بين الماركسية والكونفوشية.. أفكار شي وصراع الصين الطويل مع الحداثة
تاريخ النشر: 14th, September 2024 GMT
مقدمة الترجمة
تتحدث هذه المادة المترجمة من موقع فورين أفيرز عن فكر الرئيس الصيني شي جين بينغ، ومحاولته للمزج بين أفكار كارل ماركس وكونفوشيوس. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المادة لا تعبر بالضرورة عن الثقافة الصينية كما هي، ولكنها تعبّر عن وجهة نظر غربية تحاول أن تقرأ الثقافة الصينية من الخارج.
نص الترجمةفي عام 2023، كشفت قناة "تلفزيون هونان"، ثاني أكثر القنوات التلفزيونية مشاهدة في الصين، عن مسلسل يُدعى "عندما التقى ماركس بكونفوشيوس"، وكان العنوان وصفا حرفيا لما يتضمنه المسلسل، ممثلان يؤديان دور الفيلسوفَيْن: كونفوشيوس وهو يرتدي ثوبا أسود، وكارل ماركس ببذلة سوداء وشعر أبيض يشبه شعر الأسد.
ويصوَّرهما المسلسل وقد التقيا في أكاديمية "يويلو" Yuelu، وهي مدرسة عمرها ألف عام وتشتهر بدورها في تطوير الفلسفة الكونفوشية.
على مدار خمس حلقات، يناقش ماركس وكونفوشيوس طبيعة السياسة، ويتوصَّلان إلى استنتاج أن الكونفوشية والماركسية متفقتان، أو أن ماركس كان ينهل نظرياته تلقائيا من فِكر كونفوشيوس. ففي حلقة واحدة، لاحظ ماركس أنه ورفيقه "يشتركان في الالتزام بالاستقرار السياسي"، مضيفا: "في الواقع، كنت صينيا لفترة طويلة"، في إشارة إلى أن تفكيره كان دائما متوافقا مع الرؤى الصينية التقليدية.
مسلسل "عندما التقى ماركس بكونفوشيوس" (مواقع التواصل)دعم الحزب الشيوعي الصيني المسلسل، حيث شكل جزءا من مشروع الرئيس شي جين بينغ السياسي الشامل لإعادة تصوير الهوية الأيديولوجية لبلاده. ومنذ توليه المنصب عام 2012، فرض شي على الصينيين فهم تفسيره للأيديولوجيا الصينية، التي يطلق عليها "فِكر شي جين بينغ".
الأمر المحوري في فكر شي هو ربط الماركسية بالكونفوشية: ففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، أعلن الرئيس أن الصين الحالية يجب أن تعتبر الماركسية "روحها" و"الثقافة الصينية التقليدية الرفيعة جذورها".
إن جهود شي لإعادة تعريف القواعد الأيديولوجية في الصين تزداد إلحاحا مع تباطؤ النمو الاقتصادي، الذي زاد من شكوك المستثمرين وعدم الثقة العامة داخل البلاد، فهو يقود بلدا تحظى قوته الاقتصادية باحترام أكثر بكثير مما يحظى به نظامه الحاكم: فقد حصلت الصين الآن على مكان بين أكبر اقتصادات العالم، لكنها لا تزال دولة متطلعة إلى مكانة دولية كبرى في النظام الدولي القائم.
ومما يُسبِّب الإحباط لشي وزعماء صينيين آخرين، أن الدول الغربية تتردَّد في قبول التأثير العالمي للصين ما لم تلتزم الصين بالقيم الليبرالية الحديثة. ومع ذلك، فإن محاولته إيجاد تلاقح بين أفكار ماركس وكونفوشيوس أثارت الدهشة حتى السخرية، بين متابعي الصين من خارجها ومن داخلها على حد سواء.
لقد مال الفكر الشيوعي الصيني طوال القرن الماضي إلى الاعتقاد بأن المستقبل المزدهر يتطلب انفصالا تاما عن الماضي. وكان رواد الفكر الماركسي الأوائل في الصين على وجه الخصوص يدينون الكونفوشية في العموم، مُعتبرين إياها فلسفة تشدد على التراتبية الهرمية والطقوس والعودة إلى ماضٍ مثالي.
وكان الزعيم ماو تسي تونغ وغيره من الماركسيين الصينيين يعتقدون أن الكونفوشية غير متوافقة نظريا مع الماركسية، التي تحتفي بالثورة والتغيير المستمر، وأن تأثيرها العملي على السياسة جعل الصين ضعيفة. وفي رأيهم، أنتج الفكر الكونفوشي بيروقراطية ميّتة لم تتكيف مع تحديات الحداثة، ووجد هذا الرفض تعبيره النهائي في ثورة ماو الثقافية، عندما فجَّر الحرس الأحمر الصيني قبر الفيلسوف كونفوشيوس وشنق جثة عارية أمامه.
تمثال الزعيم الصيني ماو تسي تونغ (رويترز)غير أن محو الماضي في بلد يتمتع بتاريخ غني ظل تحديا باستمرار. ويبدو أن الأمر كان يؤرق المفكرين الصينيين والشعب الصيني بشكل عام، إذ كانوا يودّون أن يُنظر إلى بلادهم على أنها تستجيب للتغيير السياسي بأساليب مستمدة من مصادر ثقافية صينية معروفة.
وحتى حين أدان العديد من المنظرين السياسيين في الصين أوائل القرن العشرين الكونفوشية، سعى بعض المفكرين الآخرين إلى إظهار أن الصين لم تكن مضطرة إلى تقليد الأفكار الغربية من أجل النهوض، سواء كانت قومية أو ليبرالية أو ماركسية، وقد وجدوا خريطة طريق لنوع مختلف وفعال من النهضة الحديثة، ومن داخل عالم الأفكار الصينية التقليدية.
في كتابه "صعود الفكر الصيني الحديث"، يعود وانغ هوي، أستاذ اللغة والأدب الصيني في جامعة تسينغهوا، إلى فلاسفة أواخر القرن التاسع عشر الذين عملوا على إعادة تشكيل الفلسفة الصينية.
وقد نُشر الكتاب لأول مرة باللغة الصينية عام 2004، وظهر العام الماضي في طبعة إنجليزية جديدة بعد أن ترجمه عدة مترجمين تحت إشراف مايكل غيبز هيل. وعلى الرغم من أن الترجمة تتجاوز 1000 صفحة، فإنها تمثل ما يزيد قليلا على نصف النسخة الصينية الأصلية التي تتألف من أربعة مجلدات.
ويحلل وانغ الروابط بين النظرية السياسية وقضايا الحكم الأكثر واقعية على مدى ألف عام من التاريخ الصيني، لكنه يلاحظ أن "تفسير أوضاع الصين الحديثة لا يمكن أن يتجنب مسألة تفسير" وضع إمبراطورية تشينغ، التي حكمت الصين بين عامي 1644 و1912.
ويشير استكشاف وانغ العميق لأعمال مجموعة من المفكرين الراحلين في عهد تشينغ إلى أن احتضان الصين للماركسية لم ينشأ في الواقع من الرفض الكامل للكونفوشية. بل لربما أمكن للماركسية الصينية أن تجد مساحة للظهور لهذا السبب بالتحديد، وهو أن هؤلاء المفكرين سعوا إلى تطبيق الفكر الكونفوشي على تحديات الحداثة.
إن كتاب "صعود الفكر الصيني الحديث" مفصل بشكل كثيف، ولكن المقدمة الرائعة التي كتبها هيل تساعد على توجيه القارئ الناطق باللغة الإنجليزية، إذ يكشف النص ببراعة عن صورة للصين بوصفها دولة طالما كانت حية ومتنوعة في فكرها السياسي، وهي صورة تتعارض مع التصور النمطي عند متابعي الصين في الخارج، بل وحتى عند بعض المؤرخين الصينيين، وهو تصوُّر مفاده أن الفكر الصيني كان متجانسا وعُرضة للتمزقات المفاجئة.
يجعلنا كتاب "صعود الفكر الصيني الحديث" ننظر إلى محاولة شي الجمع بين الماركسية والكونفوشيوسية بوصفها أكثر وجاهة مما يبدو للوهلة الأولى، لأنها ببساطة محاولة ذات تاريخ طويل، حيث جرَّبها مفكرون جادون من قبل.
وقد رأى العديد من الكتاب أن "الجهد الأيديولوجي" الذي يضطلع به شي ليس له أي أهمية، أو لا يمكن أن يكون له أي صلة بالشعب الصيني العادي، الذي يعاني على نحو متزايد من مشاكل مادية مثل سداد القروض العقارية الضخمة وتوفير الرعاية الصحية للمسنّين.
ولكن حالة التفكُّك الاجتماعي في الصين تُعَدّ في الوقت نفسه أزمة هوية وطنية، ويشير كتاب وانغ بشكل ضمني إلى أن الجهود المبذولة لإعادة تعريف الأيديولوجيا الوطنية يمكن أن تساعد على معالجة تلك الأزمة.
غير أن تحليل وانغ يكشف أيضا عن مكمن انحراف الحزب الشيوعي الصيني عن الطريق، حيث يُعبِّر الحزب عن أيديولوجيته الجديدة بعبارات مبسطة وبراقة، بالاعتماد على قراءات غير دقيقة لأمهات الكتب في التراث الصيني، مع عدم السماح بأي انتقادات.
وكان المفكرون الذين دافعوا عن أهمية الكونفوشية في مطلع القرن العشرين يعتقدون أن مربط الفرس في أهميتها هو السماح للمفكرين بمناقشة طبيعة الفلسفة الصينية ذاتها.
كتاب "صعود الفكر الصيني" للكاتب وانغ هوي (الجزيرة) فلاسفة وملوكإن وانغ من أكثر المفكرين تأثيرا في الصين المعاصرة، وقد كتب باستمرار عن فترة ما بعد الثورة الشيوعية، وكان مشاركا في حركة الطلاب عام 1989 من أجل الإصلاحات الديمقراطية، وأصبح عضوا بارزا فيما أطلق عليه آخرون اسم "اليسار الجديد" في الصين في التسعينيات. وفي كتابه الصادر عام 2010 بعنوان "نهاية الثورة"، انتقد وانغ تحوُّل الصين نحو اقتصاد السوق في الفترة نفسها.
ولكنه في كتابه "صعود الفكر الصيني"، لا يتعامل بوضوح مع أي جانب من تاريخ الصين المضطرب في القرن العشرين، فالزعيم ماو لا يُذكر إلا مرة واحدة مثلا. لقد اهتم وانغ أكثر بالمفكرين الصينيين الأوائل الذين جابهوا بالفعل التحديات التي فرضتها الحداثة، وعلَّل ذلك قائلا إن الصين عندما تغيرت فإنها فعلت ذلك بالاعتماد على مواردها الداخلية. (المجلدات اللاحقة، التي لم تُترجَم في طبعة هيل، تنتقل بعد ذلك بالفعل إلى أوائل القرن العشرين).
تبدأ دراسة وانغ بالأسرتيْن الحاكمتيْن "سونغ" (960–1279) و"مينغ" (1386–1644) إبَّان ظهور الكونفوشية الجديدة، وهي مدرسة فكرية قامت بتكييف الكونفوشية التقليدية في مواجهة تحدي أفكار الطاوية والبوذية. ويكتسب تحليل وانغ أهميته في اللحظة المعاصرة عندما يناقش سلسلة الأفكار التي ظهرت في نهاية عهد تشينغ. ففي ذروة عصر تشينغ، ضاعفت الصين عدد سكانها وشنَّت حملات عسكرية ناجحة للغاية أدت إلى توسيع أراضيها.
وسعى الأوروبيون إلى شراء ونسخ صناعة الخزف والفنون المميزة في الصين آنذاك. ولكن بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كانت الإخفاقات الاقتصادية والهزيمة على يد البريطانيين في حروب الأفيون سببا في دفع الصين إلى حافة الأزمة الوجودية. فبعد أن اضطرت الصين إلى التوقيع على معاهدات مهينة مع مجموعة من القوى الصاعدة آنذاك، ومنها اليابان وروسيا والولايات المتحدة، بدت البلاد وكأنها غير صالحة للازدهار في العصر الحديث.
وكان أحد الاستنتاجات المحتملة لذلك هو أن التقاليد الصينية كانت قديمة وبالية، وكان يجب التخلي عنها لصالح الأفكار الغربية، بما في ذلك القومية والماركسية. ويُجادل وانغ بأن المشكلة التي عانت منها إمبراطورية تشينغ في نهاية القرن التاسع عشر لم تكن مشكلة جيوسياسية فحسب، حيث حصدت دول أخرى حينها مزايا مادية على حساب الصين، بل إن أزمة الصين كانت أزمة رؤية في الوقت نفسه.
لقد زعم العلماء لفترة طويلة أن الطرق التي طُبِّقَت بها الكونفوشية على السياسة الصينية في القرن التاسع عشر تركت البلاد في حالة جمود، دونما قدرة على التفاعل مع الأيديولوجيات الغربية الحديثة مثل الرأسمالية والليبرالية والقومية.
وكان تأكيد الكونفوشية على التقاليد واحترام التراتبية الهرمية في المجتمع بمثابة تسويغ لوجود بيروقراطية راسخة، وفاسدة في بعض الأحيان، فشلت في الاستجابة للغزوات الأجنبية والثورات الداخلية وفي الحفاظ على عائدات ضريبية كافية لحفظ الأمن والبنية التحتية.
ولكن وانغ يرى أيضا أن هذا النوع من الجمود ليس مرتبطا بالكونفوشية بحد ذاتها. فقد كان عالم الفكر الكونفوشي في الواقع واسعا ومرنا، وغالبا ما استمتع المفكرون الكونفوشيون بالاشتباك مع الأفكار الأجنبية، فأدمجوها أو لقَّحوا بها أفكارهم كي تتكيَّف الصين مع الظروف التاريخية الجديدة.
ومن الجدير بالذكر أنه مع قرب نهاية القرن التاسع عشر، اكتشف المفكرون في حركة "النصوص الجديدة" -التي سُميت بهذا الاسم لأنها استندت إلى نصوص مكتوبة بخط جديد أعلنت عنه سلالة هان القديمة- الطرق التي يمكن عبرها لعالمهم الثقافي الكونفوشي أن يعيد تشكيل نفسه عند مواجهة الأفكار الغربية.
ويجادل وانغ بأن الحداثة لم تقدم لهم تحديا لا يمكن الرد عليه وأنها لم تُسبِّب صداما بين الأصالة والمعاصرة. بل إن مفكري النصوص الجديدة اقترحوا ترجمة الطقوس والمبادئ الكونفوشية على هيئة قوانين، ورأوا أن ذلك يمكنه أن يحقق "إعادة توحيد كبيرة" لتلك المبادئ مع المتطلبات الجديدة التي تفرضها العولمة والإمبريالية الغربية. لقد أراد مفكرو النصوص الجديدة إيجاد طرق للتصدي للفساد الحكومي وتأثيره المُرهِق.
المفكر الصيني "كانغ يووي" (مواقع التواصل)يصف وانغ كيف تحدَّى مفكر النصوص الجديدة البارز، وي يوان، افتراض القادة الصينيين أن الكونفوشية تطالبهم بإعلاء الأفكار والإستراتيجيات التي نشأت من داخل الصين دون غيرها. وقد سعى الرجل إلى إنهاء التمييز بين "الداخل" و"الخارج"، مما سمح له بالمطالبة بالتحديث العسكري الذي يتضمن استجلاب الابتكارات الغربية، بما في ذلك تدابير جديدة للدفاع عن حدود الصين، وبناء مرفأ وترسانة في جنوب الصين.
وقد اكتشف مفكرون مثل كانغ يُووَي عناصر تُعِين على الحداثة داخل الكونفوشية، قائلين إن التفسير الصحيح لها كشف عن وجود مكونات يمكن أن تناظر طاقة الأفكار الحديثة الغربية. وبالاعتماد على النظريات الكونفوشية، صاغ كانغ فكرة "داتونغ" (الوحدة العظمى) وهو اليوم "الذي يصبح فيه كل شيء على الأرض، كبيرا أو صغيرا، بعيدا أو قريبا، واحدا".
لم ير كانغ أي فرق بين تبني رؤية كونفوشية، وتبنِّي رؤية لعالم يرى الحدود بلا معنى. وقد أكسبته مقترحاته نفوذا، حتى أدى دورا مركزيا في حركة المئة يوم الإصلاحية عام 1898، التي هدفت إلى دفع الصين نحو نظام ملكي دستوري أشبه بالنظام الياباني.
وبعد أن أصاب حاكمة الصين المحافظة، الإمبراطورة الأرملة تسيشي، الذعر من تلك الدعوة، أمرت باعتقاله ونفته إلى الخارج. ولكن أفكار كانغ لم تمت. شهدت فترة أواخر عصر تشينغ تقلبات فكرية كبرى، وواصل المفكرون الصينيون -وبعضهم من المنفى في اليابان- مناقشة نظريات مثل نظرية كانغ في عدد من المجلات الجديدة.
يمكن القول إن موقف مفكري النصوص الجديدة مكَّن الجيل التالي من الانفتاح على الماركسية. ففي عام 1925، كتب المؤلف غو مورو عن ماركس "دخوله إلى المعبد الكونفوشي" في قصة قصيرة ألهمت جزئيا المسلسل الجديد المعروض مؤخرا على تلفزيون هونان. وفي نص صدر عام 1939 بعنوان "كيف تكون شيوعيا جيدا"، أشار ليو شاوتشي، وهو شخصية مركزية في الثورة الشيوعية الصينية، إلى "الفضائل" الشيوعية، وهو تعبير كونفوشي أكثر منه مادي.
مُشكلة الإيمان ولَّدت الحقبة الأخيرة من النمو الاقتصادي المذهل مفهوما ذاتيا بين المواطنين الصينيين مفاده أن الصين قوة جريئة صاعدة، وأن كونك صينيا يعني أن تتصدَّر السباق في شتى المجالات (أسوشيتد برس)
إن نصَّ كتاب "صعود الفكر الصيني" يُعتبر دراسة تاريخية بوجه من الوجوه. ولكن وصفه للعالم الفكري في أواخر عهد سلالة "تشينغ" يسلط ضوءا ساطعا على الصين اليوم.
لقد كان من الافتراضات المركزية التي قدمها مفكرو أسرة "تشينغ" المتأخرون أن الصين لم تكن بحاجة إلى إيجاد طريقة للخروج من الأزمة التي كانت تواجهها في ذلك الوقت فحسب، بل كانت تحتاج أيضا إلى ترسيخ الحل في أشكال الثقافة الصينية السابقة على الحداثة.
قد لا تبدو الحالة التي كان يواجهها مفكرو "تشينغ" مماثلة بأي شكل من الأشكال لتلك التي تواجه الصين اليوم. فعندما كان هؤلاء يكتبون، كانت الصين غارقة بعمق في أزمة مالية وتعاني من حركات تمرد داخلية، وكانت العديد من مناطقها الريفية تعاني من الفقر المدقع، وكانت سيادتها قد تضررت بشكل كبير بسبب الغزوات الأجنبية وفرض المعاهدات الجائرة.
أما الآن فتتمتَّع الصين بقوة اقتصادية وعسكرية هائلة، ولا توجد تهديدات وجودية لسيادتها الوطنية.
ولكن مثل العديد من البلدان الصاعدة اليوم، لا تشعر الصين بأي بصمة في المبادئ الدولية السائدة حاليا، التي أُنشئت من قبل الغرب إلى حد كبير في القرن العشرين، وتعتقد النخب الصينية أن هذه المبادئ ومقتضياتها الفكرية العالمية قد فُرضت على الصين. وعلى الرغم من قوة الصين، فإنها تعاني بشكل متزايد من شعور بالأزمة، وهذا الشعور هو جزئيا ردٌّ على الظروف المادية الحالية.
لقد وصلت بطالة الشباب الصيني في المناطق المتحضرة الآن إلى 20% أو أكثر، فضلا عن اتساع الفجوة بين الحضر والريف، وهي مشكلات مرتبطة بالاقتصاد، وكذلك الصعوبة التي تواجهها العائلات الصينية الآن في سداد الديون العقارية أو التعامل مع الرعاية الصحية والمعاشات غير الكافية.
ومع ذلك، فإن شعور الصين بالاغتراب شعور اجتماعي أيضا، وخاصة بالنسبة للشباب، ولا يمكن حله بالإصلاحات الاقتصادية وحدها. لقد ولَّدت الحقبة الأخيرة من النمو الاقتصادي المذهل مفهوما ذاتيا بين المواطنين الصينيين مفاده أن الصين قوة جريئة صاعدة، وأن كونك صينيا يعني أن تتصدَّر السباق في شتى المجالات.
ويتعرض جوهر هذا الفهم والتصوُّر الآن للتحدي، ويبدو أن مسار النمو المذهل في الصين قد بلغ ذروته، الأمر الذي لم يترك حسابات الناس المصرفية فارغة فحسب، بل وإحساسهم بالهوية كذلك.
لقد أصبحت كلمة "مكتئب" شائعة الاستخدام بين العديد من أصحاب المهن الصينيين اليوم لوصف أنفسهم. ففي ثقافة يُعَدّ فيها الاعتراف بمشاكل الصحة العقلية وصما شديدا، قال 35% من المشاركين في استطلاع وطني لعام 2020 إنهم يعانون من الضيق أو القلق أو الاكتئاب.
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، يُعبِّر الشباب الصيني عن خيبة الأمل والاستياء، معلنين أنهم "مستلقون" أو "يتعفنون". هذا وأدت فترة الإغلاق بسبب فيروس كورونا إلى تآكل الثقة في الدولة.
ويواجه المزيد من الشباب الصينيين المتخصصين في مجال الأعمال والمؤسسات الأكاديمية ووسائل الإعلام قيودا يجدونها مُحيِّرة. على سبيل المثال، يتوق العديد من الطلاب الصينيين إلى الدراسة في الخارج، ولكن يقال للعديد منهم إنهم إذا فعلوا ذلك فإن صعودهم في البيروقراطية الصينية سيتعثر.
ومع تزايد متوسط أعمار السكان في الصين، أصبح الشباب يدركون أن تكاليف رعاية الآباء المسنين ستقع بشكل ثقيل على عواتقهم.
وهذه التطورات لا تجعل الحياة في الصين لا تطاق، كما كان الحال بالنسبة للمفكرين في أواخر عهد أسرة تشينغ، لكنها تجعلها غير مُرضية. قد تتمكن الصين من الاستمرار في إيجاد نمو اقتصادي قوي، ومع ذلك، فإن وصف الأوضاع بكونها "صلبة لكن ليست مذهلة" لن يُرضي كثيرين، فضلا عن أن توصف بأنها "ضعيفة وهشة".
يشير العديد من المراقبين الغربيين إلى اليابان بوصفها تحذيرا للصين بشأن ما قد يحدث عندما تنهار فقاعة العقارات وتدخل الدولة في فترة الشيخوخة. ومع ذلك، تظل اليابان اقتصادا عالميا قويا ذا دور إقليمي هام وسمعة طيبة باعتبارها من أفضل الأماكن للعيش في العالم.
لعل الصين تستطيع السير على خطى اليابان عن طريق تعديل اقتصادها المحلي لإيجاد وظائف جديدة في قطاع الخدمات والتركيز على رعاية المسنّين. وقد تصبح الصين بذلك مكانا جيدا للعيش. ولكنها لن توفر الطاقة البطولية التي تدعم كونها قوة صاعدة.
الماركسية تشجع على النقد الذاتي، وعند تطبيقها على السياسة في الواقع تميل إلى أن تؤدي إلى عمليات التطهير. وهذه هي الظواهر التي يرغب شي في تجنبها في لحظة سياسية هشة (رويترز) الطب التقليديفي هذا السياق، يبدو منطقيا إلى حد ما أن يبدأ شي في محاولة تقديم أيديولوجيا متجددة تدمج رؤية ماركسية للمجتمع مع رؤية كونفوشية. فالماركسية تشجع على النقد الذاتي، وعند تطبيقها على السياسة في الواقع تميل إلى أن تؤدي إلى عمليات التطهير.
وهذه هي الظواهر التي يرغب شي في تجنبها في لحظة سياسية هشة. وقد تبدو أطروحة شي من الظاهر مجرد محاولة للدفاع عن نفسه وعن الحزب ضد الانتقادات، لأن الكونفوشية تعطي الأولوية للاستقرار واحترام السلطة ليس إلا.
ومع ذلك، تقترح دراسة وانغ ضمنيا أن الكونفوشية والماركسية قد لا تكونان متعارضتين بطبيعتهما. ويحمل تحليله أهمية هائلة للصين اليوم، حتى وإن لم يتناول الصين المعاصرة مباشرة، ويظهر عمله أن الجهد المبذول لاستخدام الفلسفة الصينية التقليدية في مواجهة التحديات الناشئة باستمرار له سوابق.
لقد تحدثت مؤخرا مع طالبة مُقيَّدة في إحدى المدارس الماركسية اللينينية البارزة في الصين، ثم سألتها: "ماذا تعني الماركسية بالنسبة لك؟" فشرحت الطالبة أن دراسة الماركسية أتاحت لها وسيلة للتأمل في تطورها الشخصي، وقالت إن الماركسية منحتها سلاما داخليا عميقا. لقد أخبرتها أنها أثارت فضولي، إذ بدا لي أن ما وصفته يشبه الكونفوشية أكثر من الماركسية، ولعلها استبطنت ببساطة بعضا من تركيز شي المتزايد على الثقافة التقليدية.
ولكن لربما أخبرها حدْسها أن عناصر الفلسفتين متوافقة، وكان من المريح لها أن تشعر بأن ثقافتها لديها بعض الإجابات عن الشعور المُحبِط المتمثل في عدم اليقين والتخبُّط عند أبناء جيلها.
إذا كان بالإمكان إطلاق العنان لجهد صادق من أجل دمج الماركسية والكونفوشية، فقد يساعد ذلك على معالجة هذا الشعور بالاغتراب عبر السماح للصين بالتمسك بفكرتين في آن واحد، رؤية ماركسية تتوقَّع مستقبلا ستظل تشكله التغيُّرات الجذرية والمواجهات الحاسمة، جنبا إلى جنب مع تحديات مثل التحول إلى الطاقة النظيفة، أو الهيمنة الأميركية، أو النظام الدولي الليبرالي.
ويمكن لرؤية مستندة إلى الكونفوشية استيعاب فكرة أن الصين ستحتاج إلى مزيد من الهدوء والقابلية للتوقُّع والاستقرار في المستقبل، وأن المواجهات العسكرية المباشرة من المُحتمَل أن تقوض مصالح الصين.
يتَّسِم الفكر السياسي الصيني بالحيوية والتنوع طوال مسيرة لم ولن تتوقف. ففي عام 2019، نشر باي تونغ دونغ، الفيلسوف بجامعة فودان في شانغهاي، كتابا بعنوان "ضد المساواة السياسية". وعلى الرغم من العنوان الاستفزازي، فإن العمل يمثل دفاعا قويا عن الليبرالية، بحجة أن بعض أشكال الحكم غير الديمقراطي، مثل الجدارة القائمة على القيم الكونفوشية، يمكن أن تحافظ على القيم الليبرالية بشكل أفضل من الديمقراطية.
كما أن المفكرين الصينيين الآخرين، الذين يُعدون واقعيين في كثير من الأحيان، يتصارعون أيضا مع الأفكار التقليدية. ففي كتابه الصادر عام 2011 بعنوان "الفكر الصيني القديم والقوة الصينية الحديثة"، يستند عالم العلاقات الدولية يان شويتونغ على الفكر الصيني القديم لتفسير النظام العالمي المعاصر.
ونظرا للسوابق التي شهدتها الفلسفة الصينية على مر القرون لنوع التلاقح الذي يحاول شي تنفيذه اليوم، فمن المثير للاهتمام أنه يعتمد بشدة على مصادر قديمة للغاية. لقد كان بإمكان مسلسل تلفزيوني تتصالح فيه الكونفوشية مع الحداثة أن يكون أطول وأكثر ثراءً: فكان من الممكن أن يظهر كانغ، مفكر ما يُعرَف بالنصوص الجديدة، وكأنه يناقش دور كونفوشيوس بوصفه مُصلِحًا.
وكان بوسع المفكر المنشق في القرن العشرين، ليانغ شومِّينغ، أن يناقش ماو حول ما يمثل بالضبط "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية". في الواقع، أجرى هذان المفكران نقاشا حيويا حول هذا الأمر عام 1946، لكن الاعتراف بمفكري النصوص الجديدة على وجه الخصوص قد يكون خطيرا لأنهم يُقدِّرون النقاش الداخلي وتعددية الفكر.
ليست جهود شي من أجل تلاقح أفكار كونفوشيوس وماركس محض هراء. ورغم ذلك، يجدر الذكر بأن النص الصيني الأصلي الذي كتبه وانغ نشر عام 2004، أي قبل عقدين فقط، حين كانت بيئة الفكر في الصين مختلفة تماما. لقد كان حينها الأكاديميون أكثر حرية في مناقشة البدائل السياسية المختلفة، وكان ممكنا لوسائل الإعلام أن تخاطر بتعليقات سياسية أكثر حِدة.
لا تزال الهوية الصينية متعددة الأوجه لا متجانسة، وكان الفكر الصيني يساهم دائما بشكل أفضل في ازدهار الصين عندما كان حرا ومليئا بالمناقشات لا مغلقا وعقيما. هذا هو جانب التقاليد الصينية الذي لا يمكن للحزب الشيوعي الحالي تجاهله.
—————————————————————————————–
هذا المقال مترجم عن فورين أفيرز ولا يعبر عن وجهة نظر الجزيرة نت
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد القرن التاسع عشر الثقافة الصینیة النصوص الجدیدة القرن العشرین على السیاسة فی الواقع العدید من أن الصین فی القرن فی الصین فی کتابه یمکن أن ع الصین لا یمکن ومع ذلک إلى أن شی جین من أجل
إقرأ أيضاً: