عادل حمودة يكتب: في صحة أحمد زكي (9)
تاريخ النشر: 11th, September 2024 GMT
عندما تفشل الصحف فى الحصول على أخبار تخترعها.
لم يقترب صحفى واحد من «أحمد زكى» فى أيامه الأخيرة رغم سيل الأخبار اليومية التى تنشر عنه.
لكن لم تكن فى معظمها صحيحة إلا ما سربه الأطباء منتهكين قوانين السرية والخصوصية أو ما نقل عما أنشر دون الاعتراف بالمصدر.
كانت التعليمات صارمة تفرض حصارا على غرفته فى المستشفى ولا يدخلها سوى «سمير عبد المنعم» و«محمد عبد السلام» وبشرط أن يضع كل منهما كمامة على الأنف وقفاز من المطاط فى اليدين.
وحاولت صحفية فى جريدة «الحوادث» أن تتخفى فى ثياب ممرضة لتدخل حجرته وتصوره ولكنها فشلت وعرضت صحفية أخرى فى مجلة «صباح الخير» رشوة على الممرض المناوب الدائم فى حجرته ولكنها طردت من المستشفى.
أما ما نشرت عنه فكان بموافقة منه وتشهد على ذلك رغدة.
وفى كثير من الأحيان كنت لا استجيب لما يريد ومنعت نشر أكثر من انفراد عنه رغم إلحاحه فى النشر.
كانت حالته قد وصلت إلى تدهور غير مسبوق.
أصبح نحيفا بعد أن فقد الكثير من وزنه. وسدت شهيته فى وجه الطعام. وأجبرت الأطباء على تغذيته بالمحاليل عبر خراطيم تخترق الأوردة. وضغط الورم الذى أصاب الرقبة على الحلق جعل الطعام يرتد من المعدة إلى الحلق. وضاق التنفس مما فرض عليه استخدام أنبوبة أكسجين غالبية الوقت. وعانت الرؤية من غمامة على العين. وبدأ النطق فى العجز عن التعبير عما يريد. ولم يعد قادرا على الوقوف إلا لدقائق معدودة.
هكذا كانت حالته وصورته يوم طلب هو وبنفسه من «عماد الدين أديب» أن يصور معه حوارًا تليفزيونيا عفويا يتحدث فيه عما يخطر على باله.
ولكن «عماد الدين أديب» رفض أن يرى جمهوره «أحمد زكى» آخر غير الذين يعرفونه.
وكان ذلك هو الطلب الوحيد الذى رفضه له «عماد الدين أديب».
لكن ذلك لم يمنع صائدى الوهم فى المياه العكرة من اتهام «عماد الدين أديب» بأنه استغل مرضه فى الدعاية لفيلم «حليم».
والحقيقة أن عقد فيلم «حليم» كان نوعا من الدعم المالى الراقى له بعد أن وجد نفسه لا يجد فى حساباته البنكية ما يستره فى أيامه الأخيرة حتى لو سددت الدولة تكاليف العلاج كما أنه لم يكن ليملك شيئا ما مناسبا يتركه إلى ابنه الذى لم يكمل تعليمه ليعيش عليه بعد وفاته.
فى الوقت نفسه بدأ بعض العاملين فى المستشفى يأتون بالمرضى العرب أو أسرهم أو زوارهم ليشاهدوه وهو على مقعده المتحرك بالقرب من المسجد ونالوا كثيرًا من المال.
وبعد أن كانت إدارة المستشفى سعيدة بالدعاية التى حققها وجوده فيها خاصة فى الفترات الأولى للعلاج فإنها بعد تدهور حالته سعت لإبعاده خارجها بقدر ما تستطيع بحجة رفع حالته المعنوية وشجعت عودته إلى الفندق.
لكن السؤال الذى طرحته على الأطباء:
ــ لم سمحتم له بتمثيل فيلم حليم وهو فى حالته الصحية الحرجة؟
أجاب الدكتور «ياسر عبد القادر» على السؤال فى رسالة عتاب نشرتها «صوت الأمة» تحدث فيها عن علاقة الصداقة الإنسانية التى تربط بيننا والتى زادت بعد أن تولى علاج الفنان «أحمد زكى» ورعايته التى وصفها بأنها «فائقة».
بدأ العتاب الذى «لن يفسد ما بيننا» بسبب ما أثير فى «صوت الأمة» بعد الوفاة وتعرض الصحيفة «إلى ما اسماه فنية العلاج» «التى مست شخصى وفريق الأطباء المعاون» وتعرضت إلى مدى «خطورة قيام الفنان «أحمد زكى» بالتمثيل وتأثيره على نمو المرض ونشاط المريض».
وحدد الدكتور «ياسر عبد القادر» رده فى نقاط محددة ومتتالية:
ــ إن العلاج جرى وفق بروتوكول وقواعد اتفق عليها بين فريق الأطباء المصرى والخبير الفرنسى «شيفاليه» وجرى تنفيذ ذلك بدقة متناهية والتزمنا به منذ بداية العلاج وحتى نفاذ إرادة الله سبحانه وتعالى بالعرض أسبوعيا على الخبير الفرنسى وتحت إشراف وعلم الدكتور محمد عوض تاج الدين وزير الصحة والسكان.
ــ إن القرار الطبى من جانبنا بالسماح للفنان أحمد زكى بالتمثيل بعد المرض قد اتخذ بعد أن طلب هو نفسه من الخبير الفرنسى السماح له بذلك بل إنه سألنا عن تأثير التمثيل على مرضه وصحته وعلاجه ورغم علمنا كفريق طبى مصرى بعدم وجود مانع أو خطورة من القيام بتمثيل دوره إلا أننا انتظرنا رد الخبير الفرنسى الذى أثنى على القرار وطالبه بالقيام بالتمثيل مؤكدا أن ذلك يرفع من روحه المعنوية ومن ثم يزيد من كفاءة جهازه المناعى وهو أمر حيوى فى حالته الصحية.
ــ لا يخفى عنكم وكنتم تتابعون بشغف المصريين المعجبين بالفنان أحمد زكى إننى كطبيب معالج لا أستطيع أن أعين حراسة تمنع المعجبين وهم ملايين من المصريين وعرب وأجانب من تنفيذ تعليماتى بمنع الزيارة عنه والتى كنت أكررها ليل نهار مع إدارة المستشفى.
ــ أما بالنسبة لما أثير عن اكتسابى الشهرة نتيجة علاج الفنان أحمد زكى فإننى لا أنكر أننى شرفت بأن أكون الطبيب المعالج لفنان قدير وشخصية جميلة مثل أحمد زكى ولكن يعلم الله أننى قد أديت عملى بكل أمانة وصدق وحب دون أن انتظر مقابلا لذلك.
ــ إننى بدأت علاقتى بالفنان أحمد زكى كطبيب معالج لمريض وتطورت تلك العلاقة لما له من كاريزما قوية للغاية تجذب كل من يتعامل معه إلى علاقة صداقة حميمة وراقية وسامية جعلتنى أخرج من طور الطبيب المعالج إلى اعتباره أحد أفراد أسرتى المقربين ورغم علمى بخطورة مرضه إلا أننى كنت أدعو الله أن يمد فى عمر هذا الفنان القدير.
ــ بعد كل ما سبق عرضه أرجو من سيادتكم لما أعرفه عنكم من نبل أخلاقكم وتمسككم بالقواعد القانونية والتزامكم الدائم بحرية النشر أرجو نشر الرد كما هو دون ما حذف أو إضافة واعتبر أن فى حالة التزامكم بهذا أن العلاقة بيننا صافية وأن ما فى صدرى قد زال وانتهت كافة المشاكل الشخصية والقانونية بيننا.
كتبت هذه الرسالة يوم ١٣ أبريل ٢٠٠٥ ونشرت فى العدد التالى لوصولها.
وفيما بعد لمع نجم الدكتور «ياسر عبد القادر» واختير ليكون طبيبا معالجا لمبارك ومتابعا لحالته الصحية بعد أن أصيب بسرطان البنكرياس وتولى الاتفاق معه صهره رجل الأعمال «محمود الجمال».
والحقيقة أن حالة «أحمد زكى» تدهورت خلال تصوير فيلم حليم حتى أن منتج الفيلم «عماد الدين أديب» استأجر غرفة فى فندق قريب من المستشفى لواحد من الفريق الطبى المعالج ليظل إلى جواره ليل نهار فى البلاتو لبعد سكنه فى حى مدينة نصر.
وخلال تصوير الفيلم أيضا سمعنا خبرًا عن ظهور دواء جديد لعلاج السرطان فراح «عماد الدين أديب» يجرى اتصالات متعددة ليعرف كيفية الحصول عليه.
واتصل بالدكتور «ياسر عبد القادر» الذى كان فى باريس ليسأله عن مدى صلاحية الدواء لعلاج حالة أحمد زكى؟
وبقينا جميعا فى انتظار المعجزة.
هل يمكن الحصول على هذا الدواء فى الوقت المناسب؟
هل يناسب الحالة بعد أن سيطر السرطان على مساحة كبيرة من الخلايا؟
إن كل شيء فى حياة «أحمد زكى» لم يكن طبيعيا. حياته. مرضه. شخصيته. نجاحه. شهرته. فلم لا تكون المعجزة من نفس العينة وتتحقق فى آخر لحظة؟
جاء خبر الدواء الجديد فى رسالة متفائلة تلقتها «يسرا» على تليفونها المحمول.
ولكن سرعان ما تبخرت المعجزة فلم يسمع طاقم الأطباء المصرى عن هذا الدواء من قبل ولم نعرف نحن كيف نحصل عليه.
على أن الخبر جاء فى وقت مناسب تماما ليضفى نوعا من الأمل ــ ولو لساعات قليلة ــ وسط كل هذا الظلام.
فى صباح ذلك اليوم وضعوا «أحمد زكى» على سرير متحرك ونزلوا به إلى غرفة الرنين المغناطيسى ليجرى أشعة مقطعية على الرأس ولكن النتيجة لم تكن لصالحه.
على أن ذلك لم يمنعه من أن يداعب من حوله بنكات ساخرة لاذعة كما تعود.
منها أن مجموعة من الصعايدة الطيبين راحوا يعزون الفنان «عمر الحريرى فى وفاة شقيقه الرئيس اللبنانى رفيق الحريرى».
وكشف ساقه اليمنى المتورمة بفعل الجلطة ثم كشف ساقه اليسرى بفعل السرطان وقال:
ــ الأولى تشبه ساق امرأة والثانية تشبه ساق رجل ولو وضعناهما فوق بعضهما البعض لوجدنا أنفسنا أمام علاقة جنسية.
وداعب ابن خاله «سمير عبد المنعم» بلحيته الكثيفة ونظارته المستديرة قائلا:
ــ أنت تذكرنى بأيمن الظواهرى.
كانت السخرية سلاحه الوحيد للسمو على الأزمات.
ولكن السخرية لم تمنع رغبته فى أن يواجه قدره بالدفاع عن حياته إلى حد أن طلب من «رغدة» أن تكون مسئولة عنه وتحميه.
ويوم الجمعة السابق على رحيله وضعت تليفونى على أذنه ليكلم الدكتور «أسامة الباز» ليوصيه برعايته.
يومها قال الدكتور «أسامة الباز»:
ــ أسمع يا أحمد أنا نجوت من الموت مرتين المرة الأولى لما أجريت جراحة القلب المفتوح فى أمريكا دون أن يعرف أحد والمرة الثانية يوم عولجت من السرطان بعيدا عن المستشفيات حيث كنت أتناول جرعة الكيماوى فى غرفة فندق دون أن يعرف أحد سوى قليل من الأصدقاء فلا تتوتر كثيرا حتى تنجو من ذلك المرض اللعين.
ــ إنها نفس نصيحة الأستاذ هيكل يا دكتور لكنى لم أستطع تنفيذها.
ــ لو شئت السفر إلى الخارج هناك طائرة جاهزة لتسافر بها إلى الدولة التى تحب أن تعالج فيها ولا تشيل هما.
ــ إن فى أعماقى شعورًا بأن الموت أصبح قريبا منى ولن أغامر بالابتعاد عن مصر فى هذا الوقت حتى لا أعود إليها فى صندوق.
جرت هذه المكالمة فى الساعة الثالثة عصرا.
بعد ١٢ ساعة بالضبط وقع حادث درامى يصعب تجاوزه.
جاءت أم «أحمد زكى» لزيارته.
وخشينا أن يرفض استقبالها وليس أمامه سوى القليل من الوقت ليلقى ربه ولعلها تشفع له.
واختيرت لتنفيذ هذه المهمة الصعبة.
دخلت حجرة نومه أقدم خطوة وأرجع أخرى حتى استجمعت شجاعتى.
كان الظلام سائدا ولكنه عرفنى من صوتى بعد أن فقد البصر وقبل أن يضىء النور قلت له:
ــ انتظر قليلا.
ــ هل لديك جديد فى موضوع الدواء.
ــ لا ولكن هناك موضوعًا مهمًا أريد أن أكلمك فيه.
ــ هل هذا وقته؟
ــ هذا بالتحديد وقته.
ــ خير إن شاء الله.
ــ شوف يا أحمد كلنا سنموت. أنا سوف أموت. وأنت سوف تموت. وكلنا ارتكبنا أخطاء فى حياتنا. ولكن يبدو أنك ستسبقنا وهنا لا بد أن تعرف أننا نحتاج لمن يشفع لنا ويكون مقبولا عند الله ويستجب لشفاعته سبحانه وتعالى.
ــ مش فاهم.
ــ ليس هناك أكثر من الأم لتشفع لنا.
وقام من مكانه وراح يلف حول نفسه فى الغرفة بحذر حتى لا يصطدم بشيء لا يراه وارتفع صوته بهمهمات غير واضحة وبدا وكأنه يتشاجر مع نفسه ثم استدار ناحيتى منكرا صداقته وربما كانت هناك جمل أخرى لا أتذكرها لأننى كنت أركز على إقناعه بدخول أمه عليه.
ــ يا أحمد أنت حر فى ذنوبك لكن لا تحرمنى من الثواب الذى سأحصل عليه.
وقبل أن ينطق ضغطت على تليفون «سمير عبد المنعم» فى إشارة منى بدخول الأم.
ودخلت الأم ليرتمى «أحمد زكى» فى حضنها وهو يجهش فى البكاء وكأنه لم يبك منذ تركته طفلا صغيرا وإن كانت تزوره بين الحين والآخر ولكن قبل أن يعيش فى القاهرة.
صلت الأم ودعت له وخرجت لتعود إلى الزقازيق على الفور.
قالت له:
ــ قلبى وربى راضيين عليك.
وعندما دخلت عليه أمسك برأسى كى يقبلها لكننى فلت منه فقد كنت مستعدًا أن أفعل أى شىء يسعده وأنا أعرف أننى سأفقده بين لحظة وأخرى.
بعد ساعات من مغادرة الأم القاهرة لحقت بها سيارة نصف نقل عليها شحنة كبيرة من كتب الأدعية أمر «أحمد زكى» بطبعها وسبق أن وزع بعضها على المصلين فى مسجد «السيدة نفيسة» التى كان يحبها ويزورها كلما ضاق صدره واسودت الدنيا فى وجهه وكنت صاحب هذه الروشتة الروحانية.
فى الوقت نفسه تولى مدير أعماله «محمد وطنى» التبرع بأموال لا يجوز ذكرها إلى جمعيات خيرية متعددة على رأسها جمعية مرضى السرطان فى مستشفى قصر العينى.
وذبحت ثلاثة «عجول» ووزعت سرا على الفقراء.
وسافر ثلاثة من عمال المستشفى عمرة على حسابه.
إن السرطان على قسوته يجد من يصفه بأنه «مرض الجنة» حيث يعطى فرصة للمصاب به أن يقترب من الله ويصفى حسابه مع الدنيا وينتقل إلى العالم الآخر شفافا ونقيا ومتطهرا إلى حد ما.
فى اليوم نفسه طلب «أحمد زكى» أن يرى «منى زكى» التى تشاركه فيلم بطولة «حليم» بدور «سعاد حسنى» وسبق أن مثلت معه دور «جيهان السادات» فى فيلم «السادات» ومثلت دور ابنته فى فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة».
كانت «منى زكى» خارج الغرفة منذ ساعات طوال ودخلت عليه لعدة دقائق خرجت بعدها وعيناها حمراوان لتغادر المستشفى بصحبة زوجها الفنان «أحمد حلمى» ليجدا على الباب الفنانين «محمد هنيدى» و«كريم عبد العزيز».
وجاء «شريف عرفة» ودخل غرفته على الفور ولم نعرف هل كانت زيارة اطمئنان عليه أم زيارة اطمئنان على فيلم «حليم».
فى ذلك اللقاء «طلب أحمد زكى» تصوير جنازته لاستخدامها فى الفيلم على أنها جنازة «عبد الحليم حافظ».
لكن وصيته الحقيقية كانت من جملة واحدة قالها لكل من كانوا حوله:
«حافظوا على أحمد زكى ما تبهدلوش أحمد زكى».
كان يقصد ألا يعرضه أحد ــ وهو على فراش المرض ــ إلى ما ينقص منه وما يشوه صورته وما يسىء إليه.
وطلب أن تخرج جنازته من مسجد «عمر مكرم» على أن يكون العزاء فى مسجد «الحامدية الشاذلية» المواجه لبيته فى «المهندسين».
فى الوقت نفسه طلب من «محمد وطنى» تجهيز المدفن.
ولم تمر ساعات حتى وصل «أحمد زكى» إلى نهاية المشوار.
فى فجر يوم الأحد ٢٧ مارس عام ٢٠٠٥ غادر الدنيا دون أن نسمح لأحد «ببهدلته».
غادرها وليس عليه دينا ماليا أو فنيا لأحد.
راهن «رغدة» أنه لن ينجو من السرطان.
وكسب للأسف الرهان.
وحولت «رغدة» الرهان إلى قصيدة كتبتها فيما بعد قالت فيها:
«إنى راحل.
«لن ترحل.
«ورهان منه ورهان منى.
«لكنه سقط منى.
«سقط منى أحد النبلاء.
«أحمد راحل يا سادة.
«أحمد كسب الرهان.
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: أحمد زكي عماد الدین أدیب یاسر عبد القادر فى الوقت أحمد زکى بعد أن على أن دون أن
إقرأ أيضاً:
منير أديب يكتب: سوريا بلا حوار
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق المؤتمر لم يراع المبادئ الديمقراطية والأسس الوطنية بناء جيش احترافى هل يستقيم مع تجنيس آلاف المقاتلين الأجانب فى الجيش الوليد وإعطائهم رتبًا عسكرية؟ إلغاء مؤتمر تطبيق العدالة يعنى التخلى عن حقوق الكثيرين من أبناء الشعب
عقدت القيادة السياسية الجديدة فى سوريا مؤتمرًا للحوار الوطنى قبل أيام، ولكنه افتقد أى مفهوم للحوار، فالمؤتمر المشار إليه عقد على عجل، فالوقت الزمنى ما بين دعوة المؤتمرين وما بين حضورهم حال دون هذا الحضور، صحيح حضر المؤتمر قرابة ستمائة شخصية، ولكن يبقى أنّ تقدير وتقييم المؤتمر لن يكون من خلال أعداد الحاضرين فقط.
هناك عدد كبير اعتذر عن الحضور، خاصة وأنّ الذين عقدوا المؤتمر لم يكونوا محترفين، فأفقدوا المؤتمر حضوره على مستوى الأشخاص، كما أنه تم استبعاد عدد كبير من الحضور من الذين يمثلون التنوع السوري.
والملاحظ أنّ مؤتمر الحوار عُقد ليوم واحد وكان نصيب كل مشارك هو الحديث لمدة دقيقتين فقط، مستقبل دولة يتم تحديده فى دقيقتين، فالمفترض أنّ هناك نقاشا وحوارا وليس مجرد وضع مقترحات سوف يعمل بها فى صياغة الدستور، وإذا كان كذلك، فلا يمكن أنّ يحدث فى دقيقتين فقط هى الوقت المخول لكل متحدث.
الحوار الحقيقى لم يضم كل المكونات السورية فهناك من تم استبعاده وهناك من تم تمثيله بشكل رمزي، وخلقت مبررات وذرائع للاستبعاد، خاصة وأنّ القيادة العامة ترى أنّ الدستور خط أحمر، فلن توافق أنّ يكون فى مواده ما يراعى وجود بقية المكونات السورية ويُخالف ما يؤمنون بتطبيقه من الشريعة الإسلامية.
ثم إنّ النقطة الأهم والأبرز فى قضية الحوار ترتبط بمخرجات هذا الحوار، وهو حصر السلاح بيد الدولة وانشاء جيش احترافي، فكيف يتسق ذلك فى حقيقة الأمر مع تجنيس عدد كبير من المقاتلين الأجانب ضمن الجيش السوري؟ ثم نسمى ذلك جيشًا احترافيًا.
الأهم فى هذه المساحة أنّ سوريا التى تدعى أنها باتت سوريا الجديدة وأدعت فتح بابًا للحوار الوطني، هى نفسها التى قررت إلغاء مؤتمر دولى بشأن العدالة فى سوريا، وهو ما أدى إلى استياء المجتمع المدنى من ناحية والمجتمع الدولى من ناحية أخرى، وضرب بكل ما تدعيه هذه القيادة عرض الحائط.
سوريا بلا حوار
القيادة العامة فى سوريا وبلا أى مقدمات قامت بإلغاء مؤتمر يتعلق بالعدالة الانتقالية كان مقررًا عقده برعاية دولية وأممية فى العاصمة دمشق، حيث أعلن المركز السورى للدراسات والأبحاث القانونية، والأرشيف السوري، ومؤسسة الشارع للإعلام، وملفات قيصر للعدالة، عقد ورشة عمل مغلقة تحت عنوان "تطبيق العدالة فى سوريا ودور الهيئات والمؤسسات الدولية" نهاية فبراير الماضي.
المؤتمر المشار إليه كان مدعوًا فيه العديد من المنظمات الحقوقية السورية والدولية بما فيها منظمات دولية غير حكومية وأطراف من حكومات مختلفة، وهيئات الأمم المتحدة المعنية بقضايا العدالة والتوثيق فى سوريا، وجهات الادعاء الأوروبية المنخرطة فى محاكمات تتعلق بجرائم مرتكبة فى سوريا، بمشاركة وزارة العدل وبتنسيق مع وزارة الخارجية فى الحكومة السورية.
ورغم ذلك تم إلغاء المؤتمر، الذى حصل على الموافقات الرسمية والتأكيدات غير الرسمية لانعقاد ورشة العمل المغلقة، بما يشى أنّ شيئًا ما يُدار فى الكواليس تتعلق بتسوية مواقف من تورطوا فى دماء السوريين، ضمن صفقات سياسية، لا تُريد القيادة العامة الإفصاح عنها، السرّية ربما تثير الشكوك حول نية هذه الحكومة.
تم استبعاد أكثر من مكون سورى من حضور المؤتمر الوطنى السوري، الذى عقدته القيادة العامة فى سوريا، وفى مقدمتهم هؤلاء الكرد، بدعوى أنهم مازالوا يحتفظون بسلاحهم، وأنّ الحوار الوطنى السورى مجتمعي، وبالتالى تم استبعاد المكون الكردي، وهو ما دفع الأخير لعقد مؤتمر مواز خرج ببعض المخرجات منها.
الاستبعاد لم يكن للمكون الكردي ولكن كان لأغلب المكونات الأخرى؛ سواء كان استبعادا أو تمثيلا رمزيا لا يُعبر عن قوة وأصالة هذه المكونات، وهنا تبدو نية هذه القيادة تجاه باقى المكونات التى تختلف معها عرقيًا وأيديولوجيًا.
أهم المخرجات التى أسفر عنها المؤتمر الذى عقده المكون الكردى للرد على مؤتمر الحوار الوطنى السوري.:
إنّ عملية الحوار الوطنى السوري، بدون مراعاة مبادئ ديمقراطية وأسس وطنية واضحة يتوافق عليها جميع السوريين، وأنّ تشكل بإلحاح ومكتسب باستمرار أزمات البلاد.
رفض الإملاءات الخارجية فى أى عملية للحوار الوطنى السوري، والتى تستهدف إقصاء أحد المكونات وترسخ خطاب الكراهية من السوريين.
إنّ قوة سوريا تكمن فى تنوع مكوناتها، ولا يمكن الاستجابة لهذا التنوع إلا بتطبيق اللامركزية فى إدارة البلاد فهى الضمانة لتحقيق السلام الداخلى الذى يعد شرطًا رئيسًا لرفع العقوبات عن سوريا وتحقيق التعافى الاقتصادى للبلاد.
يجب ألا تتناقض الهوية الوطنية الجامعة مع الهويات المحلية والفرعية، كونه لكل مكون دور مؤثر فى التاريخ السياسى الحديث لسوريا، لذلك يتوجب الإقرار رسميًا بهذه الحقيقة وإشراكهم بفعالية فى عملية إعادة بناء نظام الحكم وإعداد الدستور فى سوريا الجديدة.
التشديد على تطبيق العدالة الانتقالية لمعالجة تداعيات الظلم الذى تعرض له السوريون منذ تأسيس الدولة السورية، ورد الحقوق إلى أصحابها بأى وسيلة ممكنة.
نؤكد ضرورة العودة الطوعية والآمنة لكافة المهجرين والنازحين إلى مناطقهم، وتقديم الدعم اللازم لهم لتحقيق أمنهم الإنساني.
صياغة "عقد اجتماعي" بمشاركة كافة المكونات السياسية والاجتماعية دون إقصاء أحد، واعتبارها مرجعية وحيدة لصياغة الدستور الجديد للبلاد، نظرًا للظلم الذى تعرض له غالبية المجتمعات السورية، وللتنوع الثقافى والعرقى الذى تمتاز به سوريا.
رفض أى انتقاص من حقوق المرأة الاجتماعية والسياسية والإدارية والاقتصادية والثقافية فى سوريا الجديدة.
لإقليم شمال وشرق سوريا خصوصية تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية، ونرفض إقصاء مؤسساته من عملية بناء النظام.
الثروات الوطنية ملك لجميع السوريين، ويجب أن يتشارك السوريون فى إدارتها وفقًا لمبادئ العدالة، وبما يخدم عملية التنمية ورفاهية جميع المواطنين فى مختلف المناطق السورية.
- التشديد على ضرورة انسحاب القوات المحتلة من الأراضى السورية، وعلى انسحاب كل قوة أجنبية تلحق الضرر بأحد المكونات السورية.
- ندعو لتشكيل جبهة وطنية ديمقراطية جامعة لكل السوريين.
- اتفق المشاركون على تنظيم منتديات وندوات حوارية فى مختلف المناطق السورية لمناقشة مستقبلهم.
- تخصيص حيز أكبر لدور منظمات المجتمع المدنى والحركات الشبابية والنسوية.
توصيات اللا حوار
جزء من أزمة سوريا الحالية أنّ فصيل سورى واحد هو من يُسيطر عليها، وبالتالى هو يفرض وجهة نظره ولكنه مع كثير من الدهاء، بحيث يبدو أنه ديمقراطى وغير مسيطر على القرار السوري، وهنا تكمن الأزمة، فأنت تحتاج إلى أربعة أعوام كاملة حتى تكتشف حقيقة هذا النظام، وعندما يحدث فلن تستطيع أنّ تُغير شيئًا لأنه سوف يكون قد تمكن بالفعل من مفاصل الدولة.
النظام فى سوريا يسعى لترسيخ وجوده والحصول على الشرّعية من قبل المجتمع الدولي، وإذا حدث هذا فلن يسمح بوجود معارضة إلا إذا كانت متوافقة مع أفكاره ورؤاه وتصوراته قرأته للشريعة الإسلامية التى يُريد تطبيقها.
النظام السياسى الجديد فى سوريا يعكس الفشل فى تأسيس نظام سياسى مستدام ينهى المشكلات القديمة ويُعزز من الديمقراطية، وهنا نُشير إلى أنّ غياب الديمقراطية هو ما أدى غياب شكل الدولة عن سوريا حتى ولو رفعت بعض الشعارات، وربما غياب الدولة أدى إلى غياب الديمقراطية، فهذه علاقة عكسية واضحة بين الفشل فى تأسيس الدولة وبين الديمقراطية المزعومة.
التوصية الأولى والأهم كانت مرتبطة بإنشاء جيش احترافي، وهو ما فشلت القيادة السورية فى تحقيقه حتى هذه اللحظة، هى تُريد فقط بحصر السلاح بيدها، ثم تقوم على إنشاء الجيش وفق عقديتها السياسية والدينية.
صحيح المؤتمرون انتبهوا لما يحدث داخل مؤسسة الجيش الوليدة، ولذلك أصروا على أنّ يكون الشرط الأول إنشاء جيش احترافي، ولكن هذه التوصية لا يمكن تنفيذها، كما تتداخل الأهواء فى التعامل معها، بمعنى هذا جيش احترافى فى تقديرى وغير احترافى فى تقدير الآخر.
إذا كانت رؤية المكونات السورية لمؤتمر الحوار بأنه افتقد لأى مفهوم للحوار، وكانت مخرجاته وترتيبه بهذا الشكل، فأى حوار ينتظره الشعب السوري، سوريا غابت عن الحوار وسوف يغيب عنها الحوار ربما لعقود طويلة، فالحوار ليس مجرد شعار يرفع ولكن تطبيق حقيقى على أرض الواقع.
طرح الحاضرون فى مؤتمر سوريا مقترحات تتعلق بالحوار، وهى مبادئ لدولة عادلة، الأزمة لا تبقى فى الطرح ولكن فى تطبيق هذه المقترحات أو فى ترجمتها فى لجنة الدستور، ولذلك الأهم أنّ تمثل المكونات السورية فى لجنة صياغة الدستور، وليس فى مؤتمر التوصيات التى قد يتم الأخذ بها أو لا يتم الأخذ بها.
المؤتمر كان معنى بالحوار، ولم يكن فيه أى حوار ولم يكن هناك وقت للحوار فى الأساس، المؤتمر تم التحضير لها على عجل، وتم وضع التوصيات على عجل دون نقاش أو حوار يُعبر عن كل السوريين.
مصدّات الحوار الوطنى فى سوريا
لا يوجد حوار فى سوريا ولا يوجد وطن يمكن أنّ يتجمع حوله السوريون، طالما تم إقصاء باقى المكونات الكردية، ولذلك سوريا بها مصدات للحوار لا يمكن معها أنّ يكون هناك حوار حقيقي.
ومحاولة إظهار أنّ سوريا وطن الحوار، وأنها تسير فى مسارات هذا الحوار، يفتقد لأى مصداقية، كما أنه يؤكد أنّ السلطة الحالية تغامر بفكرة خلق بيئة تشاركية، وأنّ نيتها تخالف تمامًا ما تُحاول الترويج له، وهذه آفة الحوار الحالى والملء بالمصدات.
ومن أهم الأشياء التى تؤكد ذلك اتجاه القيادة فى سوريا لبناء دولة طائفية من خلال استئجار مقاتلين أجانب، تم إعطاء الجنسية السورية لهم وباتوا عماد الجيش السورى الجديد، هؤلاء سوف يُناصبون العداء للمكونات السورية غير المسلمة، كما أنهم سوف يُناصبون العداء لدولهم التى انحدروا منها.
وهنا لا يمكن إدعاء أى حوار، طالما كان هذا سلوك هذا القيادة، حتى ولو رفعت شعار بعرض جغرافيا سوريا، بأنها تُرحب بالحوار، سوريا تفتقد للمقومات الحقيقية والطبيعية، سوريا تحتاج إلى حوار عملي، وليس مجرد مكلمة للحوار تفتقد إلى التنفيذ العملى للحوار.
يُقدر عدد المقاتلين الأجانب فى سوريا بحوالى ٢٥ ألف مقاتل، بعضهم من الروهنجا والبعض الأخر من الأوزبك، والقسم الأكبر من الحزب الإسلامى التركستاني.
لابد للمكونات السوريةأنّ تضغط من أجل وجود حوار وطنى حقيقي، وألا تُشارك فى مؤتمرات رمزية وشكلية للحوار، لأنها لا تُعبر عن المضمون الحقيقى للحوار من ناحية ويتم استخدمها فى اغتيال أى حوار قادم، أو على الأقل تستخدمها القيادة كذريعة بأنها خلقت حالة حوار، وهى غير حقيقية.
القيادة فى سوريا لديها أزمة حقيقية تتعلق بشرعيتها، والمجتمع الدولى يضغط من أجل بناء دولة فى سوريا يتمتع فيها السوريين بكامل حقوقهم، وبخاصة المكونات السورية، وهنا باتت القيادة ما بين طلب الشرعية الدولية والحصول على الاعتراف الدولى وما بين التنظاهر بالحوار مع باقى المكونات.
وبالتالى على المكونات السورية عدم الانخراط على أى مظاهر دلالية أو شكلية للحوار لا تُعبر عن حوار حقيقى يؤدى فى النهاية إلى تمثيلها، والهدف من الحوار هو بناء دولة، طالما كان بناء الدولة غائبًا، فبالتالى الحوار سوف يظل غائبًا هو الآخر.
الحوار قد يكون تصورًا أوليًا لبناء الدولة، ولكن الحقيقة أنّ القيادة العامة فى سوريا سبقت فى بناء المؤسسات فى سوريا قبل هذا الحوار الرمزى أو الدلالى الذى يفتقد لأى مضمون، وهنا يمكن الحكم بأن سوريا الجديدة باتت بلا حوار حتى ولو عقدت عشرات مؤتمرات للحوار.