كانت جنازة لم يتخيلها أحد، فقد تم دفن جثمان صادق عباس في قبر لا تميزه أي علامة في العاصمة السودانية الخرطوم على عجالة، بعد الفجر بقليل.

وقال عوض الزبير، أحد جيران المتوفى، حتى الأعداد القليلة من أفراد الأسرة والجيران الذين تمكنوا من الحضور كانوا يتلفتون حولهم بحثاً عن أي تحذير أو إشارة إلى إطلاق نار قريب، وهو ما لم يحدث لحسن الحظ.

مادة اعلانية

بعد نحو أربعة أشهر من معارك الشوارع الدامية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أصبح تشييع الجنازات شبه مستحيل في الخرطوم. ويقول السكان ومنظمات طبية محلية إن الجثث يصيبها العفن في العاصمة، وسط صراع لا يظهر أي علامات على التهدئة.

وقال الزبير: "إذا سألتني أين موقع دفن جثته (جاره عباس) بدقة، فلن أستطيع إخبارك في ظل هذه الظروف".

ولا توجد بيانات كافية عن الضحايا في السودان. فقد صرح وزير الصحة السوداني، هيثم محمد إبراهيم، في يونيو بأن الصراع أسقط أكثر من 3000 قتيل، لكن لم يظهر أي تحديث للأعداد منذ ذلك الحين. ومن المرجح أن يكون العدد الحقيقي أعلى بكثير، بحسب أطباء ونشطاء سودانيين.

كذلك لم تعرض أي مجموعة طبية عدداً للجثث غير المدفونة، خاصة مع الكشف عن مقابر جماعية وأعمال قتل عرقية واسعة في ولاية جنوب دارفور.

جثث في أحد مستشفيات الخرطوم (أرشيفية)

من جهتها، أعلنت نقابة أطباء السودان أن معظم الضحايا المدنيين في الخرطوم قتلوا في تبادل لإطلاق النار، حيث تحولت العاصمة إلى ساحة معركة حضرية. ولقي آخرون حتفهم لأنهم لم يتمكنوا من الحصول على علاج، بينما قيل إن البعض مات جوعاً، محاصرين بسبب المعارك المسلحة التي تجري في الشوارع.

في زمن آخر كانت جنازاتهم ستكون ذات شأن كبير وستدوم أياماً. فمن الشائع في السودان أن يقوم الآلاف بتشييع الموتى، ثم دفنهم في مقابر يحفرها أفراد الأسرة. وقال سبعة من سكان العاصمة السابقين والحاليين لوكالة "أسوشيتد برس" إن الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع حطم هذا التقليد. وتحدث ثلاثة منهم بشرط تكتم هوياتهم خشية الانتقام.

وقال كثيرون إنه ثبت أنه من المستحيل الوصول إلى أي من حوالي عشرين مقبرة في العاصمة، عندما كانوا يسعون لدفن أفراد من الأسرة أو أصدقاء أو غيرهم.

فمثلاً، ألقي القبض على أكثر من 100 طالب جامعي في جامعة الخرطوم عندما اندلع الصراع في 15 أبريل الماضي. وقال زميل للطالب خالد إنه أصيب برصاصة طائشة في الصدر، ومات بعد قليل من إصابته.

وقال مشترطاً تكتم هويته خشية استهدافه: "قمنا بجر جثته إلى طابق سفلي بمبنى لمنع تعفنها". ثم قام مع آخرين بتكفين الجثمان ودفنه في حرم الجامعة تحت شجرة، بعد موافقة عائلته.

وذكر قاسم أمين أوشي، وهو من سكان منطقة بيت المال في أم درمان، على الجانب الآخر من نهر النيل من الخرطوم، أن قوات الدعم السريع منعت الجيران من دفن أحد أفراد الأسرة في مقبرة قريبة، وبدلاً من ذلك دفنوا المرأة، التي توفيت لأسباب، طبيعية في فناء مدرسة.

وأكد معظم السكان أن قوات الدعم السريع كثيراً ما تكون السبب وراء الاضطرابات. ففي الأيام الأولى من الصراع قصف الجيش معسكرات قوات الدعم السريع في العاصمة، ما دفع تلك الأخيرة إلى اقتحام منازل المدنيين وتحويلها إلى قواعد، فقام الجيش بقصف المناطق السكنية جواً وبالمدفعية، بحسب ما نقلته ومالة "أسوشيتد برس" عن السكان.. ووفق بيانات الأمم المتحدة فر أكثر من 2.15 مليون شخص من ولاية الخرطوم.

وقال الزبير إن جاره عباس قُتل بالرصاص بعد أن داهمت قوات الدعم السريع منزله واكتشفوا أن أحد أشقائه ضابط بالجيش والآخر ضابط استخبارات. وأضاف أنه بعد نقل جثمان عباس إلى المستشفى منعت قوات الدعم السريع دفنه، دون إبداء الأسباب، لكنها وافقت بعد ذلك على طلب الأسرة.

إلا أنه استطرد قائلاً إن معظم الناس إما كانوا يخشون حضور الجنازة يوم 30 يونيو، أو لم يعلموا بها، إذ تعاني البلاد من انقطاع الكهرباء والإنترنت منذ اندلاع الصراع. وقال الزبير: "الهواتف المحمولة غير مفيدة في الاتصال، وكأنها علبة سجائر".

من جهته، قال يوسف عزت، متحدثاً باسم قوات الدعم السريع لـ"أسوشيتد برس" إن القيادة لم تصدر أوامر بمنع دفن المدنيين، وإنه إذا تم حظر الدفن يكون ذلك بسبب قتال عنيف دائر في الجوار.

هذا ووصف السكان قوات الدعم السريع بأنها خارجة على القانون، وأن دوافعها كثيراً ما تكون "الملل والتسلية"، إلا أنها في بعض الأحيان "تقوم بتصرفات تنم عن طيبة".

فقال أحد سكان جنوب الخرطوم إنه رغم سرقتهم لسكان في حي يقطنه عمه، عرضت مجموعة من مقاتلي الدعم السريع نقل جثة العم ودفنها عندما مات لأسباب طبيعية في يوليو الماضي.

ومنذ يونيو يقوم الهلال الأحمر السوداني بجمع الجثث ودفنها في العديد من مناطق العاصمة. وقال إنه انتشل ودفن ما لا يقل عن 102 جثة، معظمها لمقاتلين مجهولين من الجانبين. وقال أحد العاملين في الهلال الأحمر إن الجثث التي جمعت تم تصويرها وإصدار أرقام لها.

نقل جثة متوفي يف الخرطوم العرب والعالم نزاع إثيوبيا أميركا و4 دول تعبر عن قلقها إزاء أعمال عنف في إثيوبيا

لكن مع تعذر الوصول إلى العديد من الأحياء التي دارت بها معارك، من المحتمل أن تظل آلاف الجثث بلا دفن في العاصمة، بحسب منظمة إنقاذ الطفولة. والشهر الماضي دعت مجموعة من حي بحري شمالي العاصمة الجماعات الطبية إلى جمع جثث حوالي 500 من مقاتلي الدعم السريع تحللت على الطرق. وفي الأسابيع الأخيرة أحصى صحافي في "أسوشيتد برس" ما لا يقل عن 26 جثة، معظمها لمدنيين وقوات الدعم السريع، ملقاة في شوارع جنوب الخرطوم. وقال إنه بالقرب من مسكن الزبير في حي الصحافة بالخرطوم تحللت إحدى الجثث الملقاة في الشارع، إلى درجة أن العظام ظهرت وباتت مرئية للعيان.

عادة ما يتم نقل الجثث مجهولة الهوية إلى مشارح. وقال الدكتور عطية عبد الله عطية، سكرتير نقابة أطباء السودان، إن ما لا يقل عن أربعة مستشفيات في العاصمة توقفت عن العمل بسبب القتال، بينما لا تزال خمسة أخرى فقط تعمل من بين حوالي عشرين مستشفى بالمدينة.

ومع قدوم موسم الأمطار في السودان تخشى منظمات دولية وجماعات حقوقية من احتمال سقوط المزيد من القتلى وحدوث المزيد من الأضرار بالبنية التحتية. وكانت فيضانات العام الماضي قد قتلت العشرات.

كما يمكن أن تسهم الجثث المتعفنة في تلويث مصادر المياه. وفي هذا السياق، قال الدكتور الصادق النور، المدير المحلي لمنظمة الإغاثة الإسلامية عبر العالم: "كثير من الناس في العاصمة باتوا يشربون الآن من الآبار أو من نهر النيل مباشرةً يأساً من الحصول على ماء نظيف".

مادة إعلانية تابعوا آخر أخبار العربية عبر Google News الخرطوم السودان

المصدر: العربية

كلمات دلالية: الخرطوم السودان قوات الدعم السریع أسوشیتد برس فی العاصمة

إقرأ أيضاً:

هجوم على الفاشر ومجزرة في أم درمان وضربات للبنية التحتية.. الجيش السوداني يُحبط خطة شاملة لميليشيا الدعم السريع

البلاد – الخرطوم
تواصل الدعم السريع هجماتها على مدينة الفاشر، فيما صدّت القوات المسلحة السودانية هجومًا واسعًا شنّته الميليشيا من أربعة محاور، في عملية استمرت لأكثر من سبع ساعات، بالتزامن تصعد الميليشيا عمليات التصفية الجسدية بحق المدنيين واستهدافها الممنهج للبنية التحتية الحيوية، في مسعى لخلط الأوراق وشحن الرأي العام ضد الجيش، عقب خسائرها المتتالية في الخرطوم مؤخرًا.
وفيما شهدت الفاشر هدوءًا حذرًا وسط استمرار التراشق المدفعي أمس الثلاثاء، أوضح قائد الفرقة السادسة مشاة، اللواء محمد أحمد الخضر، أن الهجوم الأخير للميليشيا استُخدمت فيه طائرات مسيّرة، ومدفعيات ثقيلة، وعربات مدرعة، مشيرًا إلى أن الجيش كان على أتم الجاهزية للتصدي له. وأضاف أن الهجوم انتهى بالقضاء على التقدم المعادي، مؤكدًا أن القوات المسلحة في موقع قوة، ومستعدة لحسم أي محاولة مماثلة.
وخلّف الهجوم الذي وقع الاثنين 40 قتيلًا مدنيًا، بينهم نساء وأطفال، نتيجة القصف العشوائي للميليشيا على أحياء سكنية. وقد أعلنت قوات الدعم السريع لاحقًا سيطرتها على ستة أحياء داخل الفاشر، موجّهة نداءً إلى عناصر الجيش لإلقاء السلاح ومغادرة المدينة، متعهدة بضمان سلامة من يستجيب. غير أن مصادر ميدانية أكدت تراجع المهاجمين تحت ضربات الجيش والمقاومة الشعبية، في حين أشار حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، إلى أن الهجوم قاده عبد الرحيم دقلو، وانتهى بانسحاب القوات المهاجمة بعد تصدي القوات المشتركة لها.
ويرى خبراء أن التحوّل في تكتيكات الدعم السريع، عبر استهداف منشآت البنية التحتية الحيوية، بهدف إثارة السخط الشعبي وتشتيت تركيز الجيش عن تقدّمه في دارفور. يعكس حالة يأس ميداني للميليشيا بعد خسائر بشرية كبيرة وفقدان كميات كبيرة من العتاد العسكري.
وفي هذا السياق، قصفت الميليشيا بطائرات مسيّرة مصفاة الجيلي شمال الخرطوم، ومحطة بربر التحويلية للكهرباء، ومحطة عطبرة للمرة الرابعة خلال أسبوع، ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي في مناطق واسعة، وزاد من معاناة المدنيين في ظل وضع إنساني متدهور.
وعلى صعيد الانتهاكات، طالب المرصد السوداني لحقوق الإنسان بفتح تحقيق دولي في مجزرة مروعة وقعت بمنطقة الصالحة جنوب أم درمان، حيث تم إعدام 31 مدنيًا ميدانيًا، بينهم أطفال. وأكد المرصد أن الضحايا كانوا مدنيين عُزّل، وأن قوات الدعم السريع نفذت الجريمة بدافع “الانتقام”. وقد اعترف بذلك قادة في الميليشيا بمقاطع مصوّرة، ما يُشكّل جريمة حرب مكتملة الأركان بموجب القانون الدولي الإنساني.
وفي السياق، قال رئيس مجلس السيادة، القائد العام للجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إن قتل ميليشيا الدعم السريع للمواطنين في منطقة صالحة جنوبي أم درمان ينم عن كراهيتهم للشعب السوداني، وأضاف في كلمة أمس الثلاثاء أن الحرب الدائرة حاليا ضد ميليشيا الدعم السريع وليست ضد قبيلة، مشيرا إلى أن المرجفين يروجون أن الحرب ضد أعراق محددة، بهدف تحشيد الناس وجرهم للقتل، وتابع بأن “حربنا ضد كل من يحمل السلاح ضد الدولة، وتمرد رئيس القبيلة لا يعني تمرد كل القبيلة، مؤكدًا أنه “لا تفاهم مع هؤلاء المرتزقة بعد كل ما فعلوه وسيذهبون في هذه المعركة حتى الانتصار”.
ويُثبِت المشهد الميداني أن الميليشيات لم تجلب للسودان والمنطقة سوى الدمار والدم، فيما يتجدد الأمل مع صمود الجيش السوداني في التأسيس لمستقبل تستقر فيه البلاد على قاعدة الدولة الوطنية والجيش الواحد.

مقالات مشابهة

  • قوات الدعم السريع تقصف القصر الجمهوري بمدفعية بعيدة المدى
  • قوات الدعم السريع تقصف القصر الجمهوري بمدفعية بعيد المدى
  • قوات الدعم السريع تقصف القصر الجمهوري في الخرطوم بمدفعية بعيدة المدى  
  • مصدر عسكري: قوات الدعم السريع تقصف القصر الجمهوري في الخرطوم بمدفعية بعيدة المدى
  • السودان يطالب الصين بتوضيح حول كيفية حصول قوات الدعم السريع على مسيرات صينية
  • هجوم على الفاشر ومجزرة في أم درمان وضربات للبنية التحتية.. الجيش السوداني يُحبط خطة شاملة لميليشيا الدعم السريع
  • بالفيديو..الدعم السريع يترك مفاجأة غير متوقعة داخل مكتب في جامعة الخرطوم
  • جريمة تهزّ السودان: قوات الدعم السريع تُغرق حيّاً بالدماء وتحوّل مطار الخرطوم إلى رماد
  • جريمة تهزّ السودان: قوات الدعم السريع تُغرق حيّاً بالدماء وتحوّل مطار الخرطوم إلى رماد"
  • الدعم السريع ترتكب مجزرة أودت بحياة 31 شخصا وتدمر طائرات بمطار الخرطوم