الغـربُ غـربـان لا غـربٌ واحـد
تاريخ النشر: 11th, September 2024 GMT
كما هي النّـظـرةُ الماهـويّـة الجـوهرانيّـة إلى الأنـا والـتّـراث والماضي سائـدةٌ في الوعـي العـربيّ المعاصر، كذلك هي سائـدةٌ النّـظـرةُ عيـنُـها إلى الغـرب والرّؤى والـتّـمثّـلات المنسوجـة حـوله. الـنـظرُ إلى الغـرب - بوصـفـه مفهـومـًا مُـنَـمَّـطـًا دالاًّ على وضعيّـةٍ أو حالـةٍ ثابـتـة تـتـكرّر على مثـالـها - ليس سـمـةً خاصّـةً بتـيّـارٍ فـكـريّ بعـيـنـه يـنـفرد بها عن غيره، بـل هي شامـلـةٌ تـيّـارات الفـكـر جمـيعَـها.
يعـني الغـربُ، عنـد فـريـقٍ فـكـري، نـقيـضَ ما يـعـنيـه عنـد فـريـقٍ ثـانٍ، حتّى لَـيَخَـالُ القارئ في خـطابـَي الفـريقـيْـن أنّـهـما يـدوران على مـوضوعيْـن متـبايـنـيْـن لا على المـوضوع عيـنِـه! هذا هو ذاتُـه ذلك التّـقاطُـب في تـمـثُّـلات الأنـا والمـوروث الذي نصـطـدم بـه ونحـن نـقـرأ خطـابـيْـهـما في المسألـة: الانـقـسام على المـوضوع الواحـد في صورة رؤيـتـيْـن متـقـابلـتـيْـن. نحـن في هـذا الباب، إذن، إزاء سـرديّـتـيْـن عـن الغـرب تُـشـبهان في التّـباعُـد والتّـقاطُـب السّـرديّـتـيـن عن الماضـي والمـوروث، لـكنّهـما - في الآن عيـنِـه - تـتـواطـآن مـعًا على حجب «حقـيقـة» ذلك الموضوع المَـحْـكيِّ عنـه، أو على طَـمْس ما يُـداخِـله من تـعـدُّدٍ وتـناقـضٍ أو تـوتُّـر بين وجـهات التّـطوّر الـذّاتيّ، والإبـقاءِ فـقـط على ما يُـمْـتَـكَـن به القـولُ إنّ الغـرب هو، بالتّـعريف، هذا على وجْـه الإجمـال والحصر وليس شيئـًا آخـر. تـكـفينا نظـرةٌ سريعة نلـقيها على الخطابيـن الأشـدّ اشـتباكـًا، داخل الوعـي العـربيّ، والمتمـحوريْـن حـول الأصـالة والحـداثة لنـقـف على تلك الجـوهـرانيّـة الجامعـة وذلك التّـقاطُـب المُـبايِـن.
صورة الغـرب في خطاب الأصاليّـيـن صورةٌ مظلِـمـةٌ قاتمـة لا شيء في مـلامحـها يسُـرّ النّاظـريـن. إنّـه مـوطـن الغـزوات البـربريّـة لعالَـم العـروبة والإسلام؛ منذ الحمْـلات الصّـليـبـيّـة على فلسطيـنَ والمشرق العربـيّ حتّى غـزو العـراق وأفغـانستـان؛ مـرورًا بمـذابح العرب المـوريسكـيّـين وطردهم الجماعـيّ من أرضهم وديارهم؛ ثمّ بجرائم الاحتلال الاستعماريّ في حقّ شعوب مستعمَـرات العالَـم ذاك، واغتـصاب فلسطيـن من جماعات يهوديّـة مسلّـحة قادمـة من أوروبا وأمريكا ومـدعومة من قِـبَـل بريطانيا وقـوى الاستعمار. إنّـه منبع الشّـرور الحديثة التي ما تـوقّـفت فظاعاتُـها حتّى الآن؛ ومنها النّـهبُ والهيمنـة والعنصريّـة والصّـهيونيّـة والحـروب الظّالمة وصولًا إلى العـولمة وتـدميـر الكيانات أو تمـزيـقها. إنّ الغـرب، في هذه الرّواية الأصاليّـة النّـاقـدة والمعاديـة في آن، مجـرّدٌ من كـلّ أخلاقـيّـةٍ إنسانيّـة ولا يـردعـه مبـدأٌ أو عُـرْفٌ أو قـانون عن ركـوب مَرْكب القـوّة الغاشمـة والبطش لتحقيق مصالحـه، حتّى لو سَـلَـك إليها طريق الإبـادة التي ما تـورّع، في الماضي، عن القيام بها: في الأنـدلس العربيّـة؛ وفي القـارّة الأمـريكيّـة؛ وفي أسـتراليا؛ وأثـناء الحقـبة الكولونياليّـة في أفريـقيـا وآسيا وأمـريكا اللاّتيـنيّـة. وهو، قـبل هذا وبعده، يُـبدي أشـدّ العـداوة للإسلام، أكـثر من غيره من الأديان والإيـديولوجيّـات، وللمسلمـيـن أكـثـر من غيـرهم من أمـم الأرض. بكلمـة؛ ليس في السّرديّـة الأصاليّـة ما يمكن به تهـذيـبُ صـورة الغـرب أو، على الأقـلّ، التّـخفيـف من حِـدّة سوئـها وقـتامـتها ولو من طريـقِ استـدراكٍ يُـلـقـي الضّـوء على وجـهٍ آخـر للغـرب مغايـر للأوّل.
في المقابـل، تبـدو صورةُ الغـرب - في خطـاب دعـاة الحـداثة - أضْـوَأَ وأَشَـعَّ من الصّورة السّابقـة، حتّى لا نـقـول إنّها تكـاد أن تكون نورانيّـةً عنـد بعض هـؤلاء من فرط المغالاة فيها. الغـرب في هذه السّـرديّـة، هو الرّمز الأَشْـمـخُ للمدنـيّـة والحضارة الممتـدّتيـن منـذ خمسمـائـة عـام تُظَلِّـل أغصانُـهما الوارفة مساحةَ العالم كـلِّـه؛ هو النّهضـة التي أنجبت ذائقـةً رفيعة ورؤيـةً جديدة إلى الأدب والفـنّ؛ وهو الإصلاح الـدّينيّ الذي كَـبَـح سلطان رجال الـدّين؛ وهو الثّـورة العلميّـة التي طـوّحت بالرّؤى الخـرافيّـة إلى الطّبيـعة والإنسـان ويسّـرت شروط الحياة؛ وهو العـقلانيّـة التي أعـلتْ سلطة العـقـل ونصّـبـتْـه حاكـمًا؛ هو الثّورة الصّـناعيّـة التي قلبت وجْـه العالم والإنـتاج؛ وهو عصـر الأنـوار الذي طـوى صفحـةَ فـكـر العصـور الوسطى؛ والثّـورات السّياسيّـة التي أدخلت أمم الغـرب إلى قلب التّـاريخ. ثـمّ إنّـه ثـورات التّـوحيد القـوميّ التي أنهت عـهـد الـدّويـلات والإمارات؛ وهو العلمنـة التي انْـفـكَّ بها الاشـتـباكُ بين السّيـاسيِّ والـدّينـيّ؛ وهو الـدّيمقراطيّـة التي أعادت توزيع السّـلطة داخـل المجتمع على نحـوٍ مـتوازن. الغـرب، في هذه الرّوايـة، منـبـع القيـم الكبرى: التّسامـح، والحريّـة، والمساواة، والحـقّ في الاخـتلاف، والاعتـراف وسوى ذلك. بكلمة، ليس في سرديّـة المشـغوفين بالغـرب ما يسـتـثيـر استـفهامًا عـمّـا إذا كـان المَـحْـكيُّ عن هذا الغـرب يطابق، فـعلًا، واقـعه أو يعبّـر عنـه بـقدرٍ مّـا من الأمـانـة، أو عـمّا إذا كان غـربٌ آخرٌ كريـهُ الوجـهِ والسّـيرةِ يخـتفي وراء هذه الصّورة المُـلَمَّـعـة.
هل جـذّف هؤلاء وأولئك ضـدّ تـيّـار الحقيـقة وأَوْعبـوا فيما لديهم من رصيـدٍ لانـتـحال صـورةٍ للغـرب بـرّانيّـةٍ عنه؟ لا؛ قد يكونوا بالغـوا في التّـعريف بـه، على جهة السّلب وعلى جهة الإيجاب، لكنّـهم ما عَـدَوْا الحـقَّ فيما قـالوه عن الغـرب ولا زوّروا شيئـًا من سَـمْـتِـه الذي عُـرِف بـه في التّـاريخ. الشّيءُ الذي يؤاخَـذ به هـؤلاء وأولئك - وهو مـأخـذٌ ليس هيّـنـًا على أيّ حـال - هو أنّـهم قـدّمـوا، كـلٌّ من ناحيـتـه، سـرديّـةٌ انـتـقائـيّـة عنه اصطفى فيها كـلٌّ منهم ما عَـنَّ له أن يصطفيـه من سمات الغـرب لينتصـر به لروايتـه: وعنـدي أنّ هذا فـعْـلٌ إيـديولوجيّ صارخ. نعم، الغـرب هو كذلك: هو هذا وذاك؛ الغـربُ المرسوم بريشـة الأصالـيّيـن، بما فيه من بـؤسٍ وفظاعـة؛ والغـرب المنحـوتُ بإزميل الحـداثـيّـين، بما يُضـمِـرهُ من فاتـن المحاسـن. وعليه، حيث الغـربُ هذا ونقيـضُه معًا، فهو ليس ماهيـةً واحـدةً مغلـقـة على نـفسها، كما يـقـدّمـه الخطابـان معـًا، بل هو منطـوٍ على تَـعَـدُّدٍ؛ أعنـي على تـناقضاتٍ في تكوينـه واشتـغالـه وتطـوّره: في عـلاقـته بنفسه وكيانه الذّاتيّ، وفي علاقـته بالعالم من حـولـه.
عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
خلافات أمريكا وأوروبا.. هل هي بداية انقسام حضارة الغرب وماذا سيفعل عندها العرب؟
صحيح أنّه لا يمكننا الجزم بأن الغرب يشهد حاليا انقساما حادا قد ينتهي بقطيعة بين أبرز مكوناته، لكننا نستطيع أن نتأكد من خلال قراءة حضارية للسياق السياسي الدولي وما وصل إليه في حاضرنا، ونشاهد عيانا كيف أنّ أوروبا والولايات المتحدة بينهما خلافات عميقة قد تأخذ أبعادا أخرى وتعرف انزلاقات حادة في أيّ وقت، خاصة حينما تقود دولها التيارات اليمينية المتطرفة والدينية المحافظة، وينتج عن حكمها وسياساتها الدولية نوع من السقوط الأخلاقي في تعاملها مع الشعوب الأخرى. لقد حدث ذلك تاريخيا إبان الحقبة الاستعمارية ورأينا كيف تحولت إمبراطوريات لا تغيب عنها الشمس إلى مجرد دول قومية صغيرة المساحة وقليلة السكان، بعد أن عاثت في مستعمراتها ظلما ونهبا لعقود طويلة.
وبتكبير رؤيتنا لهذا المشهد الحضاري سيبدو لنا أكثر وضوحا، ويمكننا عندها قراءته بشكل عام من خلال اللحظة التاريخية التي التقطنا منها صوره، نحن نشاهد بأمّ أعيننا إسرائيل، صنيعة أوروبا وأمريكا والمشكّلة من عرقيات غربية بشكل أساس، تتدثر بـ"السامية" المفترض أنها ميزة شرقية، حتى تحمي وجودها وفكرتها الصهيونية، ونرى كيف أن الولايات المتحدة دعمت جيش الاحتلال بأحدث تكنولوجيا السلاح والذخيرة وتواطأت سياسيا على إبادة شعب تريد اقتلاعه من أرضه.
وداخل هذا المشهد لا تخطئ العين المقارنة بين غزة وأوكرانيا، حيث لا يمكن للعقل الإنساني أن يتجاوزها مهما حاول الدوس على ضميره، ولعل هذا ما جعل أوروبا -بشكل عام- تأخذ مواقف رافضة للعدوان الإسرائيلي على غزة، في مقابل تورّط الولايات المتحدة في سفك دماء الفلسطينيين بمشاركتها المادية إلى جانب جيش الاحتلال الصهيوني، إلى أن جاء ترامب الذي أعطى ظهره لأوكرانيا وحاول التعامل مع غزة بنوع من الوقاحة التي لا تخلو من العقلانية، حيث أنّ عينه كانت على إمكانية الضغط على حماس وترهيبها والأخرى كانت على سلاحها الذي رفضت رفضا قاطعا تسليمه أو التخلي عنه.
"لقد كان ترامب محقّا في كل شيء"؛ عبارة وضعها الرئيس الأمريكي المثير للجدل على قبعة بيسبول حمراء لطالما رافقته ولا تزال، إنها عبارة تختصر عناده واعتداده بتصوراته وقراراته التي لم تشاطره فيها شرائح واسعة من الأمريكان اختارت أن تضع ثقتها في جو بايدن وأن تشكّ في ما سيحققه لها من وعود بدت لها غير قابلة للتصديق، وها هو اليوم ترامب يُذكرها بفداحة خطئها وفظاعة خطيئتها، فهو كان على الدوام على حقّ في كلّ ما حذّر الأمريكان منه (حسب قناعته العمياء طبعا).
وإذ يحاول ترامب كسب شرعية من خلال هذه العبارة يقنع بها الداخل الأمريكي بصوابية تواجهاته الحمائية التي يهدف من خلالها الحفاظ على الاقتصاد الأمريكي عبر فرض المزيد من الرسومات الجمركية على الاقتصاديات الكبرى في العالم، فهو يسعى إلى فرض هيمنة أمريكا في نسختها الترامبية على العالم، بما فيه أوروبا التي تقاسم أمريكا الحضارة والثقافة والعرق والدين والتاريخ، ولا تفرقهما سوى الجغرافيا.
لقد نحت الولايات المتحدة في عهد ترامب إلى اعتبار مصالحها القومية هي المرجع وهي المصلحة الثابتة، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية ربما، تتبنى سياسة خارجية مختلفة تجاه حلفائها في أوروبا وكندا، الأمر الذي يطرح إشكالية بداية تصدع الحضارة الغربية.
على صعيد الاقتصاد، خلقت رغبة ترامب الجامحة في تحصيل المزيد من الأموال من خلال فرض رسوم جمركية على السلع القادمة من الاتحاد الأوروبي ردّ فعل مكافئ ومعاكس في الاتجاه لدى الأوروبيين، الذين أصبحوا أكثر تشككا من استمرار علاقات "أخوية متينة" مع الضفة المقابلة للأطلسي، ومن هنا يبدأ الصدع في الاتساع.
وفي الجانب العسكري نجد أنّ ضغوط أمريكا وتنصلها من الاستمرار في حماية الدول الأوروبية دون مقابل يصر ترامب على أن تدفعه إن أرادت بقاء الغطاء العسكري الأمريكي مستقبلا، وكذلك موقفها تجاه أوكرانيا، كل ذلك سيدفع بدول الاتحاد الأوروبي إلى تفعيل استراتيجية الدفاع المشترك، ما قد يفضي إلى تفكك حلف شمال الأطلسي الذي يشكّل أبرز مظهر عسكري يوحّد الحضارة الغربية، بل حتى على مستوى الدول ربما تلجأ كل دولة على حدة إلى وضع خطط وتصورات بشكل منفرد لأمنها القومي.
لقد تضاعف شكّ أوروبا في روسيا بعد أن غزت أوكرانيا وقطعت كل يقين في بوتين تكون قد عوّلت عليه قبلها، وحسمت دول القارة في مسألة إيجاد مصدر طاقوي بديل يُغنيها عن بوتين نهائيا، وأصبح انعدام الثقة في الشرق هو سيد الموقف، واليوم يبدو أنّ الشيء نفسه سيحدث مع الولايات المتحدة التي يقود ترامب علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي نحو حالة من اليقين ببقاء التهديد الأمريكي أو على الأقل عودته في المستقبل إن لم يستمر، ما يعني أنّ القارة العجوز في بحثها الأكيد عن بدائل اقتصادية وعسكرية لأمريكا ستتقوقع على نفسها أكثر من أيّ وقت مضى بعد أن تتجمد العلاقات غرب الأطلسي أيضا.
"متلازمة بوتين" هذه التي يبدو أنّ أوروبا قد أصيبت بها مجدّدا مع الولايات المتحدة بسبب سياسات ترامب، حيث لا تضمن الأيام حتى وإن ذهب أن تأتي برئيس آخر يشبهه في عناده أو ربما يفوقه في عجرفته، ستلقي بظلالها ليس على الجبهة الأطلسية فحسب، بل على العالم أجمع، وستسعى كل دولة إلى حماية اقتصادها ودعم أمنها واستقرارها لوحدها وبشكل ذاتي بعيدا عن الآخرين.
ولا يمكن لهذا المشهد الحضاري أن يكتمل إلا بطرح سؤال حول منطقتنا ربما يجد جوابا عن مصيرها: أين سيكون العرب في هذه الحالة المستعصية والمتأصلة من الأنانية التي ستسيطر على دول العالم؟ وكيف سينظرون إلى اقتصادياتهم وأمنهم القومي؟ هل سيتشرذمون أكثر مما هم عليه اليوم، أم أنّ رياح التغيير الحضاري قد تهبّ مجدّدا لتفرض ترتيبات جديدة على المنطقة؟