستقلال القضاء الجنائي الدولي. فمحكمة نورنبرغ تتمتع بكل الصفات التي تنزع عنها الاستقلالية: هي محكمة استثنائية المسيرة، عسكرية البزة، انتقائية الهدف، محكمة حصرية الانتساب بدول انتصرت في الحرب، كشرط أساسي في بنيتها ووظيفتها.

منطق "عدالة" القوة سيبقى فوق قوة "العدالة" ما دامت "المنظومة العالمية" سائدة على عالمنا، ولهذا وضعنا لهذه المراجعة التاريخية السريعة عنوان "القضاء" Juridiction وليس العدالة الجنائية الدولية، التي تبقى طموحا بشريا غير منجز، ولكي يكون من أهداف نضالنا الحقوقي والقانوني التجاوز الفعلي، لهذه المنظومة التي تسمي كل من يناهض توحشها معسكرا للشر.لذا وبكل بساطة، كان اعتبارها نقطة الانطلاق لبناء ما نسميه "القضاء الجنائي الدولي" تأصيلا لخطيئة أصلية أنجبت وطورت هذا المفهوم في خاصرة الأقوى لا في رحم السيرورة التاريخية لإنجاب عدالة دولية تتمتع باستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية العليا المتمثلة في مجلس الأمن والسلطة "التشريعية" المكونة من جميع أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ويتضح ذلك بجلاء في المواد 39 ـ 43 من ميثاق الأمم المتحدة حيث وحده مجلس الأمن من يقرر "ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان" (مادة 39)، هو الذي "يدعو المتنازعين للأخذ بما يراه ضرورياً أو مستحسناً من تدابير مؤقتة" (مادة 40)، هو الذي "يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء "الأمم المتحدة" تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفا جزئياً أو كليا وقطع العلاقات الدبلوماسية" (مادة 41)، وهو أيضا من يقرر أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به، وجواز أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه (المادة 42). أما باقي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة فعليهم التعهد في سبيل المساهمة في حفظ السلم والأمن الدولي، بأن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن، بناء على طلبه، وطبقاً لاتفاق أو اتفاقات خاصة، ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدولي" (المادة 43).

في اللغة الطبية يمكن ترجمة هذه الأحجية بالقول: مجلس الأمن هو الذي يعطي التشخيص للعلة، ثم يقرر مراحل العلاج، ثم يصل بمداولاته إلى مطالبة الجميع بالقيام بواجبهم لتطبيق الخطة العلاجية التي قررها. أي أن محكمة العدل الدولية في التحليل الأخير، لا يتعدى دورها تقديم تشخيصها الخاص والتعبير عنه، دون أية صلاحيات تسمح لها بالتدخل فيما يسمى "إقامة العدل"L'administration de la Justice  أو المحاسبة Accountability، فهي ليست سلطة قضائية بأي تعريف معاصر للكلمة، لأن القرار النهائي يبقى بيد مجلس الأمن.

وعندما نقول مجلس الأمن، لا نتحدث عن الدول المنتخبة غير الدائمة العضوية، بل عن خمسة أعضاء يتمتع كل واحد منهم بسلطة عليا اسمها سلطة "الفيتو"، هذه السلطة توقف أي مشروع قرار يخالف سياساتها وقراءتها لأي صراع مسلح أو نزاع داخلي أو إقليمي أو دولي.

"الشرعية الدولية" ومجلس الأمن!!

كما يذكر جيمس أ بول في كتابه "في الثعالب والدجاج": "سعى الأعضاء الخمسة دائمًا إلى إبقاء المجلس خارج أي نظام قانوني، وبما يتجاوز أي قيود قد تقيد أيديهم أو تحدد إجراءاتهم مسبقاً. كانت حكومة الولايات المتحدة، التي تشير في كثير من الأحيان إلى "سيادة القانون" وأهمية احترام القانون الدولي، حازمة بشكل خاص في الإصرار على أن المجلس يضع القانون ولكنه غير ملزم بالقانون. كتب جون فوستر دالاس، وهو محامٍ ورجل دولة أمريكي مؤثر، في عام 1950 أن "مجلس الأمن ليس هيئةً تطبق القانون المتفق عليه فقط. إنه قانون في حد ذاته". ومضى دالاس ليقول: "لم يتم وضع مبادئ قانونية لتوجيهه. يمكنه أن يقرر وفقًا لما يعتقد أنه مناسب ".

تثبت ممارسات المجلس رأي دالاس، على الرغم من أنها قد تبدو في ظاهرها غير ذلك. "المجلس يتحدث باستمرار بصوت القانون. يقوم بانتظام بسن القانون، وتفسير القانون، وتطبيق القانون" كما يقول خوسيه ألفاريز José Alvarez. تشير نقاشات المجلس وقراراته أحياناً إلى قواعد القانون الدولي، وأهمية القانون الدولي، وضرورة احترام القانون الدولي. كما يعقد المجلس مناقشات دورية حول "سيادة القانون". في التسعينيات من القرن الماضي أنشأ المجلس عدداً من المؤسسات القانونية الدولية مثل المحاكم الجنائية المتخصصة، ومؤسسات ad hoc  في المكان والموضوع للقضاء الجنائي الدولي استهدفت نزاعات معينة مثل يوغسلافيا السابقة ورواندا وسيراليون...

وقد شكلت هذه المحاكم فرصة استثنائية لتحرير القانون الجنائي الدولي، ولو بشكل جزئي، من سيطرة مجلس الأمن، خاصة منها المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، التي أسهمت في تأصيل فكرة قيام محكمة جنائية دولية ولكن أيضا ضرورة عولمة القضاء الجنائي الدولي وتعزيز دور الاختصاص الجنائي العالمي في القضاء الوطني والإقليمي. وجاء اجتماع روما في 1998 ليشكل نقطة انطلاق جدية لولادة محكمة جنائية دولية.

في هذا المؤتمر الكبير الذي جمع أهم الخبرات القانونية الجنائية لاحت فرصة أمل بولادة جسم قضائي جنائي مستقل، يخرج عن وصاية مجلس الأمن. وما زلنا كجزء من التحالف الدولي لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية نتذكر تلك الأيام الأخيرة السوداء التي وضعت العالم من جديد أمام الأسئلة الأساسية في نشوء محكمة جنائية دولية تشكل نقطة ارتكاز جديدة للعدالة الجنائية الدولية:

ففي الأيام الأخيرة من مؤتمر روما الدبلوماسي في العام 1998، اعترف واضعو الميثاق بالسماح لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالتدخل بشكل إيجابي وسلبي في ممارسة اختصاص المحكمة. في الأساس، وتم منح مجلس الأمن السلطة التقديرية:

(1)  ـ لإحالة الحالات إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق.
(2)  ـ لمطالبة المحكمة بعدم البدء أو المضي قدمًا في التحقيق أو الملاحقة القضائية لمدة اثني عشر شهرًا قابلة للتجديد.

هذه الطريقة التي تم بها تنظيم العلاقة المصممة بين مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية أثارت مخاوف قوية بين العديد من الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية، وما زالت موضوعًا مثارًا لضرورة الإصلاح المؤسسي لهذه العلاقة.

لم يمنع رفض ثلاث دول أعضاء في مجلس الأمن الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، من أن يكون لمجلس الأمن دورًا رئيسًا في سياسات المحكمة من خلال "حقه" في فتح دعاوى قضائية كبرى وإيقاف أخرى. وعندما باشرت المحكمة الجنائية الدولية ولايتها في عام 2002، طالبت الولايات المتحدة المجلس بمنح حصانة شاملة تحول دون إحالة أفراد حفظ السلام الذين ينحدرون من دول ليست أطرافاً في المحكمة (الولايات المتحدة ليست طرفاً كذلك روسيا والصين)، وقد اشتكت الولايات المتحدة من أن المحكمة الجديدة ستخضع المواطنين الأمريكيين للعدالة الدولية "ذات الدوافع السياسية". وهددت واشنطن باستخدام حق النقض (الفيتو) لمنع جميع بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إذا لم يصوت مجلس الأمن على حمايتها من أية محاكمة محتملة. وافق مجلس الأمن على طلب الابتزاز هذا واعتمد قراراً في يوليو/تموز 2002، يمنح حصانة شاملة لمدة اثني عشر شهراً (القرار 1422/2002). شعر العديد من أعضاء المجلس بالإهانة من التهديد الأمريكي، الأمر الذي لم يمنع صدور القرار بالإجماع.

استخدمت الولايات المتحدة مرة أخرى تهديدها بسلطة "الفيتو" وجددت بنجاح ترتيب الحصانة بعد عام. إلا أن فضائح تعذيب الإدارة الأمريكية للمعتقلين في العراق وخليج غوانتانامو وأفغانستان، والتسليم الأمريكي السري للسجناء، وغيرها من الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة تجاه معايير العدالة الدولية أضعفت موقف واشنطن. تراجعت الولايات المتحدة، وتخلت عن الأمر بالكامل في عام 2007.

كان لتفعيل الاختصاص الجنائي العالمي وملاحقة وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد في بلدين أوربيين بتهمة ترخيص التعذيب، دورا هاما في إدخال المواثيق الدولية لحقوق الإنسان طرفا في موضوع الملاحقة القضائية والمحاسبة. إلا أن المحكمة الجنائية الدولية بقيت أضعف من ميثاق روما، ولم تتجرأ على الخوض في أي معركة، مباشرة أو غير مباشرة مع مجلس الأمن. إلى أن وقعت المواجهة الأولى في قبول عضوية دولة فلسطين بعد ست سنوات من الممانعة، والثانية في فتح ملف جرائم الحرب في أفغانستان الذي كان سببا للمواجهة المفتوحة بين الرئيس الأمريكي السابق والمحكمة الجنائية الدولية.

استخدمت الولايات المتحدة مرة أخرى تهديدها بسلطة "الفيتو" وجددت بنجاح ترتيب الحصانة بعد عام. إلا أن فضائح تعذيب الإدارة الأمريكية للمعتقلين في العراق وخليج غوانتانامو وأفغانستان، والتسليم الأمريكي السري للسجناء، وغيرها من الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة تجاه معايير العدالة الدولية أضعفت موقف واشنطن. تراجعت الولايات المتحدة، وتخلت عن الأمر بالكامل في عام 2007.أصدر دونالد ترامب في يونيو/ حزيران 2020، أمرًا تنفيذيًا يسمح للولايات المتحدة بحجز أصول من أسماهم "محكمة الكونجورو" من موظفي المحكمة الجنائية الدولية، ومنعهم وعائلاتهم من الدرجة الأولى من دخول البلاد. وفي سبتمبر/ أيلول 2020، قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو؛ سيتم فرض عقوبات على فاتو بنسودا (المدعية العامة وقتئذ) وعلى مسؤول كبير آخر في المحكمة الجنائية الدولية، فاكيسو موتشوتشوكو بموجب الأمر، مضيفًا أن أولئك الذين "يدعمون هؤلاء الأفراد ماليًا معرضون أيضًا للعقوبات".

وصلت الرسالة، وتحدد سقف المحكمة الجنائية الدولية، وصار من الضروري أن يعرف "المدعي العام" السقف المسموح له به. وعبأت بريطانيا لاختيار مدعي عام جديد للمحكمة الجنائية الدولية يعرف جيدًا الخطوط الحمراء في وظيفته! ولكنه أيضا يعرف أن هذه الهيئة القضائية مهمة وضرورية في مرحلة تراجع العولمة وولادة عالم متعدد الأقطاب كانت الحرب الروسية الأوكرانية أولى تعبيراته الحادة.

 باختصار، لم يحدث أي إصلاح أو تغيير في دور مجلس الأمن كمالك للقرار النهائي في تحديد مسارات "إقامة العدل" على الصعيد الدولي. ورغم كل الحديث عن القانون، فإن لغة قرارات المجلس تتبع أنماط التشريع الشكلية. تحتوي جميع قراراته على مقدمات مطولة مليئة بأسباب اتخاذ الإجراءات والإشارات إلى إجراء سابق من المجلس بشأن نفس الموضوع، لإعطاء مظهر سطحي لقرارات صادرة عن محكمة. في الواقع، لا توجد فعلياً إشارات إلى سوابق في القانون الدولي أو العرف بل حتى سوابق في عمل المجلس خارج الحالة المحددة وموضوع النزاع. لا يعترف سادة المجلس بالقوة المسبوقة، ناهيك عن أية سلطة قانونية خارجية. لم يجد مجلس الأمن أبداً أنه من الضروري تحديد" قاعدة قانونية" دقيقة لقراراته"، واختار بدلاً من ذلك "نهجاً أوسع لسلطاته القانونية". فهو لا يتصرف كما لو كان ملزماً بالقانون - حتى بقانون إنشائه. وتبذل الدول الخمس قصارى جهدها لتجنب القيود القانونية على أفعالها، وقد نجحت تقريباً في القيام بذلك. على هذا النحو، يقوض المجلس نظام القانون الدولي العرفي ومسلمات ميثاق روما ويخلق بين الأمم والعامة حالة عدم ثقة بالقانون.

تبعية محكمة العدل الدولية لأوليغارشية مجلس الأمن

باعتباره صاحب القرار في تشخيص العلة الجنائية، فهو بحاجة إلى مراعاة الحد الأدنى لآراء واستشارات محكمة العدل الدولية، الجهاز القضائي الرئيس للأمم المتحدة. باعتبار هذه المحكمة مخولة بالفصل في الخلافات الدولية، التي ترفعها إليها الدول، ويتداخل اختصاصها بشكل كبير مع مجلس الأمن. في الواقع، يقترح الميثاق أن على أطراف النزاعات النظر في حلها بالوسائل القانونية، ويقترح كذلك أن القضايا المناسبة يجب أن يحيلها الأطراف إلى المحكمة، قبل اللجوء إلى المجلس (مادة 33).

كما يقترح الميثاق أن يشجع المجلس الأطراف على أخذ نزاعاتهم إلى المحكمة (مادة 36). أخيراً، ينص الميثاق على أن يطلب مجلس الأمن رأياً استشارياً من المحكمة حول الإشكاليات القانونية التي تنشأ في عمل المجلس (مادة 96). من الناحية المثالية، إذن، يجب أن تعمل المؤسستان معاً كأقران، يكملان ويعززان بعضهما البعض. أما في واقع الأمر، فإن العلاقة مختلفة تماماً. كان المجلس، بقيادة الدول الخمس دائمة العضوية، غيوراً جداً على صلاحياته لدرجة أنه قلل من أهمية المحكمة، وحافظ دائماً على السيادة للمجلس في تشكيل القانون الدولي. رفض المجلس إعطاء دور للمحكمة كشريك في صنع السلام، وسعى للضغط عليها والتأثير عليها بعدة طرق. ومما أدى إلى تفاقم العلاقة الصعبة، أن الدول الخمس دائمة العضوية جعلت ميزانية المحكمة أدنى بكثير من احتياجاتها.

باختصار، يقدم لنا مجلس الأمن مجموعة مقلقة من اجتزاء القانون الدولي، تجنب هذا القانون، وخرق القانون. لا يمكن للمجلس أن يعمل على الإطلاق إذا لم يقنع العالم بأنه يتصرف إلى حد كبير في إطار القانون والاتساق القانوني. ومع ذلك، فمن الناحية العملية، بموجب قاعدة الدول الخمس دائمة العضوية، فإنه يرفض عملية الشرعية المتسقة التي تُعتبر ضرورية للحوكمة الشرعية الشاملة. مع النطاق الهائل من النشاط اليوم والمطالبة الواسعة بالسلطة، يبدو مجلس الأمن أكثر شذوذاً واستبداداً باعتباره "قانوناً في حد ذاته". أي حجر العثرة الأساسي في تقدم العدالة الجنائية الدولية، وبقاء قانون "القوة" فوق قوة "القانون".

نهاية حقبة!

سجلت حروب التحرير الوطنية من الاستعمار الغربي أكبر اختراق في المنظومة العالمية عبر قرارات صدرت عن الجمعية العامة اعتبرت الحق في تقرير المصير حقا ثابتا لكل شعوب الأرض. وجاء العهد الخاص بالحقوق السياسية والمدنية والعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ليثبتا في المادة الأولى المشتركة فيهما هذا الحق:

1 ـ لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهى بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

2 ـ لجميع الشعوب، سعيا وراء أهدافها الخاصة، التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية دونما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي. ولا يجوز في أية حال حرمان أي شعب من أسباب عيشه الخاصة.

3 ـ على الدول الأطراف في هذا العهد، بما فيها الدول التي تقع على عاتقها مسئولية إدارة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والأقاليم المشمولة بالوصاية أن تعمل على تحقيق حق تقرير المصير وأن تحترم هذا الحق، وفقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.

هل أصبحت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بعد دخول العهدين الدوليين حيز التنفيذ، جزءا لا يتجزأ من القانون الجنائي الدولي في عملية الانتقال من إعلان أخلاقي غير ملزم (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) إلى وثائق ملزمة لكل من صدّق عليها؟ وهل صار بالإمكان فعلا مواجهة عنجهية القوة بقوة العدالة، خاصة وأن الثمانينيات شهدت ولادة أول اتفاقية دولية لمناهضة التعذيب تقر بواجب كل الدول الموقعة عليها، في ملاحقة ومحاسبة من يرتكب انتهاكات جسيمة تنال سلامة النفس والجسد؟

هنا يطرح السؤال الأكثر مرارة: هل يمكن لمن يمسك بالمفاتيح الأهم للسيطرة والهيمنة أن يقبل بأي قانون ينتزع منه امتيازاته باسم العدالة والسلم وحقوق الإنسان؟

لم نكن من السذاجة لنعتقد بأن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تقبل أو تخضع لنواظم تمس بهيمنتها العولمية من أجل عيون حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو أي شعار أو مبادئ لا تخدم مصالحها بالمعنى المباشر. وقد شهدت بأم عيني مختلف أشكال المقاومة الأمريكية لأي خروج من هذه الهيمنة من سراييفو والكوسوفو إلى العراق وأفغانستان وفلسطين، باسم الدفاع عن الديمقراطية هنا والقضاء على الدكتاتورية أو الإرهاب هناك. الولايات المتحدة لم تصدّق حتى اليوم على كل ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وقفت بصفاقة ضد كل قرار أو ميثاق يتعلق بالتمييز العنصري ونزع الاستعمار وحق التنمية أو حقوق المهاجرين. وهي مع الحكومة الإسرائيلية، أول كيانين موقعين على اتفاقية مناهضة التعذيب صدر فيهما قرارات تسمح بممارسة التعذيب.

لم ترفض الولايات المتحدة فقط ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية بل وقعت أكثر من 63 اتفاقية ثنائية مع دول عضو في المحكمة الجنائية تمنع فيها هذه الدول من القيام بأي ملاحقة قضائية لمن يحمل الجنسية الأمريكية. وقد جمدت وأوقفت منذ إعلانها "الحرب على الإرهاب" أي تقدم يهدف لإصلاح الأمم المتحدة. واعتبرت العقوبات الأحادية الجانب سلاح حرب مع أية دولة تختلف مع سياساتها. في حين كانت المصدر الأول للسلاح والمال لدول معتدية، اليوم، الجميع يعرف ويرى أنه دون الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي المباشر للأبارتايد الإسرائيلي، لم يكن بوسع الاحتلال الصهيوني الاستمرار في الإبادة الجماعية لشعب فلسطين. ومع كل هذا يستقبل بنيامين نتنياهو استقبال الأبطال في الكونغرس الأمريكي. كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأكثر صراحة في التعبير عن السياسة الأمريكية التي لم يتغير فيها شئ يذكر عندما قرر إعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل والجولان جزء لا يتجزأ منها واعتبر كل قرارات الأمم المتحدة فاشلة ولا قيمة لها. وعشنا وسمعنا معظم أقواله على لسان بايدن- بلينكن بشكل مقزز.

لقد وضعت المواجهة المفتوحة التي خاضتها جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، كل النقاط على الحروف: إلى أي حد يمكن من داخل المنظومة القضائية الدولية الحالية فتح آفاق مستقبلية للمقاضاة عبر "الاتفاقيات الدولية" التي تشكل جزءا لا يتجزأ من منظومة المحاسبة خارج مجلس الأمن، (عبر ما يسمى احترام هذه الاتفاقيات من الدول الموقعة والمصدقة عليها)؟ فقد بينت بوضوح المعسكر الطامح لتعزيز وتقوية القانون الجنائي الدولي وذاك الذي لم يتوقف عن ضربها؟ وما زالت أرداف المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ترتجف عند الحديث عن المحاسبة في كل ما يتعلق بآخر نظام أبارتايد على سطح البسيطة، فلن تنال هذه المحكمة ثقة أية ضحية من ضحايا الإبادة الجماعية التي نعيشها منذ قرابة العام.

خلاصة الأمر، أن منطق "عدالة" القوة سيبقى فوق قوة "العدالة" ما دامت "المنظومة العالمية" سائدة على عالمنا، ولهذا وضعنا لهذه المراجعة التاريخية السريعة عنوان "القضاء" Juridiction  وليس العدالة الجنائية الدولية، التي تبقى طموحا بشريا غير منجز، ولكي يكون من أهداف نضالنا الحقوقي والقانوني التجاوز الفعلي، لهذه المنظومة التي تسمي كل من يناهض توحشها معسكرا للشر.

*مفكر وناشط حقوقي

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير العالمية رأي الجنائية الدولية العالم الجنائية الدولية رأي مكانة سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المحکمة الجنائیة الدولیة للمحکمة الجنائیة الدولیة السلم والأمن الدولی محکمة العدل الدولیة فی المحکمة الجنائیة الولایات المتحدة القانون الدولی للأمم المتحدة الأمم المتحدة سیادة القانون الدول الخمس مجلس الأمن من الدول فی عام

إقرأ أيضاً:

2.2 مليار شخص يعانون نقص المياه النظيفة.. الأمم المتحدة تحذر: ذوبان الأنهار الجليدية يهدد الأمن المائي العالمي.. والبنك الدولي: 273 ألف حالة وفاة للأطفال سنويًا بسبب سوء الخدمات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يحتفل العالم في 22 مارس من كل عام باليوم العالمي للمياه الذي تنظمه الأمم المتحدة منذ عام 1993، والذي يهدف إلى تسليط الضوء على أهمية المياه وضرورة الحفاظ عليها، وبرز اقتراح إقامة احتفال سنوي يركز على أهمية المياه خلال مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية (UNCED) في ريو دي جانيرو عام 1992.

وفي هذا الاجتماع، أُقر بضرورة تسليط الضوء على أهمية هذا المورد الطبيعي القيم، وفي العام نفسه، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 22 مارس من كل عام يومًا عالميًا للمياه، ولكل عام من الأعوام موضوع خاص، وفي عام 2025، يركز الموضوع الخاص لهذا اليوم على "الحفاظ على الأنهار الجليدية"، وهو موضوع بالغ الأهمية في ظل التحديات البيئية الراهنة، فالأنهار الجليدية تشكل مصدراً حيوياً للمياه العذبة، حيث يعتمد عليها لتلبية احتياجات الشرب والزراعة والصناعة، بالإضافة إلى توفير الطاقة النظيفة ودعم النظم الإيكولوجية الصحية، وتعتبر الأنهار الجليدية أحد أكبر خزانات المياه العذبة على كوكب الأرض، حيث يقدر أن حوالي 70% من المياه العذبة على سطح الأرض موجودة في شكل ثلج وجليد، ووفقاً للأمم المتحدة، يعتمد نحو ملياري شخص في مختلف أنحاء العالم على المياه الناتجة من ذوبان الأنهار الجليدية والثلوج، بما في ذلك استخدامها في الشرب، والري الزراعي، وكذلك في توليد الطاقة، ولكن للأسف، فإن ذوبان الأنهار الجليدية بوتيرة متسارعة يهدد هذه المصادر الحيوية، إذ تتزايد المخاوف من تداعيات هذا الذوبان السريع على تدفقات المياه، حيث يؤدي إلى حالة من عدم اليقين بشأن توافر المياه في المستقبل، وهذه التغيرات تؤثر بشكل مباشر على المجتمعات المحلية التي تعتمد على الأنهار الجليدية لتلبية احتياجاتها اليومية، وتزيد من الضغط على النظم البيئية والموارد الطبيعية، وفي عام 2023، فقدت الأنهار الجليدية أكثر من 600 جيجا طن من المياه، وهي أكبر خسارة مسجلة منذ 50 عاماً، مما يعكس تدهوراً كبيراً في المخزون المائي العالمي.

مواجهة الأزمة 

ومن أجل مواجهة هذه الأزمة المتفاقمة، أوصت الأمم المتحدة باتخاذ إجراءات عاجلة على المستويين المحلي والعالمي، من خلال تقليل انبعاثات الكربون وتنفيذ استراتيجيات للتكيف مع هذه الظاهرة، يمكننا تقليل تأثير ذوبان الأنهار الجليدية، ويعد احتفال العالم في 22 مارس من كل عام باليوم العالمي للمياه، وهو مناسبة تهدف إلى تسليط الضوء على أهمية المياه في حياتنا، وأهمية الحفاظ على هذا المورد الحيوي، فالمياه هي أساس الحياة، ولا يمكن للإنسان والحيوانات والنباتات العيش بدونها، ولكن في ظل تزايد التحديات البيئية والاقتصادية والاجتماعية، أصبحت المياه من أبرز القضايا التي تواجه العالم في الوقت الحاضر، فنحن نعيش في عالم يعاني فيه أكثر من 2.2 مليار شخص من نقص في المياه النظيفة، ويواجه فيه العديد من الدول مشاكل كبيرة في توفير هذا المورد الحيوي لمواطنيها، ويتزايد الضغط على الموارد المائية بسبب النمو السكاني السريع، وتغير المناخ، والتلوث، وزيادة الطلب على المياه لأغراض الزراعة والصناعة، مما يجعل اليوم العالمي للمياه فرصة لتذكير الجميع بأهمية اتخاذ خطوات حاسمة لحل أزمة المياه، وضمان توفر هذا المورد للأجيال القادمة، من أجل ذلك تحرص "البوابة" علي أن تدق ناقوس الخطر بمناسبة يومها العالمي، فالمياه لها دور حيوي في الحفاظ على التوازن البيئي، فهي أساس الحياة في البحار والمحيطات، وتساعد على نمو النباتات والغطاء النباتي الذي يعتمد عليه الكائنات الحية الأخرى، لذلك فإن وجود مياه نظيفة وموارد مائية متجددة يمثل شرطًا أساسيًا لاستمرار الحياة على كوكب الأرض، فهي عنصر أساسي لكل جانب من جوانب الحياة البشرية.

وأصبحت أزمة المياه أحد أبرز التحديات التي تواجهها البشرية في العصر الحديث، ووفقًا للتقارير الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى، يعاني أكثر من 2.2 مليار شخص حول العالم من نقص في المياه النظيفة، ويعيش حوالي 4 مليارات شخص في مناطق تواجه صعوبة في الحصول على المياه خلال فترات معينة من العام، وتواجه العديد من المناطق في العالم نقصًا شديدًا في المياه نتيجة لعدة عوامل، أبرزها تغير المناخ، الذي يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة، وتغير أنماط الأمطار، مما يساهم في زيادة حدة الجفاف، فالنمو السكاني السريع يضاعف الطلب على المياه، مما يضغط على الموارد المائية المتاحة.

وتشير الدراسات إلى أن هناك العديد من الأسباب التي تساهم في ندرة المياه، ومنها النمو السكاني وتغير المناخ والتلوث المائي، وسوء إدارة الموارد المائية، مع زيادة عدد سكان العالم، يرتفع الطلب على المياه بشكل كبير، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عدد سكان العالم قد يصل إلى حوالي 9.7 مليار نسمة بحلول عام 2050، ما يعني زيادة هائلة في الطلب على المياه، وفي البلدان النامية، يزداد الطلب على المياه بشكل أكبر بسبب النمو السكاني السريع والتحضر.
ويعتبر تغير المناخ أحد الأسباب الرئيسية التي تساهم في ندرة المياه، مع زيادة درجة حرارة الأرض، تصبح فترات الجفاف أكثر شدة، بينما تتعرض بعض المناطق لفيضانات مدمرة، وهذا التغير يؤدي إلى انخفاض توفر المياه في بعض المناطق وارتفاعها في مناطق أخرى. كما أن تقلبات هطول الأمطار تؤثر بشكل كبير على الموارد المائية في الكثير من الدول.
كما يعد التلوث المائي من أكبر التحديات التي تواجه موارد المياه في العالم، فيتسبب التلوث الناتج عن الصرف الصحي، والمخلفات الصناعية، والمواد الكيميائية السامة، في تدمير المياه الجوفية والسطحية، مما يجعلها غير صالحة للاستخدام، ويؤثر تلوث المياه على الصحة العامة ويزيد من عدد الأمراض المنقولة عن طريق المياه مثل الكوليرا والدوسنتاريا، أما سوء إدارة الموارد المائية فهو عامل رئيسي آخر يساهم في ندرة المياه في بعض الدول، حيث تشير عدد من الدراسات الي تفتقر الحكومات إلى الاستراتيجيات الفعالة لإدارة المياه، مما يؤدي إلى هدر الموارد المائية وتدمير البيئة، إضافة إلى ذلك، فإن عدم توفر البنية التحتية المناسبة لنقل وتنقية المياه يزيد من حدة المشكلة.

تأثير ندرة المياه

ندرة المياه تؤثر بشكل مباشر على جميع جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ففي المناطق التي تعاني من نقص المياه، تجد الأسر نفسها مضطرة إلى دفع مبالغ طائلة للحصول على مياه صالحة للشرب، كما أن قلة المياه تؤثر بشكل سلبي على القطاع الزراعي، مما يؤدي إلى انخفاض الإنتاج الزراعي وارتفاع أسعار الغذاء، ويزداد الوضع سوءًا في المناطق الريفية التي تعتمد على المياه الجوفية التي تتناقص بسرعة، من ناحية أخرى، فإن تلوث المياه يتسبب في انتشار الأمراض، ويؤدي إلى زيادة معدلات الوفيات في بعض البلدان النامية، وأن الأطفال هم الفئة الأكثر تأثرًا بهذا الوضع، ووفقًا لتقرير نشره خبراء البنك الدولي على مدونات البنك، أن طفلا دون سن الخامسة يموت تقريبًا كل 100 ثانية بسبب أمراض مرتبطة بالإسهال الناتجة عن سوء خدمات المياه والصرف الصحي، ويعني هذا أن هناك 273 ألف حالة وفاة للأطفال يمكن الوقاية منها سنويًا، وندرة المياه لا تؤثر فقط على الإنسان، بل تمتد تأثيراتها أيضًا إلى البيئة، فإحدى أبرز المشاكل البيئية الناجمة عن نقص المياه هي تدمير الأنظمة البيئية البحرية والنهرية، فالكائنات البحرية والنباتات تعتمد بشكل أساسي على المياه النظيفة للبقاء على قيد الحياة، وعندما تتلوث الأنهار والبحيرات أو تصبح غير متوفرة، تتدهور هذه النظم البيئية مما يؤدي إلى فقدان التنوع البيولوجي.

وتتعدد الحلول التي يمكن أن تساعد في تخفيف حدة أزمة المياه، وأبرز هذه الحلول تشمل، تحسين كفاءة استخدام المياه، فمن خلال تحسين كفاءة استخدام المياه في كافة القطاعات، يمكن تقليل استهلاك المياه، ففي الزراعة، يمكن استخدام تقنيات الري الحديثة مثل الري بالتنقيط الذي يستهلك كمية أقل من المياه، وفي الصناعة، يمكن تحسين أساليب المعالجة وإعادة تدوير المياه لتقليل الفاقد، وكذلك تحلية المياه فتعد تقنيات تحلية المياه واحدة من أبرز الحلول المتاحة لتحسين الوصول إلى المياه في المناطق الساحلية، باستخدام تقنيات مثل التناضح العكسي، يمكن تحويل المياه المالحة إلى مياه صالحة للشرب، وعلى الرغم من أن هذه التقنيات تتطلب استثمارات كبيرة، إلا أنها يمكن أن تسهم بشكل كبير في حل مشكلة نقص المياه في المناطق التي لا يوجد بها مصادر مياه عذبة.

ومن بين الحلول أيضاً إعادة استخدام المياه الرمادية والتي تشمل المياه الناتجة عن الاستحمام والغسيل، هي طريقة مبتكرة لتحسين استخدام المياه، يمكن استخدام هذه المياه لري الحدائق والمسطحات الخضراء، مما يساعد في تقليل الضغط على مصادر المياه النظيفة، وكذلك إدارة مستدامة للموارد المائية فمن الضروري تحسين إدارة الموارد المائية من خلال التخطيط الفعال والمراقبة المستمرة، ويجب أن تكون هناك استراتيجيات لتقليل الفاقد من المياه، وتحقيق توزيع عادل بين مختلف الاستخدامات، مع ضمان توفير المياه لجميع الفئات المجتمعية.

وأحد أبرز الوسائل لمواجهة أزمة المياه هو تعزيز الوعي العام حول أهمية المياه وطرق الحفاظ عليها، ويجب أن يبدأ التعليم من المراحل المبكرة في المدارس، من خلال تعليم الأطفال كيفية ترشيد استخدام المياه، وأهمية الحفاظ على هذا المورد الحيوي، كما يجب أن تكون هناك حملات توعية جماهيرية تهدف إلى تغيير سلوكيات الأفراد وتعزيز ثقافة الحفاظ على المياه في المجتمعات.

إعادة التوزيع 

وفي ظل التحديات الكبرى التي يواجهها العالم بسبب ندرة المياه، لا سيما مع تفاقم الأزمات البيئية والتغيرات المناخية، يقول الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، إن المياه العذبة تشكل نحو 2.5% من إجمالى المياه على سطح الأرض، أكثر من 70% منها يوجد على هيئة جليد فى المناطق القطبية، و29% مياه جوفية تحتاج إلى إمكانيات مادية لحفر الآبار، وتشكل مياه البحيرات والأنهار المتاحة جزءًا قليلًا للغاية أقل من 0.0071%، وطبقا لتقديرات الأمم المتحدة يحتاج الإنسان إلى نحو 1000 متر مكعب سنويا، ورغم قلة المياه العذبة بالنسبة للمياه المالحة إلا أنها بالنسبة لعدد سكان الأرض فإنها تكفى 7 أضعاف العدد الحالى (أكثر من 8 مليارات نسمة)، وبالتالى ليس صحيحا أن العالم يعانى أزمة مائية على سطح الأرض.
وأضاف شراقي في تصريحات خاصة لـ"البوابة نيوز"، أنه لا توجد أزمة ندرة المياه على وسط الأرض، ولكن المشكلة الرئيسية فى التوزيع غير المتساوى للمياه العذبة، حيث توجد أماكن غارقة فى المياه، وأخرى صحراء جرداء، وتبلغ نسبة المياه المستغلة من الأنهار حوالى 10% فقط، والباقى يصب فى البحار والمحيطات دون استغلال حقيقى، ويرجع ذلك لأن كثيرا من الدول الغنية مائيا فقيرة اقتصاديا ولاتستطيع استغلال كامل المياه سواء فى الزراعة أو إنتاج الكهرباء المائية.

وأكد شراقي، أن كثيرا من الدول صحراوية مثل معظم الدول العربية، تعاني من فجوة مائية، فهى محدودة المصادر المائية وتعانى من الشح المائى، وللمفارقة فإن الدول الغنية مائيا مثل الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان وإثيوبيا هى الأكثر فقرًا ونقصًا للغذاء لعدم القدرة على الاستفادة من مواردها المائية.

وذكر شراقي، أن مشكلة نقص المياه فى كثير من الدول الصحراوية تتفاقم بثبات كمية المياه المتاحة مع زيادة عدد السكان، حيث يبلغ نصيب الفرد فى دول الخليج على سبيل المثال أقل من 100 متر مكعب سنويا، ومعظم باقى الدول العربية تعانى الفقر المائى أقل من 500 متر مكعب للفرد سنويا، ويتناقص نصيب الفرد نتيجة الزيادة السكانية والعديد من العوامل الأخرى.

وأكد شراقي، أن التحديات المائية التى تواجه الدول النامية تتعدد لزيادة الطلب عليها مع ارتفاع مستوى المعيشة، والتوسع العمرانى وزيادة النشاط الزراعى والصناعى، وبعض التقلبات المناخية من ارتفاع فى درجة الحرارة وزيادة البخر، وزيادة التلوث للمياه السطحية والجوفية، وانخفاض منسوب المياه الجوفية والتى معظمها غير متجددة، والإدارة غير الرشيدة لاستخدامات المياه سواء فى طرق الزراعة أو الرى أو استخدام المحاصيل المناسبة، والتوتر بين دول المنابع ودول المصب فى أحواض الأنهار المشتركة كما هو الحال فى حوض النيل بين مصر والسودان من جهة كدول مصب، وإثيوبيا من جهة أخرى كدولة منبع.

وأوضح شراقي أن التكنولوجيا الحديثة تساعد فى زيادة كفاءة استخدام المياه المتاحة من حيث تطوير النظم الزراعية ونظم الرى الحديثة التى تؤدى إلى زيادة الانتاجية، والتوسع الأفقى فى المساحات الزراعية، وخفض الفجوة الغذائية نتيجة استنباط أصناف زراعية جديدة موفرة للمياه وذات إنتاجية مرتفعة وعائد اقتصادى أكبر.  

وأوضح شراقي، أن نقص المياه مع زيادة عدد السكان يؤدى إلى زيادة الفجوة الغذائية فى كثير من الدول النامية خاصة مع زيادة التقلبات المناخية، والحروب والصراعات فى العديد من المناطق مما يؤثر على سلاسل الإمداد الغذائية، وزيادة التضخم الاقتصادى، وندرة المياه تؤدى إلى نقص الغذاء مما يؤثر على الأمن القومى للدول نتيجة أزمة الغذاء وتعرض السلام الاجتماعى للخطر.

وعن كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يتعاون لتطوير حلول مشتركة لمشكلة ندرة المياه وهل هناك مبادرات أو مشاريع دولية تهدف إلى ذلك، قال شراقي، إن التغلب على مشاكل عدم توزيع المياه على سطح الأرض، وعدم قدرة الدول الفقيرة اقتصاديا على استغلال مواردها المائية يجب أن يدفع الدول الغنية للتعاون لإقامة مشروعات مائية لزيادة كفاءة استخدام المياه فى الزراعة وإنتاج الكهرباء لزيادة التصنيع الزراعى وحفظ الأغذية، كما ان الاتفاقيات المائية لدول الأحواض النهرية المشتركة يساعد على حسن إدارة المياه والاستخدام العادل والمنصف.  

وأردف شراقي، أن استخدام التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعى يساعد على زيادة التنبؤ بحالة الأمطار، والاستفادة منها وتطوير نظم الزراعة والرى، وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعى مرتين وثلاثة بعد المعالجة المطلبة، وترشيد استخدام المياه الجوفية، وتحلية مياه البحر لتوفير المياه مع التوسع السكانى فى المدن الساحلية، وزيادة النشاط الصناعى، والتعاون المائى والزراعى مع الدول الغنية مائيا.    

وقال شراقي، إن الإدارة الجيدة للموارد المائية من أهم الحلول للتغلب على الشح المائى فى بعض الدول لرفع كفاءة الاستخدامات المائية، حيث يمكن وضع القوانين التى تنظم الاستخدامات المائية والحفاظ عليها، واختيار المحاصيل المناسبة، والتشجيع على استخدام نظم الرى والزراعة الحديثة، وتوفير الارشادات الزراعية، والتشجيع على التصنيع الزراعى، وتصدير الانتاج الزراعى بعد تصنيعه لزيادة القيمة المضافة، واختيار المحاصيل ذات الاحتياجات المائية الأقل، والانتاجية العالية والعائد المرتفع، مع تعظيم قيمة المياه الافتراضية، والمحافظة على المياه من التلوث، والتعاون مع دول المنابع. 
 وذكر شراقي، أنه يمكن توعية المجتمعات بأهمية الحفاظ على المياه، وخصوصًا في البلدان التي تعاني من مشاكل في توفر المياه، عن طريق ترشيد استخدام المياه خاصة فى المجال الزراعى، وزيادة التوعية فى المدارس ودور العبادة، ووسائل الاعلام المختلفة، وإعادة دور الإرشاد الزراعى، والاهتمام بالبنية التحتية لمياه الرى ومياه الشرب. وتابع  شراقي، إن هناك حاجة لتطوير نظم ري أكثر كفاءة حول العالم لمواجهة الطلب المتزايد على المياه، عن طريق استخدام نظم الرى الحديثة ضرورى فى المناطق الرملية، وتحسين شبكات الرى، واستخدام التكنولوجيا الحديثة من أقمار صناعية ومسيرات وأجهزة، واستخدام الصوب الزراعية لزيادة الانتاج بأقل كمية مياه.  
 وأكد  شراقي  إن المياه العذبة متوفرة على سطح الأرض بكميات كبيرة نسبة إلى عدد السكان، ويمكن توفرها بشرط أن تتعاون الدول الغنية مع الدول المائية الفقيرة للاستفادة من المياه المتاحة، وحل المشاكل بين دول المنابع ودول المصب فى أحواض الأنهار المشتركة والتى تغطى 50% من سطج اليابس ويعيش عليها أكثر من نصف سكان الأرض، ويجب أن تقوم الأمم المتحدة بدور فعال عن طريق إنشاء منظمة جديدة مثل مجلس الأمن واليونسكو بغرض وضع الخطط المناسبة لإقامة المشروعات المائية الكبرى على الأنهار العالمية للاستفادة من مياه الأنهار التى تصب فى البحار والتى تصل نسبتها إلى أكثر من 90% وحل النزاعات بعد أن تخلى مجلس الأمن عن حل المشاكل المائية التى تهم أكثر من 4 مليارات نسمة.

أزمة مناخية 

وفي السياق ذاته قال محمد خليفة، باحث إقليمي بالمعهد الدولي لإدارة المياه (IWMI)، إن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعيشان أزمة مناخية غير مسبوقة، تتأرجح فيها بين موجات جفاف قاسية وفيضانات مدمّرة، وبينما تنضب موارد المياه وتشتد الظواهر المناخية المتطرفة، يجد الملايين أنفسهم في مواجهة مباشرة مع تهديدات متزايدة.

وأضاف خليفة، أن المياه تحولت من نعمة للحياة، إلى مصدر خطر، كما رأينا في انهيار سد درنة في ليبيا وفيضانات السودان ودول الخليج في السنوات القليلة الماضية، في الوقت ذاته الذي تواجه فيه المغرب جفافاً شديدًا ممتداً لسنوات، ومصر ضغوطًا متزايدة على مواردها المائية المحدودة، تعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المنطقة الأكثر معاناة من شح المياه في العالم، مضيفًا أن الجفاف دمر المحاصيل وتسبب في رفع أسعار الغذاء، بينما تشرد الآلاف بسبب الفيضانات فضلاً عن تدمر البنية التحتية. 

وأكد خليفة، أن الحلول لمشاكل المياه لا تكمن في معالجة الجفاف والفيضانات كأزمتين منفصلتين، بل في ضرورة تبني نهج استباقي يعتمد على الإدارة المتكاملة للموارد المائية، وأن التعامل مع الجفاف بوصفه تهديدًا بطيء التشكل، ومع الفيضانات كأزمات مفاجئة، مع فصل بينهما أدى إلى العديد من الفشل في السياسات، وهذا النهج القصير النظر لا يوفر الحماية الشاملة للمواطنين أو النظم البيئية أو البُنى التحتية، وهو ما يجعل من الضروري التفكير في التكامل بين الظاهرتين لمواجهة تحديات المياه المستقبلية.

وأشار خليفة، إلى أن فصل إدارة الجفاف عن الفيضانات كان سببًا رئيسيًا في العديد من الإخفاقات على مستوى السياسات المتعلقة بالمياه، مشيرًا الي أن الجفاف والفيضانات ليسا مشكلتين منفصلتين، بل ظاهرتين مترابطتين، تنشأ كل واحدة منهما بسبب خلل واحد في التوازن المائي، وهذه الأزمة تتطلب مقاربة شاملة ومستدامة لمواجهة المشاكل بدلاً من حلول مرحلية لا تضمن استدامة الموارد المائية.

وشدد خليفة، على أهمية الإدارة المتكاملة للموارد المائية، والتي تعني النظر إلى المياه كمنظومة مترابطة تتطلب تخطيطًا شاملاً للبنى التحتية والسياسات، وأن هذه الإدارة توازن بين تخزين المياه وقت الوفرة، وهو ما يساعد على الحد من مخاطر الفيضانات، واستخدامها بكفاءة في أوقات الشح للتعامل مع فترات الجفاف، وأنه يجب تعزيز استراتيجيات مثل حصاد مياه الأمطار في السدود، وتحسين تغذية المياه الجوفية من خلال الأمطار والسيول، وكذلك تحسين نظم الإنذار المبكر.

وفي سياق الحديث عن تأثير التغير المناخي على المياه، نوه خليفة، لأهمية تبني نهج الإدارة المتكاملة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي تعاني من ندرة المياه، وأن التغير المناخي يتسبب في فترات من الجفاف الشديد، وفي نفس الوقت يعزز من احتمال حدوث الفيضانات المفاجئة، ولذلك، فإن المنطقة بحاجة إلى حلول منسقة لا تعالج الجفاف بمفرده أو الفيضانات بمعزل عن الجفاف، بل إلى حلول شاملة تأخذ في الاعتبار واقع البيئة المحلية والتحديات المستقبلية.

وأكد خليفة، أن المعهد الدولي لإدارة المياه (IWMI) ومراكز الأبحاث الأخرى تلعب دورًا محوريًا في تقديم حلول علمية تستند إلى بيانات الاستشعار عن بعد، ونماذج التنبؤ، وتحليل السياسات المائية، وهذه الأدوات تساهم في تحسين عملية اتخاذ القرارات السياسية والإدارية بشأن إدارة المياه بشكل رشيد، خاصة في ظل الضغوط المتزايدة نتيجة لتغير المناخ والنمو السكاني.

وفي ختام حديثه، دعا خليفة المجتمع الدولي، خاصة في يوم المياه العالمي الذي يحتفل به في 22 مارس من كل عام، إلى اتخاذ إجراءات جادة لحل أزمة المياه، وقال إن المنطقة لم تعد تحتمل المزيد من التراخي؛ فهي إما أن تبقى عطشى أو تغرق، وتطلب هذه الأزمة تتطلب تحركًا فوريًا من الدول والمنظمات العالمية والباحثين والمؤسسات الحكومية لضمان توفير حلول مستدامة وآمنة لمستقبل المياه في العالم.

محمد خليفة - باحث إقليمي بالمعهد الدولي لإدارة المياه (IWMI)

مقالات مشابهة

  • رئيس مجلس القضاء يفتتح نصب حمورابي التذكاري كرمز لسيادة القانون
  • رئيس مجلس القضاء الأعلى يفتتح نصب حمورابي التذكاري كرمز لسيادة القانون
  • العطا .. حديث مؤيد بالقانون الدولي!
  • مجلس الأمن الدولي يناقش الوضع الإنساني والسياسي في سوريا
  • مجلس الأمن الدولي يعقد جلسة حول أوكرانيا في 26 مارس
  • مجلس الأمن القومي الأميركي: نراجع الطريقة التي أُضيف بها صحفي لمجموعة بشأن الحوثيين باليمن
  • صراع سياسي يعطل مجلس نينوى منذ أكثر من عام.. من المسؤول والمتضرر؟
  • 2.2 مليار شخص يعانون نقص المياه النظيفة.. الأمم المتحدة تحذر: ذوبان الأنهار الجليدية يهدد الأمن المائي العالمي.. والبنك الدولي: 273 ألف حالة وفاة للأطفال سنويًا بسبب سوء الخدمات
  • دعوات لتعزيز استقلالية القضاء اللبناني وضمان العدالة لضحايا انفجار بيروت
  • الجامعي: مشروع المسطرة الجنائية صدمة للمجتمع وللمهنيين (+فيديو)