إن سبب كتابة هذا المقال، جدول متداول على شبكات التواصل الاجتماعي بعنوان “الدول الإفريقية الأكثر جذبا للاستثمارات الأجنبية المباشرة في سنة 2023”. وهو الجدول الذي بالكاد يحتل فيه المغرب المركز 16. وهذا الجدول الذي لم يكن نشره محايدًا، أثار اهتمامي شخصيًا لعدة أسباب، منها جدوى نشر جدول « يتيم » دون إرفاقه بالتعليقات والمستندات الداعمة.

على الرغم من أنه يذكر المصدر (الأونكتاد)، فمن الواضح أن المؤلفين المجهولين الذين نشروه على الشبكات الاجتماعية يهدفون إلى الإضرار ببلادنا. ومن هنا ضرورة إعادة إثبات الحقائق ووضع النقاش على أسس علمية من خلال الاعتماد على المعطيات كما هي وليس كما يريدها البعض أن تكون. وتجدر الإشارة  أيضا إلى أن تقييم الاستثمار الأجنبي المباشر على مدى سنة واحدة لا يمكن الاعتماد عليه علميا، وبالتالي لا يسمح باستخلاص استنتاجات نهائية، لا سيما بسبب التناقض الحاصل بين المبالغ المعلن عنها في العقود وتلك التي تحققت فعلا خلال السنة المعنية.

بداية ينبغي التذكير  أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة اتجهت إلى الانكماش على المستوى العالمي في السنوات الأخيرة بسبب الاضطرابات التي شهدها الاقتصاد العالمي في أعقاب أزمة كوفيد وعوامل أخرى بما في ذلك على وجه الخصوص الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، والنزاعات  التجارية بين القوى العظمى. وفي هذا السياق القاتم، الذي يتسم بالعديد من الشكوك، تتبنى الشركات المتعددة الجنسيات والمستثمرون الدوليون نهجا حذرا ودون مبالغة. وهذا الانخفاض في الاستثمار الأجنبي المباشر، كما يظهر في الإحصاءات، يؤثر بشكل رئيسي على البلدان النامية وبدرجة أكبر على إفريقيا.

وبالتالي، باقتصارنا على السنوات الثلاث الأخيرة 2021-2023، انتقلت  التدفقات الواردة على المستوى العالمي من 1622 مليار دولار في سنة 2021 إلى 1332 مليار دولار في سنة 2023، وهو انخفاض بنحو 18%.  وانخفضت التدفقات الخارجة من 1882 مليار دولار إلى 1581 مليار  على التوالي، أي بانخفاض قدره 16%. وأوروبا هي القارة التي عانت أكثر من غيرها، وخاصة فيما يتعلق بالتدفقات الواردة خلافا  لأمريكا الشمالية والصين، اللتين تعتبران أول المتلقيين للاستثمار الأجنبي المباشر وأول المصدرين له. وبعبارة أخرى، فإن هذين البلدين جذابان للاستثمار الأجنبي ومزودان للتدفقات إلى الخارج.

ومن حيث النسبة المئوية، وحسب  التدفقات الواردة، لسنة 2023، تستقطب  أمريكا الشمالية 27% من التدفقات (360 مليار دولار)، والاتحاد الأوروبي بالكاد يجذب 4% (مقارنة بـ 16.4% في سنة 2021)، وآسيا 46.6%، بالنظر إلى  الدينامية التي تعيشها هذه القارة التي تضم قوتين عظميين، وهما الصين والهند، و تستفيد إفريقيا أخيرًا من 4٪ فقط (مقارنة بـ 5.1٪ في سنة 2021)، أي مبلغ متواضع قدره 53 مليار دولار لفائدة خمسين دولة يبلغ  عدد سكانها 1.4 مليار نسمة.

ومن ناحية أخرى، فيما يتعلق بالتدفقات الصادرة، تختلف مساهمات المناطق المختلفة بشكل كبير. وهكذا تساهم أمريكا الشمالية بنسبة 32% (مقارنة بـ 20.4% في سنة 2021)، والاتحاد الأوروبي بحصة متواضعة تبلغ 11.8% (مقارنة بـ 33% في سنة 2021)، وآسيا بمساهمة 28.4% (4 نقاط أكثر مقارنة بسنة 2021)، وإفريقياغائبة عمليا. بالكاد 6 مليارات دولار من إجمالي الاستثمارات الصادرة على مستوى العالم البالغة 1581 ملياراً!!

ويتضح من هذه البيانات أن وضع القارة الإفريقية هامشي سواء من حيث التدفقات الواردة أو الخارجة. إذ أن الاستثمار المباشر الأجنبي الذي تستفيد منه القارة الإفريقية والذي يبلغ 53 مليار دولار لا يمثل إلا 1,7% من إجمالي الناتج الداخلي الإجمالي للقارة، والذي يقدر بنحو 3100 مليار دولار. وعلى الرغم من أن القارة بدأت تشهد بعض الزخم على مدى العقدين الماضيين، إلا أن هذا النمو عرف نوعا من التعثر  بسبب عوامل من قبيل  عدم الاستقرار السياسي وتقلبات السوق والتحديات المتعلقة بالفساد والحكامة. ولم تبدأ سوى قِلة من البلدان في النمو شريطة ألا تسقط في  « فخ البلدان المتوسطة الدخل » كما ورد ذلكً في  عنوان تقرير البنك الدولي الذي نُشر مؤخراً. لذا فإن الدول التي تحقق أداءً جيداً نسبياً يمكن عدها على أطراف أصابع اليد الواحدة. وهي، بالترتيب التصاعدي، الدول التالية: مصر وجنوب إفريقيا ونيجيريا وإثيوبيا والمغرب وكينيا. وتجتذب هذه البلدان الستة وحدها ما يقرب من ثلاثة أرباع الاستثمار الأجنبي المباشر إلى إفريقيا. وهذه هي البلدان التي تتمتع باقتصاد متنوع نسبيا وتتمتع بقدر معين من الاستقرار السياسي. وحتى بالنسبة لهذه البلدان، تظل حصة الاستثمار الأجنبي محدودة. ويتراوح بين 2 و3.4% من الناتج الداخلي الإجمالي حسب البلد.

وفي المغرب، يمثل الاستثمار الأجنبي المباشر في المتوسط 3% من الناتج الداخلي الإجمالي وما بين 8 و10% من الاستثمار الوطني. وبطبيعة الحال، فإن المقاربة الكمية  ليست كافية لتقييم سياسة معينة. ويجب علينا أيضا أن نعتمد المقاربة النوعية. وبالتالي، وبعيدًا عن الأرقام والنسب المئوية، من المهم معرفة  القطاعات المعنية بهذه الاستثمارات الأجنبية، ونقل التكنولوجيا المصاحب لها، وآثارها المتموجة في المنبع والمصب، بما في ذلك التأثيرات على التشغيل  وإعادة استثمار الأرباح و »التحالفات » القائمة بين رأس المال الأجنبي ورأس المال الوطني.  ومن خلال دمج كل هذه العناصر في التحليل دون تحيز إيديولوجي، واعتمادا على الأرضية العلمية فقط ومراعاة المصلحة الوطنية، لا يُستبعد الوصول إلى استنتاجات قد  لا تكون مرضية دائمًا. وهذا ما يفسر عزوف بعض الدوائر عن الاستثمار الأجنبي، باعتباره رافعة للإمبريالية. وهذه الممارسة ليست غائبة تماما في الوقت الحاضر، على الرغم من أنها أصبحت أقل شيوعا.

ولذلك نقول نعم للاستثمار الأجنبي ولا يجرؤ أحد على «البصق في الحساء». لكن بشرط أن يكون هذا الاستثمار ملبياً لاحتياجات البلاد، وأن يندرج ضمن  أولوياتها الوطنية المصاغةً بصفةً سيادية . وبهذا المعنى، فإننا نقدر بشكل إيجابي مساهمة الاستثمار الأجنبي في بلادنا. ولكننا لن نوافق بأي حال من الأحوال على الاستسلام للحل السهل ونهج سياسة “دعه يفعل” الذي يعيدنا إلى عهد ولى. إن بلدنا، الغيور على استقلاله، يبقى منفتحا على شراكة مبتكرة وعادلة مع جميع البلدان. وهي اليوم تشكل مثالا لشركائها الأفارقة   لتصبح ثاني أكبر مستثمر في إفريقيا، بعد جنوب إفريقيا مباشرة. ويأتي ذلك نتيجة لتطبيق فلسفة وأسلوب اعتمدهما صاحب الجلالة الملك محمد السادس في مجال العلاقات الدولية والشراكة جنوب جنوب.

المصدر: اليوم 24

كلمات دلالية: الاستثمار الأجنبی المباشر ملیار دولار مقارنة بـ فی سنة 2021

إقرأ أيضاً:

نائبة التنسيقية تدعو لتشجيع نشاط الاستثمار المباشر ورأس المال المخاطر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أكدت النائبة نهى الشريف، عضو مجلس الشيوخ عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، على أهمية تعديل الشكل القانوني لإجراءات تأسيس صناديق الاستثمار المباشر ورأس مال المخاطر المتضمن في المادة 29 من قانون رأس المال، لما لها من أهمية بالغة لجذب رؤوس الأموال، وخاصة على الـ FDI، فهو وسيلة منظمة للمستثمرين الأجانب للاستثمار في قطاعات محددة خاصة في الدول التي يكون الاستثمار المحلي فيها محدود.

وتابعت: "الأمر سيكون أصعب بالنسبة لمصر في ظل الابقاء على معدلات سعر الفائدة العالية الحالية في مصر".

جاء ذلك خلال كلمتها في الجلسة العامة لمجلس الشيوخ اليوم، أثناء مناقشة تقرير اللجنة المشتركة من لجنة الشئون المالية والاقتصادية والاستثمار مكتب لجنة الشئون الدستورية والتشريعية عن الطلب المقدم من النائب سامح محمـد أنور عصمت السادات، بشأن دراسة الأثر التشريعي للمادة (29) من القانون رقم (95) لسنة 1992الخـاص بإصدار قانون سوق رأس المال على نشاطي الاستثمار المباشر ورأس المال المخاطر، والمادتين (46) مكرراً 2، 50) من قانون الضريبة على الدخل الصادر بالقانون رقم 91 لسنة 2005، فيما يتعلق بالحوافز والمعاملات الضريبية للنشاطين سالفي الذكر.

وقالت نائبة التنسيقية، إن الهياكل القانونية والممارسات العملية المطبقة في مصر غير كافية لجعل مصر مركزا قويا لها، وأضافت: فيما يتعلق بال Venture Capital، فأكبر الشركات العالمية مثل Facebook و Apple وAmazon بدأوا كرأس مال مخاطر، والآن أصبحت ميزانياتهم تعادل اقتصاديات دول".

وأشارت إلى أنه من غير المعقول أن يكون 33% من رواد الأعمال في شمال أفريقيا والشرق الأوسط هم Enterprenures مصريين ولا تستطيع الاحتفاظ بهم كلهم في مصر ويتم استقطابهم خارج مصر في أسواق مجاورة في المنطقة، مطالبة بتشجيع هذا النوع من الاستثمار ورأس المال المخاطر لتمويل المشروعات الناشئة ورواد الأعمال المصريين.

وأكدت النائبة نهى الشريف، موافقتها من حيث المبدأ على الدراسة وتقرير اللجنة المشتركة، مع مراعاة قيام الهيئة العامة للرقابة المالية بدورها الرقابي، بالإضافة للتأكيد على تطبيق معايير حوكمة الشركات وذلك لاستيعاب الجهات الرقابية لطبيعة ومتطلبات هذا النشاط والعمل على وجود توازن بين متطلبات دورهم الرقابي الذي لا غني عنه لحماية السوق وبين تيسير ممارسة الأعمال. 

وأشارت إلى أن هذه الدراسة خطوة إيجابية نحو جذب رؤوس الأموال، وقد تم التأكيد على تغيير الشكل القانوني لهذا النوع من الاستثمار ليأخذ شكل شركة توصية بسيطة، أو شكل شركات المسؤولية المحدودة، كما هو معمول به في التشريعات المقارنة دوليا، وحيث يقترح التعديل السماح بتأسيس هذه الصناديق كشركة توصية بسيطة أو ذات مسؤولية محدودة، بدلا من الشكل الحالي المحدود بالشركات المساهمة.

مقالات مشابهة

  • بعد “كان” 2025..تخصيص ملعب محمد الخامس للتداريب في مونديال 2030
  • المركز العربي الأوروبي يجدد ثقته في إسلام الغزولي رئيسًا للهيئة الاستشارية للعام الخامس
  • ارتفاع تاريخي.. احتياطي النقد الأجنبي يسجل 47.109 مليار دولار
  • مدبولي: ارتفاع احتياطات النقد الأجنبي الصافية لـ47.109 مليار دولار في ديسمبر الماضي
  • أعلى مستوى تاريخي.. رئيس الوزراء يشيد بارتفاع احتياطات النقد الأجنبي الصافية إلى 47.109 مليار دولار
  • مدبولي يشيد بارتفاع احتياطي النقد الأجنبي إلى 47.109 مليار دولار
  • «زيلينسكي» يناشد دعم الغرب: لا أعرف أين ذهبت «200 مليار دولار» التي خصصتها أمريكا
  • مصر تحتل المركز الخامس عالميا فى تصدير النباتات الطبية والعطرية.. اعرف التفاصيل
  • نائبة التنسيقية تدعو لتشجيع نشاط الاستثمار المباشر ورأس المال المخاطر
  • "أبو شقة" يطالب بإنشاء محكمة متخصصة لفض منازعات سوق المال والاستثمار