تحصينُ الانتقالِ المدنيِّ والتحوُّلِ الديمقراطيِّ القادمِ في السودان عبر "بَصِيرَة"، "عِزْوَة" و"تَاوِق"

"الديمقراطيةُ الحقيقيةُ لا تعني فقط إلغاءَ الظلمِ، ولكنْ أيضًا ضمانَ أنْ يُسْمَعَ الجميعُ ويُحترم."
مهاتما غاندي

المجتمعُ السودانيُّ هو العمودُ الفقريُّ لقوتِنا الحقيقيةِ. هذا المجتمعُ، بتنوعِه وقوتِه، يتفوقُ في تأثيرِه وأهميتِه على الدولةِ التي كانت، في جلِّ تاريخِها، رمزًا للظلمِ والفسادِ.

لقد مرَّ السودانُ بعقودٍ من القهرِ والاستبدادِ، حيثُ تحولت الدولةُ من حاميةٍ للعدالةِ إلى أداةٍ للقمعِ والظلمِ. في هذا الوضعِ المأساويِّ، يبقى المجتمعُ هو الأملُ الوحيدُ للتغييرِ والتحوُّلِ نحو مستقبلٍ أفضلَ.

لكنَّ التحدياتِ التي نواجهُها اليومَ ليستْ نتيجةَ صراعٍ بين القوى الحديثةِ، مثلِ الأحزابِ السياسيةِ ومنظماتِ المجتمعِ المدنيِّ، وبين القوى التقليديةِ المتمثلةِ في القبائلِ والطرقِ الصوفيةِ والطوائفِ. بل على العكسِ تمامًا، نحن في حاجةٍ ماسةٍ إلى اتحادِ هذه القوى جميعًا. لكلٍّ منها دورٌ فاعلٌ وأساسيٌّ في تحقيقِ الديمقراطيةِ وبناءِ مستقبلٍ يعكسُ تطلعاتِ الشعبِ السودانيِّ. المعركةُ الحقيقيةُ ليستْ بين الحداثةِ والتقليدِ، بل هي بين قوى التغييرِ التي تسعى لتحقيقِ العدالةِ والديمقراطيةِ، وقوى الظلامِ التي تتغذى على الفسادِ والانقساماتِ.

إنَّ قوى الثورةِ المضادةِ والتطرفِ واللاتسامحِ لا تتلاشى بمرورِ الوقتِ. بل على العكسِ، هذه القوى تتغذى على الانقساماتِ، الجهلِ، والخوفِ، وتستغلُّ كلَّ فرصةٍ لزرعِ الفتنةِ بين أفرادِ المجتمعِ. إذا لم نتحركْ الآن، فإنَّنا نخاطرُ بتكرارِ المآسي التي عاشها السودانُ في الماضي، والتي لا تزالُ مستمرةً حتى اليومِ. الحربُ الأهليةُ السودانيةُ الرابعةُ ما زالتْ مشتعلةً، وما زالَ الشعبُ السودانيُّ يعاني من تداعياتِها. هذه الحربُ ليستْ مجردَ صراعٍ مسلحٍ، بل هي معركةٌ من أجلِ بقاءِ السودانِ كدولةٍ موحدةٍ ومستقرةٍ.

لقد دفعَ السودانُ ثمنًا باهظًا لهذه الحروبِ الأهليةِ؛ أرواحٌ فقدتْ، أسرٌ تفككتْ، واقتصادٌ انهارَ. إذا لم نتحركْ الآن لوضعِ حدٍّ لهذا النزيفِ المستمرِ، فإنَّ الانقلاباتَ والحروبَ الأهليةَ ستستمرُّ في تدميرِ ما تبقى من هذا الوطنِ. المستقبلُ يبدو قاتمًا إذا لم نبادرْ الآن باتخاذِ خطواتٍ جادةٍ نحو بناءِ دولةٍ ديمقراطيةٍ عادلةٍ ومستقرةٍ.

الديمقراطيةُ والاستقرارُ لن يأتيانِ بالتمني أو بالشعاراتِ الجوفاءِ، بل بالأفعالِ المدروسةِ والخططِ المحكمةِ. إذا لم نبدأْ اليومَ بوضعِ رؤيةٍ واضحةٍ لتحصينِ الانتقالِ المدنيِّ والتحوُّلِ الديمقراطيِّ، فإننا نخاطرُ بالبقاءِ في دوامةِ العنفِ والانقساماتِ.

لهذا السببِ، نحن بحاجةٌ إلى التحركِ الفوريِّ عبرَ تأسيسِ ثلاثِ ركائزَ أساسيةٍ:

1. مركزُ "بَصِيرَة": نحن بحاجةٍ إلى مركزٍ يُعنى بدراسةِ الأوضاعِ السياسيةِ، الاقتصاديةِ، والاجتماعيةِ في السودانِ، ويقدّمُ حلولًا مبتكرةً تعكسُ التنوعَ السودانيَّ وتضعُ أساسًا لدولةٍ تحتضنُ جميعَ مواطنيها. "بَصِيرَة" سيكونُ مركزًا بحثيًا ومنبرًا فكريًا يجمعُ الدراساتَ والرؤى لبناءِ سودانٍ متجددٍ يعززُ الوحدةَ الوطنيةَ.

2. جبهةُ "عِزْوَة": لا يمكنُ لأيِّ مجموعةٍ بمفردها أنْ تواجهَ التحدياتِ الكبرى التي يمرُّ بها السودانُ. نحن بحاجةٍ إلى جبهةٍ موحدةٍ تضمُّ الأحزابَ السياسيةَ، منظماتِ المجتمعِ المدنيِّ، القبائلَ، الطرقَ الصوفيةَ، والطوائفَ. "عِزْوَة" ستكونُ الجبهةَ التي تجمعُ كلَّ هذه القوى من أجلِ تعزيزِ الوحدةِ ومواجهةِ كلِّ محاولاتِ التقسيمِ التي تهددُ استقرارَ البلادِ.

3. هيئةُ رقابةٍ تُسمى "تَاوِق": الديمقراطيةُ تتطلبُ الشفافيةَ، وبدونِ رقابةٍ صارمةٍ، يمكنُ التلاعبُ بالعمليةِ الانتقاليةِ. "تَاوِق" ستكونُ الهيئةَ المستقلةَ التي تراقبُ وتضمنُ أنْ كلَّ خطوةٍ في التحوُّلِ الديمقراطيِّ تتمُّ بشفافيةٍ ونزاهةٍ. لا يمكنُ التسامحُ مع الفسادِ أو التلاعبِ في هذه المرحلةِ الحساسةِ.

علينا أنْ نضعَ أيدينا معًا ونتحركَ نحو العملِ الفعليِّ. الانتقالُ إلى ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ يتطلبُ جهدًا مشتركًا ومثابرةً من الجميعِ. كلما تأخرنا، زادت التحدياتُ وتعقدتْ الأمورُ أكثرَ. التحصينُ الحقيقيُّ لهذا الوطنِ يبدأُ الآن، وهو مسؤوليةٌ جماعيةٌ لا يمكنُ تأجيلُها.

هذه دعوةٌ صادقةٌ ومخلصةٌ لكلِّ أبناءِ وبناتِ السودانِ، لكلِّ الأحزابِ السياسيةِ، القبائلِ، الطرقِ الصوفيةِ، الطوائفِ، وكلِّ منظماتِ المجتمعِ المدنيِّ. إنها دعوةٌ للنفيرِ الوطنيِّ، للعملِ الجماعيِّ، لنهضةٍ حقيقيةٍ تضعُ السودانَ على الطريقِ الصحيحِ.

الهبةُ يجبُ أن تبدأَ الآنَ. لا وقتَ للترددِ أو الانتظارِ. كلُّ يومٍ يمرُّ دونَ أنْ نتحركَ هو فرصةٌ لقوى الفسادِ والانقساماتِ للتغلغلِ أكثرَ في مجتمعنا. تحصينُ السودانِ من الشرورِ لم يعدْ خيارًا بل أصبحَ واجبًا لا يمكنُ الهروبُ منه. هذا الواجبُ يقعُ على كلِّ فردٍ في هذا الوطنِ، لا استثناءَ.

للتواصل:
د. عبد المنعم مختار
moniem.mukhtar@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: لا یمکن ب ص یر ة إذا لم

إقرأ أيضاً:

وفاة “خالد ياجي” إستشاري جراحة التجميل نقيب أطباء السودان السابق

القاهرة- متابعات تاق برس- غيب الموت بروفسير خالد ياجي استاذ جراحة التجميل بكلية الطب جامعة الخرطوم .. رئيس تخصص جراحة التجميل بمجلس التخصصات الطبية، نقيب أطباء السودان السابق والذي ارتحل عن الفانية بالقاهرة.

ونعى أطباء في السودان وسياسيين وأقارب دكتور ياجي الفقيد وعددوا مآثره.

ونعى دكتور أنس البدوي دكتور ياجي وقال ” انعي اليكم ونفسي قامة من قامات الطب في بلادي والعالم اجمع بروفسير خالد ياجي استاذ جراحة التجميل بكلية الطب جامعة الخرطوم .. رئيس تخصص جراحة التجميل بمجلس التخصصات ونقيب الاطباء السابق والذي ارتحل عنا اليوم بالقاهرة .. كان مثالا للطبيب الذي نفتخر به عالما جليلا ووطني مخلصا غيورا وصديقا متواضعا لكل من عرفه وعمل معه احب السودان واحبه السودان وتشاء ظروف الحرب اللعينة ان يدفن بغير ارضه التي احبها وأحبته ولا نقول الا ما يرضي الله ولا حول ولاقوة الا بالله وانا لله وانا اليه راجعون”.

ونعى عمر الدقير رئيس حزب المؤتمر السوداني ،دكتور ياجي وقال ” ‏أزاح بروف خالد ياجي رَهَق الدنيا عن كتفيه ومضى إلى الرحاب السنية عند ربٍّ غفورٍ رحيم .. عَبَر جسر الرحيل الأخير بعد أن قال كلمته عَبْر مسيرٍ حافلٍ بالكدح النبيل والعطاء الجميل في دروب العمل الوطني والمهني، مُدَوِّنا اسمه باستحقاق في سِجِّل الذين لهم “في خدمة الشعب عَرَق”.

كان من الرواد المؤسسين لحزب المؤتمر السوداني – المؤتمر الوطني سابقاً – الذين تعلمنا منهم ومعهم، في أوقات اليسر والعسر، على درب الانتماء للوطن والانحياز لمصالح شعبه.

 

 

كان طبيباً ماهراً في جراحة التجميل، بذل علمه النافع بلسماً للمرضى وتأهيلاً لتلاميذه في قاعات الجامعات .. ولم يصرفه نشاطه العلمي والمهني عن الانخراط في العمل العام والمساهمة – عبر نشاطه النقابي والسياسي – في مقاومة نظم الاستبداد .. كان من ذوي الحضور الساطع خلال انتفاضة أبريل المجيدة التي أطاحت بنظام مايو، ولما أرْخَت سحابة الثلاثين من يونيو ٨٩ سدولها الداكنة على الوطن كان من الناهضين لواجب المقاومة ولم يتزحزح عنه حتي سقوط النظام بثورة ديسمبر المجيدة .. ومرةً أخرى نهض، رغم أثقال السنين، وانخرط في عديد المبادرات لتوحيد القوى الديمقراطية لهزيمة انقلاب ٢٥ أكتوبر واسترداد مسيرة الثورة، وكان ذلك هاجسه بعد الحرب الذميمة حتى وافته المنية.

 

 

نشهد أنه خاض غمار العمل العام صادقاً ونظيفاً وعفيفاً، متجافياً عن الدنايا ومزالق السقوط .. عاش موصولاً بالناس وموطّأ الأكناف، سهل الخليقة وميمون النقيبة، نقي السيرة ومحمود السريرة.

نسأل الله أن يتولاهُ بواسع رحمته ويوسِّع له في مراقد المقربين، وأن يُحسن عزاء أسرته وأصدقائه وتلاميذه وعارفي فضله.

 

المؤتمر السودانيجراحة التجميلخالد ياجي

مقالات مشابهة

  • “واتساب”: شركة تجسس إسرائيلية استهدفت مستخدمين
  • بيان أوروبي: “الأونروا” هي المزود الأساسي للخدمات للاجئين الفلسطينيين ولا يمكن استبدالها
  • وفاة “خالد ياجي” إستشاري جراحة التجميل نقيب أطباء السودان السابق
  • مضوي: “هذه هي المناصب التي نسعى لتدعيمها في الميركاتو الشتوي الجاري”
  • خلافات وصراع داخل “تقدم” حول فك الإرتباط بين مؤيدي ورافضي تشكيل الحكومة
  • المجاعة تنهش السودان حيث “لا طعام ولا دواء ولا أي شيء”
  • بين الوحدة والانقسام: موقف بعض قيادات “تقدم” من حكومة سلام ووحدة مقرها الخرطوم
  • عقدة القوى المسيحية.. هل يمكن حلها؟
  • “اغاثي الملك سلمان” يوزّع 700 كرتون تمر في السودان
  • “هآرتس”: صور الحشود التي تعبر نِتساريم تُحطّم وهم النصر المطلق‎