يواصل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مشاوراته السياسية من أجل التوصل إلى توافق لاختيار رئيس الوزراء القادم، وذلك بعدما أعلن ماكرون، يوم 26 أغسطس الماضي، عن رفضه لاختيار لوسي كاستيه، مرشحة تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” اليساري، المتصدر لنتائج الانتخابات التشريعية المبكرة الماضية، لتشكيل الحكومة المقبلة، مبرراً هذا الموقف بأنه محاولة لتجنب تعرض هذه المرشحة لتصويت بسحب الثقة في ظل رفض باقي الكتل السياسية لها، ومؤكداً أن هذا يتماشى مع دوره الخاص بحفظ وضمان الاستقرار المؤسسي.

موقف ماكرون:

يأتي موقف ماكرون ليُظهر حجم الأزمة الخاصة بتشكيل الحكومة الفرنسية المقبلة بعد الانتخابات الأخيرة، والتي لم يتمكن أي تكتل فيها من الحصول على الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة بمفرده (289 مقعداً من إجمالي 577)؛ إذ توزعت مقاعد البرلمان على ثلاث كتل رئيسية، وحصل التكتل اليساري “الجبهة الشعبية الجديدة” على 182 معقداً، في حين حصل تكتل الوسط “معاً” الذي يتزعمه ماكرون على 168 مقعداً، وحصل تكتل اليمين المتطرف والذي يضم “التجمع الوطني” وحلفاءه من المحافظين على 143 مقعداً. وتوزعت بقية المقاعد على أحزاب أخرى، أبرزها حزب الجمهوريين (يمين وسط) الذي حصل على 45 مقعداً.

ويتمسك تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” بما يعتبره حقه في ترشيح رئيس الوزراء الجديد، باعتبار أنه حصل على أكبر عدد من المقاعد مقارنةً بغيره من التحالفات والأحزاب. فيما يرى ماكرون أن اختيارات هذا التحالف اليساري سوف تتم الإطاحة بها بمجرد توليها عبر أول اقتراع لحجب الثقة عن الحكومة؛ نظراً لرفض كتلتي الوسط التي يرأسها ماكرون، واليمين المتطرف، لهذه الاختيارات؛ ومن ثم فمن غير المنطقي المُضي قُدماً في تبني اختيارات “الجبهة الشعبية الجديدة”.

واقترحت هذه الجبهة تولي كاستيه منصب رئيس الوزراء؛ ما استدعى انتقادات أخرى بجانب المواقف السياسية لكتلتي الوسط واليمين؛ إذ رأى العديد من رموز الكتلتين أن مرشحة تكتل اليسار تنقصها الخبرة السياسية، وأنها لم تتول مناصب مؤثرة بالعمل العام؛ مما يجعلها مرشحاً غير مناسب.

غضب اليسار:

أثار رفض ماكرون تولي لوسي كاستيه، مرشحة “الجبهة الشعبية الجديدة”، رئاسة الحكومة الجديدة، ردود فعل سلبية عديدة، وخاصةً من التكتل اليساري؛ إذ رفضت “الجبهة الشعبية الجديدة” موقف ماكرون، ودعا حزب “فرنسا الأبية” أنصاره إلى النزول إلى الشارع يوم 7 سبتمبر الجاري، احتجاجاً على عدم موافقة الرئيس الفرنسي على اختيار رئيس وزراء من تحالف اليسار. وبالمثل، قال قادة الأحزاب الاشتراكية والشيوعية إنهم سيلجأون إلى الشارع.

كما دعا حزب “فرنسا الأبية”، يوم 31 أغسطس الماضي، المجموعات البرلمانية الأخرى إلى عزل ماكرون بسبب “إخفاقات خطرة” في أداء واجباته الدستورية، حسبما جاء في مشروع قرار كتبه نواب الحزب المتحالف مع الخضر والاشتراكيين والشيوعيين ضمن “الجبهة الشعبية الجديدة”. جدير بالذكر أن ثمة عقبات تواجه محاولة عزل ماكرون من خلال المادة 68 من الدستور الفرنسي؛ إذ إنها تستدعي موافقة ثُلثي أعضاء الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ.

أيضاً، رفض الحزب “الاشتراكي” موقف ماكرون، كما رفض دعوته للحزب بالتعاون مع قوى سياسية أخرى (والتي تعني بالضرورة تفتيت الجبهة الشعبية اليسارية والانضمام إلى تكتل الوسط)؛ إذ صرح رئيس الحزب، أوليفر فور، بأنه لن يكون جزءاً من مسرحية باسم الديمقراطية، معتبراً أن ماكرون يرغب في إطالة سياساته بالرغم من أن نتائج الانتخابات تشير إلى عكس ذلك. فيما عبّر حزب “الخضر” عن رفضه لموقف ماكرون، وصرحت رئيسة الحزب مارين تونديلير بأن “الانتخابات تُسرق من اليسار”.

وعلى صعيد اليمين المتطرف، يمارس حزب “التجمع الوطني” لعبة مزدوجة، ففي الوقت الذي يحرص فيه على عدم تولي رئيس وزراء يساري الحكومة الفرنسية، ويشارك تكتل ماكرون موقفه؛ فإنه من ناحية أخرى يستغل الموقف لانتقاد الرئيس الفرنسي باعتبار أنه تسبب في كل هذه الفوضى بقراره حل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، على حد وصفه.

الوضع القانوني:

إذا نظرنا إلى الدستور الفرنسي والذي ينظم العلاقة بين مؤسستي البرلمان والحكومة، واختيار رئيس الوزراء، نجد ما يلي:

1- لا يوجد قانونياً ما يلزم الرئيس الفرنسي باختيار رئيس الوزراء من الحزب أو الائتلاف صاحب أكثرية المقاعد في الانتخابات. فوفقاً للمادة الثامنة من الدستور، يمتلك الرئيس قوة كاملة في اختيار رئيس الوزراء، إلا أنه جرت العادة على المواءمة بين اختيار الرئيس والائتلاف صاحب الأكثرية، حتى لا تتعرض الحكومة لاقتراح بسحب الثقة؛ إذ يملك البرلمان ذلك في ضوء نظام “الكوابح والتوازنات” الفرنسي.

2- لا يوجد موعد قانوني محدد يلزم الرئيس الفرنسي باختيار رئيس الوزراء الجديد، غير أن هناك عدداً من الاعتبارات السياسية، أبرزها عرض مقترح موازنة العام الجديد، الذي من المفترض أن يتم بحلول بداية أكتوبر 2024؛ وهو ما يتطلب وجود حكومة بصلاحيات كاملة وليس مجرد حكومة تسيير أعمال وفقاً للوضع الحالي.

3- لا توجد سوابق تاريخية يمكن القياس عليها قانونياً في الموقف الحالي، إذ يتسم هذا الموقف بالتقارب النسبي لعدد مقاعد الكتل الثلاث الرئيسية. في حين أنه، على سبيل المثال، خلال انتخابات 2022 وإن لم يتمكن فيها التكتل الذي ترأسه ماكرون من تحقيق الأغلبية المطلوبة (289 مقعداً)، إلا أنه كان التكتل الرئيسي وبفارق مريح عن باقي التحالفات؛ إذ حصل على 250 مقعداً؛ مما جعل مسألة اختياره لرئيس الوزراء حينها محسومة.

مسار مُحتمل:

يمكن تفسير موقف ماكرون بعدم الموافقة على تعيين رئيس وزراء جديد من ناحيتين: أولاهما، أن بقاء الوضع الحالي يعني استمرار الحكومة المؤقتة برئاسة غابرييل أتال في تسيير الأعمال، وهو أمر إيجابي بالنسبة لماكرون. وثانيتهما، أن التمسك بعدم اختيار مرشحي “الجبهة الشعبية الجديدة” هو مراهنة على احتمالية انهيار هذا التحالف اليساري وتخلي بعض أو كل أعضائه عن حزب “فرنسا الأبية” اليساري المتطرف، الذي يمثل الكتلة الأكبر داخل هذا التحالف؛ وهو ما عبّر عنه ماكرون بشكل واضح عندما دعا أحزاب الخضر والاشتراكيين إلى التعاون مع القوى السياسية الأخرى.

ويدرك ماكرون أن اختيار رئيس وزراء من التكتل اليساري الفائز في الانتخابات، سيمثل تحدياً كبيراً لسياساته؛ بل وانتكاسة لبعضها؛ ولاسيما تلك الخاصة بسن المعاش والإجراءات التقشفية التي اتخذها؛ إذ تختلف أجندة هذا التكتل وبرنامجه الانتخابي بشكل جذري عن اتجاهات تكتل “معاً” الذي يرأسه ماكرون. غير أن ماكرون في الوقت ذاته يبدو مقيداً بأمرين يحدان من هامش مناورته؛ الأول، هو الإطار الزمني الخاص بتشكيل الحكومة؛ إذ لا يمكن الاستمرار في الاعتماد على حكومة تسيير أعمال في ظل الحاجة إلى تقديم قانون الموازنة العامة بحلول أكتوبر المقبل، بالإضافة إلى ضغوط الشارع الفرنسي. والأمر الثاني، أنه وعلى الرغم من اختلاف ماكرون مع سياسات تكتل اليسار؛ فإن بديل ذلك هو التكتل اليميني المتطرف؛ وهو اختيار مستبعد تماماً بالنسبة لتكتل الوسط الذي يرأسه ماكرون.

وتجدر الإشارة إلى أن الموقف الراهن يُعد مفصلياً بالنسبة لحزب “فرنسا الأبية”؛ إذ إنه لا يتعلق فقط بمشاركته في الحكومة القادمة من عدمها؛ بل بتوصيفه كحزب مقبول من الأحزاب الوسطية أو لفظه ومساواته بحزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف الذي تتزعمه مارين لوبان.

بناءً على ما سبق، قد يضطر ماكرون إلى اختيار رئيس وزراء جديد من تكتل اليسار الفائز في الانتخابات الماضية؛ خصوصاً إذا فشلت محاولة ماكرون لتفتيت هذا التكتل، واستمر الأخير في تماسكه وإصراره على ترجمة مكاسبه الانتخابية. ففي هذه الحالة، من الممكن أن يتم التوصل إلى اتفاق يشمل اختيار تحالف اليسار لشخصية مقبولة نسبياً بالنسبة لكتلة الوسط “معا”، مع تقليص عدد وزراء حزب “فرنسا الأبية” في الحكومة إلى الحد الأدنى. وأيضاً، وفي ظل الموقف الراهن، قد تطرح بعض القوى السياسية مسألة العلاقة بين المؤسسات الفرنسية للنقاش؛ نظراً لما كشفت عنه الأزمة الحالية من عدم استقرار العلاقة بين الحكومة والبرلمان، وما يرتبط بذلك من عدم استقرار سياسي عام.

” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”


المصدر: جريدة الوطن

إقرأ أيضاً:

الجبهة الشعبية: الرد اليمني الباليستي في عمق الكيان الصهيوني تعزيز لمعادلة الردع

 

الثورة نت/..

أكدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أن الرد اليمني الباليستي في عمق كيان العدو الصهيوني تعزيز لمعادلة الردع وكشف جديد لهشاشة الكيان الصهيوني.

وفي بيان لها اليوم الأحد، حيت الجبهة “بكل فخر واعتزاز الشعب اليمني الشجاع وقواته المسلحة الباسلة التي أثبتت مجدداً قدرتها على اختراق العمق الصهيوني والدفاعات الأمريكية والغربية بإطلاق صاروخ باليستي أصاب عاصمة الكيان المصطنعة، في عملية نوعية جديدة أثبتت قدرة اليمن على تعزيز معادلة الردع ضد الاحتلال، وعلى الرد القوى على جريمة قصف العدو لميناء الحديدة، وعلى جرائم الإبادة ضد الشعب الفلسطيني”.

وشددت على أن هذه العملية جعلت العدو الصهيوني في حالة من الصدمة والارتباك.. كاشفة مجدداً عن هشاشة منظومته الدفاعية التي لطالما اعتمدت على الدعم الأمريكي وحلفائه.

وأشارت الجبهة الشعبية في بيانها إلى أن الضربة الصاروخية تأتي في سياق استمرار جبهة الإسناد اليمنية وضربات محور المقاومة في الرد على حرب الإبادة الصهيونية ضد شعبنا ودعم المقاومة، حيث تعهدت القوات المسلحة اليمنية بفرض حظر بحري على الاحتلال، وضرب كل من يتحدى هذا الحظر.

ورأت أن القوات المسلحة اليمنية وجهت من خلال هذه العملية رسالةً قوية إلى العدو الصهيوني، مفادها أن أي اعتداء على اليمن أو غزة لن يمر دون عقاب، وأن خسائر الاحتلال ستكون فادحة على مختلف المستويات، وفي عمق الكيان.

وأوضحت أن هذه العملية النوعية تؤكد أن العدوان الأمريكي الصهيوني على اليمن لم يحقق أهدافه في كسر إرادة اليمن أو التأثير على عملياته الداعمة لغزة.

كما أكدت أن الرهان الصهيوني على المنظومات الدفاعية الأمريكية والغربية أو جرائم الحلفاء ضد اليمن لم يحقق أهدافه في حماية الكيان الصهيوني.

وختمت الجبهة الشعبية بيانها بالقول: إن الرسالة اليمنية الباليستية اليوم واضحة ولا لبس فيها ” أوقفوا العدوان على غزة فوراً، وإلا فإن ردود اليمن ستتواصل وتتعمق وتكون أشد قوةً واختراقاً للعمق الصهيوني، ولن تكون هناك خطوط حمراء في الدفاع عن قضايا الأمة وفي القلب منها قضية فلسطين ومقاومتها الباسلة”.

مقالات مشابهة

  • الجبهة الشعبية تدين اعتقال الاحتلال زوجة سعدات
  • البرلمان الفرنسي يوافق على إجراءات عزل «إيمانويل ماكرون»
  • البرلمان الفرنسي ينظر اليوم في قرار لعزل ماكرون
  • الشعبية: العملية البطولية في القدس رد طبيعي على جرائم الاحتلال
  • سباق بين بين احتمالات الحرب والجهود الاميركية لمنع اتساعها
  • الجبهة الشعبية: الرد اليمني الباليستي في عمق الكيان الصهيوني تعزيز لمعادلة الردع
  • الأردن..تكليف الدكتور (جعفر حسان) في تشكيل الحكومة الجديدة
  • الشعبية: الرد اليمني الباليستي في عمق الكيان تعزيز لمعادلة الردع
  • "الشعبية" تثمن انضمام تشيلي للدعوى ضد الاحتلال في "العدل الدولية"
  • حان الوقت.. غانتس: لممارسة القوة ضد حزب الله!