تقول كتب التاريخ إن الإمبراطور نيرون واحد من الحكام الطغاة المجانين، الذين صاروا مضرب الأمثال فى الإشارة للمستبدين من حكام العالم، الذين أذاقوا شعوبهم ألوانا من الاضطهاد والتنكيل والإذلال.
ولد نيرون عام 37م وورث الطباع الوحشية عن أمه وتوفى والده وكان لا يزال طفلًا صغيرًا، وتزوجت أمه، من الإمبراطور كلوديوس الذى تبنى نيرون ومنحه اسمه وزوّجه ابنته أوكتافيا.
تعاظم ظلم واستبداد نيرون، وأذاق شعبه صنوف العذاب والاضطهاد، فضلا عن القتل غير المبرر بالجملة، ثم توج جنونه بإضرام النار فى روما يوم 18 يوليو 64م، وأسفر الحريق عن تدمير ثلثى مدينة روما واستمرت النيران مندلعة لخمسة أيام ونصف اليوم، دون أن يتدخل هذا المجنون لإخمادها، ووصل به الأمر أنه كان يقف على المسرح أثناء اندلاع النيران دون أن يهتز لما يحدث لوطنه، وكأنه يستمتع بتحويل المدينة إلى رماد.
تمادى نيرون فى القسوة والوحشية وبلغت كراهية شعبه وكراهية ملوك أوروبا له مداها، عندما بدأ يحرض الشعب على الشعب مما دفع الجميع إلى عزله وحُكم عليه بالقتل ضربا بالعصى، وأبى أن يُقتل بيد شعبه فقتل نفسه فى 68م.
قصة نيرون تذكرنى، بجزار إسرائيل، مع الفارق، فى أن نتنياهو، يدخل شعبه فى صراع مرير وطويل مع الدول الدول المجاورة بشكل لم يحدث منذ بداية إنشاء الكيان الصهيوني، وهو بذلك يحرق الداخل، بسبب شعور بنى شعبه بأنه يضعهم أمام فوهات المدافع، من كل الجهات، مع تراجع فى الاقتصاد، وحالة فرار للخارج خشية أن تلتهمهم الحرب، خاصة أن نيران الحروب لا تفرق بين الجانى والمجنى عليه، وتلتهم كل من أمامها.
بالتأكيد هناك فى إسرائيل من يريدون السلام، و لعل إسحاق رابين الذى دفع حياته ثمنا للسلام في 4 نوفمبر 1995، حيث أقدم اليهودى المتطرّف إيجال أمير على إطلاق النار عليه، وكانت الإصابة مميتة. والآن تشهد إسرائيل منذ أيام مظاهرات حاشدة لإيقاف الحرب، لكن نيرون العصر يرفض ويواصل القتل وسفك الدماء يوميا، وآخرها مجزرة بشعة فى خان يونس، حتى إن المتحدث باسم الدفاع المدنى بغزة، قال إن الواقع فى مواصى خان يونس مأساوي، وهناك عائلات اختفت بشكل كامل.
والمرعب أن الصواريخ التى استخدمها الاحتلال فى المجزرة من نوع MKالتى تزن 2000 رطل، وهذه الأسلحة لا يستخدمها إنسان طبيعى خاصة أن تلك المناطق مأهولة بالسكان، ما يؤكد جنون قادة إسرائيل وعلى رأسهم نتنياهو، الذى كلما تأكد من الفشل، يصب مزيدا من النار على رؤوس الأبرياء.
غزة أصبحت إما جثثا أو بقايا مدينة، وحتى من بقوا على قيد الحياة، هم فى الحقيقة أموات لأنهم مع كل صوت طائرة ينتظرون أن يتحولوا إلى شهداء. ويضعنا مشهد الخراب اليومى المستمر منذ قرابة عام أمام سؤال بديهي: هل هذا الرجل عاقل، إنسان طبيعي، نيرون حرق روما أما نتنياهو فهو يحرق المنطقة. منذ يومين قصف سوريا، وقبلها لبنان الذى أصبح ينتظر بين لحظة وأخرى القصف من الطائرات الإسرائيلية.
لا أعرف ما هذا الصمت الغربى، خاصة أن القوى العاقلة فى العالم تناشد يوميا بوقف هذا الجنون، ومنذ مدة طلب الرئيس عبدالفتاح السيسى من جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبى للشئون الخارجية والسياسة الأمنية، والوفد رفيع المستوى المرافق له الذى ضم مبعوث الاتحاد الأوروبى لعملية السلام فى الشرق الأوسط، بالإضافة إلى سفير الاتحاد الأوروبى بالقاهرة، طلب منهم ضرورة وجود ضغط أوروبى، لوقف تلك الاعتداءات.
كما كرر نفس الطلب فى وجود رئيس ألمانيا فرانك شتاينماير.
ما أفسده نتنياهو يحتاج مئات السنين لكى تنساه البشرية، وسيظل اسمه مرتبطا بالدموية والقتل والحرق كما ارتبط اسم نيرون. مصر نفسها لم تسلم من التطاول، والاتهامات الكاذبة من هذا الشخص الذى يحمل فى رقبته ذنب مائة ألف شهيد ومصاب، راحوا ضحايا لجزار دموى أجمع وشهد العالم على جنونه.
إننى أتصور أن نهاية نتنياهو لن تقل عن نهاية نيرون، الذى حكم عليه شعبه بالضرب بالعصا حتى الموت، لكن جنون العظمة جعله يقتل نفسه حتى لا يموت على يد الشعب. وإننى على ثقة أن دماء الأبرياء لن تضيع هدرا، وستكون بداية التحرير والحرية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أمجد مصطفى الزاد كتب التاريخ
إقرأ أيضاً:
سيرة أمير العمرى المُدهشة (1-3)
أنا واحد مَمن يُفضلون قراءة التاريخ من مسارات مُغايرة للمسار السياسى التقليدي، لذا فإن كُتب السير الذاتية للمُثقفين تُعد فى رأيى رافدا مُهما وحياديا للاطلال على تاريخنا المُعاصر. ومما كان لافتا ومشوقا فى الأيام الأخيرة، تلك السيرة العجيبة للناقد السينمائى الكبير أمير العمري، والتى صدرت مؤخرا عن دار نظر للمعارف بالقاهرة وحملت عنوان « الحياة كما عشتها».
وأمير العمرى واحد من أفضل النقاد السينمائيين العرب، إذ قضى نحو خمسة عقود مُتنقلا بين مهرجانات السينما العالمية، مُحللا، ومفككا، ومُطلعا، ومتابعا لحركات الفن العالمية، مُتخذا من العاصمة البريطانية لندن مستقرا.
وقد عرفناه صحفيا عتيدا فى كبرى وسائل الإعلام بدءا من هيئة الإذاعة البريطانية «بى. بى. سي» مرورا بالحياة اللندنية، والقدس العربي، وصحيفة العرب، وغيرها، فضلا عن رئاسة مهرجان القاهرة السينمائى.
والمثير أن سيرته تتجاوز سيرة ناقد سينمائى لترصد تحولات كبرى فى عالم الصحافة والاعلام العربي، وتقدم حكايات مشوقة وحصرية عن شخصيات سياسية، وفنية، وإعلامية معروفة، تتسم بنبرة الصراحة التامة.
إن أول ما يلفت نظرنا فى حكاية الناقد المولود فى 1950 بمدينة المنصورة، هو ذلك التنوع العجيب الذى شكل شخصيته، بدءا من والده مهندس المساحة الوفدي، الذى تنقل من مدينة إلى مدينة ليتعرف على محيطات مجتمعية مختلفة، ودراسته العميقة للطب وتفوقه فيه ثم تعيينه طبيبا فى أقاصى الصعيد، وانتقاله لاحقا من قرية إلى قرية، وصولا إلى صداقاته وعلاقاته الوطيدة بالمثقفين والمبدعين ومجانين الكتابة فى مصر الستينات والسبعينات.
كانت المنصورة وقتها مميزة بوجود جالية أجنبية كبيرة يغلب عليها الطليان، الذين أسسوا دور سينما عديدة واهتموا بعرض أحدث الأفلام. وهُنا أحب الفتى الصغير، السينما وارتبط بها، وسعى للالتحاق بمعهد السينما بعد إتمامه الثانوية، لكن رضخ لرغبة والده وإلحاحه بدراسة الطب. كان يشعر بأنه يُسدد دينا لوالديه، وظل طوال سنوات الدراسة متعلقا بالسينما ومديرا لنادى ثقافى أسسه مع بعض الشباب لمتابعتها. وبعد أن جرب حظه فى العمل طبيبا فى أسيوط والقاهرة، ثم عمل طبيبا فى الجزائر بمدينة بسكرة، وجد أن مهنة الطب لا تُرضى طموحه، فغادرها تماما بعد وفاة والديه حيث رحلت أمه فى 1971، ووالده فى مطلع الثمانينات، وأنهى عمله بالجزائر وسافر إلى لندن ليبدأ حياة جديدة.
فى لندن كان هناك عالم جديد للصحافة والاعلام يتشكل مع تحولات السياسة العربية فى ذلك الوقت. كان ألمع عقول العالم العربى الفكرية يعملون فى صحف ممولة من العراق وليبيا والسعودية وغيرها، وتعرف أمير بكثير من النجوم اللامعين كان منهم عماد أديب، هالة سرحان، عمرو عبد السميع، أمجد ناصر، صبرى حافظ، عثمان عمير، منى غباشي، أحمد الهوني، مجدى نصيف، وجميل مروة، وغيرهم.
وهو يقدم لنا حكايات عجيبة جدا عن هؤلاء وغيرهم ممن شهد بداياتهم وهم مفلسون، حالمون، أنقياء، ثُم تحولوا فى زحام لندن وسحرها إلى ملوك وسماسرة ومليارديرات. يتذكر أمير جيدا وجه الشاب الطموح الذى طُرد من إحدى مجلات «الحياة اللندنية» لاتهامه بمخالفات مالية، ثُم رآه بعد سنوات معروفا بالملياردير إيهاب طلعت.
كما يتذكر كيف كان هناك صحفى فلسطينى متواضع الحال، ومتخصص فى الصحافة الرياضية واسمه عبد البارى عطوان، تعرض للبطالة فجأة بعد استغناء الشرق الأوسط عنه، وظل شهورا بلا عمل حتى عرف باعتزام منظمة التحرير الفلسطينية اصدار صحيفة فى لندن، فساق كل علاقاته توسطا ليتولى إدارتها. ثم يذكر كيف قرر الناشر الفلسطينى إقالة عبد البارى عطوان بسبب موقف الصحيفة المناصر لصدام حسين خلال احتلاله الكويت، لكن «عطوان» تمكن بفضل تهديد عدد من أنصاره بالانسحاب من العودة مرة أخرى، وظل فى موقعه حنى 2013.
وللحكايات بقية..
والله أعلم
[email protected]