الفن من منظور جورج باتاي
تاريخ النشر: 12th, September 2024 GMT
آخر تحديث: 12 شتنبر 2024 - 3:35 معزالدين بوركة
ليست فلسفة الفنّ في فكر جورج باتاي (1897 – 1962) مجرد تأملات عابرة حول الجمال أو الإبداع؛ بل هي فلسفة تعكس رؤية عميقة وصادمة للوجود الإنساني. باتاي، الذي عُرف بنقده الحاد للمفاهيم السائدة، يؤسس لفلسفة تتجاوز الحدود التقليدية للعقلانية، إذ يرى الفن مساحةً للتفاعل بين المقدس والمدنس، الحياة والموت، والتضحية والحرية المطلقة.
• فن التجاوز والفوضى يبدأ باتاي بنقد الفلسفة التقليدية التي تُعلي من شأن العقل والمنطق على حساب الجوانب الأكثر غموضًا وغريزية في الإنسان. يرى أن الفن ليس مجرد ترف جمالي أو نشاط ثقافي، بل هو مجال يتجلى فيه الصراع الداخلي للإنسان مع ذاته ومع العالم. في هذا السياق، يقول: إن “الفن هو الرفض العميق للأوامر المفروضة على الحياة. إنه الحرية النهائية التي تجعل الحياة تجربة لا يمكن التحكم بها ولا يمكن تحجيمها”. إذ يربط باتاي الفن بمفهوم “التجاوز” (transgression)، إذ يرى أن الفن الحقيقي هو الذي يكسر الحدود المفروضة من المجتمع والدين والقيم الأخلاقية. هذا المفهوم يُظهر التأثير العميق لفكر نيتشه في فلسفة باتاي، إذ يشترك كل من الفيلسوفيْن في رفضهما للمفاهيم السائدة للخير والشر، والجمال والقبح، ويريان في الفن وسيلة لتحرير الذات من هذه القيود. في هذا السياق، يقول صاحب “القدسي”: “كل فن حقيقي هو فن فوضوي في جوهره، [إنه] فن يتجاوز حدود العقلانية”. ولم يقتصر نقد باتاي على الفن التقليدي، بل يتجاوز ذلك إلى الفن المعاصر في زمنه، إذ يرى في الحركات الفنية مثل الدادا والسريالية، تعبيرًا حقيقيًا عن الحرية الفنية. هذه الحركات، التي كسرت قواعد الفن الكلاسيكي، كانت بالنسبة لباتاي ميدانًا للإبداع الذي يتجاوز كل الحدود. في هذا السياق، يصف الفن الحديث بأنه الثورة المستمرة التي تعيد تشكيل العالم من خلال الفوضى. بالإضافة إلى ذلك، يطرح باتاي فكرة “السيادة” (sovereignty) كشرط أساسي للفن. هذه السيادة هي حرية مطلقة يتمتع بها الفنان عند تجاوزه للحدود المألوفة. إذ يصف هذه الحالة بأنها نوع من “الموت الرمزي”، إذ يتعين على الفنان أن يضحي بجزء من ذاته أو من قيمه الشخصية لإنتاج عمل فني يتحدى الثابت والمألوف. هنا يمكننا أن نفهم كيف أن التضحية في نظر باتاي ليست مجرد فقدان، بل هي عملية خلق وتجديد. يقول في هذا الصدد: “السيادة هي الحالة التي يصبح فيها الإنسان سيدًا على نفسه عبر الفن، عندما يتجاوز حدود الحياة العادية ويدخل في عالم مليء بالمخاطر والإبداع”. • فن الإنسان الأول وتتجلى رؤية باتاي للفن بشكل واضح في اهتمامه بالفن البدائي وفن الكهوف، إذ يرى في هذه الأعمال القديمة تجسيدًا للاتصال العميق بين الإنسان والعالم. هذه الفنون كانت بالنسبة لباتاي تعبيرًا عن لحظة تجاوزية يتقاطع فيها المقدس مع المدنس، حيث يعيش الفنان تجربة حقيقية لا يمكن تفسيرها من خلال المعايير العقلانية السائدة. فقد أتيحت لصاحب كتاب “التجربة الداخلية”، فرصة زيارة مغارة لاسكو الشهيرة، هناك سيتعرف عن كثب على فن الإنسان الأول، ويكتب نصه الهام حول الفن الأولي: “فن التصوير في عصر ما قبل التاريخ – لاسكو أو مولد الفن”. وهو ما سيدفعه للقول بأنه بفضل “معجزة” التمثيل [الفن] يستطيع الإنسان أن يصبح إنسانًا بالكامل. إذ باكتشافه التمثيل، أدرك إنسان لاسكو أنه لا يخضع للنظام الطبيعي، على العكس من ذلك، يصبح إنسان الإمكانيات، القادر على الخلق. ويرتبط هذا الأخير عند باتاي، بالضرورة، بمفهوم اللعب.. فالفن لا ينفصل أبدا عن اللعب، بوصفه شرطا من شروطه. بل إن الفن لا يكتمل إلا باللعب.. وهذا الأخير استكمال للأول. لهذا يعد اللعب عودة للحالة الأولى التي تتمظهر عبر الفن. مما يجعل الأخير بالنسبة لباتاي، أكثر أشكال اللعب إثارة للإعجاب. ومع ذلك، فإن إنسان لاسكو هو الذي عرف على وجه التحديد كيفية “منح اللعب الدوام والجانب الرائع للعمل الفني”. غير أن الطبيعة لا تتوقف أبدًا عن إغراء إنسان لاسكو، لكن الأخير يعارضها في المقابل بحركة عفوية متمردة يسميها باتاي “العبقرية” أو “العفوية”، التي تعمل على التغلب على المذهب الطبيعي. وهكذا، وبفضل هذه العفوية، لا يكتفي الإنسان الأول بتقليد الطبيعة بضمير حي، بل يخضعها لمخيلته وعفويته. يُبين لنا باتاي على وجه التحديد، أن موكب الحيوانات الهائل والبرية الممثل على الجدران، لا ينشأ من “التقليد الأمين والطبيعي للمظهر”، بل من “مخطط الشكل الواضح والعفوي”. وهنا يكمن الاندفاع الفني الإنساني الموجود في دواخلنا بشكل فطري، والمكتسب من الإنسان العبقري الأول. وقد رأى باتاي أن هذه الأشكال القديمة من التعبير الفني كانت تجسد الاتصال العميق بين الإنسان والعالم الطبيعي، وكانت تحمل دلالات روحية عميقة تتجاوز الاستخدام الأداتي للفن في المجتمعات الحديثة. • إيروسية الفن وقدسيته وتعدّ الإيروسية هي أيضًا جزءا أساسيا من فلسفة باتاي حول الفن. إذ يرى أن الفن الإيروسي هو التعبير الأكثر صدقًا عن طبيعة الإنسان، إذ يتجلى فيه الصراع بين الرغبة والموت. يقول باتاي: “في الإيروسية، مثلما في الفن، هناك لحظة تتجاوز فيها الحياة ذاتها وتتحرر من قيودها، لتصبح تجربة مطلقة للوجود”.ولا تخرج الإيروسية إذن، عن ركائز نظريته الفكرية، عن فهمه للأدب والفن، إذ بالنسبة له، هي تجربة السمو والتحرر من القيود الاجتماعية. ويرى فيها شكلاً من أشكال التصوف الذي يسمح للإنسان بتحقيق نوع من النشوة الروحية. تم تطوير هذا المنظور في عمله الأساس “الإيروسية “L’Érotisme (1957)، حيث يجادل بأن النشوة ترتبط ارتباطًا جوهريًا بمفهوم المقدس والبحث عن الحقيقة. فهي وسيلة لعيش التجربة الإنسانية بشكل مكثف وتجاوز الحدود التي يفرضها المجتمع. فهو يرى أنها شكل من أشكال المقاومة ضد عقلانية ومنطق الأنظمة الاجتماعية، وطريقة لإعادة الاتصال بالجوانب الأعمق والأكثر غريزية للحالة الإنسانية؛ إذ يقول: “من يُجرّب أن يتجاهل أو يسيء فهمَ النشوة لهو كائنٌ ناقصٌ، تنقصه فكرة التحليل”. تشير هذه المقاربة المثيرة للفن، إلى أن الجمال والتجربة الجمالية لا يوجدان فقط في الانسجام والنظام، ولكن أيضًا في الانتشاء والإيروسي، المرتبط بالتمزق والتضحية والانتهاك. إذ يقول: “وإن لم يكن الانتهاك أساسا فليس بين التضحية وفعل الحبّ مشتركٌ”. ويرتبط الأمر عنده أيضا بما يسميه بـ”جماليات المقدس”، التي تعدّ إحدى الأفكار المركزية في فكر باتاي. إذ يستكشف في كتاباته كيف يمكن للفن أن يتجاوز الحدود العادية للتجربة الإنسانية، لتحقيق شكل من أشكال النقاء أو الوحي المقدس. إذ “يظهر وراء الحقيقة أن الفن، وقد عجز عن التعبير أيّا كان، فهو يبلغه من الخارج، مقدسا بلا شكّ – حيث استعملت الرومانسية احتمالات التجدّد- يظهر وراء الحقيقة أن الفن لم يعد يعيش إن لم يملك القوّة على بلوغ اللحظة المقدسة من مصادره”. والفن وفقًا لباتاي، هو وسيلة يمكن للفرد من خلالها التواصل مع بُعد أوسع وأعمق للوجود، وهو البعد الذي غالبًا ما يتسم بانتهاك الأعراف الاجتماعية والأخلاقية. ويقول جورج باتاي “إن الإنسان يتطوّر وفي نفسه ما يشبه اليقين بأن انتهاك الحدود الطبيعية لم يبدأ بالمعنى الصحيح إلاّ في اللحظة التي ظهر فيها الفن أوّل ما ظهر”، وهو يربط قوله هذا بنظرته حول الفن البدائي الذي شرعه في كتابه حول مغارة لاسكو. ذلك هو فن “لاسكو”، يعقب موريس بلانشو على فكرة باتاي، إذ “يأتي إلينا عبر الأحقاب والعصور بيسر وضوحه، وإشراق بيانه، فيطالعنا بحيويته الفياضة التي تحرّك تلك القطعان من الحيوان، وتعيد إلى صورها حياته الموقوتة قوية متدفقة حتى ليخيل إلينا أننا بإزاء أصدق متعة للإنسان، متعة الفرح الذي يغمرنا ونحن نكشف عن روعة الفن”. هذا وقد تأثر باتاي بمفهوم “المستحيل”، أي ذلك الذي يقع خارج حدود التجربة الإنسانية العادية، والذي لا يمكن فهمه أو تفسيره بشكل كامل. في مقالته “القسمة الملعونة” (1949)، يستكشف فكرة أن الفن، مثل الأشكال الأخرى من النشاط البشري، يمكن أن يكون طريقًا إلى شكل من أشكال المعرفة المتعالية. وهكذا يصبح الفن مساحة حيث يتم تعليق حدود المجتمع والأخلاق مؤقتًا، مما يسمح بتجربة غير الواقعية والمقدسة، وبالتالي تحرير الفن من معاقل اللاهوتي، حيث نتصالح مع الإيروسي والقبيح والمدنس ونعيد الاعتبار للجسدي. فيصير الفن توكيدا للسلبي، بوصف السلب طاقة دافعة للأمام والتطور والخلق، إنه عكس الإيجاب الذي يولد الطاعة والخضوع والخنوع.. يكتب باتاي “لا الشعر أو الضحك أو النشوة استجابة؛ بل مجالٌ للاحتمالات التي تنتمي إليها، مما يحدّد النشاط المرتبط بتوكيدات الفكر السلبي. […] الفاعلية السلبية مقررة بحريةٍ كأنها (عن وعي أو لا)”. • فن للتحرر تعتبر فلسفة باتاي الفنية إذن، دعوة للتحرر من القيود التقليدية التي تحكم التعبير الإبداعي. هو يرى أن الفن يجب أن يكون فضاءً لتفجير الطاقات المكبوتة والكشف عن الجوانب الأكثر غموضًا وتعقيدًا في الحياة الإنسانية. الفن هو الفضاء الذي يمكن فيه للإنسان أن يعيش تجربة تتجاوز حدود الزمان والمكان، تجربة تغمرها الحسية والجنون والتضحية.يمكن القول إن فلسفة الفن عند جورج باتاي هي فلسفة تسعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والعالم. من خلال الفن، يدعو باتاي الإنسان إلى تجاوز ذاته، إلى اختبار حدود الوجود، إلى التضحية بالمألوف من أجل اكتشاف الغامض والممنوع. وهذا الفهم الجذري للفن يجعله جزءًا لا يتجزأ من تجربة الوجود، ويمنحه دورًا محوريًا في تشكيل وعي الإنسان بنفسه وبالعالم من حوله. باتاي، بذلك، لا يقدم فقط فلسفة للفن، بل فلسفة للحياة ذاتها، حيث يتداخل الفن مع الوجود ليصبحا واحدًا.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: من أشکال لا یمکن إنسان ا فی هذا
إقرأ أيضاً:
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعراء في زمن السيولة التواصلية؟
لا تَقُلْ شعراً ولا تهمم به … وإذا ما قلت شعرًا فأجد
هذا ما قاله الإمام محمد بن مناذر محذرا من الخوض في غمار الشعر إذا لم يكن لدى الشاعر ملكة تمكّنه من مجاراة فحول الشعراء من جهة، ومشيرا إلى سلطة الشعر وقوة تأثيره في جمهور المتلقين من جهة أخرى. أما دعبل بن علي الملقّب بشيطان الشعر، فقد قال مبينا عزمه نظم شعر فريد ينال به إعجاب الناس، ويصل إلى أصقاع الأرض رواية وتأثيرًا وجودة:
سأقضي ببيت يحمد الناس أمره … ويكثر من أهل الروايات حامله
يموت ردي الشعر من قبل أهله … وجيده يبقى وإن مات قائله
الشعر كما يُقال رأس الأدب، وقد وضع الرّافعي يده على مكمن النبوغ في الأدب وسرّه حين قال في كتابه (وحي القلم): "سِرّ النبوغ في الأدب وفي غيره هو التوليد، وسر التوليد في نضج الذهن المهيأ بأدواته العصبية، المتجه إلى المجهول ومعانيه كما تتجه كل آلات المرصد الفلكي إلى السماء وأجرامها؛ وبذلك العنصر الذهني يزيد النابغة على غيره، كما يزيد الماس على الزجاج، والجوهر على الحجر، والفولاذ على الحديد، والذهب على النحاس؛ فهذه كلها نبغت نبوغها بالتوليد في سر تركيبها؛ ويتفاوت النوابغ أنفسهم في قوة هذه الملكة، فبعضهم فيها أكمل من بعض، وتمد لهم في الخلاف أحوال أزمانهم ومعايشهم وحوادثهم ونحوها؛ وبهذه المباينة تجتمع لكل منهم شخصية وتتسق له طريقة؛ وبذلك تتنوع الأساليب، ويعاد الكلام غير ما كان في نفسه، وتتجدد الدنيا بمعانيها في ذهن كل أديب يفهم الدنيا، وتتخذ الأشياء الجارية في العادة غرابة ليست في العادة، ويرجع الحقيقي أكثر من حقيقته".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مر كالنيزك وخلّف كل هذا الضجيج.. الغياب المدوي لتيسير السبولlist 2 of 2استحقاق أدبي أم حسابات سياسية؟.. جدل فوز كمال داوود بالغونكور الفرنسيةend of listويؤكد ابن رشيق القيرواني في كتابه "العمدة في محاسن الشعر وآدابه" هذه الفكرة بقوله "إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازًا لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن".
هذا الكتاب حظي بانتشار واسع وقبول حسن، مما دفع العلماء لامتداحه كابن خلدون إذ قال: إن كتاب العمدة هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله (الجزيرة)إذن يمكننا القول إنّ عنوان النبوغ والفرادة والتميّز في الشعر هو التوليد، فبقدر ما يكون الشّاعر قادرًا على تطويع لغة النّاس العاديّة لتوليد معانيَ تبهرهم ويفغرون أفواههم عند سماعها يكون شاعرًا حقيقيا.
لماذا يتردّى الشعراء ويفقد الشعر بريقه؟لم يكن للشعر لدى العرب قديما منازعٌ، وكان بمنزلة تخوّله رفع أقدار الناس أو الحطّ منها، وكان نبوغ شاعر في قبيلة ما مدعاة فخر وفرح عريض، وقد عبّر أبو عمرو بن العلاء عن أهمية الشعراء لدى العرب فشبّههم بالأنبياء في قبائلهم، ثم ذكر بعض الأسباب التي أدت إلى تراجع مكانتهم لدى القبائل العربية عامة؛ إذ قال:
"كانت الشعراء عند العرب في الجاهلية بمنزلة الأنبياء في الأمم حتى خالطهم أهل الحضر فاكتسبوا بالشعر فنزلوا عن رتبهم، ثم جاء الإسلام ونزل القرآن بتهجين الشعر وتكذيبه، فنزلوا رتبة أخرى، ثم استعملوا الملق والتضرع فقلوا واستهان بهم الناس".
إذن، كان للشاعر مكانة مهمة تقترب من حدِّ التقديس كالأنبياء، إذ كان للناس لهم حاجة لأنهم يمثلون لسان قبائلهم، يقيدون المآثر ويُخوّفون الأعداء من جهة، وكانوا يتمتعون برؤية خاصة للكون ويذودون عن أقوامهم وقبائلهم بالكلمة من جهة أخرى، غير أن مكانة الشعر والشعراء تراجعت حين خالط أهلُ البادية أهلَ الحضر وصاروا إلى التكسّب بالشعر، فغدا وسيلة نفع شخصية لا جمعية.
ثم جاء الإسلام ونزل القرآن بالتقليل من شأن الشعر والشعراء عامة بعد أن كانوا بمنزلة الأنبياء، وذلك بوصف معظمهم بالغَيّ والضّلال والنفاق واستثناء القلة الصالحة، ثم تحوّل الشعر بعد ذلك في العصور الإسلامية اللاحقة إلى أداة للتملّق والتضرع والشكاية والتسول والاستعراض الفني؛ فحطّ ذلك كلّه من مكانته وأُزيح الشعر عن عرشه الذهبي لدى المجتمع العربي آنذاك.
وكذلك عبّر ابن رشيق عن أهمية الشعر والشعراء لدى العرب قديما، مستشهدًا بسعادة أي قبيلة بنبوغ شاعر لديها، فقال موصّفا حال القبائل العربية في الجاهلية:
"فإذا نبغ في القبيلة شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذَبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج".
على أن كلام ابن رشيق هذا لا يُؤخذ على محمل توصيف الواقع والحقيقة تصويرا حرفيا، إذ لم تحدثنا كتب الأخبار فيما أعلم عن احتفال أي قبيلة بنبوغ شاعر لديها، فالأمر مدعاة فخر وسرور كبير، غير أنه يحمل وجوهًا أخرى؛ فعلى الرغم من أن الشاعر يذود عن عرض قبيلته ويرد على أعدائها ويرفع شأنها بشعره الرصين ويقلل من شأن خصومها ومُبغضيها، ويترنم ذووه وأبناء قبيلته بجميل شعره ويتحمسون وينقادون وراء كلماته إن وافقت مصلحة القبيلة ورأي أسيادها، فإن نبوغ أحد أفراد القبيلة بالشعر لا يجعله سيدًا فيها إذا لم يكن له من نسبه مساعد ومعين، وعنترة بن شداد خير مثال على ذلك.
كما أن نبوغ شاعر في القبيلة لا يجعل كلامه مسموعًا مطاعا إن لم يكن من الأساس سيدًا أو من أبناء الرؤساء والوجوه الكبيرة في القبيلة مثل كليب بن ربيعة وعمرو بن كلثوم ودريد بن الصمة وغيرهم، فإذا وافقت موهبة الشعر نسبًا عريضا في القبيلة كان فوزًا عظيما بالنسبة لهم، وإلّا فإنه محض شاعر يذيع صيته بقدر خدمته لأبناء قبيلته وافتخاره بهم وتقديمهم على مَن سواهم، وبقدر قدرته على إغاظة أعدائهم بشعره.
وقد يكون النبوغ بالشعر سلاحًا ذا حدّين إذا لم يوافق أهواء القبيلة وتوجّهاتها الفكرية وسلوكها العام في تعاملها مع القبائل الأخرى، كالشاعر الغلام القتيل طرفة بن العبد مثلا؛ كان شاعرا فذًا لكنه كان شابا عابثا متمردا، وكذلك عروة بن الورد الشاعر الصعلوك.
ومما لا بدّ منه عند الحديث عن تردّي مكانة الشعر إلى جانب ما قاله المعرّي آنفا ملاحظة طبيعة المجتمع وتحولاته، فعندما كانت الطبيعة العسكريّة تغلب على المجتمع، وعندما كانت ثقافة الإغارة هي السائدة، كان الشعر متسيّدًا على الخطابة التي يحتاجها النّاس بشكل أكبر في حالات السلم والاستقرار المجتمعي، وقد عبّر المعري عن ذلك فيما ينقله عنه الجاحظ في "البيان والتبيين"، إذ قال:
"كان الشاعر في الجاهلية يقدَّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخّم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"
على أن أساس هذا التفاضل ليس فنيا، بل يقوم على أسس موضوعية تستند إلى مدى الحاجة إلى الفن الأدبيّ في الواقع الاجتماعي والسياسي والعسكري.
مراتب الشعراء وأثر تردي الشعر في التقسيمتحدث الشاعر عبد الرّازق عبد الواحد في إحدى مقابلاته عن موقف طريف حدث في مجلس الجواهري الذي كان يضمّ كبار الشعراء؛ فقال: كان كبار الشعراء يهابون أن يلقوا الشعر بين يدي الجواهري في مجلسه، فحدث يومًا أن دخل شاب متحمّسٌ إلى المجلس لا يعرفه منّا أحد ولا يعرفه الجواهري، ومن دون أن يستأذن بدأ يلقي قصيدة بين يدي الحاضرين، وكانت ركيكة ضعيفة، وعندما انتهى منها وقبل أن ينطق أحدنا بكلمة، بدأ بإلقاء قصيدة ثانية، فلمّا انتهى سأل الجواهري عن رأيه بما ألقاه من الشعر؛ فقال له الجواهري:
"يا بُنَيّ الشعراء ثلاثة؛ شاعر عظيم، وشاعر، وحمار، أنا شاعر، بقي شاعر عظيم وحمار فاقتسمهما أنت والمتنبّي كيفما تشاء!"
ومثل هذا كثيرٌ في كلام الأقدمين قبل المعاصرين، ومن طريف ما قيل في تقسيم الشعراء:
"الشعراء فاعلمنَّ أربعة
فشاعر يجري ولا يُجرى معه
وشاعر من حقه أن ترفعه
وشاعر من حقه أن تسمعه
وشاعر من حقه أن تصفعه".
فالشعراء ليسوا سواء لدى الناس وفي موازينهم، ويُنظر إلى قبول الناس للقصيدة وتصديقهم لما جاء فيها من مدح أو هجاء وفقا لقبولهم لقائلها وتصديقهم له في أحيان كثيرة، وبحسب موقفهم من المقول فيه في أحيان أخرى، وقد يخضع موقفهم لتقييم القائل والمقول فيه والمقول نفسه، لكن مما لا خلاف فيه أن للشعر فيما مضى سطوة كبيرة على أفهام الناس وآرائها، وقد قال ابن رشيق القيرواني متحدثا عن قوة الشعر وتأثيره الكبير في الناس:
"إنما قيل في الشعر: إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وإنه أسنى مروءة الدَّنيّ وأدنى مروءة السَّريّ"
ويفسر هذا القول بقدرة الشعر على رفع مقام الإنسان الخامل الذكر وتصديره، وفسر وضع الشعر للمرء وحطه من شأنه مستشهدا بالنابغة الذّبياني الذي مدح النعمان بن المنذر ملك المناذرة، وتكسّب بشعره عنده وتواضع له مدحًا واعتذارا، فحط من شأن نفسه وهو من أشرف بني ذُبيان ومن شعراء المعلقات المشهورين.
وذهب ابن قُتيبة في كتابه "الشعر والشعراء" إلى تقسيم الشعر إلى أربعة أضرب؛ أولها ما حسن لفظه وجاد معناه، وثانيها ما حسن لفظه وحلا، فإذا فتشته لم تجد هناك طائلا، وثالثها ما جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، ورابعها ما تأخر لفظه وتأخر معناه، وضرب مثلاً لكل نوع منها.