عودة إلى إشكاليات رواية المقريزي للبقط (2)
تاريخ النشر: 12th, September 2024 GMT
د. أحمد الياس حسين
ahmed.elyas@gmail.com
تناول الموضوع السابق بعض روايات المصادر العربية المبكرة غير المستخدمة في دراسة معركة عبد الله بن سعد والنوبة عام 31ه/651 م وتلك الروايات غير المستخدمة تختلف اختلافات واضحة عن رواية المقريزي. المتداولة عن البقط. كما اتضح أيضاً في الموضوع السابق إشكالية رواية المقريزي هذه فيما يتعلق بالمقابل الدي التزم المسلمون بدفعه للنوبة كما جاء في المصادر العربية والذي لم يرد في رواية المقريزي.
رواية المقريزي عن البقط
جاء في بداية هذه الرواية أن: "أول ما تقرّر هذا البقط على النوبة في إمارة عمرو بن العاص، لما بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين وقيل: سنة إحدى وعشرين" وذكرت الرواية أن عبد الله بن سعد" مكث بها [في النوبة] زماناً، فكتب إليه عمرو يأمره بالرجوع إليه. فلما مات عمرو رضي الله عنه، نقض النوبة الصلح الذي جرى بينهم وبين عبد الله بن سعد، وكثرت سراياهم إلى الصعيد" وتوضح الرواية أن عبد الله بن سعد غزاهم مرة أخرى "وهو على إمارة مصر في خلافة عثمان رضي الله عنه، سنة إحدى وثلاثين، وحصرهم بمدينة دنقلة حصاراً شديدا ... وطلب ملكهم واسمه: قليدوروث الصلح ... قرر الصلح معه على ثلثمائة وستين رأساً في كل سنة، ووعده عبد الله بحبوب يهديها لما شكا له قلة الطعام ببلده، وكتب لهم كتاباً" (المقريزي ج 1 ص 560) نَصْ الرواية كاملة في الملحق رقم 1.1 آخر هذا الموضوع.
هذا الجزء -المذكور أعلاه - من رواية المقريزي غير موجود في نَصْ اتفاقية البقط المذكورة في مراجع مؤسسات التعليم العام والعالي، فقد ذكر فقط في تلك المراجع نَصْ الخطاب الذي كتبه عبد الله بن سعد للنوبة وفقاً لرواية المقريزي. (ملحق رقم 2.1)
إشكاليات هذا الجزء من الرواية: يلاحظ أن هنالك إشكالين واضحين في هذه الرواية
الإشكال الأول: جعلت هذه الرواية عبد الله بن سعد أول من قاد حملة على بلاد النوبة. وهذا لا يتفق مع ما ذكر في المصادر العربية المبكرة. فقد ذكر ابن عبد الحكم (1972 ص 2) ملحق رقم 2 والبلاذري (ص 238) ملحق رقم 3 أن عمرو بن العاص بعث عقبة بن نافع الفهري بعد فتح مصر لغزو النوبة. ولم يمكث عقبة بن نافع في منطقة البوبة فترة طويلة إذ غادر مصر عام 21ه/641 م مع عمرو بن العاص لفتح برقة في شرقي ليبيا (ابن عبد الحكم، ط الذخائر ص 171 والكندي ص 33)
ووفقاً لذلك فإن عبد الله بن سعد خَلَف عقبة بن نافع في حرب النوبة. وتذكر المصادر إن الخليفة عمر بن الخطاب عين عبد الله بن سعد والياً على صعيد مصر، بينما كان عمرو بن العاص والياً على الوجه البحري. (ابن عبد الحكم، ط الذخائر ص 171 والكندي ص 34) ويبدو أن تعيين عبد الله والياً على الصعيد قد تم عام 21 أو 22 ه/641-642 م فيكون عبد الله بن سعد قد مكث في ولاية الصعيد منذ عام 21 أو 22 ه حتى تم تعيينه والياً على مصر عام 25ه/645 م.
وبناءً على ما ذكره ابن عبد الحكم والبلاذري فإن حروب في النوبة عبد الله بن سعد قد بدأت بعد المعركة الأولى التي قادها عقبة بن نافع. ويتعارض هذا مع رواية المقريزي التي جعلت عبد الله بن سعد قائداً لأول حملات المسلمين على النوبة. فأي الروايتين أرجح؟ أرى أن رواية ابن عبد الحكم والبلاذري استندت على رواة أخبار النوبة المبكرين والأقرب صلة بأحداث النوبة فابن عبد الحكم (ت257ه/871م) روى عن سعيد بن عفير (ت 226ه/840 مـ) والبلاذري (ت 278ه/891 م) روى عن يزيد بن أبي حبيب (ت 128ه/746 م) أما رواية المقريزي (ت845ه/1445 م) فقد ذكرت بدون إسناد. فابن عبد الحكم والبلاذري ورواتهما أرجح من رواية المقريزي لأنها أقرب بكثير لأحداث حروب النوبة من رواية المقريزي الذي تفصله أكثر من 800 سنة عن تلك الأحداث وجاءت روايته بدون سند.
هذا إلى جانب أن رواية المقريزي هذه تعاني من إشكالية أخرى ربما حدثت أتباء النقل، فقد ورد في الرواية أن عمرو بن العاص كتب إلى عبد الله بن سعد "يأمره بالرجوع إليه. فلما مات عمرو رضي الله عنه، نقض النوبة الصلح" ومن الواضح أن المقصود بـ"عمرو" في عيارة "فلما مات عمرو" هو عمر بن الخطاب. فعمرو بن العاص توفى عام 43ه/663 م أي بعد 18 سنة من تعيين عبد الله والياً على مصر. ووجود الخطأ في نص الرواية يرجح ضعفها.
الإشكال الثاني:
وفقاً لرواية المقريزي هذه فإن البقط اتفاقان، أولهما وقعه عبد الله بن سعد أثنا حروبه المبكرة مع النوبة عندما كان والياً على الصعيد، والاتفاق الثاني وقعه عندما كان والياً على مصر كلها عام 31ه/651 م. ومن الواضح أن هذا يتعارض مع ما ورد في المصادر العربية من أن الاتفاق مع النوبة وقعه عبد الله بن سعد عام 31ه. فمخالفة هذا الجزء من رواية المقريزي (رقم 1.1) لاتفاقية البقط مع ما تواتر من روايات في المصادر العربية الأخرى يرجح ضعفها الشديد ويؤدي بالتالي إلى الشك في ما تبقى من الرواية وهو الكتاب الذي كتبه عبد الله لملك النوبة. (ملحق 2.1)
وما ورد في كتاب عبد الله بن سعد إلى ملك النوبة - هو المعروف عندنا بـ"اتفاقية البقط" – يختلف اختلافاً يكاد يكون كليّاً مع ما ورد في المصادر العربية الأخرى كما وردت الإشارة إلى ذلك في الموضوع السابق. وقد وردت بعض تفاصيل تلك الاختلافات في (أحمد الياس حسين ص212-223) في الفصل الخامس من كتاب الوعي بالذات صفحات 183-231 عن "المراجعات والتعديلات التي طرأت على اتفاقيات المسلمين والنوبة بين عامي 31ه-674 م/651-1275 م"
"
الملاحق
ملاحق الموضوع
المقريزي
1.1 وأوّل ما تقرّر هذا البقط على النوبة في إمارة عمرو بن العاص، لما بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين، وقيل: سنة إحدى وعشرين في عشرين ألفاً، فمكث بها زماناً، فكتب إليه عمرو يأمره بالرجوع إليه. فلما مات عمرو رضي الله عنه، نقض النوبة الصلح الذي جرى بينهم وبين عبد الله بن سعد، وكثرت سراياهم إلى الصعيد، فأخربوا، وأفسدوا، فغزاهم مرّة ثانية عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو على إمارة مصر في خلافة عثمان رضي الله عنه، سنة إحدى وثلاثين، وحصرهم بمدينة دنقلة حصاراً شديداً، ورماهم بالمنجنيق، ولم تكن النوبة تعرفه وخسف بهم كنيستهم بحجر، فبهرهم ذلك، وطلب ملكهم واسمه: قليدوروث الصلح، وخرج إلى عبد الله وأبدى ضعفاً ومسكنة وتواضعاً، فتلقاه عبد الله ورفعه وقرّبه، ثم قرر الصلح معه على ثلثمائة وستين رأساً في كل سنة، ووعده عبد الله بحبوب يهديها إليه لما شكا له قلة الطعام ببلده، وكتب لهم كتاباً نسخته بعد البسملة...."
2.1 "عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لعظيم النوبة ولجميع أهل مملكته، عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة من حدّ أرض أسوان إلى حدّ أرض علوة أنّ عبد الله ابن سعد، جعل لهم أماناً وهدنةً جارية بينهم، وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر، وغيرهم من المسلمين، وأهل الذمّة، إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن لا نحاربكم، ولا ننصب لكم حرباً ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم على أن تدخلوا بلدنا مجتازين غير مقيمين فيه، وندخل بلدكم مجتازين غير مقيمين فيه، وعليكم حفظ من نزل بلدكم، أو يطرقه من مسلم أو معاهد، حتى يخرج عنكما، وإنّ عليكم ردّ كل آبق خرج إليكم من عبيد المسلمين، حتى تردّوه إلى أرض الإسلام، ولا تستولوا عليه، ولا تمنعوا منه ولا تتعرّضوا لمسلم قصده وحاوره إلى أن ينصرف عنه، وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه مُصلياً، وعليكم كنسه وإسراجه وتكرمته، وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأساً، تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب، يكون فيها ذكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم، ولا عجوز، ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان، وليس على مسلم دفع عدوّ عرض لكم ولا منعه عنكم، من حدّ أرض علوة إلى أرض أسوان، فإن أنتم آويتم عبد المسلم أو قتلتم مسلماً أو معاهداً، أو تعرّضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم أو منعتم شيئاً من الثلثمائة رأس والستين رأساً، فقد برئت منكم هذه الهدنة والأمان وعدنا نحن وأنتم على سواء حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين علينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من ذمّة المسيح، وذمّة الحواريين، وذمّة من تعظمونه من أهل دينكم، وملتكم الله الشاهد بيننا وبينكم على ذلك. كتبه عمرو بن شرحبيل في رمضان سنة إحدى وثلاثين."
ابن عبد الخكم
3. بعث قال سعيد بن عفير (ت 226 هـ) وبعث عمرو بن العاص نافع بن عبد القيس الفهري، وكان نافع أخا العاص بن وائل لأمه، فدخلت جيوشهم أرض النوبة صوائف كصوائف الروم، فلم يزل الأمر على ذلك حتى عزل عمرو بن العاص عن مصر وأمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح فصالحهم (ابن عبد الحكم 1972ص 2)
البلاذري
3. حدثني محمد بن سعد قال: حدثني محمد بن عمر الواقدي عن الوليد بن كثير حدثني محمد بن سعد قال: حدثني محمد بن عمر الواقدي عن الوليد بن كثير عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير قال: لما فتح المسلمون مصر بعث عمرو بن العاص إلى القرى التى حولها الخيل ليطأهم. فبعث عقبة بن نافع الفهرى، وكان نافع أخا العاص لامه. فدخلت خيولهم أرض (ص 236) النوبة كما تدخل صوائف الروم، فلقى المسلمون بالنوبة قتالاً شديداً. لقد لاقوهم فرشقوهم بالنبل حتى جرح عامتهم. فانصرفوا بجراحات كثيرة وحدق مفقوءة، فسموا رماة الحدق. فلم يزالوا على ذلك حتى ولى مصر عبد الله بن سعد بن أبى سرح. فسألوه الصلح والموادعة، فأجابهم إلى ذلك
المراجـع
- أحمد الياس حسين، السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية، الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر ط 3، 2021.
- البلاذري، فتوح البلدان. بيروت: دار الكتب العلمية 1983
- ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، تحقيق شارلز تورّي، سلسلة الذخائر رقم 50، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، ب. ت.
- ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية. مطبوعات جامعة القاهرة فرع الخرطوم 1972
- الكندي، ولاة مصر، تحقيق حسين نصار، بيروت: دار صادر ب. ت.
- المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تحقيق محمد زينهم ومديحة الشرقاوي، القاهرة: مكتبة مدبولي 1998 ج 1 ص 560.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی المصادر العربیة عمرو بن العاص رضی الله عنه عقبة بن نافع الروایة أن سنة إحدى ورد فی ما ورد
إقرأ أيضاً:
هل من الضروري الكشف عن الماضي؟.. ننشر فصلا من رواية "الرغبة الأخيرة"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق تنشر "البوابة نيوز" فصلا من الترجمة العربية لرواية "الرغبة الأخيرة"، للكاتبة يفهينيا كونونينكو، والتي صدرت حديثا عن اللغة الأوكرانية عن دار "صفصافة" للنشر.في الرواية الواقعة في 220 صفحة، والتي ترجمها عن لغتها الأصلية عماد الدين رائف؛ تحاول الكاتبة الإجابة على سؤال: هل من الضروري الكشف عن أسرار الماضي؟ وهل ذلك ممكن؟ وترى أنه، على الأقل، ينبغي أن نسعى جاهدين لمعرفة الحقيقة، لأن المعرفة الواعية تمنحنا الحرية "تلك الحرية التي من دونها تستحيل ولادة شخص واعٍ ينظر إلى المستقبل، ليكون مالك مصيره مهما كانت الظروف".
والآن.. إلى السيرة الذاتية
"كل شخص يستطيع أن يكتب كتابًا واحدًا جيدًا في حياته، وليس عليه بالضرورة أن يكون كاتبًا محترفًا. إنه كتاب حياته. ولكن إذا كنت تكتب كتابًا عن حياتك من الناحية النظرية، وليس عن ذكريات عن مرحلة معيَّنة منها، فأنت بحاجة إلى انتقاء الإنجازات بعناية فائقة، وليس كل ما مرَّ بك. وإذا كنتَ تريد أن تذكر بعض الأشخاص في قصة حياتك، فيجب أن يكونوا أولئك الذين كانت في أيديهم مفاتيح مصيرك"، كما قال فاسيلي جوخوف في محاضرة ضمن دورة "نظرية السيرة الذاتية"، وقد كانت من ضمن الدورات الأدبية العليا في عاصمة بلاد السوفيات، إلى حيث أرسلني اتحاد الكتاب في أوائل السبعينيات.
"يمكن لأي شخص أن يكتب كتابًا جيدًا عن حياته إذا تمكَّن من اختيار الحقائق الضرورية بلا رحمة! إذا كان من الصدق بمكان أن أكتب أن الشخص الحقيقي هو مقاتل من أجل المثل العليا لبلاد السوفيات!"، كما قال فاسيلي برافدا، معلِّمي الأول في الحرفة الأدبية، الذي كان رئيسَ الورشة الأدبية المغلقة "المستقبل المشرق"، التي التحقتُ بها في الخمسينيات، وهي ورشة مُغلَقة لجنود الجبهة الخفيَّة، التي ظهرت فيها مواهبهم الأدبية فجأة. رفع رئيس الورشة الأدبية المغلقة صوته، موضِّحًا أن اسمه الأدبي تكريم لاسم صحيفة "برافدا"( )، الصادرة عن جهاز النشر المركزي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي البلشفي لعموم الاتحاد السوفياتي، والتي تقرؤها كل الإنسانية التقدمية، وليس تكريمًا لمفهوم "الحقيقة" المجرد، الذي أصبح أقلَّ وضوحًا، ويجب أن نفكر فيه بعناية أكبر.
"عندما تجلس يومًا لتكتب سيرتك الذاتية، ستشعر أن ذكرياتك تقودك إلى بعض العوالم السريالية، حتى لو كنتَ واقعيًّا واثقًا. في مرحلة ما، سوف يتحكم بك الماضي، ولن تكون متحكِّمًا به. لهذا السبب عليك أن تختار بعناية ما تكتب عنه وما لا تكتب. سيحكم عليك الأحفاد من خلال سيرتك الذاتية، إذا تمكَّنتَ بالطبع من إكمالها.
لكن علينا أولًا أن نكتب عن هذه الحقبة المضطربة التي نحن جميعًا محظوظون بأن نعيش فيها! عن بناء المستقبل المشرق، الذي يعيق تحقيقَه ألدُّ الأعداء. وعندها فقط نكتب عن يدَيْ الأم الدافئتين، عن صوت الوالد اللطيف!" -رفع فاسيلي برافدا صوته- "لا تَخَف من أن تغطي في سيرتك الذاتية ما كنتَ تخاف منه من قبل! فإذا كانت لديك حاجة إلى سيرة ذاتية، فهذا يعني أنك أصبحت بالفعل شخصًا حكيمًا تغلَّب على كل مخاوفه، أليس كذلك؟" - طرح فاسيلي جوخوف سؤالاً بلاغيًّا على الجمهور.
لقد تلقَّيتُ إرشادات حول كيفية كتابة كتاب حياتي قبل مدة طويلة من جلوسي لكتابته، ومنها أن أختار بلا رحمة وبلا خوف تلك الوقائعَ من حياتي التي تركَّزَت فيها حقيقة الأحداث التي عشتها. وأن أتحدث عن أي شخص في حياتي، عن زوجتي، أو عن أولئك الذين كانت في أيديهم المفاتيح بشكل دقيق للغاية... والمفاتيح تفتح أبوابًا تبدأ خلفها تقلُّبات القدر، وهي ليست ممرَّات أو أنفاقًا مستقيمة، بل منعطفات غير متوقعة أو سلالم قادتني صعودًا أو هبوطًا.
من الصعب جدًّا أن أكتب عن نفسي بعد تجربتي الحالية، بعدما كتبت العديد من الأعمال، ومنها الروايات والقصص والقصص القصيرة. لم أكتب قطُّ بضمير المتكلم؛ لذلك لن أكتب به في عملي الأخير عن نفسي.
لا أستطيع تغيير أي شيء في حياة ذلك الرجل الذي عاش تلك الحياة، ولا تغيير الحقيقة التي أعرفها بكل تفاصيلها، وإن غادرتُ لن يعرف أحد بها. فمن حقِّ أي شخص يقرأ سيرتي الذاتية ألَّا يصدق كلمة واحدة أو أن يصدق بعض الكلمات دون غيرها. لا يسعني إلا أن أحاول أن أقول الحقيقة عن حياة إيفان إيفاك. إذا بقيت على قيد الحياة خلال كتابة هذه السيرة. لكنني أكتب من أجل الرحيل، وليس من أجل البقاء.
أجلس في مكتبي أثناء العمل في إحدى دور النشر، حيث أعمل منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا. أنا الموظف الأقدم في هذه المؤسسة التي كانت محترمةً ثم باتت بائسةً في هذا العصر. في المنزل، يبدو أن مكتبي أفضل بكثير، حيث تصطفُّ خلف أبواب الخزائن الزجاجية كتبٌ مختلفة، من بينها كتب لمؤلفين رائعين حقًّا. وخلف مكتبي الضخم المصنوع من خشب الماهوجوني، على كرسي بذراعين ومقعد جلديٍّ وظهر مستقيم ومرتفع، لا أستطيع إلا أن أكتب روائع أدبية. ولكن هناك الآن كمبيوتر حفيدي ميخاس على طاولة المكتب، فلأدعه ينهي واجبه المنزلي بشكل جيد، وهذا واجب الجدِّ تجاه حفيد في مثل عمره. ساعدني ميخاس في سحب الفونوغراف القديم ووضعه على المكتب أيضًا، وهو يصدر صفيرًا وتنهُّدًا، لكنه لا يزال يعزف الموسيقى؛ لذا وضعت أسطوانة ميلفا( ) الحبيبة تحت إبرته، وفتحت الدفتر الكبير على الصفحة الأولى.
أستدعي الآن -بلُطفٍ- أولئك الأشخاص الذين يملكون المفاتيح التي ستفتح الغرف الضرورية في مبنى حياتي. غرفة المعيشة حيث تتدلَّى الصور العائلية الاحتفالية، ويتلألأ الكريستال السوفياتي في الخزانة الجانبية، ويسخر منه الزملاء الأدباء الأصغر سنًّا كرمز للطبقة اليائسة... والمكتب حيث توجد في خزائن الكتب الجيدة وغير الجيدة، وجوائز الدولة الموجودة في أدراج المكاتب، والتي تمنح بشكل رئيس لقاء مختلف الأفعال السيئة... وغرفة النوم، أوه، هذا هو الشيء الأكثر إثارة للاهتمام، ولكن حتى هناك لا توجد الحقيقة الكاملة... والمطبخ، بالطبع... والأمر المهم هو أن هذه المفاتيح تفتح جميع غرف التخزين المظلمة في العُلِّيَّة وفي الطابق السفلي... وحتى المرحاض... على الرغم من أن فاسيلي برافدا لم ينصح بالسماح لقرَّاء المستقبل بالدخول إلى الحمام: "لن تخبر أحفادك كيف ذهبتَ إلى المرحاض!"، كما قال المرشد الذي انجذب للتفلسف في موضوع نظرية السيرة الذاتية. بدأ أعضاء الورشة بالضحك بطريقة ودية. تذكَّر إيفان إيفاك النقش الموجود على جدار المبنى الخارجي:
"ستموت الآن موتًا رهيبًا!"
كان هذا النقش على جدار مرحاض متصدِّع في الفناء الخلفي لمنزل فقير في الضواحي. كان موجودًا بالفعل لبعض الوقت، أقول هذا بذهنٍ صافٍ وذاكرة قوية. لذلك، يحدث أن المرحاض قد يركِّز على حقيقة العصر. ثم أصبح إيفان إيفاك مهتمًّا على الفور بهوية الشخص الذي تجرَّأ على كتابة هذا النقش على الجدار في سنوات ما بعد الحرب، في الأربعينيات وليس الخمسينات. مَن أمكَنَه كتابة شيء كهذا؟ وكيف يمكن أن يخاطر بنفسه وعلى الملأ بهذه الطريقة؟
ربما، لم تكتب هذه العبارة مالِكةُ المنزل ليودميلا أولاسيفنا، أرملة مدرِّس "اللغة الأم" ميخايلو ميخايلوفيتش، الذي اعتقله الألمان أثناء الحرب، لأن أحدهم أبلغ الجستابو أن العجوز كان عضوًا في الحزب الشيوعي لعموم الاتحاد (البلاشفة). تردَّد الناس على المرأة العجوز ولم ينسوها، كذلك فعل إيفان حين كان يزور والدته. وقد أعطت إيفان شمعةً كي يذهب إلى بيت الخلاء مرة، لكنه ما أن رأى ذلك النقش حتى أصابته نوبة من الرعب لدرجة أنه لم يستطع أن يفعل ما ذهب لفعله. كان آنذاك يخدم بالفعل في القوات الخاصة التابعة للمفوضية الشعبية للشؤون الداخلية، وكان عليه أن يبلغ على الفور عن النقش المناهض للسوفيات. لكن إيفاك لم يفعل ذلك على أمل ألَّا يراه أحد ذاهبًا إلى المرحاض حاملًا شمعة. من حين لآخر، كان إيفان يزور والدته وأخاه الأصغر ليسيك( ) الذي أنجبته خلال الحرب، ولم يعُد يزور أرملة ميخ ميخ( )، وكان يسرع الخطى بالقرب من منزلها. ولم يعبر إيفان عتبة ذاك المنزل البائس إلا عندما حضر جنازتها. لكن كان ذلك في عصر مختلف، حين لم تعُد الكتابة على جدران المراحيض تدعو إلى القلق.
جاء ميخ ميخ إلى صفحات هذه السيرة الذاتية بشكل غير مُخطَّط له. كان من المخطَّط أن يُستدعَى بطريقة حكيمة، فقد علمنا دائمًا أن نرسم الخطوط العريضة لما سنكتبه. وقال ميخ ميخ إننا إذا أردنا أن نكتب شيئًا، فيجب أن نأخذ في الاعتبار: ما الفائدة ممَّا سنكتبه للمستقبل. كي يقول لنا أحدهم، بعد قراءة ما كتبناه: شكرًا لكم. يبدو أن المعلم السوفياتي لم يكن على درايةٍ بنظريات التحليل النفسي للكتابة من أجل تهدئة الروح.
ترون الآن أنني أرتدُّ عن محاضرات أستاذ العاصمة في الدورات الأدبية العليا وعن أفكار قادة الورشة الأدبية، إلى ما كان درَّسه لنا معلِّمٌ مَدرسيٌّ قبل الحرب.
يبلغ عمر ابني الآن نحو خمسين عامًا، وأنا بِتُّ في السبعين من عمري. أصبح حفيدي بافلو الآن أكبر سنًّا ممَّا كنت عليه عندما عِشتُ مع امرأتي الأولى. حدث هذا لي مبكِّرًا جدًّا لأنه كان في زمن الحرب. ومع ذلك، هي ليست مسألة حرب. أصبح بافلو أيضًا رجلًا في وقت مبكِّر جدًّا. لقد كتبت بالفعل عن هذا ولن أكتب مرة أخرى. وحده بافلو يستطيع أن يخبر المزيد عن نفسه إذا شعر أنه سيموت إن لم يخبر، أو مثلي ألَّا يموت من دون أن يخبر. لكنني لا أتمنى أن تسري تجربتي على حفيدي.
بما أنني ذكرت امرأتي الأولى التي يصعب وصفها بأنها امرأة، فقد كانت صغيرة جدًّا، سيكون من المنطقي للغاية أن أبدأ قصة حياة إيفان إيفاك معها. علاوة على ذلك، بين يدي ماريا كالاماتنا مجموعة كاملة من المفاتيح للعديد من الغرف المهمة في مبنى حياتي الأخرق ذي المصير الرهيب. كان إيفان إيفاك القاصر على علاقة حب فعلية مع القاصر ماشا( ) كالاماتنا في كييف المحتلة، كما سمَّاها المواطنون العاديون آنذاك، أمَّا بلغة صحيفة "برافدا" فكان يطلق عليها "الأراضي التي احتلَّها الغزاة النازيون مؤقتًا". من قصة فانيا( ) إيفاك وماشا كالاماتنا نفسها، يمكن اليوم أن نكتب رواية جيدة. لن تكون قصة حب. ستكون قصة عن فوضى الحرب في الشوارع، في البيوت، في الأسِرَّة، وفي النفوس. بعد سنوات عديدة، سيقول الشقيق الأكبر إيليا، أحد المشاركين في الأعمال الحربية، وهو يرفع نَخبًا: "الشاب الأكثر رفاهية مع امرأة أثناء الحرب". لقد اختبر إيفان في كييف المحتلَّة الوصفَ الذي عبَّر عنه إيليا بشكل كامل. لكنني لن أكتب رواية عن رومانسية أطفال الحرب القاصرين متعمدًا، لأن الذكريات المظلمة ستجرُّني إلى زاوية في المكان الخطأ ولن تسمح لي بكتابة قصة حياة إيفان إيفاك. وهذا مُتوقَّع مني.
لذا، سأعود إلى ماريا لاحقًا.
في هذه الأثناء، سأسرد كلمات عن مشاهد من بداية حياة إيفان التي تحتفظ بها ذاكرتي، وتصبح أكثر وضوحًا كلما ابتعدت. ولتوضيح ما نتحدث عنه، فقط البيانات الشخصية لإيفان إيفاك الابن الثاني في عائلة زاخار وغالينا إيفاك، سمَّياه إيفان على الرغم من أن البِكر يحمل عادة اسم إيفان. وُلِد في ضاحية قرب المدينة تقع في وادٍ لم يبقَ منها بيت واحد اليوم. نادرًا ما تحتوي سلوبودا( ) على منازل ذات قيمة معمارية. وكانت بائسةً بشكل خاص. لم تكن هناك حدائق بالقرب من المنازل، كما هي الحال بالقرب من تاتارتسي، حيث كانت شجيرات الورد المورقة تُطِلُّ من خلف كل سياج خلال الربيع. لم يكن في الوادي بيتٌ حجريٌّ واحد، ولم تكن فيه حتى منازل خشبية كاملة. الله وحده يعلم مِمَّ بُنِيَت جدران الأكواخ، ولم يكن من الممكن فتح نوافذها المشوَّهة. عندما سار إيفان عبر ذلك الوادي، كان يلاحظ أن معظم الأكواخ ذات ستائر أنيقة من التُّول( ). ولم تكن تلك الستائر لحماية الخصوصية، فلحماية الخصوصية كان من الأفضل تعليق أي قماش من دون ثقوب. كانت ستائر الضواحي تلك في غير مكانها... مثل خطوط العنق العميقة على فساتين النساء العجائز. قام أحد المحرِّرين ذات مرة بحذف هذه الاستعارة من إحدى قصصي القديمة؛ لذا أعيد تدوينها هنا.
كل مشاكل إيفان إيفاك وأفراحه ارتبَطَت بهذه المدينة. بقدر ما يستطيع أن يتذكر، كان يركض من الوادي، أحيانًا مع أطفال آخرين، وأحيانًا بمفرده، ويتسلَّق التَّلَّ إلى شوارع المدينة، يفعل ذلك بتَوْقٍ، ناسيًا نفسه. منذ أن كان في الخامسة من عمره تقريبًا، كان يحب الوقوف أمام المنازل الحجرية الجميلة ويحلم بأنه سيعيش يومًا ما في أحدها. الأهم من ذلك كله أنه أحبَّ شارع أوفروتشسكا. في كثير من الأحيان كان يحلم بالعيش في منزل من طبقة واحدة، مُزيَّن بتمثال لرأس امرأة تعتمر تاجًا وعليها قلادة، فوق الباب الأمامي، ونوافذه مُزيَّنة بالورود.
لعل الذكرى الأكثر وضوحًا من الطفولة المبكرة حين تمكَّن من استراق النظر عبر فتحة في سياج يحيط بحديقة المنزل، فوق الوادي مباشرة، فرأى ذلك القصر الجميل المذهل. قبل الحرب، كان المنزل مقرَّ مُفوَّض الشعب الذي نُقِل فيما بعد. تذكَّر إيفان المحادثات حوله في الوادي، فقد عاش المفوض مثل سيد أرستقراطي وحصل على ما يستحق. وفي كييف ما بعد الحرب، بات القصر منزل خروتشوف الشهير في تلك المنطقة. في نهاية السبعينيات، هدم السياج وتحوَّل المبنى إلى مستشفى، وفي ذلك الحين سارت النساء هناك بأرديتهنَّ المتَّسخة بين أكوام الصناديق بالقرب من القفص الكبير، حيث عاشت طيور التَّدرُج( ) في السابق. أنجبت إيروتشكا ميخاس في ذلك المستشفى. حملنا أنا وزوجها ميكولا أغراضًا إليها، وأخبرتُه كيف نظر إيفان إيفاك البالغ من العمر نحو أربع سنوات بذهولٍ إلى هذا المنزل من خلال ثقب في السياج، ثم عاد إلى الوادي البائس.
لم يمثِّل المسكن السيِّئُ الكارثةَ الرئيسية لدى عائلة إيفاك في الوادي، ففي النهاية، كان مبنى لودميلا أولاسيفنا وميخايلو ميخايلوفيتش بائسًا أيضًا. لكن كان هناك شيء جذاب فيه، على الرغم من ستائره القبيحة. في شقة عائلة إيفاك، لم تكن يد الأم دافئةً ولا صوت الأب هادئًا. الأب لم يصمت، كان يصرخ دائمًا ويقطع حديثه ولا يكمل جُمَلَه. ولم يكن من الممكن أبدًا أن فهم سبب عدم رضاه. كان غاضبًا على الجميع كما يبدو. وكانت الأم تصرخ أيضًا. لكن الآباء الذين كانوا يضربون أطفالهم، بكل ما طالته أيديهم، تعرَّضوا للترهيب الشديد من قِبَل النظام السوفياتي. كذلك الأبناء الذين تعلَّموا الدفاع عن أنفسهم مبكرًا تعودوا على استخدام هذه الخصوصية.