ماذا كان جيمس بالدوين سيفعل؟
تاريخ النشر: 11th, September 2024 GMT
لا تزال للمؤسسات الثقافية الألمانية القدرة على مفاجأتنا بنوعية الفعاليات التي تُقيمها وتدعمها. وهي لا تكتفي بأن تكون منحازة، وأنها تُضيق على الأصوات الفلسطينية، لكنها هذه المرة تتعمد إساءة استخدام رموز النضال نحو العدالة والمساواة، وتطويع رؤاهم قسرًا بما يتناسب مع تعريفها العنصري لمن هو إنسان، وبهذا يكون له حق في الحياة، والمقاومة.
الكاتب الأفريقي الأمريكي، والذي عُرف بنشاطه في حركة الحقوق المدنية، كان واضحًا بشأن موقفه من فلسطين. في 1979 كتب بالدوين رسالة مفتوحة على ذا نيشن The Nation قال فيها: «لكن دولة إسرائيل لم تُنشأ لأجل خلاص اليهود، بل من أجل إنقاذ المصالح الغربية. هذا ما أصبح واضحًا (يجب أن أقول إنه لطالما كان واضحًا بالنسبة لي). فالفلسطينيون يدفعون ثمن سياسة «التقسيم والحكم» البريطانية الاستعمارية، كما يدفعون ثمن الضمير المسيحي الأوروبي المذنب منذ أكثر من ثلاثين عامًا». إستراتيجية التقسيم والحكم هي إستراتيجية إمبريالية طبقتها بريطانيا في الهند، لتُبقي الشعب مقسمًا فيسهل حكمه والتحكم به، لتُطبق هذه السياسة لاحقًا في أراضٍ أخرى، فلسطين إحداها.
عودة إلى «ماذا كان جيمس بالدوين سيفعل؟»، أُقيمت ضمن برنامج المهرجان جلسة حوارية بعنوان «بالدوين واليهود». ولن يكون غريبًا إذا ما اتضح أن المهرجان بأكمله يأتي كمسوغ لتمرير حلقة النقاش هذه. تحاول هذه الجلسة كما يتبين من توصيفها أن تُقيم علاقة بين تهميش السود، وتهميش اليهود في أمريكا. وإذا ما وضعناها في سياق العنوان الرئيسي للمهرجان؛ فسنرى تعمد إساءة تفسير بالدوين، وإساءة استخدام اسمه وإرثه، وحساسيته ضد الاضطهاد. فما يبدو أن المنظمين يريدون قوله هو أن تجربة بالدوين كأسود، ودفاعه عن حقوق الملونين، شبيه بما يمر به اليهود من عِداء واستهداف. ويا أيها المجتمع الأسود في ألمانيا، أنتم الذين تنجرون خلف كل مطالب بتحرير وطنه، دعونا نشرح لكم تعقيد الأمر. ثم يفعلون ما دأبوا على فعله من إعادة تأطير المشكلة باعتبارها اضطهادا يهوديا عوضًا عن كونه استعمارًا استيطانيًا، تطهيرا عرقيا، وإبادة جماعية للفلسطينيين. لا يفوتنا أن خطابا كهذا -فوق أنه خاطئ معرفيًا- هو فوقي وعنصري، يفترض فيه الأبيض أن المجتمع الأسود في ألمانيا بحاجة إلى تثقيف وتوعية، خصوصا بعد أن أثبت المجتمع العربي أنه ميؤوس تمامًا منه.
لا أدري متى ستتوقف المؤسسات الألمانية الثقافية عن إحراج نفسها. فالفعالية في الحقيقة استفزت جميع الأطراف. فمناصرو الاحتلال قاطعوها؛ لأنها تحتفي بأديب ورمز حقوقي عُرف بمعاداته للمشروع الصهيوني. والبقية قاطعوها لما فيها من احتيال وإساءة استخدام لاسم جيمس بالدوين.
الحديث عن مثل هذه الحوادث مهم، ليس للتنفيس عن الغضب فحسب، بل ولمواصلة المشاكسة والإزعاج حتى ولو بالحد الأدنى، وأن نقول إننا نرى ما تفعلون، وأن عيوننا عليكم.
كما نقول دائما، معركة السعي نحو الحرية لا تعرف الحدود. وكما نعرف فبالدوين ليس استثناءً، مالكوم إكس رأى في مقاومة الفلسطينيين صدى للحراك الأسود ضد الاضطهاد الأبيض. مع هذا نرى من يملك الجرأة لأن يجعل الصهيونية ضحية للتفوق الأبيض، لا أداة من أدواته، ويجرأ على أن يسرق منا رموزنا، ويتعمد تشويه صورة الثلة القليلة من المحبين الذين يُحافظون على العالم متماسكًا - حسب تعبير بالدوين.
كل عام وأفكارك حية يا جيمي. وكل عام وأنت شوكة في حلق كل مُضطهد.
نوف السعيدية كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الكيمياء تفكك شفرة الذهب الأسود الذي حنط المومياوات المصرية
كشفت دراسة فرنسية للمومياوات الفرعونية عن واحدة من أغرب المفارقات في التاريخ القديم، والتي كان بطلها البحر الميت، ذلك المسطح المائي العجيب الذي له من اسمه نصيب، حيث لا حياة تدب في مياهه المالحة، وكان في المقابل مصدرا لواحدة من أهم المواد التي منحت الصمود للمومياوات الفرعونية، فظلت باقية لآلاف السنين، متحدثة عن أحد أهم معالم الحضارة المصرية القديمة "التحنيط".
ومنذ بدأ العلماء يفحصون المومياوات المصرية القديمة حيرتهم المادة السوداء التي تغلف الأجساد، لتثير لديهم تساؤلات عن توصيفها والمواد التي دخلت في تصنيعها وأسباب استخدامها، وجاءت الدراسة الفرنسية التي قادها البروفيسور ديدييه جورير من معهد أبحاث الكيمياء بباريس، والمنشورة في دورية "جورنال أوف أناليتكال أتوميك سبكتروميتري" لتجيب ليس فقط عن هذه الأسئلة، لكنها ذهبت لأبعد من ذلك، اكتشاف أن أحد أبرز مكونات تلك المادة ليس من أرض مصر.
وقبل هذه الدراسة كان المتوفر عن تلك المادة أنها خليط من الزيوت والشمع، لكن الجديد الذي تم إثباته بالوسائل العلمية أنها تحتوي أيضا على "الذهب الأسود" أو ما يعرف بـ"البيتومين". والمدهش أن التحاليل الدقيقة كشفت أن مصدره يأتي من البحر الميت الذي يبعد مئات الكيلومترات شرقا.
والبيتومين مادة سوداء لزجة تشبه القطران، تتكون طبيعيا من تحلل المواد العضوية على مدى ملايين السنين، وتستخرج غالبا من رواسب النفط أو توجد في الطبيعة على شكل كتل أو طبقات، كما هو الحال في البحر الميت.
ويتميز النوع المستخرج من البحر الميت بغناه بعنصر "الفاناديوم" الذي تبلغ نسبته إلى النيكل ما بين 0.5 و0.2. أما الزيوت والبيتومينات من مناطق أخرى بالشرق الأوسط فتظهر تباينا كبيرا في محتوى النيكل والفاناديوم، وتختلف نسبتهما عن تلك الخاصة بالبحر الميت. لذلك استطاع الباحثون الإثبات بما لا يدع مجالا للشك أن البيتومين المستخدم في المومياوات المصرية مصدره البحر الميت، كما يؤكد البروفيسور جورير من معهد أبحاث الكيمياء بباريس، في تصريحات خاصة للجزيرة نت.
ويقول جورير "كل المومياوات التي قمنا بدراستها تقريبا كانت تحمل بصمة بيتومين البحر الميت، وما يعزز دقة تحليلنا أن فريقنا يدرس حاليا مومياء بشرية تحتوي على بيتومين لا يتطابق مع تركيب البحر الميت، من حيث نسبة الفانديوم والنيكل".
إعلانويشير إلى أن الصراعات الإقليمية ربما تسببت أحيانا في تعطيل الإمدادات، مما اضطر المصريين للجوء إلى مصادر بديلة "كما تثبت المومياء التي نقوم بدراستها حاليا" لكن كان البحر الميت بشكل عام هو المصدر الإستراتيجي للمصريين القدماء، وربما كان أحد أسباب ذلك هو سهولة جلب البيتومين من هناك، حيث كانت كتله تطفو على سطح الماء مما جعل استخراجها سهلا نسبيا.
ويضيف أن "تجارة بيتومين البحر الميت لم تكن مجرد تجارة، بل كانت قضية إستراتيجية دفعت المصريين إلى محاولة السيطرة على المنطقة وضمان استمرار وصولهم إليها".
تركيبة ثابتة للمادة السوداءولم يلاحظ الباحثون أي تغيرات في تركيبة البيتومين المستخدم ضمن المادة السوداء، سواء فيما يتعلق بالعمر الزمني، أو الموقع الجغرافي (صعيد مصر مقابل شمالها) أو نوع الطيور المحنطة، وكذلك المومياوات البشرية.
ويقول جورير إن "الاستخدام الموحد لبيتومين البحر الميت ربما يشير إلى ممارسات طقسية موحّدة أو معتقدات دينية مشتركة في مناطق مختلفة من مصر، فرغم أن المصريين القدماء لم يكشفوا عن وصفات أو تقنيات التحنيط التي استخدموها، فإن وجود كمية صغيرة من بيتومين من نفس المصدر في كل المومياوات يوحي بوجود وصفة موحدة نسبيا".
ويثق البروفيسور في دقة نتائجهم وما توصلوا له في الدراسة، مشيرا إلى أن التقنيات التي استخدموها، وهي "انبعاث الأشعة السينية المستحث بالبروتون" و"الرنين المغناطيسي الإلكتروني" تتميز بكونها غير مدمرة (العينة تظل سليمة) وسهلة التنفيذ (القياسات مباشرة) مما يضمن تكرار النتائج، والأهم من ذلك أنها تعطي نتائج كمية دقيقة.
ويقول أيضا "هذا يميزها عن التقنية الأكثر شيوعا سابقا في دراسة المادة السوداء في المومياوات، وهي الكروماتوغرافيا الغازية الموصولة بمطياف الكتلة، حيث تتطلب التقنية الأخيرة عدة خطوات لفصل المواد كيميائيا (وهي تقنية مدمرة) ويمكن أن تؤثر تلك الخطوات على النتائج إذا اختلفت بين العينات، وقد أدت هذه الصعوبة إلى جدل طويل في الماضي حول وجود أو عدم وجود البيتومين في المومياوات، كما أن هذه التقنية ليست كمية".
إعلانويضيف أن "ما توصلنا له في هذه الدراسة شجعنا على استخدام نفس التقنيات، لدراسة مومياء بشرية جميلة من العصر المتأخر في قصر اللوفر، وتتميز بأنها مغطاة بالكامل بطبقة نقية من البيتومين، وهو أمر فريد من نوعه حسب معرفتنا، لكن هذا البيتومين لم يكن من البحر الميت، ونحن الآن بصدد كتابة المقال العلمي المتعلق بهذه الدراسة".
ويشرح جورير آلية عمل الأدوات المستخدمة في الدراسة، موضحا أن أداة انبعاث الأشعة السينية المستحث بالبروتون تعتمد على تسليط حزمة دقيقة من البروتونات (وهي جسيمات مشحونة) على العينة. وعندما تصطدم هذه البروتونات بذرات العناصر داخل المادة، تحدث "اهتزازا" في الذرات مما يؤدي إلى إطلاق أشعة سينية ذات طاقات مميزة لكل عنصر، ومن خلال قياس هذه الأشعة السينية يمكن للعلماء معرفة أي العناصر موجودة في العينة وبنسب دقيقة.
أما "الرنين المغناطيسي الإلكتروني" فهو جهاز يشبه أذنا حساسة تلتقط الهمسات المغناطيسية الصادرة عن بعض الجزيئات داخل المواد، مما يساعد العلماء على تحديد نوعها ومصدرها دون الحاجة لتدمير العينة.
ويقول جورير إنه "من خلال فحص 14 مومياء لطائر (سباع الجوارح وأبو منجل) من فترات مختلفة (من حوالي 1077 ق.م إلى 476 م) وعينات من مومياوات بشرية، وكبش، وتمساح، استطعنا تحديد أن المادة المومياوات السوداء تتكون من راتنجات نباتية، وشمع النحل، ودهون حيوانية، وزيوت نباتية، والبيتومين".
ويضيف "استطعنا أيضا تحديد نسبة عنصري النيكل والفاناديوم، وهما عنصران مهمان يستخدمان بصمة لتحديد مصدر البيتومين، واكتشفنا أن نسبة النيكل إلى الفاناديوم تتطابق مع النسب الموجودة في بيتومين البحر الميت، مما يعني أن المصريين القدماء استوردوه من هناك".
إعلان حرارة بطقوس التحنيطومن المفاجآت أيضا التي كشفت عنها الدراسة أن بعض العينات حملت آثارا تشير إلى تعرضها للحرارة، مما يدل على أن عملية التحنيط ربما شملت تسخين المواد أو استخدامها بعد معالجتها بالنار، وهو أمر يفتح الباب لتفسير جديد لطقوس التحنيط.
وعندما يتعرض البيتومين للحرارة تتغير بنيته الداخلية، وبالتالي تتغير الإشارات المغناطيسية التي ترصدها أداة "الرنين المغناطيسي الإلكتروني" وقد لاحظ الباحثون في بعض العينات تراجعا في الإشارة المغناطيسية أو تغيرا بطبيعتها، مما يشير إلى أنها تعرضت لتسخين أو معالجة حرارية.
كما أن التعرض للحرارة قد يتسبب في تغير نسب العناصر أو يكون سببا لفقدان بعض المركبات الطيارة، وقد لاحظ الباحثون باستخدام أداة "انبعاث الأشعة السينية المستحث بالبروتون" أن بعض العينات اختلفت نسب المعادن فيها عن المعتاد، مما يدعم فكرة أنها تعرضت لحرارة.
وبهذا الكشف المهم، لم يكتف العلماء -بقيادة البروفيسور جورير- بفك شفرة مادة سوداء عمرها آلاف السنين، بل أعادوا رسم صورة مدهشة لمجتمع قديم لم يكن منغلقا بل كان منفتحا على العالم، وحريصا على اختيار أدق المواد للحفاظ على أجساد أحبائه في رحلتهم عبر الزمن.