نحن إزاء تناول أحد التجليات المتنوعة لظاهرة الاعتقال، والتي تميزت بها الشعوب التي تعرضت للاحتلال، وتعرض أفرادها للسجن على خلفية طلب الحرية، وليس على خلفية جنائية كما يروج الاحتلال المرفوض.

وجدت الصحفية المقدسية لمى أبو غوش، التي اختبرت الاعتقال الفعلي في السجن، نفسها معتقلة في بيتها، فيما يطلق عليه الإقامة الجبرية.

وجدت نفسها مع فضاء بيتها وطفليها، وقيد الكتروني في معصمها، يعيق حركتها خارج البيت أمتار قليلة، فكيف ستقضي شهورها العشرة، بعيدا عن بيوت الأهل والعمل والقدس والأرض والسماء؟ لم يكتف الاحتلال بتقييد الفضاء الحقيقي، بل تم تقييد الفضاء الافتراضي!

اليوم الأول، والساعات ال 24، وكل ساعة 60 دقيقة، واليوم الثاني، الأسبوع، الشهر، أية حياة ستكون هنا في فضاء البيت الذي صار سجنا؟

هناك، في الشيخ جراح، في ذلك السهل الصغير الذي يتوسط تلال القدس الشمالية، الذي كان أحد الأحياء المقدسية التي تأسست خارج سور البلدة القديمة في القدس الجميلة، في نهاية القرن التاسع عشر؛ فقد ازدهر المكان من العصور القديمة قبل آلاف، منذ الكنعانيين واليبوسيين، لذلك استأنف العرب تجديدهم للمكان، ككل المدن والخرب والتلال الحضارية. في تاريخنا القريب قبل 9 قرون، كان المكان معسكراً للجنود، وفيه لربما مارس الطبيب حسام الدّين الجراح مهنته كمداو للجنود والأهالي الوافدين من القدس. ويمكن تأمل مظاهر العمران المملوكي من خلال المسجد الصغير الجميل هناك، بني ليلبي حاجة السكان بعددهم القليل. لقد تم تأسيس الحي حديثا عام 1865 وأصبح مقراً سكنياً لبعض العائلات المقدسية.

بيت لمى هو من بيوت متناثرة جميلة هناك، افتعل المستوطنون مشكلة قامت على نفي ملكية المقيمين المقدسيين هناك لبيوتهم بحجج غير قانونية، ما دفع الأهالي لمقاومة التهجير، لذلك كانت لمى الصحفية في هذا السياق المقاوم عن حق طبيعي ما دفع الاحتلال لاعتقالها، ومن ثم لاستئناف الاعتقال في البيت.

تاريخ قريب وبعيد يجتمعان هنا، جعل المكان مجالا للتأمل، وهكذا وجدت الصحفية لمى أبو غوش نفسها في هذا الفضاء المحدد للسعي نحو كسره والانعتاق منها؛ فكان الرسم أحد مجالات تجلي هذا الحال: الاعتقال في حيّز صغير، فحتى ولو كان الحيز هو البيت، فإن الاعتقال حتى في البيت صعبا.

تراقب أجهزة الاحتلال الصحفية من خلال القيد الالكتروني، تعدّ عليها الخطوات، لكن لم يكن سهلا اعتقال الروح، فكانت الألوان، وهكذا على مدار أشهر رسمت أبو غوش من الشيخ جراح عوالمها هناك في الاعتقال البيتي.

اختارت الصحفية عنوانا من جنس واقعها كامرأة وأمّ. "أم تحت الإقامة الجبرية"، لعله معرض فني لصحفية تجرب عالم الفن التشكيلي، كأن موهبتها كانت كامنة في النفس حتى جاءت لحظة التجلي الفني، ولادة فنانة.

عبرت الكاتبة-الفنانة عن حالها كمعتقلة من قبل الاحتلال، في سياق الأمومة، والسياق الاجتماعي التي تعتاد هذا الوضع، والأهم اعتقال النفس وحصرها وليس فقط الحصر الجسدي.

في لوحة ظهرت المعتقلة كأنها دمية ماريونيت يتحكم الاحتلال بها كمحرك مسرح العرائس، لربما تذكرت لمى مهرجان مسرح الطفل والماريونيت الذي تم على مدار سنوات في المسرح الوطني على بعد مئات الأمتار من بيتها.

كما ظهر الحصر في رسم انكماش الجسد في زنزانة، أكانت زنزانة الاعتقال الحقيقي الواقعي في معتقل "المسكوبية" أو الإقامة الجبرية في البيت. وقد نجحت فعلا في التعبير عن حالة الضغط الجسدي.

من الظاهر التي لفتتنا في اللوحات، تصوير إغلاق العينين والفم. إنها لوحات ناقدة للاحتلال ومقاومة له، حيث تكشف ما يفعله من التضييق على الحريات الإعلامية، وليس فقط حرية الحركة.

وتحت تأثير الحنين لطفولتها، راحت تستعيد لمى أبو غوش علاقتها القريبة مع مدينتها القدس، وكيف أنها تحلم بعبورها من خلال سلم، وأبدعت أيضا في رمزية السلم الموسيقى في لوحة أخرى، بإيحاء حول إمكانيات الفنون في كسر القيد الالكتروني وباقي القيود لكل الذين صاروا يحرمون من دخول القدس.

ثمة لوحة تعبر عن حالة ملتبسة ظهرت من خلال اللعب باللونين البرتقالي والأسود، كأنها تأملات حول جوهر معنى الحرية، وكيف أن الحال هنا هو أنه بالرغم من القيد الأسود، ثمة أمل قادم.

لقد فاجأتنا الفنانة والكاتبة بالتعبير عن خصوصيات المرأة الأسيرة، وكيف تعاني، من خلال رسمتين صادمتين يتعلقان بالمرأة.

تكررت تيمة القيد عبر أشكال مختلفة ورموز، حيث ظهر القيد بحلقاته المعدنية الثقيلة، في أسلوب ناظم للحالة النفسية التي وجدت لمى نفسها فيها؛ فهي معتقلة فعلا، وهي متحررة النفس والروح، فحتى لو لم حرمت من أن تخطو حول بيتها وفي شارع البيوت الجميل، وحتى لو لم يسمح لها بالتواصل الاجتماعي، فإنه استطاعت الانتصار على القيد حين راحت تتواصل مع روحها لتكتشف تفكيرها ومشاعرها، والبحث عن مجالات للتعبير عن شعور إرادة التحرر.

هي تجربة فنية، يمكن أن تستأنف لمى اختياراتها واختباراتها معا إنسانيا وفنيا. ولعلها أيضا ستفاجئنا قريبا بنصوص معتقلة كتبتها أثناء الاعتقال البيتي الذي تحررت منه مرتين، فقد تحررت منه وهي فيه، وتحررت منه فعليا، بعد انتهاء فترة السجن، ليكون الإفراج عنها ليس أهم من إفراجها عن نفسها، وسط سياق الإغلاق النفسي والاجتماعي الذي سعى لتحقيقه الاحتلال، لكنه مني بفشل ذريع؛ فهذه المعتقلة تحلق وهي في الفضاء المحصور، لا لتحرر نفسها فقط، بل لتحرر شعبها وأمتها، لتمنح الأمل عبر تجريب جمالي يعيش طويلا.

في مركز خليل السكاكيني الثقافي برام الله، ننتقل من لوحة إلى أخرى، وحين تجتاز اللوحة الواحدة والثلاثين اللوحة الأخيرة نكون فعلا قد عشنا تجربة الأسر الحقيقي والبيتي والافتراضي، كأننا إزاء سيرة بصرية معبرة عن أشهر الاعتقال. إنها سيرة مقترحة بادرت لها الكاتبة الصحفية، ربما لتخلق فضاءات ملونة داخل بيتها وداخل نفوسنا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

خالد نبهان.. الشهيد المبتسم الذي سلبه الاحتلال روح الروح

لم يكن خالد نبهان جَدّا عاديا، بل لم يكن أيضا شهيدا عاديا، كان قصة أحزان وأشواق دخلت كل بيت في العالم تقريبا، ورأى الناس كيف رسم بكلماته الجريحة قصة من أروع قصص الفراق الدامي في غزة.

فبعد طول انتظار وترقب التحق خالد نبهان بحفيدته "روح الروح" والتحف البياضَ الذي كان قد وخَطَ رأسه ولحيته، وكساها هيبة ووقارا، ازداد إشعاعها وهو يغادر الدنيا شهيدا مبتسما.

ما كانت الشهادة تخطئ أبا ضياء خالد نبهان، إلا لتصيبه في مقتل من الروح، وشغاف من الفؤاد.

قبل نحو عام من الآن، التحف نبهان الصبر وهو يحتضن حفيدته ريم ويقبل جسدها الصغير، كالوردة متلفِّعة بلون شقائق النعمان، إلا أنها محمرة بالدم القاني، مثل شقائقها اللائي سبقنها من كل بيت، بعد أن كسرت تلك العظام الرخوة والجسد الغض البريء قاذفات اللهب الإسرائيلية.

انتشل خالد نبهان حفيدته الصغيرة ريم من تحت الركام، ولم يكن يصدق أن عمرها البهيج قد أوقفه الجيش الإسرائيلي عند 3 سنوات، وأن ضحكتها التي كانت تملأ البيت سعادة، قد تحولت إلى نشيج دائم، وأن صورها البراقة، قد تحولت إلى أطياف محلقة تؤرق الليل وتهيج الذكرى، وتستدر الدمع النبيل.

يتمسك الجد الوقور، بالجثمان الصغير، يشمه ويقبله، ويضمه إلى صدره، ويتمنى لو انطلقت من ذلك الكفن الوديع ضحكة طفولية، لتقول له إن الأمر مزحة كله.

إعلان

لكن "روح الروح" كانت حقيقة في قربها ومأساتها، وحقيقة أخرى صارخة هي أن المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة لم تكن تفرق بين صغير أو كبير بين مدني أو مقاتل، فقد كان التطهير العرقي والإبادة الجماعية والعدوان يستهدف كل ما يرف للحياة من جفن في القطاع المدمر كما يقول الكثيرون.

الشيخ المحتسب الصبور، خالد النبهان، يسلم الروح شهيدا في #غزة، ملتحقا في الأعالي بحفيدته الصغيرة التي دعاها "روح الروح" يوم فقَدها.. اللهم اجمعهما في علِّيين pic.twitter.com/G6s5U1uklz

— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) December 16, 2024

ذكرى الميلاد وموعد الرحيل

في ديسمبر/كانون الأول، ولد الجد والحفيدة وفيه رحلا معا في عامين متتاليين، ففي العام الماضي، ودعت الصغيرة قبل نحو شهر من عيد ميلادها الرابع.

وفي حين كانت الصغيرة تنتظر تلك الذكرى العطرة، كان الجد الحنون يعد ما يليق بتلك اللحظة الشذية بالمشاعر والأحاسيس الرقراقة، وكانت المصادفة الأكثر حلاوة في الأمر أن الجد وحفيدته يلتقيان في شهر ميلاد واحد، وكم كان للفرح من أرجوحة في قلب الشيخ النبيل، وكم كان للسعادة من وردة متفتقة، ولحن طفولي عذب في القلب الصغير للوردة ريم الصغيرة المذبوحة برصاص إسرائيلي.

بعد أشهر قليلة ولدت لخالد نبهان حفيدة أخرى أطلق عليها اسم "روجاد" ويعني وقت صلاة الفجر، أي وقت انبلاج النور من رحم الظلام، ووقت انطلاق عصافير الحياة مرفرفة في الكون الذي لم يعد فسيحا، منذ أن أصبحت أزهاره وعصافيره هدفا لقناص إسرائيلي يرسل الموت شراكا قلّ أن ينجو منه جد ولا حفيد.

ورغم عمق المأساة والألم الذي أحدثه رحيل "روح الروح" فقد ظل الجد خالد ذا روح مفعمة بالحب والجمال، كان حاضرا بقوة في الإنقاذ والتثبيت، مالكا لأسلوب رائع في تخفيف المآسي على قلوب الصغار، يملك روحا مشرقة، وخطابا إيمانيا متوثبا، ويعيش عالما من الرضا، يلين راسيات الجبال، ويذيب -لو كان لفراق روح الروح من سلوان- ما يراكمه الحزن اللاهب من جبال ألم، وما يسقي من أودية أشجان.

في الخالدين يا روح الروح
أبو ضياء شهيداً
عوَّضك الله الجنة على صبرك وإيمانك
وجمعك بحفيدتك في جنَّات النعيم pic.twitter.com/UkXg9EMKwg

— أدهم شرقاوي (@adhamsharkawi) December 16, 2024

إعلان غدا نلقى الأحبة

ريم وخالد حفيدا خالد النبهان، روحان من وهج الحياة المحروقة في غزة، وقصتان من بين عشرات الآلاف من القصص الموحدة العناوين المختلفة، في حين تغرز من مخالب الألم في تلك القلوب الرطبة والأجساد الصغيرة، إنها قصة قتل الحياة، وسفك دم الطفولة الرقراق.

لكن خالد كان من بين أفصح الجراح التي تمشي على قدمين، وأبلغ الأصوات التي تتحدث بلسان، كان صوته وصِيته وبسمته وحزنه وأشواقه رسائل تدك العالم كله، تتحطم أمامها أسوار التجاهل، فقد كانت عبارة روح الروح تهز ما بقي من روح في العالم المبَنّج.

ولأن روح خالد كانت قد حلقت في عالم الأشواق، يوم أرخى للحزن زمامه أسفا على روح الروح، فقد كان يحث السير ويترقب الرحيل كل حين، وفي واحدة من آخر تغريداته على حسابه على الإنستغرام، كان الرجل ينظر من سجف الغيب، ويهتف عبر ستائر الأشواق إلى حفيديه، بأنه قادم إليهما قريبا "هل نلتقي؟ فالبُعد مزّق خافقي. هل نلتقي من بعد شوق مُحرق؟ صدقا، توقفت الحياة، وما لها في ليل هجرك أي فجر مشرق". كما تقول كلمات الأنشودة التي كانت مرافقة لصورة نشرها قبل نحو أسبوع على حسابه في إنستغرام.

برحيل خالد نبهان لا ينضاف اسم جديد إلى لائحة طويلة من الشهداء فحسب، بل تكتب قصة ميلاد ملحمة حزن عابر للأيام، وقصة أجيال جمع بينها العدوان الإسرائيلي في كفن منسوج من عبق الكلمات الجريحة والأشواق المطهرة، والرضا والتوكل، والمقاومة التي تأخذ كل لبوس، من قسمات الطفل الرضيع، وهو يتلقى الرصاص قبل أن ينقطع حبله السري، وبسمة الرضيع وهو ينشق عبق المقاومة ويحتسي لبان الجهاد، ومن روح الروح وهو تكتب للحزن آمادا مفعمة بالألم، وترسم قصة جد، ملأ الدنيا حبا وشغل الناس حزنا، ومضى إلى حيث مراقد الصالحين، ومنازل المقاومين، إلى فردوس مديد، وروح وريحان… إلى حيث "روح الروح".

إعلان

مقالات مشابهة

  • العدو الصهيوني يواصل حملات الاعتقال والتدمير في الضفة الغربية ويستهدف الأراضي الفلسطينية
  • البيت الأبيض: المسيرات التي شوهدت بسماء نيوجيرسي كانت تطير بشكل قانوني
  • «البيت الأبيض»: المسيرات التي شوهدت في سماء نيوجيرسي كانت تطير بشكل قانوني
  • خالد نبهان.. الشهيد المبتسم الذي سلبه الاحتلال روح الروح
  • البيت الأبيض يكشف ماهية الأجسام الغامضة التي ظهرت في سماء الولايات المتحدة
  • 6000 فلسطيني اعتقلهم جيش الاحتلال من الضفة الغربية منذ بداية الحرب
  • قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل 16 فلسطينيا على الأقل من الضفة الغربية
  • نادي الأسير: الاحتلال يعتقل 16 فلسطينيا في الضفة الغربية
  • مراسلة الجزيرة بموسكو تكشف عن الفندق الذي نزل به الأسد والأموال التي بحوزته
  • أهم المعلومات حول جبل الشيخ الذي سيطر عليه الاحتلال (إنفوغراف)