الجزيرة:
2025-02-16@15:58:08 GMT

انتخابات تونس: هل عاد استقلال القضاء إلى نقطة الصفر؟

تاريخ النشر: 13th, September 2024 GMT

انتخابات تونس: هل عاد استقلال القضاء إلى نقطة الصفر؟

عاد الحديث بقوة في تونس، خلال الأسابيع القليلة الماضية، عن استقلال السلطة القضائية، وعن العدل في تنفيذ قرارات المحاكم، وعن دولة القانون والمؤسسات، وعن المحاكمة العادلة، وذلك على خلفية الجدل القائم بين الهيئة العليا للانتخابات والمحكمة الإدارية، بشأن قرارات هذه الأخيرة التي ضربت بها الهيئة عرض الحائط.

اعتقدت النخب التونسية أن الإصلاحات القانونية التي أقدمت عليها حكومات ما بعد الثورة، من خلال "دستور 2014″، قد باتت أمرًا محسومًا ولا مجال للتراجع عنه. فقد وضع المشرّعون، بعد نقاشات ماراثونية طويلة امتدت لنحو ثلاث سنوات، أسس المحاكمة العادلة وشروطها ومعاييرها الدولية المعروفة. غير أن تعاطي هيئة الانتخابات مع قرار المحكمة الإدارية، أعاد الوضع إلى "نقطة الصفر"، وأعطى الانطباع بأن البلاد تسير بخطى ثابتة إلى الخلف، بدلًا من العكس.

قبلت المحكمة الإدارية طعون ثلاثة مرشحين للانتخابات الرئاسية، وقررت إرجاعهم إلى السباق الانتخابي، ملغية بذلك قرارات الهيئة التي أسقطتهم "بدون وجه قانوني" و"بتعلّات واهية"، كما وصف ذلك المرشحون الثلاثة، وكما نص عليه ضمنيًا قرار المحكمة.

وفيما توقع الرأي العام في الداخل والخارج، والفاعلون السياسيون، استئناف المرشحين لمكانهم ضمن المشهد الانتخابي كمنافسين "جديين" للرئيس قيس سعيّد، المنتهية ولايته، بما يجعل لانتخابات السادس من أكتوبر المقبل طعمًا ومذاقًا، جاء قرار هيئة الانتخابات محبطًا للجميع، من خلال الإمعان في إقصاء المرشحين الثلاثة.

هذا القرار كان بمثابة بصيص أمل في تحقيق وضع انتخابي جاد يضمن مبدأ تكافؤ الفرص والتنافس النزيه، وسط حالة من التوافق الضمني بين العائلات السياسية على التحشيد خلف مرشح واحد؛ لضمان إحداث التغيير الذي يتطلع إليه كثيرون، حتى أولئك الذين اصطفوا خلف "انقلاب 25 يوليو/تموز" 2021، وكانوا من أكثر المدافعين عنه، والمبررين للممارسات والخطوات التي اتُّخذت لاحقًا، والتي يصفها خصوم الرئيس قيس سعيّد بـ"الاستبدادية" و"الدكتاتورية".

لقد اقتنع أغلب هؤلاء بأنّ التغيير ممكن، بل هو ضروري.

بين هيئة الانتخابات والمحكمة الإدارية

قرار هيئة الانتخابات هذا تسبب في سيل عارم من الانتقادات اللاذعة، صدرت عن رجال قانون وشخصيات سياسية وأحزاب ومنظمات، وفعاليات حقوقية في الداخل والخارج. وتم وصفه بـ"التعسفي" و"الإقصائي" والمنحاز لرئيس الدولة الحالي. بل اتهمت الهيئة بتحولها إلى "أداة لدى السلطة التنفيذية"، بما أفقدها استقلاليتها، وبالتالي مصداقيتها، ونزع عنها صفة الحياد التي عُرفت بها الهيئة منذ إنشاء أول نسخة منها في العام 2011، بمناسبة أول انتخابات تعددية حقيقية في البلاد، إبّان ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011.

انتظر المحيط السياسي والشعبي تراجعًا من الهيئة؛ لضمان شفافية الانتخابات ونزاهتها، لكن هذه الأخيرة أصرت على موقفها. وخرج رئيسها، فاروق بوعسكر، ليعلن مجددًا استمرار إقصاء المرشحين الثلاثة: عماد الدايمي، ومنذر الزنايدي، وعبد اللطيف المكي. ووجه اتهامًا للمحكمة الإدارية بخرق الإجراءات القانونية، الشيء الذي نفته المحكمة نفيًا قاطعًا، عبر عرض وثائق تؤكد سلامة إجراءاتها وخطواتها وفقًا للقانون والمجلة الجزائية المنظمة لعمل المحكمة ومجالات تدخلها.

وفي خطوة متقدمة من هذا الصراع الناشئ، لجأت بعض الأطراف في البلاد إلى مقاضاة هيئة الانتخابات، باعتبارها "تعمّدت تجاوز السلطة"، ولم تقبل بقرارات الجهة الوحيدة المحكِّمة في العملية الانتخابية، وهي المحكمة الإدارية، التي تعدّ أحكامها باتّة ونهائية، أي غير قابلة للطعن أو الإلغاء، وفق فقهاء القانون والقضاة الإداريين، مثل القاضي الإداري المعروف أحمد صواب، الذي رفع بدوره دعوى قضائية ضد الهيئة، بوصفه مواطنًا ناخبًا، وليس بصفته القضائية.

كانت مهمة المحكمة الإدارية (التي أُنشئت العام 1972) تنحصر في مجرد البتّ في دعاوى تجاوز السلطة، التي يتم رفعها لإلغاء مقررات إدارية، قبل أن يتم تعديل القوانين المنظمة لها (عام 2014)، باتجاه إكسابها مزيدًا من الاستقلالية، ومنحها العلوية في قراراتها، خصوصًا في النزاعات الانتخابية، بما يجعل لها "الولاية" على المسار الانتخابيّ.

غير أن هيئة الانتخابات رأت خلاف ذلك تمامًا. فقد مرّغت قرارات المحكمة الإدارية في التراب، وجعلت منها هيكلًا بلا روح، معلنة احتكارها الولاية على الانتخابات ومساراتها المختلفة، من إعلان تاريخها إلى الإعلان عن نتائجها النهائية.

تعامل هيئة الانتخابات مع قرارات المحكمة الإدارية يعيد البلاد إلى نقطة الصفر، مما أثار مخاوف حول استقلال القضاء ونزاهة العملية الانتخابية

ورغم الجدل الذي لم ينتهِ إلى الآن بين المؤسستين، فإن النتيجة واحدة، وهي إقصاء المرشحين الثلاثة، والإبقاء على الثلاثي المعلن منذ البداية: الرئيس قيس سعيّد، وزهير المغزاوي (أمين عام حركة الشعب)، والعياشي الزمال (رئيس حركة "عازمون") الذي أُدخل السجن موقوفًا؛ بسبب "جرائم تدليس التزكيات الشعبية"، حسب اتهام السلطة له.

ليس هذا وحسب، بل سارعت السلطة التنفيذية إلى نشر قرار الهيئة ضمن الجريدة الرسمية للجمهورية التونسية؛ لقطع الطريق أمام أي أمل في العودة إلى الوراء، كما يردد الرئيس سعيّد دائمًا.

بل إن السلطة، مكنت هيئة الانتخابات من شحنة الحبر الانتخابي، و"الأكياس الآمنة"، الخاصة بأوراق الاقتراع، في رسالة مضمونة الوصول، بأن أمر المرشحين الثلاثة الذين أصرت الهيئة على إسقاط ترشحهم للانتخابات الرئاسية قد حُسم بشكل لا رجعة فيه، وأن خيار هيئة الانتخابات كان سليمًا ومنطقيًا، في تقدير السلطة.

المحكمة التي لا تنفذ أحكامها

والحقيقة، ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها رفض تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية. فقد سبق لوزارة العدل أن رفضت أو تغاضت عن تنفيذ حكم المحكمة الإدارية بإبطال قرار إعفاء القضاة (49 من أصل 57 قاضيًا)، الذي اتُّخذ بموجب أمر رئاسي في يونيو/حزيران 2022.

لم تعبأ وزارة العدل بوضع هؤلاء القضاة، حتى بعد دخولهم في إضراب وحشيّ عن الطعام استمرّ لعدة أيام، ولم تلتفت إلى قرار المحكمة الإدارية. بل الأدهى من ذلك، أن هؤلاء القضاة ما يزالون حتى اليوم محل ملاحقات قضائية من قبل السلطة، لاتهامهم "بشنّ إضراب وتعطيل مرفق إداري عمومي بدون وجه حق".

حتى المنظمات الاجتماعية التي تزعم دفاعها عن القانون والعدل بين المواطنين، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة النقابية الأعرق في تونس)، رفضت الإذعان لقرار المحكمة الإدارية الصادر قبل بضعة أسابيع، لصالح "مرصد رقابة" لمكافحة الفساد، الذي يتزعمه المرشح لرئاسة الجمهورية، عماد الدايمي.

وهذا ما تعاني منه المحكمة الإدارية منذ عقود. إذ إن اللجوء إليها سهل وميسر، لكن الاحتكام إلى قراراتها وأحكامها في فضّ النزاعات، ما يزال ضعيفًا، إن لم نقل منعدمًا. وهذا ما يطرح سؤالًا جوهريًا حول أسباب ودواعي عدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية، على الرغم من كل الصلاحيات التي مُنحت لها.

في دراسة علمية قانونية نُشرت مؤخرًا حول "تنفيذ أحكام وقرارات القضاء الإداري في تونس"، أشار القاضي الإداري، عماد الغابري، إلى ما أسماها "تفاقم ظاهرة عدم تنفيذ أحكام القضاء الإداري"، حتى "أصبح يُنعت بالقضاء الذي لا تُنفذ أحكامه وقراراته"، وهي الجملة التي تتردد في الواقع على جميع الألسن في تونس، كترجمة عملية على هذه اللامبالاة التي تواجه بها قرارات المحكمة الإدارية.. لامبالاة تضع اليوم مستقبل القضاء الإداري على "كفّ عِفريت".

"الولاية" على الانتخابات.. الصراع الخفي

لم ينتهِ النقاش عند عدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية، إنما تعدّاه ليشمل مسألة الولاية على المسار الانتخابي، وسط تمسك المحكمة بأحقيتها القانونية على هذا الأمر. لكن هيئة الانتخابات كانت قد سبقت الجميع إلى ذلك منذ البداية، من خلال إعلان "ولايتها" بالكامل على العملية الانتخابية.

فهي المحددة لرزنامة الانتخابات، وهي من تقرر تاريخ يوم الاقتراع، وهي من تشرف على عملية التصويت، ومن تعلن عن نتائجه النهائية. وزادت على ذلك، بأن أعطت لنفسها حق الولاية على الإعلام والمؤسسات الإعلامية، بل حتى على المادة الإعلامية المرشحة للبثّ، وعلى ما يُقال في بعض المنابر الإعلامية، خصوصًا الانتقادات التي توجّه إلى الهيئة.

ليس هذا وحسب، بل إن هيئة الانتخابات أعلنت ولايتها على مشاركة المنظمات المختصة في مراقبة الانتخابات، مثل منظمتَي: "أنا يقظ" و"مراقبون"، واتهمتهما بالفساد المالي، بناءً على ما قالت إنها "إشعارات من السلطات الرسمية" بحصولهما على تمويل أجنبي. هذا يعني أن الهيئة استحوذت حتى على دور القضاء، المخول وحده بتأكيد أو نفي تهمة الفساد المالي على المنظمتين.

هذا النزوع للهيمنة على العملية الانتخابية، واستبعاد المحكمة الإدارية من مجالات اختصاصها المنصوص عليها قانونًا في علاقة بالانتخابات، جعلا العديد من الخبراء وأساتذة القانون يخرجون عن صمتهم، ويعبّرون عن رفضهم ذلك بوضوح.

فقد اعتبر الأستاذ كمال بن مسعود، المتخصص في القضاء الإداري، أن "المحكمة الإدارية تتمتع بالولاية الكاملة على الانتخابات، خصوصًا في النزاعات الانتخابية والأحكام القضائية الباتّة الصادرة عنها"، وهو ما أكده عدد من المختصين في القانون الدستوري، في بيان نُشر الأسبوع المنقضي في عدة منابر إعلامية تونسية وأجنبية.

النزوع نحو الهيمنة على القضاء

لا يقتصر المشكل على الولاية على الانتخابات، أو على مكانة القضاء الإداري، أو على مجالات تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية. فتلك هي "الشجرة التي تخفي الغابة"، كما يقال. الأمر يتعلق بمشكلة سياسية في العمق، ترتبط بالإرادة السياسية في المحاكمات العادلة، وجعل القضاء هو الفيصل في النزاعات بين السلطة وخصومها، وتحقيق استقلال المؤسسة القضائية، وضمان مبدأ الفصل بين السلطات، وحماية الحقوق المدنية والسياسية، والحريات بجميع تمظهراتها.

هذا ما تعكسه المعارك الحقيقية اليوم، التي يبدو أن ملف المحكمة الإدارية ليس سوى "جزء من كل"، على رأي المناطقة القدماء.

إن الأمر يتعلق بنزوع السلطة التنفيذية تاريخيًا وحاضرًا إلى الهيمنة على المؤسسة القضائية بشكل عام. فمنذ نشأة القضاء في تونس في نهاية خمسينيات القرن الماضي، وهو محكوم بلعبة "الشد والجذب" مع السلطة الحاكمة، التي نزعت عبر التاريخ التونسي الحديث والمعاصر إلى الهيمنة على المرفق القضائي وسلبه استقلاليته. بدءًا بحكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، حيث كان يسمى "قضاء الزعيم"، مرورًا بفترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي، حيث كان يسمى "قضاء التكاري" (نسبة إلى وزير العدل البشير التكاري آنذاك)، وصولًا إلى "قضاء ليلى جافال"، وزيرة العدل الحالية، التي تُنعت بكونها "يد الرئيس" لضرب القضاة المستقلين، حسبما يقول خصوم الرئيس التونسي.

في المقابل، تعتبر السلطة ذلك مسعى لـ"تطهير القضاء" من التسييس والتحزب، والدفاع عن مصالح ضيقة. وهذا ما يرفضه القضاة ومن يساندهم، إذ يعتقدون أن الجسم القضائي مستهدف دائمًا وأبدًا، وهو في صراع مستمر مع اللوبيات، سواء داخل السلطة أو خارجها.

لذلك، يتحرك بعض أعضاء هذا الجسم بين الفينة والأخرى، دفاعًا عن مناعة المرفق القضائي، ولمقاومة إرادة النزوع نحو هيمنة السلطة على المؤسسة القضائية بأي شكل من الأشكال.

جسم القضاء يتحرك

هذا بالضبط ما جسده القاضي الراحل مختار اليحياوي، قبل الثورة التونسية، من خلال رسالته الشهيرة التي بعث بها إلى الرئيس السابق بن علي، محذرًا من مغبة "توظيف القضاء" لمآرب السلطة الحاكمة، والدوس على أحد أجنحة العدل والمساواة والحكم الرشيد. هذه الرسالة تسببت في إعفائه من كرسي القضاء، لكنها ظلت عنوانًا لاستقلال القضاة، ومرجعًا للمدافعين عن العدالة.

وهذا ما حرصت جمعية القضاة التونسيين على التذكير به الآن، من خلال بيانها الذي أصدرته قبل يومين، والذي وصف بـ"الشجاع" و"العميق".

فقد أطلقت الجمعية ما يشبه "صيحة فزع أخيرة" إزاء ما آلت إليه الأمور في المؤسسة القضائية. اتهم البيان وزيرة العدل الحالية ليلى جافال بـ"التغول على السلطة القضائية"، وممارسة "نهج تسلطي" عبر "ترهيب القضاة" من خلال نقلهم بشكل تعسفي إلى محاكم بعيدة بمئات الكيلومترات عن مقرات سكناهم، دون مراعاة لظروفهم الاجتماعية، وذلك في محاولة "لتطويع القضاة وفرض إملاءات السلطة عليهم"، خاصة فيما يتعلق بالبتّ في القضايا السياسية.

انتقد البيان ما وصفه بـ"أجواء الخوف والرعب وانعدام الأمان" التي تهيمن على المرفق القضائي برمته. وهذا هو التوصيف الأخطر الذي تتحدث عنه الأحزاب بالتلميح، وذكرته جمعية القضاة بالتصريح، وبصوت عالٍ.

السلطة التنفيذية تُتهم بالهيمنة على القضاء، مع رفض تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية وإقصاء القضاة الذين يقفون في وجه هذه التجاوزات

يبقى القضاء الملاذ الأخير للباحثين عن الأمان الاجتماعيّ والسياسي، والتائقين إلى العدالة.

مما يروى في الحكايات التونسية، ذات الدلالات الرمزية اللافتة، أن أعرابيًا قدم من الريف الجنوبي التونسي باتجاه العاصمة ليزور المحكمة الابتدائية بتونس، على مقربة من قصر الحكومة بالقصبة. وقف الرجل أمام المحكمة، وقرأ اللوحة الموجودة على واجهة البناية، حيث كُتب "قصر العدالة". فعلّق قائلًا: "القصر موجود، لكن العدالة غائبة".

مع ذلك، يبقى السؤال مطروحًا: هل ثمّة أمل في قضاء جديد ومستقل بعد انتخابات السادس من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، بما يعيد الثقة في عدل القضاة واستقلال المؤسسة القضائية؟

المشكل سياسي بالأساس

هذا السؤال يرتبط بالمعترك السياسي، وبما يمكن أن تؤول إليه العلاقة بين السلطة التنفيذية التي يتزعمها الرئيس قيس سعيّد، وأطياف المعارضة بشتى مكوناتها. فبالرغم من "برود" الاستحقاق الانتخابي، ترافقه هواجس المقاطعة، والرغبة في المقابل في هزيمة الرئيس الحالي عبر إسناد مرشح منافس حقيقي له.

وقد عزز هذه الرغبة ظهور نتائج استطلاع للرأي حديث، قامت به منظمة "مراقبة الانتخابات ودعم الديمقراطية" (Democracy Support Election Observation and) بالتعاون مع السفارة البريطانية في تونس.

الاستطلاع أظهر أنه للمرة الأولى منذ صعوده إلى رئاسة الجمهورية، يفقد الرئيس سعيّد المركز الأول في نوايا التصويت، إذ جاء المرشح منذر الزنايدي، الذي أسقطت هيئة الانتخابات ترشحه، في المركز الأول بنسبة 24.4%، بينما جاء سعيّد في المركز الثاني بنسبة 21.1%. هذا يفسر التحشيد الهائل الذي تقوم به المعارضة منذ عدة أيام، مع الرهان على موعد 13 سبتمبر/أيلول الجاري، حيث يجري الإعداد لمسيرة مليونية وسط العاصمة، شبيهة بتلك التي حصلت يوم 13 يناير/كانون الثاني 2011 أمام وزارة الداخلية، والتي انتهت بإسقاط النظام، وتدشين مرحلة جديدة في تاريخ البلاد، تحت عنوان: "الثورة التونسية"، حسب تقديرات المعارضة.

يبقى التساؤل: هل يبلغ المشهد التونسي هذا النبض من الحياة الجديدة، بما ينهي حالة الجمود التي تعيشها البلاد منذ نحو ثلاث سنوات؟ وهل تنجح المعارضة للرئيس قيس سعيّد، التي تتسع يومًا بعد يوم، في استئناف "الانتقال الديمقراطي" كما يتطلع إليه الكثير من النخب السياسية، رغم ما يشقها من تباينات وتناقضات عميقة وجذرية؟

أنصار الرئيس يرونه بعيدًا، وخصومه يرونه قريبًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات العملیة الانتخابیة المؤسسة القضائیة المرشحین الثلاثة السلطة التنفیذیة هیئة الانتخابات القضاء الإداری على الانتخابات قرار المحکمة الولایة على قیس سعی د وهذا ما من خلال فی تونس هذا ما

إقرأ أيضاً:

شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: لحظات عصيبة في ساحة المحكمة

كواليس وأسرار 25 يومًا داخل أسوار سجن مزرعة طرة

ملحمة من الحب تجلت فى أبهى صورها داخل قاعة المحكمة

ماذا قال كبار رجال الدولة فى انصالاتهم الهاتفية أثناء الأزمة؟

هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشتُ فصولَها، انتصاراتِها وانكساراتِها، حُلوَها ومُرَّها، اقتربتُ من صنَّاع هذه الأحداث أحيانًا، وكنتُ ضحيةً لعنفوانهم في أحيان أخرى، معاركُ عديدة دخلتُها، بعضُها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي وقناعاتي.

أروي هذه الشهادات، بصدق وموضوعية، بعضُ شهودها أحياء، والبعضُ رحل إلى الدار الآخرة، لكنَّ التاريخ ووقائعه لا تُنسى، ولا يمكنُ القفزُ عليها، وتزويرُ أحداثِها.

توقعات بالإفراج ووداع المساجين

قبيل ساعات من نظر الاستشكال في الحكم الصادر بسجننا.. كانت الأمور داخل السجن تسير باتجاه الإفراج عنا.. كان هذا توقع كل من معنا فى السجن.. لدرجة أن ياسر سعودى المسجون معنا فى عنبر المستشفى أقام يوم الأحد 22 يونيو 2003 مأدبة غداء خصيصًا تكريمًا لنا.. قائلاً بلغة ضاحكة: «أنا عامل الغدا ده علشان منشوفش وشكم تانى هنا.. إحنا بنتمنى لكم الخير وعاوزينكم تخرجوا»، هكذا راح حديثه يشبه أحاديث الوداع، كان الحوار يدور بيننا تحت إحدى الأشجار فى حديقة السجن التى اتخذنا من ظلها مكاناً لتناول الغداء الذى شاركنا فيه الدكتور طارق إبراهيم ومحمود الرشيدى وصلاح عيد وعلاء الشلقانى، كانت الوفود لا تتوقف عن الزيارة وكان أخر فى هذا اليوم هو الأخ أحمد ابراهيم ابن عزبة الوالدة فى حلوان والذى " قال غدا أتوقع الافراج عنكما وكل حلوان ستكون فى ساحة دار القضاء العالى غدا.

وقبيل أن تغلق العنابر أبوابها جاءنا الأخ والصديق خالد حامد محمود زائرًا، ومودعًا.. وجاء المقدم مصطفى عبد العزيز لوداعنا قائلا: «أنا بكره ورديتى بالليل وإذا أخذتم إفراج مش حشوفكم.. وللاحتياط أودعكما الآن.. وأطلب منكما أن تكونا جاهزين فى السابعة من صباح الغد لتتوجها للمحكمة».

وحين أدركنا أن الأمور يمكن أن تسير على هذا النحو.. وفى هذا الاتجاه.. رحت أدون التليفونات الخارجية لأسر كل المسجونين معنا حتى نطمئن عليهم من خلال أسرهم.. وفى المساء رحت ومعى الشاب السجين محمد يوسف مدنى نعد العدة، ونحزم الحقائب استعدادًا لتطورات الغد.

كان التوقع والشعور يتزايد فى هذه الليلة بأن شيئاً ما سيحدث فى المحكمة.. صباح اليوم التالى، وأن مغادرتنا أسوار السجن أصبحت مسألة وقت لا غير.

وبينما خلدت للنوم مبكرًا.. راح محمود يلعب «الدومينو» ويواصل سماع الحكايات من المسجونين معنا.

وعند الصباح الباكر، رحت أوقظ شقيقى محمود، استعدادًا لوصول السيارة التى ستنقلنا إلى دار القضاء العالى، حيث ينظر الاستشكال المقدم أمام الدائرة 19 شمال القاهرة برئاسة المستشار أحمد عزت العشماوى، وعند الساعة التاسعة صباحًا انطلقت بنا السيارة التى تقرر أن تحملنا إلى مقر المحكمة وتبعتها سيارات أخرى، فيما تقدمها أحد الموتوسيكلات.. جلسنا متجاورين فى سيارة الشرطة الزرقاء وإلى جوارنا أحد الجنود ومن خلفنا وأمامنا بعض ضباط وجنود فرقة الحراسة التى تقرر أن تصحبنا إلى المحكمة.. ذهابًا وعودة.

وكانت تلك هى المرة الأولى التى نخرج فيها من أسوار السجن بعد اثنين وعشرين يومًا من الحبس بداخله.. وقبيل أن ينطلق الموكب صوب المحكمة كانت تعليمات العقيد حسين والى قائد فرقة الحراسة للجميع أن التعليمات بشأن معاملتنا يجب أن تصدر منه هو شخصيًا.. كان الرجل ومعه زملاؤه من الضباط يتعاملون معنا معاملة إنسانية رائعة.. وكان سلوكهم معنا سلوكًا حضاريًا محترمًا.

الطريق إلى المحكمة ولقاء الأهل والأصدقاء

وسلك الموكب طريق الأوتوستراد، متجهًا إلى شارع صلاح سالم عبر كوبرى القلعة.. ومن هناك إلى كوبرى الفردوس، فنفق الأزهر، فميدان الأوبرا، إلى شارع عدلى ومنه إلى شارع عماد الدين يميناً، ثم شارع 62 يوليو، ثم إلى شارع شامبليون، حيث توقف الموكب أمام الباب الرئيسى لدار القضاء العالى.

كان وجه وليد زكى رفاعى مدير مكتبى هو أول وجه شاهدناه أمامنا فور هبوطنا من السيارة.. وسرعان ما راحت الوجوه تظهر أمامنا.. وحين اتجهنا صوب السلالم الرئيسية لدار القضاء العالى كانت عدة محطات فضائية فى الانتظار، حيث استطاع مندوب قناة «العربية» إجراء لقاء سريع معى أكدت فيه أن الأزمة الراهنة لن تثنينا أبدًا عن التخلى عن ثوابتنا، ومواقفنا المعادية للفساد، والمناوئة للأطماع الأمريكية والصهيونية فى المنطقة.

ما أن خطونا صوب المدخل الرئيسى لدار القضاء العالى حتى فوجئنا بالمئات يتدفقون نحونا فى مشهد فريد.. وراحت الحاجة «أم نظمى شاهين» بطل ثورة مصر تحتضننى وتقبلنى بحرارة.. كان بعضهم يذرف الدموع، وبعضهم يرفع الهتاف «الله أكبر» بينما راح الضباط يحاولون بصعوبة شق الطريق فى أوساط الجماهير المندفعة، والذين لم يتعرض لهم أحد من الأمن بأى سوء.

فى لحظات وصلنا إلى غرفة قائد الحرس بالمحكمة.. وبعد نحو 5 دقائق جاءنا شقيقنا أحمد الذى جلس إلى جوارنا، ثم أعقبه وصول نجلينا أحمد وخالد حيث كان لقاؤنا معهما حارًا ومؤثرًا.. وكنا فى قمة السعادة أن بلغ نجلانا هذه الحالة من النضج فى هذه السن المبكرة من حياتهما، وأدركنا أن لدينا الآن سندًا إضافيًا لمواجهة حروبنا المتواصلة ضد الفساد ورموزه، وانعكاساتها الإنسانية على أسرنا.

بعد فترة وجيزة علمنا أن المستشار أحمد العشماوى وهيئة المحكمة وصلوا إلى غرفة المداولة، ولم تمض دقائق حتى جاء قائد حرس المحكمة ومعاونوه لاصطحابنا إلى داخل قاعة المحكمة.

عبر ممر خلفى دفع بنا الحرس إلى معبر خاص إلى قفص المحكمة.. لقد بدا لنا الأمر طبيعيًا جدًا فى تلك اللحظات، وتزايد لدينا الشعور بالفخر بأننا نسجن، ونودع قفص المحكمة لأننا حاربنا الفساد ورموزه.

كان المشهد داخل قاعة المحكمة بليغاً ومؤثرًا.. فلم نكد نضع أقدامنا فى القفص حتى شاهدنا الجمهور المحتشد، وراح المئات يصفقون ويهللون، فى مشهد لم تألفه المحاكم من قبل، خاصة دار القضاء العالى التى تضم أعلى المحاكم المصرية ومجلس القضاء الأعلى ومكتب النائب العام ورئيس محكمة الاستئناف وغير ذلك من هيئات قضائية رفيعة.

مصطفى بكرى ومحمود بكرى

فى العادة لا تستوعب قاعة المحكمة أكثر من مائتين أو ثلاثمائة فرد على أقصى تقدير.. لكن التدفق الجماهيرى وصل بالمحتشدين بداخلها إلى نحو سبعمائة فرد على الأقل، الأمر الذى انعكس على درجة الحرارة التى ارتفعت بشكل ملحوظ داخل القاعة وأثرت على انعقاد هيئة المحكمة فى موعدها المحدد.

كان الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى والفنان حمدى أحمد والفنانة سناء يونس والفنان سامح الصريطى هم الأقرب إلى قفص المحكمة، وكعادته كان الأبنودى متألقاً فى قفشاته، وروحه المرحة التى تبعث على البهجة حتى فى اللحظات الصعبة.. وما أن جُلنا ببصرنا داخل القاعة حتى رحنا نتلقى السلام والتحية من الكثير من الوجوه الشريفة التى احتشدت داخل المحكمة منذ الصباح الباكر.. وكأننا فى مشهد عظيم، جاء كل واحد ليحجز له موطئ قدم بداخل القاعة.. رحنا من جانبنا نرد السلام والتحية.. عشرات الوجوه نعرفها جيدا.. ومئات أخرى نشاهدها للمرة الأولى.. هؤلاء شباب قريتنا الحبيبة «المعني» وأبناء قنا.. العشرات منهم يتقدمهم المرحوم الدكتور عصمت دنقل وكيل وزارة الصحة بقنا والأستاذ المرحوم محمد رشاد الخطيب نقيب المحامين بقنا والبحر الأحمر، قطعوا أكثر من ستمائة كيلومتر ليكونوا بجانبنا

فى تلك اللحظات.. وهؤلاء شرفاء حلوان والتبين و15 مايو أبناء دائرتى الانتخابية، وقد احتشدوا بشكل يبعث على الفخر والاحترام.. وها هم الصحفيون الشرفاء من كل المؤسسات الصحفية.. زملاء أعزاء يتقدمهم أعضاء من مجلس النقابة، بينما تواجد الأستاذ النقيب إبراهيم نافع فى موقع قريب ليتابع تداعيات القضية لحظة بلحظة..

عن بكرة أبيهم جاء صحفيو «الأسبوع» و«صوت حلوان» وها هم أبناء شعب مصر الشرفاء من الإسكندرية لأسوان، ومن وجه بحرى ومدن القناة، وحتى سيناء.. كان المشهد مثيرًا، وكنا سعداء بهذا الجمع من أشرف النساء والرجال.

محاكمة مصطفى بكري وشقيقه

كانت لحظات، اختلطت فيها الدموع بالمشاعر الفياضة، وامتزج فيها الانفعال بعلو الصوت.. وترافق فيها الدعاء مع الرجاء والأمل بالفرج من الله سبحانه وتعالى.. رجال كبار كانوا يبكون.. فى قاعة المحكمة.. مواطن جاء من محافظة البحيرة راح يخطب فى جمهور الحاضرين معتبرًا أننا ندفع الآن ثمن كلمتنا الحرة ومواقفنا الوطنية، تمامًا كما دفع كل المخلصين من أجل مصر تضحيات جسامًا حبًا وعشقاً فى سبيل نهضتها.. شيخ طاعن فى السن راح يهتف كل لحظة «الله أكبر.. الله أكبر».. الفنانة الوطنية سناء يونس اشتبكت مع أحد الصعايدة حيث قال لها: «شكرًا لحضورك» فردت عليه بخفتها المعتادة: «انتوا فاكرين نفسكوا بتحبوا مصطفى ومحمود أكتر مننا».. مواطنون عاديون يلقون بعشرات علب المناديل والعصائر والمياه المثلجة داخل القفص، الكل كانوا هناك.. يتوجهون بالدعاء.. وينتظرون على أحر من الجمر أن يتحقق ما جاءوا من أجله منذ الصباح الباكر.

وبينما كنا نتصفح الوجوه التى امتلأت بها قاعة المحكمة.. ظهر أمامنا فجأة وجه الأخ والصديق مصطفى النوبى المحامى.. لقد بدا وجهه شاحبًا.. وجسمه هزيلاً.. أدهشنا حضوره.. ورحت استغيث بابن شقيقته سيد فراج الذى جاء خصيصًا من الأقصر، طالباً منه أن يعيد مصطفى النوبى من حيث أتى.. فنحن نعرف أنه خرج من المستشفى منذ أيام فقط بعد أن تم استئصال الكلية التى تم زرعها له منذ عدة سنوات، وأصبح الآن بلا كلية، وأدرك أن حالته الصحية متدهورة بشكل متواصل.. ولكن حين تلاقت يدانا عبر القفص الحديدى، تساقطت دموعه الضعيفة، وراح يبكى كالأطفال.. صرخت فيه: لماذا جئت يا مصطفى؟.. اذهب أرجوك وعد لبيتك.. رد عليّ بقول أثر فى نفسى كثيرًا: «أنا كنت حاموت، لو مكنتش جيت علشان أشوفكم النهاردة».

ومن قلب وجوه المحبين والمخلصين الذين احتشدوا جاءتنا وجوه لا نعرفها، راح بعضهم يقف أمامنا بعد أن شقوا طريقهم بصعوبة وسط الزحام.. ويطلبون منا أن نردد خلفهم بعض الأدعية والأحاديث النبوية وبعضاً من آيات القرآن الكريم.. كانت بانوراما مثيرة تجلت فيها الصورة المصرية كأنبل ما تكون.. بانوراما شاعرية رسمها نحو خمسة آلاف مواطن احتشدوا فى قاعة وردهات المحكمة.. وكانوا مجرد تعبير عن مشاعر شعبنا المصرى العظيم الذى كانت وقفته فى المحنة مشهودة وتاريخية ومؤثرة لأبعد الحدود.

بعد أكثر من الساعتين ونصف الساعة، نادى الحاجب عند نحو الثانية عشرة ظهرًا.. «محكمة» معلناً دخول هيئة المحكمة برئاسة المستشار أحمد عزت العشماوى.. وفور دخوله أعلن رئيس المحكمة أنه، وبالاستناد إلى القانون، تقرر نظر القضية فى غرفة المشورة، على أن يكون الحضور مقصورًا على المحكومين ومحاميهم المختارين والموكلين منهم رسميًا.. ثم رفع الجلسة عائدًا إلى غرفة المداولة..

كان قرار رئيس المحكمة يعنى أن القاعة لا تصلح فى ظل هذ الوضع المزدحم لنظر القضية.. لذا رحنا نسعى مع الحاضرين والمحامين والصحفيين لإفراغ القاعة حتى يتسنى للمحكمة الانعقاد بداخلها.. وبعد نحو ثلاثة أرباع الساعة نجحت المحاولة، وعادت هيئة المحكمة لنظر القضية داخل القاعة بعد أن عدلت عن قرارها السابق.

مصطفى بكرى يخاطب الجماهير

بدأ المستشار أحمد عزت العشماوى فى تدوين أسماء المحامين الحاضرين الذين تجاوز عددهم الأربعين محاميًا يتقدمهم الأستاذ سامح عاشور نقيب المحامين والدكتور محمد سليم العوّا.. وقد تحدث عدد محدود منهم أمام هيئة المحكمة، حيث بدأ الأستاذ سامح عاشور المرافعة، تلاه الدكتور محمد سليم العوّا، ثم الأستاذ صبرى بسيونى، فالأستاذ عادل عيد، فالأستاذ محمد الدماطى.. ثم الأستاذ أحمد عبد الحفيظ المحامى ثم المستشار مرتضى منصور وغيرهم.. بعد سبعين دقيقة من المرافعة أعلن رئيس المحكمة رفع الجلسة، وبعد عشر دقائق فقط، عاد المستشار أحمد عزت العشماوى إلى داخل القاعة، وراح يتلو قرار المحكمة حيث قال: «قررت المحكمة قبول الاستشكال المقدم من المحكومين شكلاً.. وفى الموضوع بوقف تنفيذ الحكم لحين الفصل فى الالتماس المقدم للنائب العام».

فرحة عارمة بعد قرار المحكمة

عند هذه اللحظات.. وقبل أن يكمل المستشار رئيس المحكمة قراره، انفجرت القاعة بالهتاف، واقتحم المئات من خارجها الباب، ودخلوا إلى القاعة يهتفون ويهللون ويبكون، ولم يعد أحد يستطيع السيطرة على تلك الجموع المنفعلة.. جاء الجميع يهنئوننا، وانطلقت الزغاريد وراحت الهتافات التى تشيد بالعدالة ترتفع فى الخارج حتى زلزلت جدران دار القضاء العالى.. أما الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى فقد انخرط فى موجة بكاء شديد.. الفنان سامح الصريطى راح يحتضن شقيقنا أحمد.. مئات الشباب يهتفون «بالروح بالدم نفديك يا بكري».. حالة من الانفعال العارم عمت داخل وخارج المحكمة.. انطلق المارد الشعبى ليعبر عن مكنون تلك القلوب الشريفة التى جاءت زاحفة لتناصر من لا يملكان سوى أقلامهما يذودان بها عن وطنهما، ويحاربان بها رموز الفساد.. كانت وجوه أولادنا أحمد وخالد تنطق سعادة حين اقتربا من القفص.. وكان أهلنا، وأحباؤنا، واخوتنا، وأصدقاؤنا، وأساتذتنا.. أكثر سعادة.. ملحمة من الحب تجلت فى أبهى صورها فى تلك اللحظات.. التى لم تشهد دار القضاء العالى لها مثيلاً منذ إنشائها.. لقد انطلق خمسة آلاف مواطن من أبناء شعب مصر يهللون ويرقصون داخل وخارج المحكمة وكأن كلا منهم حصل على البراءة لنفسه.

كان المستشار رئيس المحكمة قد رفع الجلسة، ولم يستطع استكمال إعلان قرار المحكمة بفعل التدفقات الجماهيرية، وامتلاء القاعة بالجماهير.. وبعد نحو ربع الساعة، وبعد أن تمكنا بالعافية من إقناع الجماهير بالخروج وإخلاء القاعة حتى يتسنى لرئيس المحكمة العودة واستكمال منطوق القرار.. عادت هيئة المحكمة ليعلن رئيسها فى قرار مكتوب أنه «كان بإمكان هيئة المحكمة بذات تشكيلها أن تعيد إلقاء القبض على المحكومين، وأن تحكم عليهما بذات العقوبة، وأن توجه إليهما تهمة إهانة المحكمة بعد أن دنس الحاضرون من الجماهير قاعة المحكمة، ولكن المحكمة لن تفعل ذلك تقديرًا منها للظروف التى صدر فيها الحكم» ثم راح يستكمل تلاوة القرار الذى اشتمل على فقرة إضافية تقول: بإدراج اسمينا على قوائم الممنوعين من السفر لحين الفصل فى الالتماس المقدم.

وما أن أعلن رئيس هيئة المحكمة رفع الجلسة، حتى راحت الجماهير تواصل هتافها لعدالة القضاء، وتعبر عن فرحتها، وانتظرنا نحن لأكثر من ربع الساعة حتى جاء الحرس لإخراجنا.. وما أن خطونا أنا ومحمود خطوات محدودة حتى فوجئنا بمندوبى المحطات التليفزيونية والإذاعية والصحف المصرية والعربية والدولية يغرقوننا فى بحر من أضواء فلاشات الكاميرات.. بينما اندفع المئات من المواطنين من خلفنا محاولين اللحاق بنا وهم يهتفون «بالروح.. بالدم نفديك يا بكري».. إلا أن رجال الحرس الذين أصابهم القلق من الحشود المندفعة أسرعوا بنا عبر باب جانبى لا يعرفه أحد، وأغلقوه من الخلف فى وجه الجماهير الزاحفة.

لحظات.. وهبطنا إلى خلف دار القضاء العالى.. دفعوا بنا إلى السيارة التى جاءت بنا صباحًا.. وحين خرجت إلى شارع شامبليون.. كان الشارع قد أُغلق تمامًا أمام السيارات الأخرى..

اندفع رتل السيارات عائدًا بنا مرة أخرى إلى سجن مزرعة طرة ولكن عبر الكورنيش هذه المرة.. مرورًا بكوبرى طرة، إلى الأوتوستراد ومن هناك وصلنا باب السجن فى نحو الساعة الثالثة والنصف..

وكان الدخول إلى السجن هذه المرة مختلفاً.. تأملنا المنظر الخارجى قبل أن نجتاز البوابة الرئيسية إلى مبنى إدارة السجن.. وما أن وطئت أقدامنا بداخله حتى فوجئنا باستقبال حار وبهجة بالإفراج عنا تطغى على مشاعر الضباط الذين قابلونا بفرحة حقيقية.. وكانت مشاعر إنسانية أصيلة.. فيما عبر النزلاء بالسجن عن تهانيهم الحارة، وراحوا يباركون ما حدث.

وكان الوقت يمضى بسرعة.. وكنا نتوقع أن تنتهى إجراءات الإفراج عنا سريعًا، بعد أن اصطحب أحد الضباط شقيقنا أحمد لإنجازها من نيابة غرب القاهرة.. بسرعة.. فآثرنا الاستعداد للرحيل قبيل أن تغلق عنابر السجن أبوابها فى الساعة الخامسة والنصف حسب ما هو معتاد.

صدمة غير متوقعة

وحين اتجهنا إلى الداخل.. كانت وجهتنا أولاً إلى عنبر رقم 4 - زنزانة رقم 6 - حيث يتواجد الأخ خالد حامد محمود الذى ما أن بلغه خبر قبول الاستشكال حتى أغرورقت عيناه بالدموع فرحًا وابتهاجًا.. وقد آثر ألا يتركنا حتى ننهى إجراءاتنا ونخرج من السجن.. فجاء بصحبتنا إلى عنبر المستشفى.. حيث حملنا حاجياتنا، وودعنا كل زملاء السجن الذين هنأونا بالقرار ثم عدنا إلى مبنى الإدارة بصحبة العقيد محسن رمضان، وهناك خلعنا للمرة الأولى ملابس السجن الزرقاء، وارتدى كل منا البذلة التى جاء بها يوم إلقاء القبض علينا.. بدأنا فى تلك اللحظات نشعر باقتراب موعد الحرية.. انتظرنا كثيرًا فى غرفة المأمور، وكنا لا نزال نتوقع إنهاء إجراءات الإفراج الليلة.. ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهى السفن.. فقد جاءنا الضابط المختص بصحبة شقيقنا أحمد معلناً أن إجراءات الإفراج لم تنته، وأن الأمر سينتظر إلى الغد.

وبكل هدوء.. رحنا نخلع البذل التى ارتديناها، ونرتدى ملابس السجن مجددًا.. ونعود إلى عنبر المستشفى الذى كان قد أغلق أبوابه فى تلك اللحظات.. وحين دخلنا فوجئ زملاء السجن بوجودنا بينهم مرة أخرى وفى تلك اللحظات لم نكن قد تناولنا طعامًا منذ صباح يوم المحكمة، والذى كان مرهقاً للغاية.. وكنا قبيل خروجنا قد وزعنا كل ما كان معنا من مخزون الطعام.. وهنا.. وما أن علم الأخ ياسر سعودى بعودتنا حتى راح يسارع بإعداد وجبة طعام خصيصًا لنا.

وبينما كان الليل يرخى سدوله على منطقة سجن مزرعة طرة.. كنا نتعايش مرة أخرى مع أوضاع السجن، وراحت ليلة أخرى تمر علينا بالداخل بعد أن فشلت عملية إنهاء الإجراءات فى اليوم التالى 24 يونيو.. وبقينا بهدوء شديد نواصل حياتنا فى الداخل دون أى قلق.

كواليس اللحظات الأخيرة خلف القضبان

وحين جاء قرار الإفراج ظهر اليوم الثالث الأربعاء 25 من يونيو رحنا مجددًا نودع الإخوة النزلاء بالسجن.. قطعنا المسافة المتبقية من عنبر 4 إلى مبنى إدارة السجن فى دقائق.. وما هى سوى لحظات، حتى رحنا نودع السادة الضباط والمسجونين الذين آثروا أن يصحبونا حتى مبنى الإدارة.. نظرنا إلى السجن من الداخل ونحن نجتاز بوابته إلى الخارج بصحبة أشقائنا الذين جاءونا، بينما كان اللواء إيهاب فرج أحد كبار الضباط فى منطقة السجون يتعجل خروجنا بسبب الازدحام الشديد عند بوابة السجن الخارجية، حيث احتشد المئات فى انتظارنا.

حين وصلنا إلى مدخل منطقة سجون طرة.. كانت حشود غفيرة تنتظرنا هناك.. رحنا نلتقى معهم، ونتبادل الأحضان سويًا.. وراحوا يرفعوننا على الأكتاف.. ومن وسط المشاعر المتدفقة.. ومن بين الهتافات المدوية.. راح الصديق والأخ العزيز الحاج عبد الحميد حامد - أحد أهم الشخصيات العزيزة على قلوبنا فى منطقة حلوان - يلقى بنفسه فى أحضاننا وهو يذرف الدموع.. وحصل منا على وعد بأن نكون فى ضيافته فى الجمعة التالية.. ولكن إرادة الله كانت أسبق ليفارقنا بعد أيام قليلة.. ليلقى وجه ربه الكريم فجأة.. فكان حزننا عليه شديدًا.. وحمدنا الله أن يسر لنا الخروج من السجن حتى نكون فى وداعه إلى مثواه الأخير.

وحين خرجنا من السجن.. وبمجرد الخروج كان د.زكريا عزمى رئيس ديوان رئيس الجمهورية يتصل بى مهنئا وقبله كان قد حدثنى صفوت الشريف وزير الإعلام تليفونيًا وأنا داخل السجن، وكان اللواء حبيب العادلى قد اتصل بى وأنا داخل السجن أيضا، وعندما قال لى أننى سأحيل الضباط الذين جاءوا منزلك فجرًا إلى التحقيق، طلبت منه ألا يفعلها، وقلت له: يبدو أنهم يعرفون أننى أصحو مبكرًا، ولذلك جاءوا للقبض علىّ فى الوقت المناسب.

بعد أن مضينا بعيدًا عن السجن قليلًا آثرنا التوجه إلى مقر صحيفة «الأسبوع» مباشرة.. حيث أقام لنا الزملاء احتفالاً سريعًا.. وكان أبنائي أحمد ومصطفى وسيف في انتظاري هناك، كنا متلهفين لإنهائه بسرعة حتى نعود إلى والدتنا وأسرتينا الذين كانوا في انتظارنا على أحر من الجمر بعد غربة استمرت نحو 25 يومًا داخل أسوار سجن مزرعة طرة.. ولكنها كانت بمقاييس ما جرى رحلة من الصدق والحب والإخلاص.. أكدت لنا مجددًا أن شعبنا العظيم بخير.. وأن أمتنا بخير.. وأن الخير لا يزال كامناً فى النفوس العامرة بالإيمان بالله.. وبالوطن.

جاء ذلك، في الحلقات التي ينشرها «الجمهور» يوم الجمعة من كل أسبوع، ويروي خلالها الكاتب والبرلماني مصطفى بكري، شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوي ومرسي والسيسي.

اقرأ أيضاً«مصطفى بكري»: الفريق عبد المجيد صقر طالب القوات المسلحة بأعلى درجات الاستعداد

«مصطفى بكري» لـ وزير إسرائيلي: انت عبيط يا ابني.. حبة من تراب سيناء فيها رقابكم كلكم

يابني احنا تاني يوم نبقى في تل أبيب.. مصطفى بكري يرد على خبراء إسرائيليين

مقالات مشابهة

  • موقع الخارجية الأميركية يحذف عبارة تتعلق بعدم دعم استقلال تايوان
  • رئيس الدولة ونائباه يهنئون رئيس ليتوانيا بذكرى استقلال بلاده
  • "العُمانية لنقل الكهرباء" تختتم حملة "ما وراء الصفر" لتعزيز الصحة والسلامة والبيئة
  • أردوغان: نتوقع أن يفي ترامب بالوعد الذي قطعه قبل الانتخابات
  • شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: لحظات عصيبة في ساحة المحكمة
  • تحت الصفر.. دولة عربية تتعرض لموجة برد قارس
  • إعلام عبري: ظهيرة السبت “ساعة الصفر”
  • سيفاجئ الكثيرين.. نائب الرئيس الأمريكي يكشف تفاصيل مثيرة عن محادثات أوكرانيا
  • أربكان يدعو إلى إجراء انتخابات مبكرة في الخريف
  • “بيضاء المهندسين” تعلن مقاطعة انتخابات فرع إربد وتتحدث عن تدخلات واسعة