حلب-سانا

لطالما تميزت سورية بآثار مدنها التي عكست حقباً تاريخية متعددة على مر العصور، وقدمت هوية شعبها للعالم ومنها مدينة حلب التي شغلت حيزاً ضمن التراث الإنساني العالمي بشقيه المادي واللامادي كقبلة جذبت علماء الآثار والمفكرين للبحث في ثنايا كنوزها الثقافية والتراثية، والتي تعد من أقدم المدن المأهولة بالتاريخ.

الباحث والمؤرخ محمد قجة وخلال ندوة تراثية بعنوان (الواقع الثقافي الراهن للتراث الثقاقي السوري المادي واللامادي.. حلب أنموذجاً) احتضنها مسرح دار الكتب الوطنية بحلب، تحدث عن ماهية مفهوم التراث المادي واللامادي، وماهية العولمة، وعناصر التراث بشكل عام ومنها الثقافات المتنوعة، والآثار، والعادات، والتقاليد، والمعتقدات والطقوس الدينية، والاحتفالات الاجتماعية والدينية، ومعارف السكان الأصليين، والفنون والحرف والموسيقا، والمعتقدات السياسية والإيديولوجية، والتقاليد العلمية، واللغة، والرياضة، والحكايات الشعبية.

واستعرض قجة أبرز معالم العمارة في مدينة حلب والمدن العربية والعالمية التي قام بزيارتها وكانت شبيهة بالطراز المعماري لمدينة حلب، وأهم المخطوطات العربية وتوزعها في أنحاء العالم، والكتب الأثرية وأهميتها العلمية والمعرفية.

وبيّن الباحث قجة أن على عاتق الخبراء في مجال التراث بجوانبه كافة نقل صورة وكنوز هذا الإرث الإنساني إلى المهتمين محلياً وعالمياً، في سعي للحفاظ عليه بظل التحديات الراهنة، وإظهار قيمته كهوية وطنية تميز البلاد.

وقدم الباحث الدكتور محمد عبد المحسن عرضاً لأهم المأثورات الشعبية الحلبية التي ساهمت بصيانة التراث بشقيه المادي واللامادي، موضحاً أن للمواطنة حيزاً واسعاً وكبيراً في الأدب الحلبي، وأهم ما يميز مدينة حلب المآثر الشعبية التي حفظها أهالي حلب ويتم تداولها حتى الوقت الحاضر.

وبيّن مدير مؤسسة أرض الشام المنظمة لسلسلة الندوات التراثية في المحافظات باسل الدنيا أهمية العمل التشاركي ضمن خطة ممنهجة على موضوع الهوية الثقافية السورية، والانطلاق إلى المحافظات التي طالتها الحرب، وأثرت على تراثها الثقافي المادي واللامادي، وتسليط الضوء على الواقع الثقافي الراهن لكل مدينة سورية.

تضمنت الأمسية أيضاً تكريماً لأبرز الشخصيات العاملة في التراث بحلب منهم الباحث والمؤرخ محمد قجة والباحث محمد حسن عبد المحسن والدكتور أحمد زياد محبك والممثل المسرحي نديم شرباتي والأديب والروائي محمد أبو معتوق والباحث الأثري عبد الله حجار.

أوهانيس شهريان

المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء

إقرأ أيضاً:

ماذا تقول الغزيّات في القدس بعد 9 أشهر من الإبادة؟

القدس المحتلة- لقصاصات الورق تبوح الغزية أم مصطفى، وقد رفضت الإفصاح عن اسمها خشية الملاحقة الإسرائيلية، بحزنها وعجزها عن حماية ما تبقى من آمال عائلتها، وأحلامهم التي تجمدت مع اندلاع الحرب على غزة يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

"يا كاشف الكرب قد ضاقت بنا الخيم

نار من القهر في الأحشاء تضطرم

لم يبقوا فينا شيئاً لم يُقاسِ ألم

لم يرحمونا وزادوا ليلنا عتم

جئناك ضرعى وكل ما بنا سقم

جئناك صرعى وكل ما بنا كلم

فاشدد لنا الأزر واجبر قلبنا الهشم

أنت الولي ونعم الرب والحكم"

في بيتها بالمدينة المقدسة -الذي انتقلت للعيش فيه مع زوجها المقدسي قبل سنوات- استقبلتنا السيدة الغزية أم مصطفى، ورحبت بنا بابتسامة تخفي خلفها سيلا من الدموع التي انهمرت بمجرد الحديث عن حنينها لغزة التي أسمتها "مدينة القلب".

وطُويت صفحة الشهر التاسع من الإبادة الجماعية التي تُمارس في القطاع المحاصر، وطُويت فصول حياة عشرات الآلاف بعد استشهادهم، ولا أحد في العالم استطاع حتى الآن أن يطوي صفحة هذه الحرب، هذا ما يعبر عنه صوت أم مصطفى المرتجف، وقلبها العاجز عن تحمل المزيد من الألم.

أم مصطفى تحتفظ بذكريات طفولتها في حي الرمال الذي هجرت منه عائلتها خلال الحرب (الجزيرة) شتات ورعب

تعيش عائلة أم مصطفى في مدينة غزة ويتوزع أفرادها بين أحياء تل الهوى والصبرة والرمال، وكان آخر لقاء جمعها بهم عند زيارتها للقطاع خلال سبتمبر/أيلول المنصرم أي قبل أسابيع من اندلاع الحرب.

وحملت معها هواء غزة ورزمة جديدة من الذكريات وعادت بها إلى العاصمة المقدسة، لكن الفرح لم يدم طويلا مع انطلاق الحرب التي تشعر أم مصطفى منذ اندلاعها أن شيئا كبيرا ينقصها بسبب شح التواصل خاصة مع شقيقتها التي تعتبر أقرب إنسانة إلى قلبها.

عبّرت السيدة الغزية للجزيرة نت عن كثير من المشاعر التي تنتابها لكن تنهيدات الألم والصمت المتكرر الذي تخلل الكلمات كان أكثر مما تمكنت هذه الغزيّة من البوح به.

واستهلت بوحها بالقول "التواصل معهم هو الذي كان يخفف عني صعوبة الحياة وتفاصيلها في البعد عنهم، وكنت أُمنّي نفسي طيلة العام بأنني سألتقي بهم في عطلة الصيف.. أمل اللقاء بهم كان هو الحافز الذي يمكنني من مواصلة الحياة في الغُربة.. بلقائهم كان قلبي يرتوي والآن الأمل معدوم بلقائهم".

البحر جزء من ذكريات طفولة الغزية أم مصطفى وآخر عهد لها به كان قبيل الحرب بأسابيع (الأناضول) بحر غزة

في غزة كانت أم مصطفى تعود إلى طفولتها فتمارس مع أحبابها هواياتها بالسير على شاطئ البحر، والنوم على الشُرفة الخارجية للمنزل لتستيقظ على صوت أمواجه، والهروب من صخب مدينة غزة إلى البيّارة (بستان) للاسترخاء، لكن ذلك كلّه اندثر فالمنزل دُمر ولم يعد صالحا للعيش والبيارة سلبها الغرباء، والسيارة التي احتضنت ضحكاتهم احترقت.

"في بداية الحرب توقفت حياتي وتسمّرت أمام شاشة التلفاز لمتابعة الأخبار، ومرّت أيام متتالية دون أن أعرف مصير عائلتي هناك، وبعد شهرين قررت البوح بكل ما أشعر به للورق فكتبتُ وما زلت أكتب لأحافظ على اتّزاني النفسي، واعتزلت متابعة الأخبار ودخلت في حالة هروب كي لا أغرق في الوجع أكثر".

وعند سؤالها عما إذا كان لديها أمل أو رغبة في العودة إلى غزة في حال انتهت الحرب، قالت إنها حتما ستزورها فـ"لدي أمل للعودة إلى مدينة القلب والذكريات، وكما قال محمود درويش إن الحنين: استرجاع للفصل الأجمل في الحكاية".

وحتى تضع الحرب أوزارها فإن "في الانتظار.. يصيبني هوس برصد الاحتمالات الكثيرة" وهو اقتباس لدرويش أيضا الذي تستأثر أم مصطفى بنصوصه عادة.

ومع كل الألم الذي تعيشه هذه المواطنة فإن الحرب جعلتها ممتنة لنعم كثيرة تحظى بها وكانت تعتبرها بديهية، كأن تحرص على عدم التفريط بأي حبّة أرز أثناء غسلها وتحضيرها للطبخ، أو أن تنام في الليل على سرير ووسادة لا بخيمة، أو أن يكمل أطفالها مسيرتهم التعليمية بسلاسة.

وتختتم حديثها بالقول إنها "مدينة لغزة بكل الحب، مدينة لها بضحكاتي المجلجلة، بغمازتيَّ حين تشرقان، وقلبي حين يثمل فرحاً مدينة لها ببئر الذكريات الذي أغترف منه فترتوي روحي".

أمام ما يجري من غزة تلجأ أم محمد للصمت وبداخلها وجع عقدين لم تر فيهما عائلتها بغزة بسبب إجراءات الاحتلال (الفرنسية) الألم عميق

في منزل أم محمد، الغزيّة المتزوجة من مقدسي، الحالة النفسية ليست أفضل على الإطلاق، والصمت كان أبلغ من الكلام في أحيان كثيرة، والدموع عبّرت عمّا لا يمكن أن تعبر عنه الأحرف الأبجدية.

منذ عقدين ونيف تعيش أم محمد، في القدس منسلخة بفعل الإجراءات الإسرائيلية عن عائلتها في غزة والتي يفصلها عنهم حاجز "إيريز" العسكري سيئ الصيت، وبالتالي فإن زياراتها لمهوى قلبها كانت متذبذبة دائما، ومنعدمة التحقق حاليا.

تعيش أُسرة أم محمد في حي الرمال، وتذكر أنها في اليوم الرابع للحرب شاهدت على التلفاز خبرا يدعو أهالي هذا الحي للنزوح منه فورا نحو الجنوب، فـ "اتصلتُ بهم مباشرة وطلبت منهم تحضير أوراقهم الرسمية والخروج، لكنهم قالوا لن نترك المنزل وهذه ليست الحرب الأولى وسنصمد، لكن الهجوم كان أقوى من أن يواجه بالصمود.. وخلال ساعتين اتصلوا بي وقالوا إنهم نزحوا إلى دير البلح".

وعن وصفها لحالها وهي تعيش بعيدة عنهم قسرا قالت "نجحت مؤخرا في الخلود إلى النوم ليلا، كنت أستيقظ طوال الليل مع اشتداد القصف خوفا من سماع خبر سيئ عن عائلتي.. اتصلت بي إحدى قريباتي يوما تسألني إذا كانت عائلتي ممن استشهدوا بعد سماعها خبر استهداف في دير البلح كُشف فيه عن أسماء أشخاص من عائلتنا.. الظروف قاسية وشعور العجز قاتل".

أكثر ما يخيف أم محمد هو الفقد، وأكثر ما يغضبها هو عجز العالم عن إيقاف المجازر "ومن وجهة نظري الكل متواطئ ولا أرى مستقبلا أفضل".

مراجعة ذاتية

يرفض أشقاء أم محمد فتح الكاميرا في محادثات الفيديو كي لا ترى شقيقتهم إلى أي حال وصلوا بعد 9 أشهر من الحرب التي كانت المجاعة وسوء التغذية أبرز سماتها، لكنهم قالوا لها مرارا إنهم باتوا يتمنون لو أن الرصاصات القادمة تستهدفهم لتنتهي حياتهم وينتهي الوجع معها.

ورغم كل الألم فإن أم محمد حاولت البحث عن جوانب إيجابية فقالت إنها نجحت على الصعيد الشخصي في إعادة ترتيب أولياتها وعلاقاتها الإنسانية، وأسقطت الكثير من الأشياء من قانون الأهمية لديها، وقد جعلتها الحرب تكتشف أن الكثير من الأمور التي كانت تبذل جهدا خرافيا لأجلها لا معنى لها أمام الحياة والموت.

أما في غزة فترى هذه السيدة أن معاناة الحرب وطدت العلاقات بين أبناء القطاع، وستجعل جزءا منهم يخرج بوعي أكبر في كيفية تنظيم حياته وترتيب أولوياته، لكنها ستجعل آخرين يتعاملون بلا مبالاة ولا يفكرون سوى بإسعاد أنفسهم وأطفالهم في كل لحظة قبل أن تأتي لحظة تضيع فيها الحياة منهم.

مقالات مشابهة

  • ماذا تقول الغزيّات في القدس بعد 9 أشهر من الإبادة؟
  • الأوبرا تحتفل بالعام الهجري الجديد.. الليلة
  • هاجر يا قتيبة
  • الثقافة كهوية مدينة.. أصيلة المغربية تحتضن موسمها الثقافي الدولي الـ45
  • المتاحف الخاصة بالحدود الشمالية توثق تاريخ المنطقة
  • «ماذا أكل المصريون عبر آلاف السنين» .. ندوة بقصر الأمير طاز الاثنين
  • رسمياً.. القناة يضم لاعب بورفؤاد لمدة 3 مواسم بعد دفع المقابل المادي
  • واقع التراث الثقافي الأثري بمحافظة مأرب جديد إصدارات الباحث محمد الحاج
  • المئات ينتفضون ضد هيئة تحرير الشام شمال غربي سوريا
  • السديس: المملكة قدمت من خلال موسم الحج أنموذجا رياديا حضاريا غير مسبوق