التحول الديمقراطي في السودان وإقصاء الإسلاميين ربح مؤقت أم خسارة طويلة الأمد؟ قد يكون هذا التساؤل مطروح لدي مجموعة من المثقفين في هذه الأيام , و يشهد السودان منذ عقود طويلة صراعًا سياسيًا حادًا، لم تقتصر محاوره على تقلبات السلطة فحسب، بل تعدته إلى صراع أيديولوجي عميق، بين مختلف التيارات الفكرية والفاعلين السياسيين.

من بين هؤلاء، كان الإسلاميون لاعبًا رئيسيًا في التجارب السياسية المتتالية، سواء خلال حقب الحكم العسكري أو في الحكومات المدنية الانتقالية. لكن بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير، جاءت مرحلة جديدة اتسمت برغبة عارمة في إقصاء الإسلاميين من المشاركة السياسية، ما أدى إلى وضع معقد، يثير تساؤلات حول ما إذا كان هذا الإقصاء قد أتى بثماره، أم أنه مهد لصراعات جديدة.
البناء الديمقراطي والإقصاء , ربح على المدى القصير أم تحديات طويلة الأمد؟
تجربة التحول الديمقراطي في السودان تمثلت في محاولة جادة لتأسيس نظام حكم ديمقراطي يقطع مع التجارب العسكرية والتسلطية التي استمرت لعقود. إحدى الخصائص البارزة في هذه التجربة كانت إقصاء الإسلاميين من المشهد السياسي بعد الثورة. فرغم مشاركتهم الواسعة في الحكم لعدة سنوات، تم استبعادهم بشكل كامل من العملية السياسية في محاولة لإعادة بناء الدولة بشكل ديمقراطي شامل.
ولكن هل كان هذا الإقصاء خيارًا حكيمًا؟ على المدى القصير، قد يبدو أن إقصاء الإسلاميين خفف من تأثيرهم السياسي ومنعهم من العودة إلى السلطة، خصوصًا بعد عقود من التسلط الذي مارسه نظام البشير. هذا الإبعاد عن الساحة منح الحكومة الانتقالية، بدعم من قوى الحرية والتغيير، فرصة للتفاوض مع الحركات المسلحة والفاعلين الآخرين من أجل بناء نظام سياسي جديد.
الصراعات الهوائية والمستقبل المجهول
على الرغم من أن السودان سعى لتحقيق انتقال سياسي ديمقراطي، إلا أن إقصاء الإسلاميين تسبب في خلق فراغ سياسي واجتماعي قد يعود بالسلب على عملية التحول. فإقصاء فصيل سياسي بحجم وتأثير الإسلاميين قد يؤدي إلى تحفيز الصراع، وليس حله. الإسلاميون، بتياراتهم المختلفة، ما زالوا يمثلون جزءًا كبيرًا من التركيبة السياسية والمجتمعية في السودان، ولا يمكن تجاهل تأثيرهم العميق على الشارع السوداني.
يبدو أن البعض داخل السودان قد تصور أن الديمقراطية يمكن أن تُبنى فقط عن طريق استبعاد فصيل بعينه، متجاهلين أن الديمقراطية الحقيقية تقوم على الحوار والمشاركة بين جميع الأطراف، بما في ذلك من يختلفون فكريًا وأيديولوجيًا. ما يحدث في السودان الآن هو محاولة لخلق نظام جديد بدون إشراك الإسلاميين، وهذا ربما خلق حالة من التوتر والاحتقان، وهو ما يمكن تسميته بـ"الصراعات الهوائية" التي تنمو دون وجود حلول واقعية على الأرض.
الإسلاميون بين التهميش والانكفاء
الإسلاميون اليوم يعيشون حالة من التهميش السياسي، في مشهد يُنظر إليه على أنه عقاب لتاريخ طويل من الحكم القمعي والفشل في إدارة الدولة. لكن استبعادهم لم يقتصر على التمثيل السياسي فقط، بل تعدى ذلك إلى محاولات منعهم من التأثير الاجتماعي والثقافي، ما أدى إلى شعور بالإقصاء الجماعي.
الجدل حول هذا الإقصاء يتركز على مدى تأثيره على استقرار السودان ومستقبله. في ظل غياب الإسلاميين عن المشهد، أصبح هناك فراغ سياسي قد يملأه أطراف أخرى، ليس بالضرورة أكثر اعتدالًا أو توافقًا. فالاحتقان السياسي في السودان لا يزال قويًا، والأوضاع الاقتصادية المتدهورة قد تزيد من تعقيد الموقف وتعمق الفجوة بين الفصائل السياسية.
الإسلاميون، رغم الإقصاء، لا يزالون يحتفظون بقاعدة شعبية كبيرة، خاصة في المناطق الريفية والمهمشة. ولذلك، من المرجح أن يؤدي تهميشهم السياسي إلى ظهور حركات احتجاجية أو مقاومة من شأنها أن تعرقل عملية التحول الديمقراطي. هذه المقاومة قد تتخذ أشكالاً متعددة، منها العودة إلى العمل السياسي السري، أو التحول إلى العنف في أسوأ السيناريوهات.
وهل يمكن تحقيق الديمقراطية دون الإسلاميين؟ , ان هذه النقطة الجوهرية التي يجب أن تُطرح هي: هل يمكن للسودان أن يبني نظامًا ديمقراطيًا مستدامًا في ظل غياب الإسلاميين؟ السؤال هنا ليس مجرد تساؤل نظري، بل هو سؤال عملي يتصل بمستقبل البلاد واستقرارها. الديمقراطية هي نظام يقوم على المشاركة والتمثيل الشامل لمختلف القوى والتيارات. ولذلك، فإن إقصاء أي فصيل كبير من هذه العملية، سواء كان إسلاميًا أو غيره، يحمل في طياته مخاطر كبرى.
منع الإسلاميين من المشاركة في بناء الديمقراطية قد يُعتبر خطوة ضرورية لبعض الوقت من أجل تحقيق الاستقرار، ولكن على المدى الطويل، قد يؤدي هذا إلى إضعاف شرعية النظام الجديد وتعميق الانقسامات السياسية. تجربة السودان الطويلة مع الأنظمة العسكرية والمدنية تُظهر أن الصراع السياسي والإقصاء المستمر يولدان المزيد من الفوضى والانقسام.
مستقبل السودان في ظل الصراعات الحالية
في ظل استمرار الحرب في مناطق النزاع، وتدهور الوضع الاقتصادي، وعدم وجود رؤية واضحة لتحقيق انتخابات ديمقراطية، يبدو أن السودان في طريقه إلى مواجهة المزيد من التحديات. الشعب السوداني الذي طمح في بناء نظام ديمقراطي شامل يشعر الآن بالإحباط، حيث تتلاشى آماله في رؤية تحول ديمقراطي حقيقي في المستقبل القريب.
الانتخابات، التي كانت تعتبر الخطوة الأولى نحو الديمقراطية، قد لا تحدث قريبًا، بل وربما يتم تأجيلها بشكل متكرر نتيجة الصراعات السياسية والتوترات بين القوى المختلفة. وإذا استمرت الأوضاع على هذا النحو، فإن السودان قد يجد نفسه في حالة من الانقسام الدائم، حيث تتلاشى فرص بناء دولة مستقرة على أسس ديمقراطية.
والامر المهم الان هو أن السودان بين الإقصاء والشمولية , السؤال الذي يطرحه الجميع اليوم: هل ربح السودان من إقصاء الإسلاميين من التحول الديمقراطي؟ الإجابة تعتمد على النظرة بعيدة المدى. على المدى القصير، قد يُعتبر هذا الإقصاء ربحًا سياسيًا في سبيل تجنب العودة إلى الماضي، ولكن على المدى الطويل، قد يتسبب في نشوء صراعات جديدة تعيق بناء الديمقراطية.
الحل الأمثل للسودان، كما يبدو، يكمن في تحقيق شمولية سياسية تتيح للجميع المشاركة في بناء الوطن، بعيدًا عن الإقصاء والتهميش. الديمقراطية ليست مجرد صندوق اقتراع، بل هي نظام يقوم على التفاوض والقبول بالآخر، حتى وإن كان الاختلاف الأيديولوجي والسياسي جوهريًا. فقط من خلال هذا المسار يمكن للسودان أن يخرج من دوامة الصراع ويبدأ في بناء مستقبل أكثر استقرارًا وعدلاً.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: التحول الدیمقراطی الإسلامیین من هذا الإقصاء فی السودان على المدى فی بناء نظام ا

إقرأ أيضاً:

رابطة العلماء تواصل حملة "تمنيع" السجناء ضد التطرف العنيف في سياق "مصالحة"

يواصل مركز المصالحة التابع للرابطة المحمدية للعلماء، حملة التمنيع داخل السجون، ضد التطرف العنيف والإرهاب.

وحطت قافلة مركز المصالحة رحالها بالسجن المحلي الأوداية (مراكش)، وذلك في إطار استمرارية تنفيذ هذا البرنامج من خلال ورشات تهدف إلى تمنيع وتحصين الفضاء السجني وتعزيز قيم التسامح والوقاية من التطرف العنيف والإرهاب.

وذكر بلاغ لمركز مصالحة، الذي يشرف على تنظيم هذا البرنامج إلى جانب المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، أنه بعد أن مرت القافلة خلال شهر مارس بالسجن المركزي القنيطرة والسجنين المحليين عين السبع وطنجة 2، تم تكوين 32 نزيلا من فئة الحق العام بينهم 10 نزيلات بهذه المؤسسة ليصل عدد المستفيدين إلى 122 نزيلا (بينهم 16 إناث في إطار مقاربة النوع).

وأضاف المركز أن ذلك يأتي في أفق تدريب وتكوين 240 نزيلا بمثابة مثقفين نظراء والذين سيثقفون بدورهم حوالي 22000 نزيلا بـ08 مؤسسات سجنية، من خلال إكسابهم مجموعة من الكفايات والقدرات التحصينية والتمنيعية من الفكر المتطرف باعتماد مداخل ومقاربات علمية وآليات تتسم بالتعددية والتكامل والنجاعة، تؤطرها « مقاربة التثقيف بالنظير ».

وتابع المصدر ذاته أن ورشات البرنامج يؤطرها مكونون من موظفي المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج خضعوا لعدة ورشات تدريبية بمركز تكوين الأطر بتيفلت مكنتهم من امتلاك المعارف النظرية والمنهجية في موضوع التطرف العنيف والإرهاب معرفة وتعاملا، وذلك تحت إشراف خبراء وأساتذة متخصصين في المجال من الرابطة المحمدية للعلماء.

كما يشارك في عمليات التدريب والتكوين 05 نزلاء سابقين في قضايا التطرف والإرهاب خريجي برنامج مصالحة أفرج عنهم بموجب عفو ملكي سامي، من خلال تقاسم تجربتهم الشخصية مع الفكر المتطرف الذي تخلصوا منه لإعطاء العبرة؛ حسب البلاغ.

إلى ذلك، تم التوقيع على اتفاقية شراكة لإحداث « مركز مصالحة »، في نونبر 2023 من طرف كل من  آمنة بوعياش، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، و أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، ومحمد صالح التامك، المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج، وفوزي لقجع، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، وعبد الواحد جمال الإدريسي، المنسق العام لمصالح مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء.

وتهدف هذه الاتفاقية إلى إعادة تأهيل وإدماج السجناء المحكوم عليهم في قضايا التطرف والإرهاب وإضفاء المزيد من الفعالية على الشراكة المؤسساتية القائمة بين الأطراف الموقعة وباقي الشركاء والفاعلين المؤسساتيين.

كلمات دلالية أحمد العبادي التامك التطرف السجون المصالحة مندوبية

مقالات مشابهة

  • المبعوث البريطاني يدعو القادة السودانيين لإعادة بناء المجتمع والنظام السياسي مع اقتراب الحرب من إكمال عامها الثاني
  • آفـة الترويض السياسي (1 – 3)
  • الشرطة السودانية تصدر موجهات بشأن البحث عن السيارات المنهوبة في الحرب وتحركات تبعث الأمل
  • مراسل سانا بحلب: بدء خروج الرتل الثاني لقوات سوريا الديمقراطية من حيي الأشرفية والشيخ مقصود باتجاه شرق الفرات تحت إشراف وزارة الدفاع وقوات الأمن العام
  • رابطة العلماء تواصل حملة "تمنيع" السجناء ضد التطرف العنيف في سياق "مصالحة"
  • الإطار التنسيقي: الانتخابات تعيد بناء المشهد السياسي وتعزز الاستقرار
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: بروميدييشن والغموض السياسي؟
  • المصري الديمقراطي يدعم موقف القيادة السياسية المصرية الرافض لمخططات تهجير الفلسطينيين
  • “فوق السحاب”.. الصين تكمل بناء الهيكل الفولاذي لأعلى جسر معلق في العالم – صورة
  • المصري الديمقراطي يطالب بمحاكمة ومساءلة مجرمي الحرب الإسرائيليين