عمّان "العُمانية": يتربع الموقع الأثري الروماني "سبيل الحوريات" في قلب العاصمة الأردنية عمّان، محاطاً بالعديد من الآثار الضاربة في عمق الزمن، التي تعود إلى حضارات كبرى تعاقبت على المنطقة، وهو يترابط كوحدة معمارية واحدة مع المدرج الروماني الذي يجاوره مسرح الأوديون، ثم شارع الأعمدة. سُمّي "سبيل الحوريات" بهذا الاسم لأنه أنشئ على رأس نبع مائي عظيم، وبحسب مؤرخين فقد اختير مكان البناء هذا ليرتبط بالأساطير الرومانية التي كانت تروي قصصاً كثيرة عن حوريات الماء اللواتي يسكُنَّ أعماق الأنهار والمحيطات، أو أطراف الينابيع ويعشقن مصادر الماء المتدفقة، وهذا التصور السحري الأسطوري انعكس بشكل كبير على المعمار الذي جاء ليوفر الأجواء المثلى لنمو هذه الأساطير وتجلّيها في المخيال الشعبي.

وتكشف آثار سبيل الحوريات التي لا يزال جزءٌ منها ماثلاً للعيان اليوم، عمّا تمتعت به المنطقة قديماً من تطور فكري وثقافي، وإبداع في مجال هندسة الأبنية والعمارة، إلى جانب القدرة على استثمار إمكانات الطبيعة وتطويعها، والتواصل المبني على علاقة تبادلية بين الطبيعة والإنسان، كلّ منهما يقدم للآخر كما يأخذ منه، وهي النظرة الفلسفية التي كشفت عنها العديد من المواقع الرومانية في مواقع مختلفة من العالم.أُنشئ سبيل الحوريات كمكان ترفيهي ثقافي، لذلك اتسم بوجود العديد من المنحوتات والتماثيل التي زينت واجهاته، وتتوسطه برْكة خُصصت للسباحة تمتد على طول المبنى بعمق يصل إلى أكثر من خمسة وعشرين قدماً، ويعلو البركةَ طابق للحمّامات الفارهة التي كان يقصدها الناس للراحة والاستجمام، وقد عُدّ هذا المبنى من أعظم المباني الرومانية القديمة التي كان يغذيها نهر يشق المدينة، ورُوعي في تصميم البناء وجود نوافير شرب للعامة كانت مزينة بالأصداف والأشكال الفسيفسائية.وبحسب المصادر التاريخية، كانت الجدران الداخلية لمبنى سبيل الحوريات مغطاة بالفسيفساء المزجَّجة، ذات التشكيلات الهندسية التي تصور أشجاراً ونباتات وحيوانات من مثل الطيور والأسود، أما من الخارج فبُنيت الجدران من الرخام الأبيض.يمكن لزائر الموقع اليوم مشاهدة بقايا المبنى التي رُممت عبر سنوات، وهي حتى اللحظة لا تزال شاهدة على الفخامة وعلى مستوى الرفاه الاقتصادي الذي شهدته الحضارة الرومانية في أوج ازدهارها؛ فهناك البرجان المهيبان، وثلاث حنايا تحتوي على نوافذ نصف دائرية مرتبة وفق صفَّين يعلو أحدُهما الآخرَ، وطاقات صغيرة تتوزع على جدارن المبنى سامحةً للهواء والنور المرور إلى الداخل.ومن الشواهد التي لا تزال قائمة في المبنى قاعة واسعة كانت مخصصة للموسيقى، ومسرح ومدرج صغير استُخدم لعروض المسرحيات والحفلات الغنائية والموسيقية، وكذلك للندوات والقراءات الأدبية، بالإضافة إلى قاعات يقال إنها خُصصت لمناسبات الزواج والحفلات الخاصة.وتُظهر الجدران المقوسة للمسرح، عبقرية العقل الهندسي ودقته المعمارية، وقد أعيد بناء العقود لتحتضن المدرج الذي يتسع إلى ما يقارب خمسمائة متفرج.ورغم قدم المبنى، إلا أن موقعه في وسط المدينة النابض بالحركة، منحه الحيوية وبثّ فيه الروح من جديد، إذ تحيط بالموقع اليوم أبنية عامرة بالسكان، وأسواق شعبية تعرض مختلف المنتجات، ومقاهٍ ومطاعم متنوعة، كما تتوفر جميع وسائل النقل الحديثة التي تسهّل على الزائر الحركة.وقريباً من سبيل الحوريات يقع المسجد الحسيني التاريخي، وعلى بعد مسافة قريبة من المبنى يقبع جبل اللويبدة العريق بحدائقه وعمرانه المميز، وجبل عمّان الذي يضم العديد من المواقع الحضارية والأثرية.. ويحتضن مبنى سيل الحوريات العديد من الأمسيات الأدبية والفنية، وتنتشر هذه الأجواء الثقافية في الجبال التي تحيط به، كما لو أنه يستعيد دوره التنويري والحضاري بروح عصرية تجمع بين القديم والجديد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العدید من

إقرأ أيضاً:

د. محمد بشاري يكتب: هل يحمل الذكاء الاصطناعي الأمانة في سبيل عمارة الأرض وحمايتها؟

في ظل التحديات البيئية الحادة، يبرز تعاون جديد بين قادة الأديان وخبراء التكنولوجيا، بهدف تعزيز الاستدامة البيئية وتحقيق توازن جديد يحافظ على كوكب الأرض. وفي قمة عُقدت تحت شعار “أديان العالم من أجل كوكب أخضر” في باكو، يومي ٥-٦ نوفمبر اجتمع ممثلو الأديان والعلوم التقنية لتأكيد ضرورة تضافر الجهود لمواجهة أخطار تغير المناخ وتهديدات التلوث التي تلقي بظلالها على الأجيال المقبلة. هذا التحالف بين القيم الروحية والحلول التقنية الحديثة، وبخاصة الذكاء الاصطناعي، يثير تساؤلات حول كيفية تفعيل هذه الأدوات لتحقيق أهداف تنموية مستدامة دون خلق تحديات بيئية إضافية.

تأتي هذه القمة كصدى لمبدأ أصيل في كل الأديان، فالتعاليم السماوية ترى أن الأرض أمانة في يد الإنسان، وأن واجبنا كمستخلفين في الأرض هو عمارتها وحمايتها. قال الله تعالى في محكم تنزيله: “إني جاعل في الأرض خليفة” [البقرة: 30]، مشيرًا إلى أن هذه الخلافة تفرض على الإنسان مسؤولية الرعاية والحرص على الموارد. كما تأكد الآية الكريمة “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها” [الأعراف: 56] أهمية الحفاظ على البيئة وعدم الإضرار بها. هذه القيم الدينية العميقة تتقاطع مع ما يسعى إليه العلماء في حقل التكنولوجيا اليوم، حيث تتطلع الأديان إلى دور جوهري للعلم والتقنية في حفظ هذا الكوكب.

ومع تطور الذكاء الاصطناعي، تزداد قدرته على تحليل البيئات المعقدة وتقديم حلول فعالة لإدارة الموارد، لكن السؤال الجوهري يظل: هل يمكن أن يسهم الذكاء الاصطناعي في تحقيق عمارة الأرض دون أن يصبح هو ذاته عبئًا عليها؟ هنا يأتي دور القادة الروحيين، الذين يمكنهم تقديم إطار أخلاقي يحكم هذا التوجه، ويضمن توجيه التقنية لتخدم الاستدامة لا أن تهددها.

فالقادة الدينيون يمتلكون قدرة كبيرة على التأثير في وعي الشعوب، حيث يرتبط خطابهم بالقيم العميقة التي تتجاوز المصالح الضيقة، فيرسخون في نفوس الناس شعورًا بالمسؤولية تجاه الأرض بوصفها أمانة. بهذا يمكنهم دعم تطور الذكاء الاصطناعي ليكون جزءًا من حل الأزمة البيئية، وليس مجرد أداة تستنزف الموارد. حين يلتقي الخطاب الديني مع الابتكار التكنولوجي في هذا السياق، يظهر نموذج جديد للعمل الجماعي يوازن بين الروح والعلم، بين التقدم واحترام النظام الطبيعي.

وتأتي قمة باكو لتأكيد هذه الرؤية المشتركة، حيث يسعى قادة الأديان وخبراء التقنية إلى بناء إطار عالمي للتضامن البيئي، ينطلق من مسؤولية الجميع عن عمارة الأرض، كما أمرنا الله. فالخطاب الديني يزرع في الأفراد وعيًا عميقًا، ويمنحهم دافعًا أخلاقيًا تجاه قضايا البيئة، ما قد يتيح للتكنولوجيا أن تكون أداة إيجابية في سياق هذه القيم.

لكن يبقى السؤال مطروحًا: هل سينجح هذا التحالف الروحي-التقني في تحقيق أهداف الاستدامة دون أن يكون سببًا لمشكلات جديدة؟ وهل يمكن توجيه الذكاء الاصطناعي ليخدم قضية عمارة الأرض بروح منسجمة مع المبادئ الدينية التي ترى في الطبيعة أمانة وجب صونها؟ هذه القمة قد تكون بداية لمرحلة جديدة، مرحلة تُجمع فيها جهود العلم والإيمان لتحقيق مستقبل أخضر وآمن للأجيال المقبلة.

مقالات مشابهة

  • بائع السميت.. قصة تركية تتحدى الزمن
  • منال الشرقاوي تكتب: عندما يتحول الزمن إلى لغز في عالم الأفلام
  • د. محمد بشاري يكتب: هل يحمل الذكاء الاصطناعي الأمانة في سبيل عمارة الأرض وحمايتها؟
  • سبيل الشوربجي في القدس.. وقف سقاية تحول إلى مسجد
  • مرتبات المدارس الخاصة خارج الزمن
  • الإمارات: الحلول السلمية سبيل إنهاء معاناة الشعوب
  • منح الكاتب الفرنسي من أصل جزائري كمال داود جائزة غونكور عن روايته الحوريات
  • تحنيط الكائنات البحرية.. إرث الغردقة الذي يعانق الزمن
  • في ذاكرة القلب: رحلة في حنايا المشاعر المختبئة
  • فيلم هنا.. رحلة في الزمان عبر زاوية واحدة