المؤرخ حمزة علي لقمان الفعل المعمّد بروح الإنتماء
تاريخ النشر: 13th, September 2024 GMT
كتب / فهمي غانم:
كتابة التاريخ وتسطيرة ليس مهمة سهلة وتبدو أكثر صعوبة عند تناول تفاصيل الظاهرة أي ظاهرة تاريخية فالمحقق التاريخي لايقف أمام ظاهرة عابرة ليتغنّى بها أو يبكيها أو ينسج منها خيالا يستثير العاطفة ويهيج المشاعر..
المحقق الجاد والموضوعي يبحث عما وراء الاكمه ويرسل التساؤلات التي عادة لاتنتهي بإجابة محددة فيترك الآخرين من بعده بمواصلة البحث فالتاريخ سؤال مستمر وفعل حركي حي قد تراه جامداً لكنه في الواقع شكل من اشكال الحياة الخفية التي تبحث عن إجابات دائمة ويبدو أن الأستاذ حمزة علي لقمان المولود في مدينة عدن عام 1917م هو واحد ممن يُشار له بالبنان في رصد وتحليل وقراءة الأحداث والمدن والتجمعات القبلية وتقديمها بصورة تستدعي الخيال أحيانا لنتمثلها بصرياً وسمعياً وحتى ذوقياً ولهذا لم يخرج عن منهج إثارة الخيال وإستفزاز الوعي بكل ملاحظاته وتقييماته إزاء تلك الظواهر والأحداث والمشاهد فهو لم يسجلها عفوياً وبشكل سادج إنما أراد أن يؤطرها منهجياً.
ويتمثل ذالك على سبيل المثال (أساطير من تاريخ اليمن) تجد فيها المتعة والفائدة وفيها يعزز دور الحكاية الشعبية..
و(تاريخ الجزر اليمنية) يعددها بشكل بانورامي تتداخل فيها الجغرافية والتاريخ ويثبت فيها البيئة والهوية المحلية وأنماط الحياة فيها..
ف(قبائل جنوب اليمن وحضرموت)..وهو الجزء الاول من (تاريخ القبائل اليمنية)..
و(تاريخ عدن وجنوب الجزيرة العربية)..
وهنا ذكر المؤلف مقومات النهضة التاريخية الاقتصادية لمدينة عدن وكيف فعلت السواعد السمراء فعلها ورسمت لوحتها في صحراء التيهه فنقل قصة هذا الحدث التاريخي ومراحل تطوره الأول المتمثل بإنشاء مصافي عدن وميناء الزيت في عدن الصغرى وإقامة بنية تحتية شاملة أحاطت بهذه المنشأ الحيوية وامتدت ثخومها فيما بعد في كل المدينة فسجلت مرحلة مفصلية من تاريخ عدن الحديث هذا هو عمق الإجابة لكاتب حي وباحث مجد وقلم رشيق وشخص محترم كالاستاذ الفاضل حمزة لقمان وكما وصفه الأستاذ والإعلامي المبدع فضل النقيب( رأيت فيه عراقة ذالك البيت العدني الشهير الذين كان مرجعية هامة للحركة الوطنية بأسرها)..في إشارة إلى آل لقمان..
فالتاريخ ليس بناء عضوي تسلسلي للأحداث بل هو إطلالة منهجية في كيفية صيرورته على أنساق مختلفة لكنها متوازنة لخلق حالة إنسانية تتعاطى مع هذه المنهجية وتقيم أثرها فيه..
إن إعادة إحياء التاريخ ورسم شخوصه وأحداثه على نحو يعيد لنا المشهد التاريخي بكل تفاعلاته قد تكون هذه مهمة المسرح والدراما بشكل عام لكن أن نُستدرج إلى تذوق التاريخ وطعمه والإقتراب منه بل وتلبّسه والعيش في أجواءه مهمة الباحث الموهوب القادر الذي يحول الظاهرة إلى حالة إبداعية وجمالية وقبل ذالك مادة علمية ويبدو أن الأستاذ لقمان كان أكثر قدرة على الإقتراب من التاريخ وإستعراض أحداثه من منظور إبداعي جميل فهو نقلها اولاً بأمانة العالم المختص وثانياً بطريقة سردية مبدعة متلبساً ثوب الأديب فوضع النقاط على الحروف أمام الباحث وأيضا القارئ العادي مستخدماً أدواته المعرفية والفنيه وحدسه العلمي وثقافته الموسوعه ورشده في التقييم متجرداً من اي عاطفة سوى حبه للمعرفة والثقافة المتخصصة..
في لقاء مع مجلة /فتاة شمسان/ العدنية في العدد 11 الصادر في1نوفمبر1960م وصف وصفاً دقيقاً ارض العقارب وإمتدادها الجغرافي وارجع تسميتها إلى(جدهم الاكبر عقارب بن ربيعة بن سعد بن خولان بن الخلاف بن قضاعة بن مالك حمير بن سبأ )وقال أن منطقة العقارب عرفت المصانع في أثناء حكم عمر بن علي الزنجبيلي الذي بنى مدينة (الأخبة) الأسم القديم لبئر احمد وبنى فيها مصنعاً للزجاج..
كما أشار في عدد آخر من نفس المجلة صادر في 1ديسمبر 1960م عن دور الحرة العدنية (بهجة) وهي أم علي بن أبي الغارات حاكم حصن الخضراء وباب البحر فكان لها شأن يُذكر فقد حثّتْ ابنها على المقاومة ضد قائد جيش حصن التعكر وباب البر الشيخ بلال بن جرير إلاّ أنها هُزمت أمامه فأمر بمصادرة كل أموالها وكنوزها ونقلت الحرة بهجة إلى عدن وبنت فيها مسجداً كان يُعرف بمسجد الحرة على مقربة من جامع المنارة..
وفي كتابه (تاريخ القبائل اليمنية) وصف جانباً من منهجه القائم على الوصف السردي المثّبت زمنياً ومكانياً وقد أنجز منه الجزء الأول الخاص بالقبائل الجنوبية فقدم تفاصيل الأحداث والاماكن التاريخية والشخصيات المؤثرة والحياة الإجتماعية للقبيلة وأفخادها وأنسابها وتأثير شيخ القبيلة القوي في ضبط وربط وتماسك القبيلة وقد عمل بانوراما لبعض قبائل شبوة وأبين وحضرموت ولحج وحتى القبائل المحيطة بعدن كقبائل العقارب وقبائل الصبيحة التي تشكل حزاما يحيط بخاصرة عدن..
وقد ذكر توزعها الجغرافي ولغاتها ولهجاتها المحلية بحيادية ومهنية واحترافية فهو لم يسايرها ولم ينقلها عفوياً بل أخضعها للدراسة والإستقصاء وقد وصف ذالك(إن الكتابة عن القبائل لاتعتمد كثيرا على المراجع المكتوبة بل أيضا على الإتصالات الشخصية والتنقل من مكان إلى آخر)..كما قاده بحثه إلى ذكر المدن اليمنية والموانئ الواقعة على طرق التجارة العالمية أهمها عدن والشحر ومنه وصف لنا طبيعة العادات والتقاليد السياسية والثقافية والاجتماعية التي حكمت تلك الممالك والمدن والقبائل..
لقد سجل في مقدمة كتابه تاريخ القبائل اليمنية..(انّ البنية القبلية في اليمن لم تتمدد على أساس القرابة بل أيضا على أسس سياسية واقتصادية) وقرر (أنَّ القبيلة في ظل غياب الدولة كانت تضطلع بجميع وظائفها)..معنى أنَّ القبيلة وحدة إدارية وسكانية وعسكرية تخضع للإشراف المباشر لشيخها..
إننا أمام قامة علمية دخل محراب التاريخ فامتطى فرسه وجعل منه رمزية تستشعر عندها حضور التاريخ أمامك بكل شخوصه ومن المؤكد أنَّ علمه الواسع وإبداعه المميز خرجا من مشكاة واحد فأصبح المجهول معلوم بالضرورة..
إن حمزة لقمان ينظر إلى الأثر السياسي والاجتماعي والاقتصادي للقبيلة من زوايا متعددة فالأثر ليس شكلاً جامداً مجرداً بل هو يعبر عن منظومة كاملة من المتواليات الحياتية والإجتماعية وتقاليد وأعراف وأزمان مضت سادت لكنها لم تُباد بل تركت أثرها في تراكمات منتظمة تدل على تفاعلات الحياة المادية والروحية للإنسان وهنا رسم لنا حمزة لقمان إستدارة كاملة للحياة على عصر تاريخي مضى أكد فيها قدرته على رسم خطوط الطول والعرض لتلك الآثار والممالك والمدن والحضارات كشواهد تفاعلية وإدراك تأملي لطبيعة هذا الارشيف الحي الذي غطّت مادته أرض اليمن واستطاع يؤطرها ضمن حسابات اللحظة الفارقة الذي جعلت منه مؤرخاً متميزاً..
وفي كتابه (أساطير من تاريخ اليمن) أشار إلى (أن الأساطير تؤثر تأثيراً فعالاً في حياة الشعوب خصوصا تلك التي لم تدون لكنها تحفظ عن طريق الرواية وبعضها تخيلات)..
وقد قدّم الفقيد المؤرخ حمزة لقمان الموروث الشعبي كتراث يمني بأفق إنساني وعمل على تفكيكه على نحو أظهر فيه قيمه الفلسفية ومبادئه الخلقية وكان حديثه عن النذور بعمقها الدنيوي وخلفيتها الدينية التي تجسد تلك العلاقة الثنائية بين المادي والروحي وقد تجسد مثلاً بتلك اللوحة الرخامية بخط المسند وجدت بجنوب الجزيرة العربية يذكر فيها أن (مقدم النذور يهب جسمه وروحه وأولاده وممتلكاته للإله)..
لم يلجأ الباحث التاريخي حمزة لقمان إلى أسلوب الخدع البصرية التي تقود إلى تشويه التاريخ والتشويش عليه كان همه أن يقدم علماً وليس رأياً شخصياً أو سياسياً أو رؤية مظللة فعندما تتحكم الأيديولوجية وتنفرد بقراءة التاريخ لاتكون القراءة إلاّ مُبْتَسرة أحادية نفعية وضارة..وبالطبع إن أستاذنا المؤرخ العظيم حمزة لقمان ابن عدن البار تجاوز هذا الإرث المسموم فترك لنا تراثاً قيّما من الكتب والمؤلفات العديدة التي شكلت بمجملها مخرجات لوعي تاريخي سليم وناضج فيها فأضاء لنا حروف التاريخ بكل حرفية وقدرة على إستنطاقها وتدوير معانيها وتفكيك الغازها والعيش بين جنباتها بكل أريحية وإستمتاع ولذة المحب فكان بحق ذاكرة عدن التاريخية بكل إمتداداتها الجغرافيا وسياقاتها الإنسانية..
—————-انتهى..
فهمي غانم
المصدر: شمسان بوست
إقرأ أيضاً:
عُمان.. حينما تمتد الروح من التاريخ إلى المستقبل
لفت جناح سلطنة عُمان في معرض إكسبو 2025 بأوساكا اليابانية الأنظار، عندما قام صاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد بافتتاح الجناح.. فلم يكن المعرض مجرد مشاركة تقدم عُمان في إطار تقليدي، بدا الأمر مختلفا كثيرا، فكانت عُمان حاضرة في سياقها الحضاري الذي يتناسب مع احتفالية عالمية مثل هذه، خاصة وأن اليابان معنية كثيرا بالجوانب الحضارية والثقافية والمعرفية التي أبدعها الإنسان عبر تاريخه الطويل، كما أن الأمر يبدو متناسقا مع اللحظة التاريخية الراهنة التي يحتاج فيها العالم إلى العودة إلى الجذور وإبراز المنجز الإنساني الحضاري في وقت تتآكل فيه هذه المنجزات لصالح قيم سطحية ومادية.
لقد كشفت تفاصيل المعرض للعالم المجتمِع في أوساكا الكثير عن عمق الهوية العمانية الممتدة من الماضي نحو المستقبل والتي يمكن أن تبرز في كل التفاصيل حتى تلك الأكثر حداثة ومواكبة للعصر. وكانت كل هذه التفاصيل حاضرة منذ العتبات الأولى لجناح سلطنة عُمان، الجناح الذي صممه شباب عمانيون خبروا أرض عُمان ورمزية كل شيء فيها، وسمعوا همس الماء الذي يعزف حولها سمفونية خالدة.. فكان الجناح أكثر من مجرد مبنى، إنه سردية مرئية وحقيقية لروح عُمان الممتدة عبر الزمان والمكان.
وبعد تجاوز العتبات التي تحكي قصة الحضارة العمانية تستطيع الأمم القادمة من كل الاتجاهات التي تلتقي في اليابان أن تقرأ رسالة عُمان في هذه التظاهرة وتعبر من فوق الجسور التي بنتها هناك: جسر التفاهم، وجسر للحوار، وجسر للسلام.. وكلها جسور تصنع شعار الحضور العماني في المعرض «روابط ممتدة» وهو شعار يكشف عن فهم عُمان العميق لمثل هذه المشاركات التي لا بدّ أن تتجاوز المستوى القريب إلى مستوى أكثر عمقا يعبر عن علاقة عُمان عبر التاريخ بالعالم والتي كانت على الدوام مبنية على فكرة التلاقي لا التصادم، والتفاعل لا الانغلاق. فلم تغادر أرض عُمان التي مرت عليها قوافل الحضارات وأبحرت منها السفن إلى أقصى المحيطات جوهرها الأصيل رغم أنها منغمسة في اشتغالات العالم بالتكنولوجيا والابتكار والإبداع في كل مجالاته.
ولا أحد يمكن أن يتصور أن معارض إكسبو عبر العقود الماضية كانت منصات تجارية، رغم أهمية هذا الجانب، لكنّ رسالتها أعمق من ذلك فهي أقرب إلى فضاء رمزي يعكس رؤى الأمم لأنفسها وللعالم.. وهي في بعد آخر من أبعادها العميقة اختبار للهوية، ونافذة على المستقبل فتستطيع أن ترى في هذه المعارض إلى أي مدى أنت متمسك بهويتك ومدى بعدك أو قربك من المستقبل الذي تتحدث عنه وتطرب لحكايته.
ولذلك كانت عُمان حريصة على بناء جناحها وفق كل هذه المرتكزات لتشارك العالم قيمها وتجاربها وتطلعاتها؛ فاختارت عمان بكثير من الذكاء أن تدشن جناحها بصبّ الماء في مجسم يروي سيرة إنسان عاش قبل آلاف السنين، وكأنها تقول إن الزمن ليس قيدا بل جسر، وإننا نأتي من بعيد لنذهب أبعد.
وهذه الرؤية العميقة تبحث عن تفعيل قوي للقوة الناعمة عبر الجسور التي تبنيها الثقافة الحاضرة في الجناح وعبر التصميم، وأيضا، عبر عرض نادر للهُوية التي تجمع بين الأرض والإنسان والماء، فيما يمكن أن يكون تناغما لا تستطيعه إلا الحضارات العريقة.
ومن خلال المحاور الستة التي يعرضها الجناح ـ من السياحة والاستثمار إلى الهوية والعلاقات الدولية ـ تقدّم عُمان نفسها على الشكل الذي تريده للعالم أجمع وليس لنفسها فقط.. عالم أكثر وئاما، وأكثر تفهما، وأكثر تعاونا.
ولا شك أن معنى مشاركة سلطنة عُمان في هذا المعرض أكبر بكثير من حجم المعرض، لأن رؤيتها فيما تقدمه تستحضر عبقرية المكان، وذاكرة الإنسان، وحكمة التاريخ، لتبني شراكة حقيقية مع المستقبل. وتدرك عُمان أنه ليس ثمة مكان يمكن أن تعرض فيه هذه الرؤية ويستطيع أن يستوعبها في هذه اللحظة التاريخية الفارقة من اليابان، البلد الذي يقدّس التراث بالقدر الذي يحتفي فيه بالتكنولوجيا، وهو البلد الذي يرى في عُمان صديقا تاريخيا يحمل روح الشرق ويتمسك بالمبادئ والقيم الحضارية والإنسانية.
وبهذا المعنى تمضي عُمان في مسيرتها، بهدوئها المتزن، وبخطابها النبيل، وبحضورها الأخلاقي قبل أن يكون سياسيا أو اقتصاديا. وفي إكسبو أوساكا، تثبت مجددا للعالم أنها لا تذهب إليه لتبرز نفسها فقط، ولكن، وهذا هو الجوهر، لتُظهر للعالم وجها من السلام الممكن، ومن الجمال القابل للعيش، ومن الإنسانية التي لا تزال قادرة على الحلم، رغم كل التحديات. وستبقى عُمان تراهن على هذه المفردات رغم ما في العالم من مآزق ومن انهيارات وزلازل كونية.