يقول الكاتب والأكاديمي د. شوقي المعري: «لا يزال الإنسان يبحث عن المكانة والمنزلة الرفيعة سواء في مجتمعه أم خارجه، والشهرة التي يتمناها كل شخص لا تتوقف ولا حدود لها، ولكن هل فكرنا كيف نصل إلى الشهرة؟ وهل عندنا مقوماتها؟، ويبدو أن شهرة الأدباء والفنانين مغرية أكثر من غيرها، ومؤخرا طفا على سطح المجتمع فئة من الأدباء والشعراء والكتاب الذين احتلوا الساحة، ساعدتهم في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، فصار لدى البعض رغبة في الانتشار والشهرة، فلمَ لا أكون أديبا أو روائيا أو أستاذا جامعيا؟! ولفت نظري في السنوات الأخيرة العدد الكبير ممن يحملون الدكتوراة، وربما كانوا لا يحملون الثانوية، وممن سمى نفسه أديبا وهو لا يتقن اللغة، وممن صار شاعرا في زمن صار صف الكلام شعرا.

! السلبي في الأمر هو كيف وصل هؤلاء؟ كلنا يعرف أن الكثيرين والكثيرات كتبوا أسماءهم على عمل لم يقوموا به، فمن يملك المال في هذا الزمن يشتري شهادة وإن شاء أكثر، ويكتب اسمه على روايات ودواوين وقصص وكتب.. لا أدري إن كان الجميع يعرفون أن هناك مكاتب للعمل الأدبي، ما عليك إلا أن تختار ما تريد وما عليك إلا الدفع، وهناك دور للنشر خصصت مرمما للمادة الأدبية أيا كانت سُمي «المطوّر» يتدخل في النص يغير ويعدل ويبدل ويزيد ويحذف بحسب الدفع، وربما يقلب العمل رأسا على عقب، والدافع لا يهمه كأنه كلف أحدا بأن يعمل عملا ما بأجر له وللدار.

المعالج قاتل للإبداع

جورج عربجي كاتب درامي يوضح رأيه: بدايةً يجب تعريف كل من: الكاتب: صاحب الفكرة وكاتب السيناريو وهو الأب الشرعي للعمل. والمطور: من يرافق الكاتب بمرحلة الكتابة حصرا، وليس بعد الانتهاء منها وأسميه (الناصح) وبمرحلة الكتابة هناك عقل يعمل ومشاعر تُكتب وروح تُستنزف وهم دماغ ومشاعر وروح الكاتب، ولكن أين الخطأ إن كان هناك عقلان وشعوران وروحان يُستنزفان ليُخرجا النص بشكلٍ أبهى؟ مهمة المطور ليست بأن يكون شريكا للكاتب، وهو شبيه بالطبيب الناصح الذي يرافق المرأة الحامل طوال حملها ويعطيها النصائح من غذاء ودواء، ولا يجبرها على شيء، وفي النهاية لها الحرية أن تأخذ بها أم لا، ولا يُنسب المولود للدكتور. المطور شخص خبير بمجال السيناريو وتطويره، وكل ما يُدلي به يصب في مصلحة النص، ومن ثم بذائقة الجمهور، ولا ينوب عن الكاتب بكتابة مشهد أو فكرة واحدة، بل يطور فكرة ما موجودة أساسا بالنص الذي يُكتَب الآن، ويأخذ بيد الكاتب ليأخذا معا النص لأفضل مكان، وهذا يعني أن تتم العملية بالاتفاق مع الكاتب الذي يجب أن يتمتع بالمرونة الكافية والقناعة التامة، فكرة مسلسلي جميلة إن جاء أحد وأضاف عليها جماليةً فلِمَ لا؟ هذا لمصلحة النص أولا، وبالتالي لمصلحتي والمطوّر مفيد جدا كشريك بمرحلة العصف الذهني التي يقوم بها الكاتب بمرحلة الكتابة وما قبلها، المطور مهنة وليست صفة، مهنة معتمدة وبشدة في أكثر البلدان تقدما من ناحية السينما والتلفزيون. والمعالج: هو كوالدة الزوج النرجسية التي تمارس سلطة ليست من حقها وتتعدى حدودها في أغلب الأحيان في التدخل في مرحلة ما بعد الولادة، هو كاتب لا يمتلك موهبة الإبداع يقرأ نص، (وبسبب موقعه ووظيفته بشركة الإنتاج) يجب عليه أن يضع ملاحظات سلبية وأن ينقلها للمعنيين بالإنتاج وتأخذ بها لثقتها به وبفصاحته بالكتابة الفصحى (والفصحى ليست مقياسا للإبداع) وتوكل إليه بعد إقناعهم بالسلبيات مهمة المعالجة، وتشعر الشركة أنه يحتاج لبعض التعديلات والحل بيد المعالج الذي تدفع له راتبه الشهري وسيحمل العمل اسمها؛ وبرأيي المعالج هو قاتل للإبداع إن كانت (الأنا) لديه مرتفعة لأنه يضر بالعمل ككل، وببساطة لو كان يمتلك موهبة الإبداع كالكاتب لأصبح كاتبا يتقاضى أضعاف ما يتقاضاه كمعالج. إن رافق المعالج الكاتب ببداية العمل فقد أصبح إسمه مطورا، ولكن مهنة التطوير تحتاج لعقلية مختلفة عن عقلية المعالج، فالمطور ليس لديه عقدة الكاتب الذي لم يأخذ فرصته، بل هو (كطبيب) مستمتع جدا بمهنته بمشاركة الإبداع الذي أبدعه كاتب النص؛ وعليه إن رافق المعالج الكاتب في مرحلة الكتابة هذه أشبه بالوقود والنار لن تؤدي إلا أن يحترق العمل والإبداع قبل أن يبدأ، وبالمناسبة أنا لا أتكلم عن تجربة شخصية أتكلم بنظرة موضوعية ورأي شخصي بحت.

أغلب شركات الإنتاج الكبيرة زالت منها وظيفة المعالج لعدم فاعليتها؛ أما مهنة المطور الحديثة فأصبحت معتمدة على اقتناعها بأن الأمرين مختلفان كليا وهذا يأخذنا إلى أن الدراما وصناعها متجهون للتطور لا التراجع وهذا مبشر.

وإن نظرنا لمعنى المُسمَّيين سنجد أن صفة المطور صفة إيجابية من حيث المعنى، وصفة المعالج سلبية، وكأنَّ النص مريض ويحتاج لعلاج. أما إن كان النص منتهيا ويحتاج لبعض التعديلات المحقة لا يجب أن ننسى أن هناك مخرجا ورؤية مخرج.

المال يشتري فقر الكاتب

يسرد الكاتب الروائي حسين عبد الكريم توصيفه لهذه المسألة بالقول: «الكتابة إبداع يخص روح وتجربة الكاتب، والمبدع الحق لا يسوق قطيع مفرداته إلى أي نبع لغوي. الكتابة عزف على أعصاب التأملات ودراية بفنون العواصف، والعلاقات الوجدانية تتعكز على الفطرة النبيهة ثم تتقوى بالهموم والثقافة وروح الحنين والحياة.

الكتابة حقيقة وجدانية وسطوع فكري... تأليفات تلوذ بالدهشة وتنشر البهجة عكس ما يحصل في العصر المتورط بعولمة التفاهات بدل القناعات.

وأحيانا المال يشتري فقر الكاتب، ولكن لا يوجد مبدع بالوكالة عن مبدع، أو لغة بالوكالة عن لغة، العواطف مزاجية والحبر مزاجي ولا يصح استبدال هذا بذاك.

أقدار الكتابة شخصية وكذلك أمزجة الحبر وعواطف الحب والأحزان تلوذ بالدهشة وتهدي الدهشة، ولا يمكن لكتابة أن تهدي حالها لغير حال، عمليات التشويه النسوية التي يسمونها زورا عمليات تجميل، مثل عمليات الكتابة عن الكتابة، تجميل كتابة ضئيلة بكتابة جميلة تتشوه الأمزجة حين تترخص بحالها الأحوال.

وأخشى على لغتي أن تتنفس خطأ غير هوائي، الحاجات المريرة ترغم عقل الواقع على البؤس والخرف لكنها تبقى حاجات واقعية ضارية ولا يمكن تسميتها إبداعا أو كتابة أو فنا، أنها صرعات الحاجات المادية وتسويق العيوب. الكتابة حب بسيط بهيج كالينابيع الجبلية لا يمكن شراء أمزجتها بالمال. أما كتابة السيناريو فهي فن حسابي كتفاصيل الألبسة الجاهزة، أنه مشادات كتابية بين التمثيل والصورة والتقسيمات الأخرى. ويختلف مزاج الكتابة الأدبية عن كتابة السيناريو... ليس عبئا أو عيبا أن يتعاون السيناريو مع روح الرواية، أما أن يكتب كاتب نيابة عن كاتب فهذا عيب.

المرأة تقلد التشويه، والمال يشتري الكتابة ويبيعها، دور النشر عملها تسويقي، هناك امرأة تكتب قليلا موهبتها قليلة وتتعكز على خبرة الآخرين ومواهبهم، لا يمكن اعتماد موهبة على موهبة، وهنا تكمن ضحالة الإبداع».

أمر إيجابي برضا الطرفين

يصف الكاتب والإعلامي عمر محمد جمعة الموضوع بطريقته: «إذا سلّمنا بأن بعض الكتّاب والمؤلفين يجهلون بعض القضايا والمسائل التي تتعلّق بالمستوى الفكري واللغوي والفني للنص المكتوب، فإنه سيغدو مبررا -برأينا- أن يتدخل كاتب آخر في تقييم وتقويم وترميم مواطن الضعف، ولا بأس في ذلك، وربما في زعمنا هذا إيجابي بين الأصدقاء الذين يعملون في الحقل ذاته، على ألا يؤدي ذلك إلى استمراء الاتكالية عند الكاتب الأصلي، فما سيفعله الصديق أو الزميل هو تحرير النص من بعض الهنات والتكرارات أو الحشو أو الفائض السردي وتصويب الأخطاء السياقية واللغوية، وشدّ البنية الفنية للنص القصصي أو الروائي أو السيناريو المستهدف، في حال كان يطغى الترهل على هذه البنية. الكثير من دور النشر والمؤسسات الثقافية، وبعض شركات الإنتاج الفني، تسعى إلى هذا الفعل في سبيل تقديم محتوى جيد جدا يرضى عنه ويقبله المتلقي، وتستعين لتحقيق هذا الهدف بكتّاب ومحرّرين ذوي كفاءة وخبرة، ولاسيما عندما تُقدم لها نصوص تحتاج إلى إعادة كتابة، أنجزها كتّاب محدودو الموهبة أو قصيرو النظر في بعض المواضع.

على أنه لا مشروعية لأي مؤسّسة ثقافية أو دار نشر التدخل في النص وتغيير بعض ترسيماته ومقولاته، بما يتطابق مع أهدافها وسياساتها دون مشورة الكاتب والرجوع إليه والحصول على موافقته المكتوبة، الأمر الذي يحدث كثيرا في شركات الإنتاج الفني أو الدرامي من تدخل في بناء ومحاور وشخصيات السيناريو المكتوب، والتسبّب بخلافات كبيرة قد تصل إلى القضاء بين الكاتب والشركة المنتجة.

أعود وأكرر بأن الأمر إيجابي ومشروع برضا الطرفين الكاتب والكاتب المطور أو المحرر الذي يمتلك رؤية أوسع وأشمل، وهذا في زعمي في مصلحة النص وجودته أولا ومصلحة الكاتب الأصلي ثانيا كي ينتبه ويسعى إلى تطوير أدواته الفكرية والفنية واللغوية».

الإبداع جهد فردي

يعتبر الناقد والكاتب احمد هلال هذا الموضوع أنه «ظاهرة ليست جديدة في المشهد الثقافي لا سيما الغربي الذي ارتبطت داخل أروقته الأكاديمية والبحثية بظاهرة أخرى أكثر شيوعا هي ظاهرة الظل أو الكاتب الشبح، وأصبحت مهنة بذاتها، وأمثلة ذلك في نوع السير الذاتية والمذكرات السياسية لزعماء عالميين، لكن الفارق هنا إن ذلك يتم باتفاق مسبق دون إعلان اسم الكاتب أو المحرر الذي يكتفي بمكافأة مادية فقط مع ما يرافق هذه الظاهرة من مفارقات في ذلك المشهد، فالكاتب الخفي سينطوي سلوكه على مفارقة للأخلاق ولمفهوم الأخلاق، وهذا ما سيعكس ذاته بضروب من التغييب القسري للمؤلف الحقيقي، وفي مشهدنا الثقافي العربي يجب أن نميز هنا بين مسألتين الأولى تحرير النص وصياغته بالاتفاق مع الكاتب وبعلمه المسبق، والأمر الثاني الاكتفاء بالمكافأة التي تمنحها دور النشر اعتمادا على صمت الكاتب الخفي أو مطور النص الذي يضع خبرته وثقافته لغيره.

والاستعانة بكاتب أخر لإنجاز رواية أو مجموعة قصصية لا ينطوي بالأغلب الأعم على مفهوم الإبداع وفرديته، لأن الجهد الحقيقي هو لكاتب الظل الذي يعيد التأليف بأسلوبيته وما يخصه هو أكثر مما يخص كاتبا ناشئا، فالإبداع هو جهد فردي بالمحصلة لا ينمو ويتطور إلا بالتفاعل والحوار بعد الإنجاز وليس قبله، ومشهدنا الثقافي يعج ببعض هذه المفارقات فيه، وبعض دور النشر تتقصد الربحية واستثمار الشهرة على حساب جودة النص وقيمته، وما يؤسف في هذه الظاهرة اختلاط الأصوات واعتباطية التجارب التي لا تضيف بقدر ما تربك، للجهد الفردي أهميته ودلالته من العسير هنا أن ينجح صاحب الموهبة الفقيرة في إثبات هويته المبددة ما لم يكن هو صاحب الإبداع اسما وهوية، والصحيح أن يظهر صوت المبدع الحق وخبرته وأصالته، وهذا ما سيبقى بعيدا عما تمارسه بعض دور النشر في سياساتها واستراتيجياتها، فالمعنى الأوسع للاستعانة هو بجلاء الأصوات القادرة على إنجاز تجربتها سلبا أو إيجابا لا الاتكاء على أصوات أخرى من شأنها أن تبدد مفهوم الإبداع، وإذا قيل جهرا أو مواربة بأن ثمة من يكتبون لكاتبات أو كتاب فذلك ليس شائعا بل هو محدود ويتلاشى ولا جذور له في مشهدنا الثقافي المركب والمختلط حيث لا اعتداد بالكم على حساب الكيف أو ما يسفر عنه الكم من نوع أصيل، وهنا نقول: إن مفهوم الاستعانة له سياقات ضيقة لا تخفي جهود كتاب حقيقيين ما زالوا يمتلكون صنع الفارق في هذا المشهد.

ثمة مسؤولية أخلاقية ومعرفية برسم سلبية هذه الظاهرة أي مقاربتها موضوعيا كشفا لآثارها وتجلياتها من أجل وعي ثقافي لا يحتفي بهذه الظواهر وإقصائها عن الواجهة».

احتيال أخلاقي ونجاح مزيف

تقول الكاتبة والإعلامية أماني المانع: «الكتابة كالحب، لا ندري لماذا وقعنا به؟ ولماذا نحتاجه؟ ولا نعرف سر ميلنا نحوه، وإنما ننساق إليه دون أن ندري فهل يستطيع شخص آخر أن يحب عوضا عنا؟ وهل يمكن للذكاء الصناعي أو لتطبيق أو برنامج أن يعيش مشاعرنا ويفسرها ويترجمها لأفكار وكلمات؟ في الكتابة هناك شعور لا يخضع لمنطق المحرر الأدبي، وهناك صرخات ألم أو نداء لا تنطلق إلا من قلب كاتب النص نفسه بعد أن أحكم كتمه، ومثلما يكون إخفاء ذات الكاتب أمرا يكاد يكون ضروريا، فإن ظهور ذات الكاتب بوضوح كامل في النص أحيانا يجعل الكاتب ونصه يتكاتفان معا للوصول لفكر القارئ ومخيلته وعواطفه، والكاتب ربما كان أقدر القراء على معرفة أن هذا النص لم يكتبه صاحبه من خلال الهفوات التي تبدو في ربط الأفكار بروابط لغوية متعددة، اعتماد حجج وبراهين مناسبة لإقناع المتلقي بوجهة نظر الكاتب، ويبدو الأمر جليا أكثر في استخدام المحرر الأدبي وإعادة الصياغة عبر تقنيات الذكاء الصناعي الحديثة التي يمكن أن تعمل مع النصوص دون أي تعقيد تقدم النص نفسه بكلمات مختلفة دون فقدان معنى النص نفسه لكن بفقدان الروح فيه، فيكاد يكون من المستحيل إيجاد لمسة إنسانية أو أسلوب فريد وجذاب، كما أن الكتابة بواسطة هذه التقنيات تعتمد على المنهجية نفسها، وغير قادرة على استخدام الفروق الدقيقة في اللغة التي تربط بين أجزاء المحتوى وتجعله مميزا بأسلوب كاتبه، على الكاتب أن يستشعر المسؤولية عن هذا القلم، وأن يتحرى أكثر درجات الموضوعية والصدق مع نفسه ومع غيره من الكتاب والقراء... ففي استخدام كاتب آخر أو محرر أدبي لكتابة عمل أدبي نوع من الاحتيال الأخلاقي لن يصل بصاحبه إلا إلى ما يسمى بالنجاح المزيف».

العملية تشاركية ومثمرة

من أجل إلقاء الضوء أكثر على هذه المهنة أخذنا رأي الكاتبة صبا منذر حسان التي تعمل أيضا بصفة محرر أدبي فقالت:

«الكاتبَ المتمكّنَ لا يستعينُ بمحرِّر لكي يرفعَ شأنَ لغتِه أو يضفي عليها نفحةً من الإبداع الذي من المُفترَضِ أن يكونَ موجودًا لديه. حاليا، أصبحَ المحرِّر عنصرًا مهمًّا جدًا في دور النّشر، بسبب رغبة كثيرٍ من الناس في أن يصبحوا كتّابًا من دون أن تكون لديهم ملكةُ الكتابة الإبداعيّة، فقد يكونُ إسهامُهم في الكتاب أو القصص أو الروايات مقتصرًا على الفكرة، أمّا المحرِّرُ فيقَع على عاتقِه بناءُ النصّ كاملًا وَفق تلكَ الفكرة، وهذا التعاون قد يكونُ مثمرًا؛ إذ إنّ بعضَ الناس لديهم فِكَرٌ إبداعيّةٌ أو حبكاتٌ غريبةٌ لكنّهم يفتقرون إلى اللّغة الأدبية المتمكّنة، لذا يستعينون بالمحرّر الذي -بحسب رأيي- هو شريكُهم الإبداعي الذي من المفترض أن يكون معروفًا للقارئ. وهنا، لا يمكننا أن نهمّشَ صاحبَ الفكرة الإبداعيّة، فهو مبدعٌ لكنّه محتاجٌ إلى محرِّرٍ يصوغ أفكارَه كلماتٍ.

أمّا مقدارُ تدخّل المحرّر في النص، فيختلفُ باختلاف نوع الكِتاب؛ وبحسب مستوى العمل الأدبي، فبعضها تحتاجُ إلى إعادة صياغةٍ عامةٍ إضافةً إلى التدخلِ في حبكتها التي تكونُ غيرَ شائقة؛ لكنّ هذا التدخّل الكبير يحتاجُ إلى موافقة الكاتب أولًا، وهنا، يمكننا القولُ: إنّ المحرّر يؤدّي بدايةً دورَ النّاقد، فينقد النصّ مبيّنًا مواطن قوّتِه وضعفِه، ثمّ يعرضها للكاتب الذي له الحق في أن يرفض أو يقبل، وفي النّهاية، يعمل المحرّر وَفق رغبةِ الكاتب، فإمّا يحرّر النصّ تحريرًا عاديًّا (إعادة صياغة النصّ) من دون أن يتدخّل في الأحداث، وإمّا يحرره تحريرًا عميقًا به ينسج خيوط حبكته على وَفق ما يراهُ مناسبًا ومشوِّقا، وقد يُعطى الكاتبُ تلكَ المهمّةَ بإشراف المحرِّر، وهناك أعمالٌ أُخَر كُتبت بحبّ ولغةٍ جميلة لكنّها تحتاجُ إلى إعادة نظرٍ فيها؛ فقد يكون فيها حشو أو إسهاب لم ينتبه لهما الكاتب، فيطلب من المحرّر التدخل في هذه الأمور ليس غير.

ولا أجدُ أن الاستعانة بالمحرِّر تؤثّرُ سلبيًّا في المشهد الثقافيّ، فهو مقوِّمٌ ومسهمٌ في إخراجِ عملٍ أدبيٍّ جميل للقارئ ليس بجهودِه وحدَه بل بجهودِ الكاتب أيضًا؛ فالعمليّة هنا تشاركيّةٌ ومثمرةٌ. لكنّ الحالة الوحيدة التي يمكنُ أن يكون تأثيرُها سلبيًّا، هي أن تكونَ فكرةُ الكِتاب بلا قيمة، حينها، حتّى إن ارتقى المحرّرُ بالمستوى اللّغوي، فإنه لن يستطيع أن يغطي رداءة المضمون، لأنّهُ خالٍ من أيّ فائدة تُذكَر».

ضرورة لإنقاذ الكتب من عبثيتها

وللتعرف أكثر على هذه المهنة من داخل مطبخ الناشر التقينا أيمن غزالي مدير دار نينوى للنشر حيث قال:

«مهنة المحرر الأدبي تم استحداثها في الدار منذ ثماني سنوات حيث أن إنجاز الكتاب وتصديره مسألة معقدة وتحتاج إلى عناية واهتمام وانتباه ووقت حتى يصدر

ومن هذه الأشياء مسألة التدقيق والتحرير ليستوي النص بالشكل المطلوب الذي يجعل منه كتابا مضبوطا من حيث المضمون والشكل. ويضيف أيمن: إن عمل المحرر الأدبي عندنا لا يقل بجوهره عن الكاتب إذ إن مسألة تحرير نص أدبي أو مذكرات أو كتب أكاديمية، وقد لا يكون لدى المؤلف الوقت أو الدراية أو اللغة التي يستطيع من خلالها ضبط النص لإيصال الفكرة والجوهر بشكل واضح وصريح لذلك يلجأ أغلب الكتاب وخاصة في الغرب للمحرر حيث تكون مهمته تدقيق وإخراج النص بشكله الصالح للطباعة وهو أمر طبيعي ويوجد علاقة طيبة بين الكاتب والمؤلف ويذكر اسم المحرر بشكل صريح في الكتاب.

في الوطن العربي تعتبر هذه المهنة جديدة، ويعتبر الكاتب العربي نصه مقدس ولا يحتاج إلى أي شيء رغم وجود مشاكل كثيرة سواء في الصياغة أو المعلومات أو اللغة، وعندما يدفع بكتابه للنشر لا يتحرر من نصه ولا يعتبر المحرر الأدبي شريك له في النجاح. ويشير غزالي إلى أن وجود المحرر الأدبي يعتمد على مهنية دور النشر التي لم تعد تقبل بإصدار كتب مخالفة للمواصفات العالمية بالشكل والمضمون لذلك لجأنا في البداية للمدقق والذي ساهم بشكل جيد بتحرير النص وضبطه لعدم وجود مهنة محرر أدبي سابقا، لكن مع الوقت أوجدنا متخصصين، وأصبح الكتاب مقتنعين بالشراكة مع المحرر الأدبي لإنجاز النص بالشكل المطلوب.

ويؤكد غزالي أن دار نينوى كان لها دور مبكر في هذا المجال وأن المسألة ليست سهلة لكنها لا تزال في البدايات ونأمل تطورها لأنها ضرورة ملحة لإنقاذ الكتب من عبثيتها، ونقوم بذلك بالاتفاق مع الكاتب لمعالجة وضبط النص والجمل والربط واللغة ولا يتعدى أكثر من ذلك، وأحيانا يتدخل في الحذف والإضافة واللغة لكنه لا يتدخل في السرد والفكرة الأساسية إلا نادرا. وما زالت المهنة في بداياتها ولم يتعرف بعد المحرر الأدبي على دوره الأساسي في النص، لكنه يقوم بواجبه تماما، ونتمنى أن تتبلور المهنة أكثر لفائدة كل الأطراف وعلى الكاتب أن يفكر بأن مهنة التحرير ليست اعتداء على نصه».

أكثر من محرر

ليس بعيدا عن تلك التسميات التي ذكرناها في بداية التحقيق، هناك من يلجأ لهؤلاء كي يقوم له بحياكة عمله الأدبي مقابل مبلغ مالي متفق عليه على أن يتوارى كاتب الظل وراء حجاب، ولا يفشي السر لكون هذا الباب مصدر رزق له، ومن واجبه وحفاظا على تقاليد مهنته أن يحفظ السر ولا يعلن عن نفسه، إلا في حالات اضطرارية قد تصل إلى الابتزاز أو التهكم مثلا، وهذه من الحالات التي تهدد مسيرة الأدب بشكل عام حيث يتسلق أدعياء الأدب متسلحين برواية من هنا أو ديوان شعري من هناك، أو عملا ما ينسبه لنفسه مقابل حفنة من الدراهم المعدودات. هناك من يشير بأصابع الاتهام إلى النساء اللاتي يقمن بهذا العمل، في حين يتناول البعض في مجالسهم بعض الرجال ممن استعانوا بغيرهم للوصول إلى هذا المجد الأدبي الزائف، وغاية الاثنين ربما بعض الشهرة أو الوصول لمكاسب آنية، ولكن الغش سرعان ما ينكشف مادام فيه طرفان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: دور النشر فی النص أن یکون المحر ر تحریر ا لا یمکن ر الذی إن کان ر النص الذی ی

إقرأ أيضاً:

علي الحكماني: الشعر ليس القراءة فقط.. إنه فن الاستماع للآخر

الشاعر علي بن سعود الحكماني، أحد من الشعراء الشباب الذين يحملون همّ الكلمة، ويحاولون أن يرسلوا رسائلهم الاجتماعية، وسط ضجيج الكتابات المعلبة، والمختلفة، أصدر عدة "دواوين إلكترونية"، ونشر نصوصه في جريدة عمان، وهو من الشعراء ذي الطريقة الجادة في الكتابة، ويحمل شهادة البكالوريوس في العلوم الشرعية، وهو مدرب معتمد في مجال التنمية البشرية، كان لنا معه اللقاء التالي، لنتعرّف عليه من كثب..

* في البداية نستهل اللقاء بالسؤال عن البدايات المبكرة للشعر؟

ـ كانت البداية في سن مبكرة، وبشكل بسيط كحال أغلب البدايات في مشوار الشعراء، حيث كانت مجرد محاولات متواضعة تعكس مشاعر طفولية، لكنها كانت البذرة الأولى التي نمت مع الوقت، واكتسبت نضجها بالتجربة والقراءة والمخالطة.

* تكتب النص الشعري المنتمي إلى "اللغة البيضاء" أو كما تسمى لغة المثقفين، إلا أنك تهتم بتوظيف مفردات ضاربة في المحلية فكيف توفّق بين الاثنين؟

ـ الكتابة باللغة البيضاء أو ما يُعرف بلغة المثقفين، تمنح النص عمقًا واتساعًا في الفهم، وتُيسّر تداوله بين جمهور واسع، لكنني أؤمن في الوقت نفسه أن المفردة المحلية تحمل طاقة شعورية وذاكرة ثقافية لا يمكن تجاهلها، توظيفها في النص يعطيه نكهة خاصة، ويُضفي عليه صدقًا ودفئًا متصلاً بالبيئة والموروث، أنا لا أراها تناقضًا، بل تكاملًا؛ إذ يمكن للمفردة المحلية أن تُغني النص دون أن تُفقده رقّته أو عمقه الفكري، فالتوازن بين لغة المثقفين والمفردة الشعبية يُنتج نصًّا أصيلاً، قريبًا من الناس، وعميقًا في معناه.

* هل تتابع الساحة الشعرية المحلية أو الخليجية؟

ـ للأسف، أنا متابع غير جيد في الوقت الحالي.

* ما رأيك بمواقع التواصل الاجتماعي وعلاقتها بالشعر؟

ـ مواقع التواصل الاجتماعي أحدثت نقلة كبيرة في علاقة الناس بالشعر، وغيّرت طريقة تداوله وتلقّيه، فمن جهة، سهّلت هذه المواقع وصول الشاعر إلى جمهور واسع في وقت قصير، وأتاحت له نشر نصوصه دون حواجز، كما منحت الشعر مساحة يومية في حياة الناس، وأعادت له حضوره بعد أن كان مقتصرًا على دواوين شعرية تُقرأ من قبل النخبة، لكن من جهة أخرى، جعلت هذه المنصات بعض النصوص تميل إلى الاستهلاك السريع والمباشر، وأثّرت أحيانًا على العمق الفني على حساب الانتشار والقبول الجماهيري.

مستمع جيد شاعر جيد

* أنت قارئ جيد، فهل القراءة برأيك ضرورة للشاعر أم أنها مجرد إضافة؟

ـ صحيح أن القراءة تُعدّ ركيزة أساسية في تطوّر الشاعر، فهي توسّع أفقه، وتغذي مفرداته، وتمنحه فهمًا أعمق لتقنيات الكتابة. لكنها ليست الطريق الوحيد.

الاستماع الجيد، خاصة للشعراء الكبار، يثري الأذن الموسيقية ويصقل الذائقة، أما التجارب الشخصية، فهي منجم الإلهام الأصدق، وهي التي تمنح النص حرارة الصدق وفرادته، ومع أن بعض الشعراء قد يعتمدون على التجربة والسمع أكثر من القراءة، إلا أن القراءة تظل أداة لا غنى عنها لمن أراد بناء رصيد معرفي ولغوي متين، فالشاعر المتكامل هو من يجمع بين التجربة، والقراءة، والاستماع.

حداثة الشعر

* ما رأيك في الحداثة في الشعر الشعبي؟

ـ الحداثة في الشعر الشعبي أمرٌ طبيعي ومتوقع، فالشعر كائن حي يتطور بتطور الوعي والذائقة واللغة، وأنا أرى أن الحداثة لا تعني القطيعة مع التراث، بل تعني تجديد الأدوات والتصوير والمعاني بما يليق بروح العصر، دون أن نفرّط في أصالة الشعر الشعبي وجذوره، فالرفض المطلق للحداثة يعني الجمود، والاندفاع الكامل دون وعي يعني الذوبان، والحكمة تكمن في الموازنة.

* لماذا لا نراك شاعرا فصيحا رغم أنك قارئ جيد، علما بأن الكثير من شعراء الشعبي يكتبون الفصيح خصوصا من تميزوا بالقراءة والاطلاع؟

ـ الوقت لا يتّسع لكليهما حاليا، ولعلّ الأيام القادمة تمنحني الفرصة للجمع بينهما.

الشاعر والتوثيق

* لك إصدارات شعرية إلكترونية، هل تعتقد أن التوثيق مهم للتجربة الشعرية؟ وهل الكتاب الإلكتروني يغني عن الورقي؟

ـ التوثيق أمر مهم جدًا لأي شاعر أو كاتب؛ لأنه يحفظ منجزه من الضياع، ويمنح أعماله حضورًا رسميًّا يمكن الرجوع إليه لاحقًا، أما عن الكتاب الإلكتروني، فرغم سهولة الوصول إليه وسرعة انتشاره، فإنه لا يغني عن الكتاب الورقي، خاصة عند عشاق القراءة التقليدية، من وجهة نظري، الأفضل هو الجمع بينهما: إصدار ورقي للتوثيق والحضور، وإلكتروني للانتشار والتواصل مع جمهور أوسع.

* نعود إلى مجالك الآخر المساير للشعر وهو التدريب في التنمية البشرية، ألا تخشى أن يسرقك هذا المجال من الشعر؟ وكيف توازن ما بين المجالين؟

ـ في الحقيقة، التدريب في مجال التنمية البشرية لا يسرقني من الشعر، بل يعزّزه، كلا المجالين يخدم الآخر؛ فالشعر يمنحني الحسّ والتعبير المؤثر، والتدريب يمنحني الحضور وفن إيصال الرسالة، وأوازن بين المجالين من خلال تنظيم وقتي وتحديد أولوياتي، هناك أوقات أكون فيها أقرب للشعر، وأوقات أخرى أكرّسها للتدريب، لكن الرابط بينهما هو الشغف بالتأثير الإيجابي في الآخرين، فالشاعر ينقل فكرة، والمدرب يغيّر قناعة، وكلاهما يسعى لملامسة الإنسان من الداخل.

* ما النص الذي يرضي ذائقتك كتابة وقراءة؟

ـ النص الذي يرضي ذائقتي كتابة وقراءة هو النص الصادق، الذي ينبع من عمق التجربة ويُلامس وجدان القارئ. أحب النص الذي يحمل فكرة واضحة، ووجعًا إنسانيًّا، ويُقال بلغة جميلة دون تكلّف، سواء كان شعبيًّا أو فصيحًا، لا يهم الشكل بقدر ما تهمني الروح التي تسكنه، النص الذي يُدهشك ببساطته، ويستفزّ فيك شعورًا أو ذكرى، هو النص الذي أراه مكتملًا، ويستحق أن يُقال ويُقرأ.

مقالات مشابهة

  • تثقيف صحي شامل بأسيوط.. أكثر من 13 ألف ندوة صحية خلال يونيو لرفع وعي المواطنين
  • علي الحكماني: الشعر ليس القراءة فقط.. إنه فن الاستماع للآخر
  • سعد هنداوي لـ "الفجر الفني": انجذبت لفات الميعاد لحرفية الكتابة.. واسم المسلسل كان محسومًا من البداية قبل اقتراح أغنية أم كلثوم (حوار)
  • في الأمن الذي نستظل
  • 11 ألف بلاغ بيئي خلال 6 أشهر.. ومعالجة 1700 موقع في الشرقية
  • تطوير السكة الحديد.. ما الذي حققته النقل في 11 عامًا؟ - صور
  • بنعبد الله ينتقد استمرار ظاهرة العزوف السياسي والأحزاب التي لا يمكنها كسب مقاعد دون مال أو قفف
  • الكاتب صنصال لن يطعن في حكم سجنه بالجزائر
  • الكاتب بوعلام بو صنصال لن يطعن بالحكم بسجنه في الجزائر
  • الدستورية العليا: تقديم طلب التفسير التشريعي من وزير العدل شرط قبوله