الملفات الدولية في مناظرة هاريس وترامب.. ماذا يقول الخبراء؟
تاريخ النشر: 12th, September 2024 GMT
سيطرت الملفات الدولية على مناقشات المناظرة الانتخابية التي جمعت الرئيس الجمهوري السابق، دونالد ترامب، مع نائبة الرئيس الديمقراطية، كمالا هاريس. ووسط سجال حاد وأفكار متباينة، حاول كلا المتنافسين كسب تأييد الناخب الأميركي وتقديم رؤى حول مستقبل السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
وتباينت مواقف ترامب وهاريس بشكل واضح، بدءا من الصراع في غزة، مرورا بالغزو الروسي لأوكرانيا، والعلاقات المتشابكة مع الصين وإيران.
رغم أن الحرب على غزة لم تأخذ حيزا كبيرا في مناقشات هاريس وترامب خلال المناظرة، إلا أنهما قدما مواقف تعبر عن رؤية كل منهما لكيفية حل الصراع الذي تسبب في كارثة إنسانية في قطاع غزة.
واهتمت الأوساط الإسرائيلية بما ورد على لسان المرشحين المتنافسين على منصب رئاسة الولايات المتحدة بشأن الحرب التي تقودها حكومة، بنيامين نتانياهو، بهدف "القضاء على حركة حماس" الفلسطينية.
وفي أقل من خمس دقائق من وقت المناظرة، قال ترامب "سأحسم الأمر بسرعة" في غزة إذا فاز في الانتخابات. لكنه لم يذكر كيف، وتجنب سؤالا حول كيفية التفاوض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي وحماس لتأمين اتفاق وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة، وفق تقرير لصحيفة نيويورك تايمز.
حرب إسرائيل على غزة تسبب في دمار كبير للبنى التحتية ومقتل عشرات آلاف الفلسطينيين وفق السلطات الصحية في القطاعوعلى الجانب الآحر، لم تقدم هاريس أي تفاصيل تحدد رؤيتها للحرب الدائرة هناك، والسبل الكفيلة بقوف إطلاق النار وإعادة الرهائن.
اكتفت هاريس بالتأكيد على دعمها لإسرائيل والحاجة إلى إطلاق سراح الرهائن، ولكنها شددت أيضا على موقف الولايات المتحدة القائل بأن حل الدولتين من شأنه أن إسرائيل الأمن، و"يمنح الفلسطينيين الأمن والسيادة".
وقالت هاريس إن "ما نعرفه هو أن هذه الحرب يجب أن تنتهي".
وقالت، ميراف زونسزين، المحللة السياسية الإسرائيلية البارزة في مجموعة الأزمات الدولية، إنها "فوجئت بدعوة هاريس لإنهاء الحرب، وهو أمر لا تسمعه كثيرا في إسرائيل، حتى في الاحتجاجات"، وفق الصحيفة.
وفي الملفات الدولية الأخرى، قدم خبراء من "مجلس الأطلسي" تحليلا للمواقف التي تبناها ترامب وهاريس، مسلطين الضوء على نقاط الضعف والاختلافات بينهما.
الحرب في أوكرانيا.. تناقضات في الرؤىركز النقاش حول الحرب في أوكرانيا على الأسس القديمة، حيث أكد ترامب أنه يستطيع إنهاء الحرب بمجرد توليه الرئاسة بسبب علاقاته الوثيقة مع كل من الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
وزعم ترامب أن بوتين ما كان ليشن غزوا واسع النطاق لو كان ترامب في منصبه، مشيرا إلى ضعف إدارة بايدن باعتبارها السبب وراء العدوان الروسي، خاصة بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان.
ومع ذلك، لفت جون هيربست، المدير البارز لمركز أوراسيا في مجلس الأطلسي، الانتباه إلى النقطة الأكثر إثارة عندما سُئل ترامب عما إذا كان يرى أن انتصار أوكرانيا يصب في مصلحة الولايات المتحدة، فأجاب بأن إنهاء الحرب يصب في مصلحة أميركا نظرا للخسائر البشرية الهائلة.
وهذا الموقف يتماشى مع خطاب ترامب حول ضرورة إنهاء الصراع بسرعة بدلا من الانخراط في التزامات طويلة الأمد، وفق هيربست.
الغزو الروسي تسبب في دمار كبير للبنى التحتية في أوكرانيا وقتل بسببه عدد كبير من المدنيينودافعت هاريس عن موقف إدارة بايدن بشأن الحرب، مؤكدة أن "العدوان الروسي يشكل تهديدا للنظام الدولي"، وأن انتصار روسيا "قد يشجعها على مهاجمة حلفاء الناتو". وأشادت بالدور الأميركي في حشد الدعم الدولي لأوكرانيا، مشيرة إلى أن موقف بلادها كان "حاسما في منع روسيا من تحقيق نصر سريع".
ورغم دفاع هاريس القوي عن الإدارة، أشار هيربست في تحليله إلى أن المناقشين "فشلوا في سؤال هاريس عما إذا كانت ستتبع سياسة أكثر جرأة من إدارة بايدن، مثل إرسال أسلحة متقدمة بشكل أسرع أو رفع القيود المفروضة على استخدام الأسلحة الأميركية ضد الأهداف العسكرية في روسيا".
ويعتقد خيربست أن هذا الأمر "كان من الممكن أن يكشف عن نقاط ضعف في تعامل الإدارة الحالية مع الحرب".
الصين.. نقاش قصير حول قضية كبيرةوعلى الرغم من أن الصين تمثل أكبر تحد سياسي واقتصادي للولايات المتحدة، كانت المناقشة حولها محدودة في المناظرة.
ويقول، جوش ليبسي، المدير البارز في مركز الجغرافيا الاقتصادية في مجلس الأطلسي، إلى أن التعريفات الجمركية كانت المحور الأكبر للنقاش، حيث ناقش المرشحان آثار هذه التعريفات على التضخم والاقتصاد الأميركي.
وفقا لليبسي، يتفق كلا المرشحين على أهمية التعريفات كأداة اقتصادية، لكنهما اختلفا حول المجالات المستهدفة والدول التي يجب التركيز عليها.
هناك تفاوت واضح بين هاريس وترامب في كيفية تعامل الولايات المتحدة مع الصينومع ذلك، يرى ليبسي أن التركيز الكبير على التعريفات أثار تساؤلات حول ما إذا كانت هذه السياسة الاقتصادية ستحل مشاكل أوسع مثل التحدي الصيني.
ويعتقد ليبسي أنه كان بالإمكان إجراء مناقشة أعمق حول الصين خلال المناظرة، خاصة في ضوء دورها المتزايد في دعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا.
إيران.. تصحيح المعلومات المغلوطةوخلال النقاش حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، زعم ترامب أن إدارة بايدن ألغت جميع العقوبات التي فرضتها إدارته على إيران، مشيرا إلى أن إيران كانت "مفلسة" في عهده، ولم يكن لديها أموال لدعم الجماعات المسلحة مثل حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني.
لكن هذا الادعاء صححته، كيمبرلي دونوفان، مديرة مبادرة الدبلوماسية الاقتصادية بمجلس الأطلسي.
تقول دونوفان إن العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب لا تزال سارية حتى الآن، وأن إيران استمرت في تمويل ودعم الجماعات المسلحة حتى في ظل العقوبات الصارمة.
استهدفت الولايات المتحدة إيران بعقوبات لعرقلة برنامجها النووي ومنع تمويل الميليشيات في المنطقةدونوفان أشارت في تحليلها للنقاش، الذي جرى خلال المناظرة لهذه القضية، إلى أن إدارة بايدن لم ترفع العقوبات، بل على العكس، فرضت مزيدا من العقوبات على الأفراد والكيانات الإيرانية بسبب دعمهم العسكري لروسيا.
وأكدت أن العقوبات لم تكن كافية لمنع إيران من مواصلة أنشطتها العسكرية في المنطقة، مشيرة إلى الحاجة إلى استراتيجيات أقوى لتقييد قدرة إيران على تمويل الجماعات المسلحة.
العلاقة مع الناتو.. تحصين ضد ترامبوملف حلف شمال الأطلسي "الناتو" يتصدر المناقشات الانتخابية في الولايات المتحدة. وأثيرت تساؤلات حول كيفية حماية الحلف من تأثيرات سياسات ترامب في حال عودته إلى السلطة.
ويقول، فيليب ديكنسون، نائب مدير مبادرة الأمن عبر الأطلسي في مجلس الأطلسي، إن ترامب قدم خلال المناظرة إجابة مباشرة حول هذه المسألة، حيث شدد على ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي بشكل كبير وسريع، مشيرا إلى أن سياساته أجبرت الأوروبيين على زيادة استثماراتهم في الدفاع.
علاقة الولايات المتحدة مع الناتو محط جدل كبر بين هاريس وترامبومع ذلك، أثار ديكنسون تساؤلات حول مدى استدامة هذه السياسة، خاصة في ظل احتمالية أن يطالب ترامب بزيادة مستمرة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي.
وتساءل ديكنسون عن كيفية تحقيق الوحدة داخل الناتو إذا كان هناك اتفاق سلام مع روسيا يشمل تقديم تنازلات.
الطاقة والوظائف.. رؤية مشتركةرغم اختلاف السياسات بين هاريس وترامب، أبرز كلاهما الروابط المباشرة بين قطاع الطاقة وتوفير الوظائف للأميركيين.
ويقول، لاندون ديرنتز، مدير الأمن العالمي للطاقة في مجلس الأطلسي، إن المناظرة تطرقت إلى الطاقة كأداة لتوفير فرص العمل وتعزيز المنافسة الأميركية.
بينما ركز ترامب على أهمية النفط والغاز في الولايات المتحدة، سلطت هاريس الضوء على استثمارات إدارة بايدن في الطاقة النظيفة، مؤكدة أنها ستستخدم سياسة الطاقة الأميركية كأداة لمكافحة التغير المناخي.
ورغم الاختلافات في الرؤية حول مصادر الطاقة، اتفق المرشحان على أن الطاقة تمثل ركيزة أساسية لتعزيز التنافسية الاقتصادية الأميركية.
قلق أوروبيويعتقد، يورن فليك، مدير مركز أوروبا في مجلس الأطلسي، أن المناظرة كانت تذكيرا للأوروبيين بما هو على المحك في الانتخابات الأميركية المقبلة.
وقال إن الأوروبيين يفضلون بشكل عام رؤية الولايات المتحدة "حليفا مستقرا يدعم الناتو ويواجه التحديات المشتركة مثل روسيا".
لكن مع وعود ترامب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 20 بالمئة، فإن الأوروبيين قد يواجهون تهديدا باندلاع حرب تجارية تعرقل العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وأوروبا.
كما أن عدم وضوح موقف ترامب بشأن دعم أوكرانيا زاد من قلق القادة الأوروبيين، في حين قدمت هاريس "دفاعا قويا" عن الدعم الأميركي لأوكرانيا ودورها في التحالف عبر الأطلسي.
في المجمل، كشفت المناظرة اختلافات واضحة بين ترامب وهاريس حول كيفية تعامل الولايات المتحدة مع القضايا الدولية، لكن الناخبين الباحثين عن رؤية جديدة وشاملة للسياسة الخارجية ربما "لم يجدوا ما يطمحون إليه" في هذا النقاش، وفق تحليل المجلس الأطلسي.
"خيبة أمل" الناخبينولخص، ماثيو كرونيج، نائب رئيس مجلس الأطلسي، تقييمه للمناظرة بأن الناخبين الذين كانوا يبحثون عن رؤى جديدة أو خطط مفصلة حول السياسة الخارجية خرجوا بـ "خيبة أمل".
ويقول كرونيج إن ترامب وهاريس كررا مواقفهما السابقة من دون تقديم أي مقترحات أو خطط جديدة أو استراتيجيات واضحة للتعامل مع الأزمات الدولية الراهنة.
وبينما دافعت هاريس عن دعمها لأوكرانيا والعمل نحو وقف إطلاق النار في قطاع غزة، أعاد ترامب التأكيد على أن الحروب الحالية لم تكن لتبدأ لو كان في السلطة.
ودار النقاش أيضا حول موضوع الرسوم الجمركية، مع تبادل الاتهامات بين هاريس وترامب بشأن من يتحمل المسؤولية عن التراجع الاقتصادي في بعض القطاعات.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الولایات المتحدة بین هاریس وترامب خلال المناظرة ترامب وهاریس إدارة بایدن إذا کان إلى أن
إقرأ أيضاً:
الجنوب العالمي يعيد صياغة القواعد الدولية
ترجمة - نهى مصطفى -
شهد الجنوب العالمي تحولات كبيرة في ميزان القوى العالمية على مدار العقدين الماضيين، فقد منح النفوذ المتزايد للاقتصادات الناشئة، وصعود الصين كقوة عظمى، والتوترات بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، والتنافس المتزايد بين القوى العظمى هذه البلدان قوة جديدة في الساحة الدولية.
واستفاد الجنوب العالمي من هذه التحولات عبر بناء تحالفات جديدة، مثل مجموعة البريكس، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا في عضويتها الأولى، وتعزيز التحالفات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي، والسعي نحو تبني أجندة أكثر تأثيرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن الدفاع عن اتفاق باريس بشأن تغيّر المناخ إلى رفع قضايا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، أظهر الجنوب العالمي -الذي يتضمن مجموعة واسعة من الدول التي كانت تخضع في معظمها للحكم الاستعماري في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط- استعدادا متزايدا لتحدي الهيمنة الغربية وإعادة تشكيل قواعد النظام العالمي.
يبدو أن سياسة «أمريكا أولا» التي يتبناها ترامب قد تعرض المكاسب الاقتصادية والسياسية لبلدان الجنوب العالمي للخطر، وستتسبب رفع التعريفات الجمركية في تضييق الخناق على صادرات هذه البلدان، كما أن سياسة الترحيل الجماعي للمهاجرين قد تؤثر سلبا على الاقتصاديات التي تعتمد على تحويلات العمالة، بالإضافة إلى ذلك، سيزيد انسحاب ترامب من الاتفاقيات البيئية العالمية من معاناة الدول المتأثرة بتغير المناخ، ومن المؤكد أن سياساته الاقتصادية قد تؤدي إلى زيادة التضخم داخل الولايات المتحدة، مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة وزيادة تكلفة الائتمان في البلدان النامية التي تعاني من أعباء الديون.
ورغم سياسات ترامب التي قد تظهر احتقارا للعالم غير الغربي، فإنها قد تتيح لبلدان الجنوب العالمي فرصة للاستفادة منها، وقد تحفز سياسات ترامب المعادية لبعض المعايير الدولية على تعزيز التعاون بين دول الجنوب، مما يساعدها على توحيد جهودها وتعزيز مصالحها الخاصة، كما أن نهج ترامب القائم على المعاملات التجارية قد يوفر فرصة لدول الجنوب لاستغلال التنافس بين القوى العظمى لصالحها.
إذا تمكن ترامب من الوصول إلى اتفاق مع روسيا لتقليص علاقتها بالصين، فقد يكون ذلك مؤشرا على أن الولايات المتحدة ستضطر إلى التأقلم مع عالم متعدد الأقطاب، وهو الفهم الذي تبناه الجنوب العالمي. في هذا السياق، يمكن اعتبار ترامب متبعا لتقليد مشابه للرئيس الأمريكي ويليام تافت، الذي استخدم «الدبلوماسية الدولارية» لتعزيز النفوذ الاقتصادي الأمريكي دون ادعاء التفوق الأخلاقي، ورغم أن كلا النهجين يسعى لإعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية، إلا أن الأول يعتمد على التفوق الأخلاقي بينما الثاني يتسم بالصراحة وغياب الادعاءات الأخلاقية.
بالنسبة لبعض دول الجنوب العالمي، قد تُعتبر براجماتية ترامب غير الأخلاقية فرصة لزيادة نفوذها وتعزيز مصالحها الخاصة دون الخضوع للأجندات الغربية المعلنة. لكن بالطبع، تختلف مصالح دول الجنوب العالمي بشكل كبير، فبينما تسعى دول كبرى مثل البرازيل إلى الاستفادة من القوة الاقتصادية العالمية، تختلف احتياجات الدول الأقل ثراء مثل النيجر، مما يعني أن كل دولة ستتبع مسارا مختلفا يتناسب مع أهدافها الخاصة. والجنوب العالمي ليس كتلة متجانسة، بل يتنوع في استراتيجياته، كما يظهر في الحالات المختلفة مثل إندونيسيا التي ترفض الانحياز إلى أي طرف في التنافس بين الصين والولايات المتحدة، أو الأرجنتين التي تحت قيادة خافيير ميلي قد اتجهت بشكل أكبر نحو مواقف أمريكية. من جهة أخرى، توازن الهند بين دعمها التقليدي للدول ما بعد الاستعمار ورغبتها في لعب دور عسكري رئيسي داخل التحالف الأمريكي، مما يعكس مكانتها المتزايدة كقوة موازنة للصين في الساحة العالمية.
على مدار عقود، نجح الجنوب العالمي في تشكيل تحالفات مؤثرة تهدف إلى إعادة صياغة القواعد الدولية التي كانت تخدم مصالح القوى الكبرى، وخلال القرن العشرين، تحت حركة عدم الانحياز، سعى الجنوب العالمي إلى تفكيك الإرث الإمبريالي الغربي، مع التركيز على السيادة والمساواة العرقية والعدالة الاقتصادية، وفي السبعينيات، نظمت دول الجنوب العالمي نفسها في مجموعات مثل مجموعة الـ77 لتحقيق مكاسب كبيرة، مثل إنهاء الاستعمار والمطالبة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واستخدمت منظمات مثل أوبك النفوذ الاقتصادي لتعزيز السيطرة غير الغربية على الموارد الطبيعية، مما أدى إلى تأثير ملموس في مجالات مثل الأسلحة النووية والتجارة والبيئة، مع تعزيز العدالة التوزيعية لتعويض الدول التي تأثرت بالاستعمار.
في ستينيات القرن العشرين، تعاونت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لمنع انتشار الأسلحة النووية والتكنولوجيا ذات الصلة، بهدف الحد من الانتشار، هذا الاتفاق أثار قلق العديد من البلدان في الجنوب العالمي التي كانت تسعى للحصول على التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية، وخشيت هذه الدول من أن يؤدي الاتفاق إلى ترسيخ الأسلحة النووية ومنع القضاء عليها مستقبلا، وبعد سنوات من المفاوضات، تمكنت هذه البلدان من تحقيق تسوية مع القوى العظمى، مما أدى إلى توقيع معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في 1968، ورغم تفضيل المعاهدة للدول التي تمتلك أسلحة نووية، فإنها شجعت على نزع السلاح في الدول الكبرى ومنحت حوافز للدول الأصغر لتطوير الطاقة النووية السلمية.
في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، تجاهلت الولايات المتحدة الجنوب العالمي وأصرّت على تبني جميع البلدان إصلاحات محلية تتماشى مع النظام الليبرالي تحت الهيمنة الأمريكية، كما فرضت برامج التكيف الهيكلي من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي سياسات تقشفية، ورغم ذلك، ساهمت العولمة في توليد ثروات جديدة للعديد من البلدان النامية ودعمت صعود الصين كقوة عظمى، ومع أن العولمة شجعت الديمقراطية في بعض الدول، فإن هذه النتيجة لم تكن دائما مفيدة للولايات المتحدة وحلفائها.
في فترة لاحقة، فتح الرئيس بيل كلينتون الفرص أمام بلدان الجنوب العالمي بتبني النظام الدولي الليبرالي الذي يوزع الرخاء بشكل أكثر توازنا، ورغم انتهاك الولايات المتحدة لبعض المعايير، مثل التدخل في كوسوفو، فإن كلينتون ساعد الدول النامية في استخدام المؤسسات الدولية لصالحها، مما مكنها من التفاوض على صفقات مواتية عبر منظمة التجارة العالمية، ودفع قضايا المساواة بين الجنسين في مؤتمر المرأة في بكين، ودعم المبادرات البيئية مثل بروتوكول كيوتو.
بعد هجمات 11 سبتمبر، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش عن عصر «لا قواعد»، مما أدى إلى استخدام غير مقيد للقوة العسكرية في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى، وأسفر عن وفاة ملايين الأشخاص في الجنوب العالمي، ومارست الولايات المتحدة تعذيب المعتقلين من البلدان النامية، مما فاقم التمييز العنصري ضد المسلمين في الدول الغربية، كما ساهمت العقيدة الإنسانية «المسؤولية عن الحماية» في التدخلات العسكرية التي انتهكت السيادة الوطنية، مثل هجوم حلف الناتو على ليبيا في 2011، وتحت إدارة أوباما، تم استخدام الطائرات بدون طيار في اليمن، مما أدى إلى فوضى وعدم استقرار في المنطقة وزيادة الهجرة الجماعية إلى أوروبا، خاصة أثناء الحرب السورية.
وفي أعقاب الأزمة المالية لعام 2008، اضطرت الدول الغربية إلى التراجع، حيث كشفت الأزمة عن فساد النظام الدولي الليبرالي وأدى ذلك إلى حاجة الغرب للجنوب العالمي، وحلت مجموعة العشرين، التي ضمت اقتصادات ناشئة مثل البرازيل والصين والهند وجنوب إفريقيا، محل مجموعة السبع كمنتدى رئيسي للحكم الاقتصادي العالمي، وفاز الجنوب العالمي بتأثير أكبر في صياغة استراتيجيات التعافي، مثل تدابير التحفيز والإصلاحات المالية، وزاد تمثيله في المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وفي الوقت نفسه، أصبحت مؤسسات غير غربية مثل مجموعة البريكس وأوبك بلس والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية بقيادة الصين منصات نشطة تعمل لصالح الجنوب العالمي.
وصل ترامب إلى البيت الأبيض في 2017 وأدى إلى إبطاء تقدم الجنوب العالمي بسبب تهميشه للمنظمات الدولية، وانسحابه من اتفاقية باريس، وفرضه للتعريفات الجمركية، وسياساته جعلت دول الجنوب أكثر عرضة للظروف القاسية، مثل تأثيرات جائحة كوفيد-19.
في عهد بايدن، لم يحدث تغيير كبير في مواقف الولايات المتحدة تجاه الجنوب العالمي، حيث استمر في بعض سياسات ترامب، مثل الحمائية في التجارة والمشاكل في الهجرة، ورغم إعادة انضمام الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس، فإن بعض التشريعات قد تؤدي إلى عقبات أمام التحول البيئي في البلدان النامية.
وفي المقابل، تحولت العديد من البلدان النامية إلى الصين في السنوات الأخيرة، فقد تمكنت الصين من التحول السريع من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية كبيرة في غضون نصف قرن، مما مكنها من جذب الحكومات والجماهير في الجنوب العالمي، كما أصبحت الصين ممولا رئيسيا لهذه البلدان، حيث تداولت القروض والاستثمارات في السلع الأساسية والمواد الخام والطاقة، واستغلت نقاط الضعف التي ألحقتها واشنطن على نفسها، مثل غزو العراق ورفضها للاتفاقيات الدولية، لتصبح لاعبا رئيسيا في المنظمات المتعددة الأطراف وتزعم تمثيل مصالح العالم النامي.
وتزداد التحديات مع صعود الصين، حيث بدأت تتعامل مع الدول الأخرى كقوة عظمى وليس كشريك، وتُتهم الصين بتطبيق سياسات استعمارية جديدة من خلال فرض شروط قاسية على التجارة والاستثمار واستخدام دبلوماسية قاسية في مناطق مثل أفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. حتى داخل مجموعة البريكس، هناك مخاوف من أن تسعى الصين لتعزيز نفوذها بدلا من دعم مصالح الدول النامية، وعودة ترامب إلى البيت الأبيض قد تعقد الوضع، حيث ستؤثر سياساته الحمائية على الدول النامية بشكل سلبي.
غالبا ما يُفهم تعهد ترامب الانتخابي بشأن التجارة والمناخ والهجرة والضرائب، من منظور الجنوب العالمي، على أنه محاولة لإعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية، عندما يهدد ترامب بالانسحاب من الاتفاقيات الدولية، فإنه يصر على أن الولايات المتحدة قادرة على المضي قدما بمفردها، داعيا الآخرين للانضمام إلى صفه إذا كانوا يعرفون ما هو جيد لهم.
ومن خلال غرس حالة من عدم اليقين بشأن مصداقية الالتزامات الأمريكية، يحفز ترامب البلدان على التحالف بشكل أوثق مع الولايات المتحدة أو المخاطرة بالخسارة، كما أن تخفيضات الضرائب والتعريفات الجمركية التي يقترحها ستؤدي إلى تغذية التضخم، مما يزيد من أسعار الفائدة الأمريكية، ويرفع تكاليف الاقتراض عالميا، ويؤثر بشكل خاص على الدول ذات الديون الكبيرة، وسيؤدي هذا إلى انخفاض قيمة العملات، مما يزيد من تكلفة الواردات ويزيد التضخم ويقلل الإنتاجية في العديد من البلدان النامية، وعلى الرغم من ذلك، تُفسر تعهدات ترامب الانتخابية في الجنوب العالمي كاستراتيجية محسوبة لاستعادة تفوق الولايات المتحدة عبر زيادة تأثيرها على الدول الأخرى أو دفعها للتحالف معها، أو تركها عُرضة لمزيد من عدم اليقين.
سيجد قادة الجنوب العالمي أنفسهم مضطرين لاتخاذ تدابير لحماية مصالحهم في ظل سياسات ترامب، حيث أصبحت مطالب الجماهير المحلية في العديد من البلدان النامية أكثر وضوحا، واستفاد الفقراء والطبقات المتوسطة من العولمة التي تهددها سياسات ترامب، مما سيدفع المواطنين للضغط على حكوماتهم للحفاظ على تلك المكاسب، وستسعى العديد من الدول للبحث عن بدائل للدولار الأمريكي مثل العملات الرقمية وأنظمة الدفع غير الدولارية لتقليص قدرة الولايات المتحدة على فرض عقوبات، كما أن سياسة ترحيل ترامب قد تؤثر سلبا على مكانة الولايات المتحدة في الجنوب العالمي، مما يزيد الانقسام بين الشمال والجنوب ويؤجج الاستياء من السياسات الغربية فيما يتعلق بالعمل المناخي، ويعزز نهج ترامب تشجيع جماعات المصالح في الجنوب العالمي التي تدافع عن الصناعات عالية الكربون واستخراج الوقود الأحفوري، مما يعيق التحول نحو اقتصادات خضراء، هذه الجماعات ستقاوم الإصلاحات المناخية الضرورية، مما سيجعل عملية التحول الأخضر أكثر تكلفة وأبطأ على المستوى العالمي. قد يشجع ترامب، من خلال لامبالاته بالعمل المناخي، الأنشطة المدمرة مثل قطع الأشجار والزراعة غير المستدامة، مما يعزز تغير المناخ ويهدد الأمن الغذائي العالمي.
في الوقت ذاته، قد تكون السياسة الخارجية لترامب محفزة لبعض التغيرات غير المتوقعة، إذا نجح في تخفيف التوترات مع روسيا مع الاستمرار في الضغط على الصين، قد يسهم عن غير قصد في تسريع التحول إلى عالم متعدد الأقطاب، ومن خلال تقليص الصراع مع روسيا، قد يعترف ترامب ضمنا بحق روسيا في الحفاظ على مجال نفوذها، مما يبرر أطروحة العديد من الدول في الجنوب العالمي التي ترى أن النظام الدولي لم يعد مهيمنا من قبل الولايات المتحدة، بل بات أكثر توازنا، وفي ظل هذا النظام العالمي المتعدد الأقطاب، قد تتمكن الدول النامية من استخدام هذه التوترات بين القوى العظمى لصالحها، مستغلة هذه المنافسة لتحقيق مكاسب اقتصادية وأمنية.
ماتياس سبكتور أستاذ مشارك في العلاقات الدولية ويدير مركز العلاقات الدولية في مؤسسة جيتوليو فارجاس في ساو باولو، البرازيل.
نشر المقال في Foreign Affairs