هذه الكتلة الهائلة في دنيا النشاط الأدبي والثقافي وفي علم الاجتماع الذي نبغ فيه ودرسه لطلابه بجامعات السودان والخارج انتهي بها المطاف في دار المسنين بكسلا ...
يبدو أن موجة النزوح باغتته وهو في حالة من الضعف والأعياء ووجد نفسه في كسلا يضمه بيت للنزوح استجم فيه شهرا كاملا استعاد فيه شيئا من صحته وتعافي بعض الشيء مما كان يعاني ويكابد من اعتلال وكان لطلابه ومن واقع مسؤولياتهم تجاه من علموهم أن جعلوا من هذا النهج قيمة وتساموا بالقضية وقدموا جهدهم في أن يحجزوا له مكانا بين جدران بيت للنزوح كان أقصي المني والجميع إليه في أشد الاحتياج والأرض قد ضاقت بما رحبت علي المواطنين في طول البلاد وعرضها والدانات والصواريخ تنهال علي رؤوسهم والمرض والجوع يفتك بهم والملاحقات والمساءلات تمسك بخناقهم فصاروا مثل كرة القدم يتبادل في ركلها الجيش والدعم السريع باقصي درجات الاستهتار وبفوضي ضاربة اطنابها .

.. نعم انها حرب تستحق لقب ( دافوري ) بمعني الكلمة لايديرها حكم وتجري بالتالي من غير نظام أو عرف وقانون والقوي فيها ياكل الضعيف وللاسف الضعيف هنا هو الشعب وكلا الطرفين المتحاربين يتفننان في إيذاءه بافتك الأسلحة المستجلبة من الخارج بحر ماله وذهبه وصمغه العربي وماشيته الحية والمذبوحة وبكافة خيراته ويتفننون في تضييع الوقت ولا يسمحون بهدنة يلتقط فيها الشعب أنفاسه ليأكل أو يتداوي أو يهجع بعد طول سهر ليحلم بالفرج بعد كل هذا الركام من العناء ...
كان البروف صلاح فرج الله وكما نعرف منه من رقة وكثير ذوق وزهد فهو كما يقول عن نفسه أنه لم يفكر مطلقا في أي منعطف من حياته أن يكون ثروة وكان كل حلمه لقمة هنية وصحة وعافية وان ينهض بالمسؤولية لأنها قيمة يرتفع بها فوق القضية وان يخدم وطنه لأن خدمة الوطن لاتشتري بالمال ...
لقد وجد ماقدمه له طلابه في كسلا من مهجع في معسكر بيت نزوح استعاد فيه صحته عرفانا وعملا طيبا منهم جاءه في وقت الحاجة الشديدة الملحة يوم خرج من بيت أهله في العباسية بأم درمان في ظروف لم تمر علي السودان أكثر منها ظلاما وقسوة وايلاما ووجد نفسه وقد احاطه طلابه بكل ماتوفر لهم في تلك اللحظات العصيبة ولو كان بمقدارهم أن يضعوه في افخم الفنادق من ذوات ال ٧ نجوم لما تأخروا ولو كان باستطاعتهم أن يضعوه في أكف الراحة لكانوا أشد الناس سعادة ... ولكنها الحرب اللعينة العبثية المنسية التي يديرها مردة وشياطين يقتلون القتيل ويمشون في جنازته ويشيعونه باهازيح النصر ويبشرونه بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ...
البروف صلاح فرج الله الإنسان عالي الثقافة ساقب الفكر الزاهد الورع التقي ابن ذاك الجندي ( العم فرج الله) الذي عمل في القوات المسلحة وتقاعد عن الخدمة بسجل نظيف وأداء رفيع بشهادة القادة العسكريين الذين عمل معهم ... وكان قد التحق بمدرسة ام درمان الأهلية الثانوية قبل ترحيلها وقد كانت بالقرب من منزل الزعيم الراحل الأزهري ( جعل الله سبحانه وتعالي الجنة متقلبه ومثواه ) ... التحق بها في وظيفة ( صول المدرسة ) بكل ما عرف عنه من قوة شخصية وانضباط توارثه عنه ابنه الكبير ابراهيم الذي عمل في مصلحة البريد والبرق في وظيفة ( وكيل بوستة ) وهي كما نعرف وظيفة ضمت خيرة أدباء وشعراء البلاد ... كان الأستاذ إبراهيم يجيد اللغة الانجليزية وقد اسسي في مابعد معهدا لتدريس هذه اللغة وقد صادف هذا المعهد كثيرا من النجاح وقد أطلق عليه اسم ( العميد ) فكان إسما علي مسمي ...
وكان للبروف صلاح فرج الله نصيبا من ميراث والده في الضبط والربط وقوة الشخصية ... وزاد علي ذلك بنهمه اللامحدود للقراءة ومشاركاته الناضجة في كافة الفعاليات الثقافية والأدبية ولا تفوته ندوة ولا حلقة نقاش أو حوار وحتي اتحاد الكرة لما عرف فيه من وطنية كان يطلب منه أن يحاضر اللاعبين وهم يستعدون لخوض مباريات تنافسية عالمية أو إقليمية لما عرف عنه من مقدرة عالية في شحذ الهمم ومدها بالطاقات الإيجابية وكان يقول لهم ويردد دائما أن حب الوطن الحبيب لايشتري بالمال وعليكم بذل العرق واقصي الجهود لتضعوا وطنكم بين النجوم .
إن كنت اتمني شيئا في هذه اللحظات لتمنيت أن أكون في كسلا في دار المسنين اسعد بجوار البروف صلاح فرج الله وانا اعرفه غاية المعرفة وقد استفدت من علمه الكثير وكان يقدم علمه بكل ادب وتواضع وشفافية وقد أحبه الجميع بمختلف الطبقات الاجتماعية فنتمني أن تضع هذه الحرب اللعينة العبثية المنسية أوزارها ونعود جميعا الي الوطن والي بيوتنا وأن نري البروف صلاح فرج الله ذلك الكوكب المضيء في سماء الفكر يتلألأ مابين قاعة الشارقة ومركز البرير الثقافي ومركز العز بن عبد السلام وكل بيوت الثقافة في العاصمة والاقاليم وخارج الوطن...
لك من الجميع اطيب الامنيات واتمني أن نراك دائما ذاك المفكر المطبوع والشاعر المرهف والأديب الذي له بصمته الخاصة وسحره العجيب وتأثيره الذي يضوع بين الحاضرين مثل الفل والياسمين والورد والعنبر .
ودمتم

حمدالنيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي.
معلم مخضرم.

ghamedalneil@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

إفطارهم في الجنة.. مصطفى عبيد شهيد المفرقعات الذى فدى الوطن بحياته

في يوم عادي، بدأ الرائد مصطفى عبيد الأزهرى يومه كأي يوم آخر، لا يعلم أن لحظات قليلة ستكتب له مكانًا خالدًا في ذاكرة الوطن.

ابن قرية جزيرة الأحرار في القليوبية، خبير المفرقعات في مديرية أمن القاهرة، حمل على عاتقه مهمة كانت شديدة الخطورة، لكنه لم يتردد لحظة في مواجهتها.
ودع زوجته وأطفاله "لارا" و"يوسف"، وعاد إلى عمله الذي كان يتطلب الشجاعة والصبر في مواجهة الموت بشكل يومي، ولكن لم يكن يدرك أن الموت سيأتيه في لحظة كان فيها يواجه خطرًا أكبر.

التقطت زوجته الهاتف، لتطمئن عليه في الساعات الأولى من عمله، فأوصته قائلة: "خلى بالك من نفسك، وربنا يحفظك"، وكان رده مفعمًا بالطمأنينة: "سيبها على الله، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا". وها هي ابنته الصغيرة "لارا" التي طلبت منه بألم، "إنت وحشتني أوى يابابا"، فأجابها قائلاً: "هاخلص شغل ياحبيبتى وهاجى على طول"، وكأن الوداع كان أمرًا عابرًا في حياته، ولكن القدر كان يخبئ له شيئًا أكبر.

في تلك اللحظات، جاء البلاغ الذي سيغير كل شيء، بلاغ عن حقيبة مملوءة بالعبوات الناسفة في منطقة أبو سيفين بعزبة الهجانة.
أسرع مصطفى مع زملائه إلى المكان، لكن قلبه المملوء بالشجاعة دفعه ليكون في مقدمة الصفوف، بدأ التعامل مع العبوات الناسفة، وبينما هو في اللحظات الحاسمة، انفجرت إحدى العبوات، لتسجل اللحظة المأساوية سقوطه شهيدًا غارقًا في دمائه، مقدّمًا روحه فداءً لوطنه.

لم يكن مصطفى عبيد مجرد ضابط في الشرطة، بل كان مثالًا للتضحية والشجاعة.
هو ابن أسرة عظيمة؛ فوالده اللواء أركان حرب بالمعاش عبيد الأزهرى وجده أحد شهداء القوات المسلحة في العدوان الثلاثي.
أهالي جزيرة الأحرار ودعوا مصطفى في جنازته وسط هتافات "لا إله إلا الله، الشهيد حبيب الله"، بينما أطلقت سيدات القرية الزغاريد، وكأنهن يودعن بطلًا ترك بصمة في تاريخ الوطن.

الرائد مصطفى عبيد، لم يكن مجرد شهيد في 2019، بل كان رمزًا للإيمان بأن الوطن لا يُحفظ إلا بتضحيات من مثل هذه الأرواح الطاهرة.


 







مشاركة

مقالات مشابهة

  • علامات ليلة القدر.. هل تحققت في الأيام الوترية الماضية؟
  • «استشاري الشارقة» يُدخل البهجة على نزلاء دار رعاية المسنين
  • فيديو | نبض الوطن سلطان.. أغنية مهداة إلى حاكم الشارقة
  • نبض الوطن سلطان.. أغنية مهداة إلى حاكم الشارقة
  • هذا الذي يدور في اليمن‬ .. ‫وهذا القادم‬ !
  • مصطفى شيشي: أفضل الأعمال في هذه الأيام العشر قيام الليل
  • إفطارهم في الجنة.. مصطفى عبيد شهيد المفرقعات الذى فدى الوطن بحياته
  • ساجدا في خيمته.. صلاح البردويل الذي غيبته إسرائيل من شوارع الوطن
  • إستشهد وهو يصلي القيام في خيمته .. من هو صلاح البردويل الذي اغتاله الاحتلال؟
  • ما الذي تريده واشنطن من إملاء الشروط؟