بعض مما نجيده، وقد نتميز، ونتفنن في انكاره، وفي هذه الاثناء من التطورات الدقيقة من سير الحرب هو عدم الاعتراف بزوال حقبة مهمة من حياة المجتمع المدني او الحضري بالسودان، والذي اتخذ مبنى ثقافته، وتفاصيل مكوناته من اسلوب حياة في العديد من المدن السودانية الكبيرة (المنتهكة)، وفي اولها مكونات العاصمة المثلثة نفسها بما لحق بسكانها من خراب مركب ومعقد.
وكتفسير لذلك يجدر ذكر ان ما نشهده حاليا من عنف عسكري ممنهج لاخوان وبادية متأسلمين بتهجم على البنيات الثقافية وخزينها من آثار، وتذكارات، وباكثر من اعتداء ماكر، لا يعني انهيار المباني فقط، بقدر ما يعني انهيار المعاني. فالانقاذ وبعمل خبيث دائم، مستمر من التنظيم قد اكتشفت، ومنذ بداياتها، ان التناقض بين مشروعها لاقامة السلطة الكاملة يحكمه تناقض بائن مع وجود المدنية، على قلة حيلتها، وعلاقاتها بمشروع حداثوي حقيقي، او حتى محتوى تمظهراتها كتركة هجين بين التطور الثقافي المحلي والكولونيالي، وبانها، اى تلك المدنية الهشة المتضعضعة تشكل حجر عثرة في طريق الحلم الاخواني بان يحكم.
ومن نافل القول وصف ان مؤسسات الطبقة الوسطى بنمط انتاجها الخدمي المتصل ببقايا دولة كولونيالية، ورغم تناقضاتها، وتجاذباتها بين التقليد والحداثة، قد قاومت، ولعقود ما بعد الاستقلال ضربات التنظيم الموجهة المتكررة في سبيل الاطاحة بها، وبحمولاتها من الثقافة السياسية، و الاجتماعية، والفنية، والادبية منذ اطلاق النسخة الاولى من المطالبة بالدستور الاسلامي في نهاية الخمسينيات بالمطالبة التطبيقية لعام 68، حتى تمكن التنظيم من التسلل مخاتلا الى مراكز صناعة القرار في العشرية الثانية من حكومة 25 مايو، ما بعد مصالحة 78، وتدرجه في السيطرة التي دانت له باصدار قوانين سبتمر ٨٣. واذا كانت ثمة حرب صامتة قد صنعت، واستطاعت الانتشار المتدرج. فقوانين سبتمبر كانت قد شكلت المعمل التخصيبي ، والداعم الخفي لتلك الحرب الثقافية والاعلامية الناعمة تارة، والخشنة تارة اخرى للطبقة الطفيلية الاسلاموية الصاعدة، بما انتجته من تشوهات هيكلية ومفاهيمية في الاخلاق الاجتماعية، كما بنية السلطة السياسية، ومعايير وجدوى الحكم لما سيلي من سلطة بعد الانتفاضة ببذر الفتنة والتهشيم لوحدة ما تسمى بالقوى الحديثة عن طريق وضع عصي الدين في عجلة التحول الديمقراطي لاثارة الحساسية الدينية منعا لاي تغيير يرمي لدعم البناء المدني وتطويره، دعك من تجذير ممكن للديمقراطية الثقافية بواسطة القوانين العلمانية، ونشر مفاهيمها التربوية اللازمة لتأسيس الحقبة الجديدة من التطور.
لقد بدا واضحا ومؤكدا، ومنذ انتفاضة مارس ابريل 85 ان اي تغيير لا يمس الغاء قوانين سبتمبر سيصبح تغييرا بلا محتوى، وان الانتقال الديمقراطي سيكون بلا اجنحة او ضفاف بان يصبح مجرد امنية في عقل قوى التغيير المدنية من منظمات، وتنظيمات سياسية. وهكذا اثبتت الايام، وافصحت التجارب وبعلاقة مباشرة بحرب الجنوب، وتشكل الحركة الشعبية لتحرير السودان، مرورا بالانتفاضة ان بقاء قوانين سبتمر، وعلى الرغم من انتفاض الشعب على حكم الفرد قد شيد المتاريس البنيوية في خلق الانطلاقات الحقيقية للحكم الديمقراطي، وان الانتفاضة التي مهرها اسهام اعدام الاستاذ محمود محمد طه في الاشعال ومقاومة القوانين الاستبدادية، المسماة غشا بالشريعة، لم تفلح القوى السياسية المدنية من الغائها رغم تصريحات الراحل الامام الصادق المهدي بانها لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به، واجتماع راى العديد من القوى على عدم جدواها وبؤس نتائج تطبيقها.
وهكذا وبعد وقوع انقلاب الثلاثين من يونيو ٨٩، وانقضاء ثلاثة عقود ونيف من حكم التنظيم الاخواني بكل دراماتيكية وتراجيدية التطور الخاص بطبيعته، من الحفاظ وتثبيت العمل بقوانين سبتمبر رغبة في التخلص والانقضاض النهائي على بنية المدنية. بعد نحو ثلاثة عقود من حكم القوانين الجائرة واضافة قوانين اخرى كالقانون الجنائي، وتصعيد حرب الجنوب على الجبهات المتعددة، والقسوة في ذات الوقت على المقاومة بالزج بممثليها في بيوت الاشباح واضطهاد النساء والتنكيل بهن، ومراكمة راسمال القمع، وبعد انفجار ثورة ديسمبر ٢٠١٨ بذلك الزخم والقوة الا ان ان القوانين ظلت سارية، ومحمية حتى من قوى واحزاب تعرف نفسها حتى اللحظة كقوى معارضة للانقاذ والاسلام السياسي. غير ان ما يهم هنا ذكر ان الثورة، وبكل ما حملت من غضب وبسالة قد اثارت حفيظة الاخوان المسلمين الذين كانوا قد وضعوا، وبتقديراتهم للحفاظ على السلطة، كل ما يجعلهم مطمئنين الى ان من المستبعد القضاء على حكمهم بعد ان وضعوا ووفروا له كل الضمانات المادية والعسكرية والامنية التنظيمية.
ان تطورات الثورة بما رافقها من خذلان جماهيري لازم نشاط الجهاز التنفيذي المتقاسم، او بالاحرى المتحالف في الحكم مع اللجنة الامنية والدعم السريع قد لعب دوره في خلق المواجهة بين التنظيم المختبئ في اللجنة ورموزها العسكرية والدعم السريع ( بنحو ايديولوجي ) وبنحو تسبب في اعطاء الايديولوجيا ذات الرأسين من كتابة الموقعة والمواقعة الجهنمية الاخيرة لها مع الوجود المدني الاجتماعي والثقافي بما اتخذه من تعبيرات هدم البشر واقتلاعهم من جغرافياتهم باعتبارهم بشرا حاملين ل (فايروس) المطالبة بالحكم المدني الديمقراطي برغم مكايدة الدعم السريع للتنظيم الاخواني باصطفافه لاجل ذلك الهدف والذي لا يعني لديه اكثر من توفر لصناديق انتخاب تملكه وتمتلكه كل الثقة في اكتساحه لها بالمال.
نخلص الى ان ما يتم حاليا من حرب شعواء، ومهما تعددت التفاسير، فانها حرب ثنائية، القاسم المشترك لها، وفي نهاية المطاف المجتمع المدني وانسانه المستهدف بلغة عنف من القتل، والتهجير، والنهب، وتحطيم البنى، ومحو هويات الاماكن تمهيدا للقضاء على ذاكرتها التي لا تزال تقاوم بواسطة من تبقى من الاحياء من بشر، والذين، ومهما تكابروا، واسهبوا في العناد فانهم لا بد لهم من اعتراف انهم قد ودعوا حقبة من الحياة، بان اصبحت ماضيا، وماتت منهم دنيا، وتبقت اخرى في انتظار ما سيطرا لاحقا.
يبقى السؤال في هل ما رمت له الايديولوجيا الاخوانية المنشطرة بين الجيش والدعم السريع سوف يمر على عكس ما اشتهت سفنها؟ ام سينتج ذلك جديدا على مستقبل المدنية السودانية بتأسيس ديمقراطي منظم، وعصري خلاق لنفسها وفق ثقافة سياسية جديدة واسلوب حكم راشد وعادل؟ ام انها ستعود لاختراع ذات العجلة بكامل اعطابها القديمة، الموروثة؟
wagdik@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
رئيس التنظيم والإدارة يستقبل المقررة الخاصة بمصر فى اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان
استقبل الدكتور صالح الشيخ، رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، اوجانا ليتا موسينى المقررة الخاصة بمصر فى اللجنة الافريقية لحقوق الانسان والشعوب، بحضور السفير خالد البقلي، مساعد وزير الخارجية وشئون المصريين بالخارج لحقوق الإنسان والمسائل الاجتماعية والإنسانية الدولية – رئيس الأمانة الفنية للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان، وذلك في اطار زيارتها لمصر حيث تفقدت مركزالمسابقات وتقييم القدرات التابع للجهاز، وأطلعت على التجربة المصرية في الإصلاح الإداري، وخاصة فيما يتعلق بتقييم قدرات وتنمية الموارد البشرية، وآليات التوظيف في المؤسسات الحكومية.
ورحب رئيس الجهاز اوجانا ليتا موسينى، مؤكدًا الحرص على تعزيز التعاون "الأفريقي الأفريقي"، مستعرضًا في هذا الصدد أوجه التعاون الثنائي بين الجهاز والوزارات والأجهزة النظيرة في عدد من الدول الأفريقية في مجال الإدارة العامة، ومنها سيراليون، اوغندا، السودان، جنوب السودان، جنوب أفريقيا، بالإضافة إلى المشاركة في المحافل القارية ومنها عضوية الجهاز في الجمعية الأفريقية للإدارة العامة، حيث يشغل رئيس الجهاز منصب نائب رئيس المجلس التنفيذي للجمعية .
وأكد رئيس الجهاز أن ملف الإصلاح الإداري حظى بدعم القيادة السياسية بشكل غير مسبوق، وهو ما أسهم في تنفيذ إصلاحات جوهرية لمنظومة الإدارة العامة في الجهاز الإداري للدولة، مستعرضًا جهود الإصلاح الإداري الذي بدأته الدولة المصرية منذ عام 2014 حيث وضعت خطة الإصلاح الإداري بمحاورها الخمسة، وهى الإصلاح التشريعى، الإصلاح المؤسسى، بناء وتنمية القدرات، بناء وتكامل قواعد البيانات، وتحسين الخدمات العامة.. لافتا إلى أن ثمار جهود الإصلاح الإداري أسهمت في تهيئة بيئة ملائمة للانتقال بمؤسسات الدولة للعاصمة الإدارية الجديدة.
أكبر اقتصاد في أوروبا يواجه رياحا معاكسة كبرى للتعافي120مليون جنيه.. حصيلة البيع في مزادات المنافذ الجمركية خلال نوفمبر 2024كما استعرض الدكتور صالح الشيخ تجربة الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة فى إنشاء منظومة موضوعية مميكنة، تستخدم فى عملية التوظيف وتقييم العنصر البشرى، حيث أنشأ مركز تقييم القدرات والمسابقات استنادا لنص المادة 12 من قانون الخدمة المدنية،وكذلك يتم تقييم موظفى الجهاز الإدارى للدولة بهدف التدريب أو الترقى أو تولى المناصب القيادية أو الوظائف العامةكما قام بوضع منظومة إلكترونية متكاملة ومعتمدة لتقييم المتقدمين للوظائف الحكومية بدون أدنى تدخل بشرى، حيث تم إنشاء بنوك أسئلة إلكترونية تتضمن آلاف الأسئلة المعدة من قبل مجموعة من الخبراء والمتخصصين كلا فى مجاله، وتم اعتماد المركز دوليا، كما يضم المركز قاعات مخصصة للأشخاص ذوي الإعاقة في اطار التزام الدولة بتخصيص ٥٪ علي الأقل من تلك الوظائف للأشخاص ذوي الإعاقة وفقا للقانون ،
واصطحب الدكتور صالح الشيخ، اوجانا ليتا موسينى في جولة بمركز تقييم القدرات حيث أعربت عن إعجابها بالتجربة المصرية التي تطبق معايير الحوكمة والشفافية وتكافؤ الفرص بين المواطنين المتقدمين للوظائف في المؤسسات الحكومية، موكدة اهمية نقل الخبرة والتجربة المصرية في الإصلاح الإداري إلى الدول الأفريقية الاخرى