عودة إلى إشكاليات رواية المقريزي للبقط (2)
تاريخ النشر: 12th, September 2024 GMT
د. أحمد الياس حسين
ahmed.elyas@gmail.com
تناول الموضوع السابق بعض روايات المصادر العربية المبكرة غير المستخدمة في دراسة معركة عبد الله بن سعد والنوبة عام 31ه/651 م وتلك الروايات غير المستخدمة تختلف اختلافات واضحة عن رواية المقريزي. المتداولة عن البقط. كما اتضح أيضاً في الموضوع السابق إشكالية رواية المقريزي هذه فيما يتعلق بالمقابل الدي التزم المسلمون بدفعه للنوبة كما جاء في المصادر العربية والذي لم يرد في رواية المقريزي.
رواية المقريزي عن البقط
جاء في بداية هذه الرواية أن: "أول ما تقرّر هذا البقط على النوبة في إمارة عمرو بن العاص، لما بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين وقيل: سنة إحدى وعشرين" وذكرت الرواية أن عبد الله بن سعد" مكث بها [في النوبة] زماناً، فكتب إليه عمرو يأمره بالرجوع إليه. فلما مات عمرو رضي الله عنه، نقض النوبة الصلح الذي جرى بينهم وبين عبد الله بن سعد، وكثرت سراياهم إلى الصعيد" وتوضح الرواية أن عبد الله بن سعد غزاهم مرة أخرى "وهو على إمارة مصر في خلافة عثمان رضي الله عنه، سنة إحدى وثلاثين، وحصرهم بمدينة دنقلة حصاراً شديدا ... وطلب ملكهم واسمه: قليدوروث الصلح ... قرر الصلح معه على ثلثمائة وستين رأساً في كل سنة، ووعده عبد الله بحبوب يهديها لما شكا له قلة الطعام ببلده، وكتب لهم كتاباً" (المقريزي ج 1 ص 560) نَصْ الرواية كاملة في الملحق رقم 1.1 آخر هذا الموضوع.
هذا الجزء -المذكور أعلاه - من رواية المقريزي غير موجود في نَصْ اتفاقية البقط المذكورة في مراجع مؤسسات التعليم العام والعالي، فقد ذكر فقط في تلك المراجع نَصْ الخطاب الذي كتبه عبد الله بن سعد للنوبة وفقاً لرواية المقريزي. (ملحق رقم 2.1)
إشكاليات هذا الجزء من الرواية: يلاحظ أن هنالك إشكالين واضحين في هذه الرواية
الإشكال الأول: جعلت هذه الرواية عبد الله بن سعد أول من قاد حملة على بلاد النوبة. وهذا لا يتفق مع ما ذكر في المصادر العربية المبكرة. فقد ذكر ابن عبد الحكم (1972 ص 2) ملحق رقم 2 والبلاذري (ص 238) ملحق رقم 3 أن عمرو بن العاص بعث عقبة بن نافع الفهري بعد فتح مصر لغزو النوبة. ولم يمكث عقبة بن نافع في منطقة البوبة فترة طويلة إذ غادر مصر عام 21ه/641 م مع عمرو بن العاص لفتح برقة في شرقي ليبيا (ابن عبد الحكم، ط الذخائر ص 171 والكندي ص 33)
ووفقاً لذلك فإن عبد الله بن سعد خَلَف عقبة بن نافع في حرب النوبة. وتذكر المصادر إن الخليفة عمر بن الخطاب عين عبد الله بن سعد والياً على صعيد مصر، بينما كان عمرو بن العاص والياً على الوجه البحري. (ابن عبد الحكم، ط الذخائر ص 171 والكندي ص 34) ويبدو أن تعيين عبد الله والياً على الصعيد قد تم عام 21 أو 22 ه/641-642 م فيكون عبد الله بن سعد قد مكث في ولاية الصعيد منذ عام 21 أو 22 ه حتى تم تعيينه والياً على مصر عام 25ه/645 م.
وبناءً على ما ذكره ابن عبد الحكم والبلاذري فإن حروب في النوبة عبد الله بن سعد قد بدأت بعد المعركة الأولى التي قادها عقبة بن نافع. ويتعارض هذا مع رواية المقريزي التي جعلت عبد الله بن سعد قائداً لأول حملات المسلمين على النوبة. فأي الروايتين أرجح؟ أرى أن رواية ابن عبد الحكم والبلاذري استندت على رواة أخبار النوبة المبكرين والأقرب صلة بأحداث النوبة فابن عبد الحكم (ت257ه/871م) روى عن سعيد بن عفير (ت 226ه/840 مـ) والبلاذري (ت 278ه/891 م) روى عن يزيد بن أبي حبيب (ت 128ه/746 م) أما رواية المقريزي (ت845ه/1445 م) فقد ذكرت بدون إسناد. فابن عبد الحكم والبلاذري ورواتهما أرجح من رواية المقريزي لأنها أقرب بكثير لأحداث حروب النوبة من رواية المقريزي الذي تفصله أكثر من 800 سنة عن تلك الأحداث وجاءت روايته بدون سند.
هذا إلى جانب أن رواية المقريزي هذه تعاني من إشكالية أخرى ربما حدثت أتباء النقل، فقد ورد في الرواية أن عمرو بن العاص كتب إلى عبد الله بن سعد "يأمره بالرجوع إليه. فلما مات عمرو رضي الله عنه، نقض النوبة الصلح" ومن الواضح أن المقصود بـ"عمرو" في عيارة "فلما مات عمرو" هو عمر بن الخطاب. فعمرو بن العاص توفى عام 43ه/663 م أي بعد 18 سنة من تعيين عبد الله والياً على مصر. ووجود الخطأ في نص الرواية يرجح ضعفها.
الإشكال الثاني:
وفقاً لرواية المقريزي هذه فإن البقط اتفاقان، أولهما وقعه عبد الله بن سعد أثنا حروبه المبكرة مع النوبة عندما كان والياً على الصعيد، والاتفاق الثاني وقعه عندما كان والياً على مصر كلها عام 31ه/651 م. ومن الواضح أن هذا يتعارض مع ما ورد في المصادر العربية من أن الاتفاق مع النوبة وقعه عبد الله بن سعد عام 31ه. فمخالفة هذا الجزء من رواية المقريزي (رقم 1.1) لاتفاقية البقط مع ما تواتر من روايات في المصادر العربية الأخرى يرجح ضعفها الشديد ويؤدي بالتالي إلى الشك في ما تبقى من الرواية وهو الكتاب الذي كتبه عبد الله لملك النوبة. (ملحق 2.1)
وما ورد في كتاب عبد الله بن سعد إلى ملك النوبة - هو المعروف عندنا بـ"اتفاقية البقط" – يختلف اختلافاً يكاد يكون كليّاً مع ما ورد في المصادر العربية الأخرى كما وردت الإشارة إلى ذلك في الموضوع السابق. وقد وردت بعض تفاصيل تلك الاختلافات في (أحمد الياس حسين ص212-223) في الفصل الخامس من كتاب الوعي بالذات صفحات 183-231 عن "المراجعات والتعديلات التي طرأت على اتفاقيات المسلمين والنوبة بين عامي 31ه-674 م/651-1275 م"
"
الملاحق
ملاحق الموضوع
المقريزي
1.1 وأوّل ما تقرّر هذا البقط على النوبة في إمارة عمرو بن العاص، لما بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين، وقيل: سنة إحدى وعشرين في عشرين ألفاً، فمكث بها زماناً، فكتب إليه عمرو يأمره بالرجوع إليه. فلما مات عمرو رضي الله عنه، نقض النوبة الصلح الذي جرى بينهم وبين عبد الله بن سعد، وكثرت سراياهم إلى الصعيد، فأخربوا، وأفسدوا، فغزاهم مرّة ثانية عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو على إمارة مصر في خلافة عثمان رضي الله عنه، سنة إحدى وثلاثين، وحصرهم بمدينة دنقلة حصاراً شديداً، ورماهم بالمنجنيق، ولم تكن النوبة تعرفه وخسف بهم كنيستهم بحجر، فبهرهم ذلك، وطلب ملكهم واسمه: قليدوروث الصلح، وخرج إلى عبد الله وأبدى ضعفاً ومسكنة وتواضعاً، فتلقاه عبد الله ورفعه وقرّبه، ثم قرر الصلح معه على ثلثمائة وستين رأساً في كل سنة، ووعده عبد الله بحبوب يهديها إليه لما شكا له قلة الطعام ببلده، وكتب لهم كتاباً نسخته بعد البسملة...."
2.1 "عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لعظيم النوبة ولجميع أهل مملكته، عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة من حدّ أرض أسوان إلى حدّ أرض علوة أنّ عبد الله ابن سعد، جعل لهم أماناً وهدنةً جارية بينهم، وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر، وغيرهم من المسلمين، وأهل الذمّة، إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن لا نحاربكم، ولا ننصب لكم حرباً ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم على أن تدخلوا بلدنا مجتازين غير مقيمين فيه، وندخل بلدكم مجتازين غير مقيمين فيه، وعليكم حفظ من نزل بلدكم، أو يطرقه من مسلم أو معاهد، حتى يخرج عنكما، وإنّ عليكم ردّ كل آبق خرج إليكم من عبيد المسلمين، حتى تردّوه إلى أرض الإسلام، ولا تستولوا عليه، ولا تمنعوا منه ولا تتعرّضوا لمسلم قصده وحاوره إلى أن ينصرف عنه، وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه مُصلياً، وعليكم كنسه وإسراجه وتكرمته، وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأساً، تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب، يكون فيها ذكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم، ولا عجوز، ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان، وليس على مسلم دفع عدوّ عرض لكم ولا منعه عنكم، من حدّ أرض علوة إلى أرض أسوان، فإن أنتم آويتم عبد المسلم أو قتلتم مسلماً أو معاهداً، أو تعرّضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم أو منعتم شيئاً من الثلثمائة رأس والستين رأساً، فقد برئت منكم هذه الهدنة والأمان وعدنا نحن وأنتم على سواء حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين علينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من ذمّة المسيح، وذمّة الحواريين، وذمّة من تعظمونه من أهل دينكم، وملتكم الله الشاهد بيننا وبينكم على ذلك. كتبه عمرو بن شرحبيل في رمضان سنة إحدى وثلاثين."
ابن عبد الخكم
3. بعث قال سعيد بن عفير (ت 226 هـ) وبعث عمرو بن العاص نافع بن عبد القيس الفهري، وكان نافع أخا العاص بن وائل لأمه، فدخلت جيوشهم أرض النوبة صوائف كصوائف الروم، فلم يزل الأمر على ذلك حتى عزل عمرو بن العاص عن مصر وأمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح فصالحهم (ابن عبد الحكم 1972ص 2)
البلاذري
3. حدثني محمد بن سعد قال: حدثني محمد بن عمر الواقدي عن الوليد بن كثير حدثني محمد بن سعد قال: حدثني محمد بن عمر الواقدي عن الوليد بن كثير عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير قال: لما فتح المسلمون مصر بعث عمرو بن العاص إلى القرى التى حولها الخيل ليطأهم. فبعث عقبة بن نافع الفهرى، وكان نافع أخا العاص لامه. فدخلت خيولهم أرض (ص 236) النوبة كما تدخل صوائف الروم، فلقى المسلمون بالنوبة قتالاً شديداً. لقد لاقوهم فرشقوهم بالنبل حتى جرح عامتهم. فانصرفوا بجراحات كثيرة وحدق مفقوءة، فسموا رماة الحدق. فلم يزالوا على ذلك حتى ولى مصر عبد الله بن سعد بن أبى سرح. فسألوه الصلح والموادعة، فأجابهم إلى ذلك
المراجـع
- أحمد الياس حسين، السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية، الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر ط 3، 2021.
- البلاذري، فتوح البلدان. بيروت: دار الكتب العلمية 1983
- ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، تحقيق شارلز تورّي، سلسلة الذخائر رقم 50، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، ب. ت.
- ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية. مطبوعات جامعة القاهرة فرع الخرطوم 1972
- الكندي، ولاة مصر، تحقيق حسين نصار، بيروت: دار صادر ب. ت.
- المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تحقيق محمد زينهم ومديحة الشرقاوي، القاهرة: مكتبة مدبولي 1998 ج 1 ص 560.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی المصادر العربیة عمرو بن العاص رضی الله عنه عقبة بن نافع الروایة أن سنة إحدى ورد فی ما ورد
إقرأ أيضاً:
الدفاع المدني بغزة يكشف كذب رواية العدو حول جريمته البشعة في رفح
قالت المديرية العامة للدفاع المدني، إن العالم شاهد بصدمة كبيرة، جريمة بشعة بحق الإنسانية في الـ23 من مارس الماضي، ارتكبها جيش العدو الإسرائيلي بحق 15 كادراً من طواقم الدفاع المدني والهلال الأحمر الفلسطيني، في منطقة تل السلطان برفح جنوبي قطاع غزة.
وأوضحت المديرية، في بيان اليوم الأربعاء، أن مهمة طواقمنا كانت إنسانية بحتة؛ تلبيةً لنداءات الجرحى الذين استنجدوا بنا لإنقاذ حياتهم وللمساعدة في إخلاء المدنيين الذين حاصرهم جيش العدو في منطقة “بركسات وكالة الغوث”، تزامناً مع توغله دون سابق إنذار.
وأضافت: “قبل يومين، يخرج علينا جيش الاحتلال برواية جديدة كاذبة ومضللة، تتناقض مع رواياته السابقة، التي حاول فيها تغيير الحقيقة ولفت أنظار العالم عن جريمته البشعة بحق مقدمي الخدمة الإنسانية”.
وأكدت المديرية، بطلان رواية وادعاءات جيش العدو التي نشرها حول جريمة إعدام طاقمنا وطاقم الهلال الأحمر، مشددة على تعارضها مع رواياته السابقة، وفيها دليل على كذبه مع عدم توفر الأدلة.
ولفتت إلى أن طاقمي الدفاع المدني والهلال الأحمر أُعدموا بدم بارد، في استهتار واضح للقانون والمواثيق الدولية الإنسانية، متابعة أن وكالات وصحف دولية نشرت فيديو يبين بشكل واضح التزام طواقمنا بشارات المركبات الرسمية ومصابيح الإضاءة، وكذلك ارتدائهم الزي الفسفوري الرسمي المعروف محلياً ودولياً والمعلوم لدى جيش العدو.
وأشارت المديرية إلى أن العدو ارتكب جريمة إبادة بحق طواقمنا، مما أدى إلى استشهادهم جميعاً، ولم نتمكن من الوصول إلى جثامينهم إلا بعد ثمانية أيام، وقد وجدناها مدفونة على بعد نحو 200 متر من مركباتهم التي تم تدميرها.
وتابعت: “قمنا بالأمس بنشر فيديو يؤكد بالأدلة الموثقة بالتصوير، إعدام جيش العدو لطواقمنا وتغيير معالمهم، ودفنهم في حفرة عميقة في محاولة منه لإخفاء جريمته البشعة”.
وشددت على أن حادثة إعدام طواقمنا في رفح تؤكد للعالم بالأدلة أن العدو الإسرائيلي لم يلتزم بأي ضوابط قانونية أو أخلاقية إزاء تدخلات طواقمنا الإنسانية، وفيه تأكيد أن 113 شهيداً من موظفينا قتلهم العدو بدم بارد منذ بدء حربه على قطاع غزة.
وطالبت المديرية، المجتمع الدولي بتوفير الحماية لطواقمها ومركباتها، وإجبار العدو على الالتزام بالقانون والمواثيق الدولية الإنسانية.