في حياة الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام محطات لم يقف عندها الفكر متأملا أو متبصرا كالهجرة مثلا، فالهجرة لم تكن إلا انتقالا من حال دل عليه المكان بكل دلالاته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ولذلك غفل الفكر العربي عن تفسير الحالة تفسيرا منطقيا يتسق ورسالة الإسلام كرسالة سماوية خاتمة للبشرية، ذلك أن إيماننا المطلق بالله يرى أن الله قادر أن يزرع المحبة في قلوب كفار قريش ويجعل منهم أمة تتقبل الرسالة وتبشر بها العالم من حولها، لكن حدث العكس، فقد كانت قريش بكل مدلولات المكانة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بيئة طاردة للرسالة وغير قابلة للتحولات وحالات الانتقال التي يحملها الرسول الأكرم للبشرية، لذلك كانت الهجرة تعبيرا عن المناخ الملائم للإسلام بدلالة اسم المكان الجديد « المدينة « وتعبيرا عن رفض المحمول الثقافي للقرية، ومثل ذلك ثابت بالنص، فالقرآن حين يتحدث عن مكة فهو لا يتجاوز ملفوظ القرية إلى غيره، وحين يتحدث عن يثرب كمكان جديد حاضن للرسالة المحمدية فهو يسميها بالمدينة، وفي ذلك دلالة حضرية ذات بعد نظري عميق لم يقف عنده أرباب المذاهب ولا علماء الكلام كما وقفوا عند باب الطهارة والنجاسة وباب النكاح .
ما يميز الاحتفال بالمولد النبوي هذا العام هو التزامن مع فكرة التغيير والبناء والوعي بضرورات الإصلاح، فالإصلاح نسق فكري ثقافي حضاري تقدم عليه الأمم لإنجازه بخطاب وتقنيات ومعطيات قادرة على التفاعل مع الواقع لا القفز على شروطه الموضوعية وقادرة على فرض طابعها الخاص الذي تتسم به المرحلة أو يتسم به المستوى الحضاري الحديث .
ما يحدث اليوم في عموم الجغرافيا اليمنية هو عملية ثقافية تحفيزية تهدف إلى إكساب المجتمع هوية إيمانية مضافة وهي تعتمد اعتمادا متزايدا على مختلف الجماعات بهدف الوصول للوحدة المشتركة أو الإحساس بها في ظل ما يتعرض له الإسلام من هجوم ومن تشويه متعمد ويحمل شلال الإيحاء المتدفق من بين حروفها مشروعا نهضويا كبيرا يصنع من الفكرة الدينية مشروعا سياسيا واعيا وقادرا على إحداث التحولات وتحريك عجلتها، وهذا ما تدل عليه رموز وإشارات خطاب السيد قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي.
ولا بد من التأكيد على فكرة أن رسالة الإسلام جاءت لتستكمل البعد القيمي والأخلاقي عند البشر بعد أن بلغت الرسالات كمالها في الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ولذلك عبر الرسول الأكرم عن ذلك بقوله: « إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق « بل مدح الله رسوله في محكم الذكر الحكيم بقوله : وإنك لعلى خلق عظيم « في إشارة إلى حالة التكامل التي أرادها الله كما تشير آخر آية نزلت على الرسول الأكرم وهي قوله تعالى : « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» .
هذا البعد القيمي والأخلاقي غاب عن البحث والتنظير والتأصيل في مسارنا الثقافي التاريخي، بل لم يتم التأليف فيه إلا نادرا قديما وحديثا، والسؤال الأخلاقي أثاره وبسط عنه القول الجابري في مشروعه النقدي «نقد العقل العربي « وفصل القول عنه في كتابه « العقل الأخلاقي العربي « .
ولعلنا نستبين الخلل البنيوي في مسارنا الثقافي والسياسي من خلال هذا الغياب أو التغييب، فالإسلام الذي هدم منظومة الثقافات الكبرى في زمنه، وهي الثقافة الفارسية والرومانية، والثقافة الفارسية هي ثقافة وثنية « مجوسية « لا تلتقي مع الإسلام في نقاط، بعكس الثقافة الرومانية التي تشترك في كثير من محدداتها مع الإسلام، ولذلك حاولت الثقافة الفارسية مقاومة عوامل الفناء من خلال إعادة إنتاج نفسها في الثقافة الإسلامية فتركت أثرا واضحا في نظرية الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وفي اللغة والآداب، وفي الحياة الاجتماعية، والقارئ لكتب الأخبار كـ»العقد الفريد « لابن عبد ربه، و «أخبار الزمان « للمسعودي، وغيرهما، يكتشف ذلك الأثر للثقافة الفارسية، كما يكتشف الرؤية المنهجية التي حاولت صرف العقل العربي عن الغوص في نظرية الأخلاق العربية وهو بالتالي تعبير عن انحراف في مسار الرسالة المحمدية وقد كان من نتائج ذلك حالة الهوان والضعف التي وصل إليها العقل العربي والمجتمع العربي منذ العصر العباسي الثاني إلى اليوم .
ولذلك فالاحتفاء بالرسول الأكرم لا بد أن يكون بعثا وبحثا وتحقيقا وتصويبا للمسارات ، ويفترض بنا أن نحاكم التاريخ ونحاكم واقعنا محاكمة عادلة لنعيد ترتيب نسقنا، ونعيد بناء الحيوات وفق قيم ومبادئ الإسلام لا غيره ووفق المستوى الحضاري والفكري للبشرية، فالإسلام رسالة متجددة وليس قالبا جامدا، وهو فكرة ثورية، والفكرة الثورية التي قادها الرسول الأكرم أحدثت تحولا وتبدلا ما زال يذهل المفكرين إلى اليوم والذين جعلوا الإسلام كهنوتا وحالة تسلط جماعات على أخرى تأثرا بما دخل على الإسلام من ثقافات لم يفلحوا بل ساهموا في تراجع فكرة الثورة وأثرها في واقع البشر بل كانوا سببا جوهريا ومباشرا في حالة التخلف والتراجع الحضاري للعرب والمسلمين وهو حال من الذل والهوان يعانونه اليوم كما هو مقروء في الواقع .
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
الإسلام الحركي
#الإسلام_الحركي
بقلم: د. #هاشم_غرايبه
عندما يطرح الحلم الذي يراود أمتنا منذ قرن، وهو استعادة وحدتها، تحت راية الإسلام – مبعث عزتها وسؤددها، يقفز نفر من بني جلدتنا كالملسوعين، إذ يعتقدون أن ذلك يعني أن يتسلم الإخوان المسلمون السلطة.
هؤلاء هم ذاتهم الذين اصطفوا مع الأنظمة المستبدة ضد الثورات الشعبية العربية عام 2011 ، متهمين الشعب بالعمالة للاستعمار (!)، مع أنهم ظلت شعاراتهم دعم حق الشعوب في اختيار مصيرها بانتخاب من يمثلها وليس من عينه المستعمر، لذلك طالبت باسقاط هذه الأنظمة لأنها عميلة للغرب الإستعماري، وهي كذلك حقيقة، لأنها تعترف بذلك وإن كانت تسميه تحالفا وليس عمالة، لكن ما يسقط ذريعتها ان التحالف لا يكون إلا بين ندين، وليس بين تابع ومتبوع.
السؤال المهم الى هؤلاء: هل هم مؤمنون بالعلمانية ومبادئها التي تستوجب احترام التعددية الفكرية حقيقة، وملتزمون بقبول الرأي الآخر؟، وهل هم حقا يلتزمون بالخيار الديموقراطي إن كان لغير صالح مرشحيهم.
لقد كشفت مساهمتهم الفعالة في اجهاض اول تجربة ثورية شعبية للعرب، فاصطفوا الى جانب الأنظمة الرجعية التي طالما اكتووا بقمعها، كشفت عدم مصداقية من تطغى المصالح عندهم على المبادئ، وان ادعاء انتهاجهم العلمانية ما هو إلا لتبرير رفضهم لمنهج الله، وان عداءهم للأحزاب التي ترفع الشعارات الإسلامية، مقابل تقبلهم لأي حزب يرفع شعارات بديلة، ما هو إلا خوفهم من أن وصولها للسلطة قد يشجع المطالبين باقامة الدولة الإسلامية.
هذا هو سر الاصطفاف الذي حدث بين الأطراف الثلاث المتناقضة أصلا وهي: المستعمر الغربي الذي عمل جاهدا قرونا طويلة حتى قضى على الدولة الإسلامية، والثانية هي الأنظمة العربية التي قامت على أنقاضها وترى أنه لا فرصة لها بالحكم من خلالها، والثالثة هي القوى المناهضة للاسلام (المنافقون تاريخيا) وأظهرت نفسها للعلن تحت مسمى أحزاب علمانية، مستفيدة من ممانعة أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية لوصول اسلاميين للحكم.
ولذلك ابتدع هذا التحالف مسمى: الإسلامي، والذي يعنون به ذلك الذي يدعو الى الحكم بموجب الإسلام، وليس وفق الدستور الذي فرضه المستعمر الأوروبي كبديل لمنهج الله.
الدكتور عبدالله النفيسي يرفض هذا المسمى لأن غرضه خبيث، وهو تجريد الإسلام من مضمونه الذي وجد من أجله وهو تطبيق منهج الله في الحكم، وابقائه مجرد طقوس عبادية فردية لا تتدخل في تنظيم حياة الناس.
لذلك يطلق على الحركة الداعية الى استعادة الدولة الإسلامية مسمى الإسلام الحركي، أي من ينتظمون بجماعات تحمل برنامج اقامة نظام حكم إسلامي، وهذه الجماعات قد تكون سياسية كأحزاب مثل الإخوان المسلمين أو حزب التحرير أوحزب الدعوة الشيعي أو جماعة انصار الله اليمني، أو جمعيات تعلن أنها للعمل الخيري أوالدعوي للإفلات من القانون الصارم الموحد في جميع الأقطار الإسلامية والذي يحظر إقامة أي تجمع تحت يافطة إسلامية صريحة، بذريعة أن ذلك يؤدي الى التفرقة بسبب المعتقد الديني.
كما يعتبر الحركات الدينية التي تعلن أن برنامجها تعميق الإيمان وإصلاح الأفراد، مثل الحركة الوهابية وبعض الجماعات السلفية وجماعة الأحباش وبعض الجماعات الصوفية ملصقة بالإسلام الحركي وليست منه، بدليل أنها وظفت من قبل الأجهزة الاستخبارية الغربية، وجل دعوتها طاعة الحاكم الذي يمولها، حتى لو والى الأعداء، أوخالفت قراراته الأحكام الشرعية الصريحة.
كما يجمل النفيسي الجماعات الجهادية ضمن الإسلام الحركي، رغم أن بعض هذه الجماعات مخترقة من قبل أجهزة استخبارات الأنظمة العربية، وكشف ذلك أنها ظهرت مع اعلان الحرب على الإرهاب، ولم تنشط إلا خلالها من خلال أعمال شنيعة بحق المدنيين، بهدف شيطنة الجهاديين وتبرير الحملة الأمريكية للقضاء عليهم.
هكذا ومن خلال هذا التوصيف يمكن فهم الفارق بين يصدع بالواجب الشرعي الوارد في قوله تعالى: “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” [المائدة:44]، ويعمل لأجل تحقيقه، وبين من يدعو لتعطيل هذا الحكم الشرعي الملزم لكل مسلم.
ورغم هذا الخلط المقصود لتعطيل قيام الدولة الإسلامية، لكن لا يجوز التشكيك في الإسلام الحركي، بالقول انه استغلال للدين، أو أنهم عملاء للمستعمر، لأن ذلك أقصى ما يسعى إليه المنافقون.
الدين أنزله الله لكي تقيمه الدولة المسلمة، فالواجب على كل مسلم العمل على تحقيقه.