الدكتور عبد الرحمن المختار
انتهت حِقبةُ الاستعمارِ التقليديِّ للبلاد العربية بعد تضحياتٍ جسيمةٍ قدَّمها أحرارُ الأُمَّــة كانت أهمُّ ثمارها إجبارَ القوى الاستعمارية الغربية على الرحيل.
غير أن ذلك الرحيل الذي جاء بعد تكبدها خسائرَ كبيرةً مادية وبشرية، لم يكن سوى تهيئة لحقبة استعمارية أسوأ من سابقتها، فقد أدركت هذه القوى أن استمرارَ احتلالها للبلاد العربية عسكريًّا سيكلّفُها الكثير؛ بسَببِ شدة المقاومة التي واجهتها واستعصاء أحرار البلاد العربية على الرضوخ للسطوة العسكرية الاستعمارية؛ فحين نجحت المقاومة العربية في إجبار القوى الاستعمارية على الرحيل، وضعت هذه القوى بدقة عالية خطة لعودتها للبلاد العربية، وَفْـقًا لأُسلُـوب جديد مختلف تماماً عن أُسلُـوبها الاستعماري التقليدي.
وكان تركيز القوى الاستعمارية لفرض سيطرتها على البلاد العربية، وَفْـقًا للأُسلُـوب الاستعماري الجديد يقوم على أَسَاس الاعتماد على موظفين محليين من أبناء البلاد العربية يؤدون ذات الدور الذي كان مسنَداً لقواتها العسكرية في ظل أُسلُـوبها الاستعماري التقليدي؛ فبعد تمكّن هذه القوى من تقسيم البلاد العربية إلى دويلات صغيرة عملت على إقامة أنظمة حكم على رأس كُـلٍّ منها، واجهتها عربية، ووظيفتها صهيوغربية، بغض النظر عن صيغة النظام، جمهوري أَو ملكي وراثي، فجميعها أنظمة وظيفية خاضعة بشكل كامل لسيطرة القوى الاستعمارية الغربية تنفذ بهدوء مخطّطاتها، وتعمل على تحقيق أهدافها، وحماية مصالحها غير المشروعة بكل إخلاص وتفانٍ، تلك المصالح التي تمثل ثروات الشعوب العربية ومواردها الطبيعية.
قمعُ الحركات التحرّرية:
وبتنسيقٍ كاملٍ بين الأنظمة العربية الوظيفية والقوى الاستعمارية، جرى قمع جميع الحركات والتحَرّكات الشعبيّة العربية الرافضة لتبعية أنظمة الحكم وارتهانها للهيمنة الغربية للقوى الاستعمارية، وقد ساهمت هذه القوى في قمع التحَرّكات الشعبيّة بوسائل متعددة، منها الوسائل الناعمة، التي تم من خلالها احتواءُ أغلب الحركات التحرّرية، والتحَرّكات الشعبيّة في البلاد العربية لينتهي الأمرُ بحصر مطالب تلك الحركات في مُجَـرّد المشاركة ولو شكليًّا في شؤون الحكم، وبذلك تم صرفها عن أهدافها السامية، تحت عناوين جذابة متعلقة بحقوق الإنسان وحق المرأة في المشاركة في الحياة السياسية.
وتحت وطأة عنف الأنظمة العربية الوظيفية وجاذبية العناوين المضلِّلة للقوى الاستعمارية تاهت الحركات العربية التحرّرية، وأضاعت الطريقَ الموصل لأهدافها وغاياتها الحقيقية، وقليلٌ من الحركات التحرّرية العربية والتحَرّكات الشعبيّة، المناهضة للهيمنة الاستعمارية لم تتمكّن القوى الاستعمارية من احتوائها، فقد كان بديل الاحتواء هو التنكيل بالقيادات الموجهة لتلك الحركات التحرّرية والتحَرّكات الشعبيّة، ولو ترتّب على ذلك تدمير البلد بما فيه وبمن فيه، بإدخَاله في دوامات عنف لا تنتهي، تتحكم بها القوى الاستعمارية، وتمسك بخيوط تحريكها في الاتّجاه الذي يحقّق أهدافها، ويحافظ على مصالحها غير المشروعة.
فَخُّ مخطّط القوى الاستعمارية الغربية:
وإذا ما رأت القوى الاستعمارية أن مصالحها تقتضي العمل على وقف دوامة العنف مؤقتاً، فَــإنَّها تقدم نفسها وسيطاً مخلصاً حريصاً على استقرار البلد؛ فتعمل على تيسير طاولة مفاوضات تغدق فيها على الأطراف المتصارعة بمصطلحات التسامح والتسامي في الجراح، ورفع مصلحة البلاد فوق مصالح الأفراد، وكلّ ذلك وغيره من خلال خبرائها المتخصصين المتمرسين في هذا المجال، لتنتهي الجولات التفاوضية غالبًا بالاتّفاق على تشكيل سلطة تمثل جميع الأطراف المتصارعة، وفي هذه الحالة يصبح الجميع عبارة عن نظام وظيفي جديد حريص على خدمة القوى الاستعمارية ومدينٍ لها ومتفانٍ في تحقيق أهدافها، وحماية مصالحها غير المشروعة، وبتمكّن القوى الاستعمارية من السيطرة على جميع الأطراف التي يتكوَّنُ منها النظامُ الوظيفي الجديد، فَــإنَّ هذه الأطرافَ تتنافَسُ بشدة في إظهار حرصها على إرضاء هذه القوى، وولائها لها، وتفانيها في خدمتها.
وهكذا وقعت البلاد العربية في فخ مخطّط القوى الاستعمارية الغربية الذي فاق في سوئه بعشرات المرات الحقبة الاستعمارية العسكرية المباشرة التي تنامت في ظلها روح المقاومة، واقترنت بوعي شعبي رافض للوجود الاستعماري الغربي، ومقاوم له بمختلف الوسائل؛ باعتبَار أن التواجد الغربي في حينه في البلاد العربية مثل احتلالاً للبلاد، وهذه الصورة التقليدية واجهتها الشعوب العربية بالمقاومة المسلحة، أما تواجد القوى الاستعمارية الغربية في الفترة اللاحقة لحقبة الاحتلال العسكري المباشر، فقد تم تمويهه بعناوينَ ناعمة جذابة، منها التعاون في مختلف المجالات، ومنها الشراكة، ومنها التحالف، ومنها الاستضافة، وغيرها من العناوين التضليلية.
ومع أن القوى الاستعمارية الغربية تخلت نظريًّا عن صورتها التقليدية القائمة على التواجد العسكري المباشر في البلاد العربية وإخضاع أهلها بالقوة المسلحة، فَــإنَّها قد أسندت هذه المهمة إلى الأنظمة الوظيفية التي نصّبتها على رأس كُـلّ قسم من تقسيمات الجغرافيا العربية، التي عملت عليها قبل وأثناء وبعد مغادرتها، ورغم ذلك فَــإنَّ القوى الاستعمارية الغربية لم تتخل تماماً عن القوة العسكرية، بل ظلت متمسكة بهذه القوة، لكن في صورة وظيفية يؤديها نيابةً عنها وبإشرافها وتخطيطها وإسنادها نظامًا وظيفيًّا آخر أقامته هذه القوى بالتزامن مع إقامة الأنظمة الوظيفية العربية التي مثلت النسخة الناعمة لهيمنتها، في حين مثّل الكيان الصهيوني النسخةَ العنيفة التي تمسَّكت وأمسكت بها القوى الاستعمارية الغربية لفرض نفوذها العسكري، وسيطرتها على البلاد العربية، وإخضاع من استعصى عليها إخضاعه بالقوة الناعمة.
ولقد أدرك الجميعُ ما آل إليه حالُ الحركات التحرّرية الوطنية والدينية والقومية تحديدًا عقب نجاح المشروع الفكري التحرّري النهضوي في بلادنا بطرد القوى الاستعمارية، وكيف انكشفت تلك الحركات حين ارتمت في أحضان القوى الاستعمارية وأدواتها الإقليمية في المنطقة، وكيف انفضح دور قيادات من تلك الحركات التي عملت خلال عقود من الزمن في خدمة تلك القوى وتحقيق أهدافها التدميرية في مختلف المجالات، ولم يكن أحد يتوقع أن تنزلق تلك القيادات في براثن العمالة للقوى الأجنبية، وهي التي طالما ردّدت الشعارات الدينية والوطنية والقومية لتصبح في نهاية المطاف مُجَـرّد أدَاة هدم لكل مقومات البلد بيد القوى الاستعمارية الغربية، وأدواتها الإقليمية في المنطقة، ولم يكن أحد يتوقع أن يشاهد في يوم من الأيّام أدعياءَ القومية العربية التقدمية في أحضان الإمبريالية الأمريكية والملكية الرجعية السعوديّة! التي طالما رفع أُولئك الأدعياء شعارات محاربتها، لينتهي بهم المطاف عبيداً في أسواق نخاستها.
ولذلك فلا يعد مستغرباً موقف الأنظمة العربية وراثية أَو ديمقراطية شكلية مما يقترفه الكيان الصهيوني وشركاؤه من القوى الاستعمارية الغربية من أفعال إبادة جماعية في قطاع غزة منذ أكثر من عشرة أشهر؛ فهذه الأنظمة وإن كانت واجهتها عربية إلا أنها أنظمة وظيفية مهمتها ووظيفتها الأَسَاسية النيابة عن القوى الاستعمارية الصهيوغربية في إخضاع الشعوب العربية لسيطرتها، وحراسة مصالحها، وَإذَا ما أخفق أيُّ نظام منها في أداء الوظيفة الموكلة إليه، فَــإنَّ بديله سيكون جاهزًا للحلول محله، وسيتم الانقضاضُ عليه بمُجَـرّد إشارة من تلك القوى، وسيكون البديل أكثر نشاطاً وحيوية واستعداداً لإثبات ولائه، ولعل في العقد الماضي من الأمثلة ما يكفي للتدليل على وظيفية الأنظمة العربية وتبعيتها وارتهانها للقوى الاستعمارية، وفي العشرة الأشهر الماضية ما يكفي أَيْـضاً للتدليل على انقطاع صلتها بالجغرافيا العربية، وانتفاء ولائها لشعوبها.
ورغم الانكشاف الذي لم يسبق له مثيل خلال العقود الماضية، والذي تأكّـدت فيه بكل وضوح وظيفية الأنظمة العربية وعمالتها وتبعيتها وولائها لمشغليها، إلا أن هذه الأنظمة ومشغليها لم يقيموا أي اعتبار لردة فعل الشعوب العربية على تعري وانفضاح حقيقة أنظمة حكمها؛ اعتماداً على ما سبق أن أحدثته هذه الأنظمة من تدمير للقيم الدينية والأخلاقية لشعوب الأُمَّــة العربية، خدمة للقوى الاستعمارية الغربية المشغلة للأنظمة العربية لحسابها في كُـلّ ما يحقّق أهدافها.
العودةُ إلى القيم الإسلامية:
وليس أمامَ شعوب الأُمَّــة العربية من خيار سوى العودة لقيمها الإسلامية الأصيلة، وطريق عودتها واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وليس مبالغةً القولُ إن ذكرى المولد النبوي الشريف -على صاحبه وآله أفضل الصلاة وأزكى التسليم- تعد محطة مهمة للتزود بقيم دين الله القويم، والاقتدَاء بنبيه الكريم، ولعل من بركات هذه الذكرى لهذا العام عملية معبر الكرامة بين الأردن والكيان الصهيوني، هذه العملية التي تمثل بحق رسالة واضحة إلى شعوب الأُمَّــة الإسلامية وخُصُوصاً الشعوب العربية، مفادُها أن هذه الطريقة حصراً هي التي يجب أن تتبع في كُـلّ البلاد العربية والإسلامية للتعامل مع أي تواجد ليس للكيان الصهيوني فحسب، بل مع كُـلّ القوى الشريكة له في جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وقد تحمل الأيّام القادمة بإذن الله تعالى المزيد من بركات الذكرى العطرة لمولد النور؛ لتدشّـنَ بذلك شعوبُ الأُمَّــة مشروع عودتها إلى نبيها ودينها؛ ولتتمكّنَ بذلك من وأد مشاريع قوى الإجرام الصهيوغربية، وتلقي بأنظمة حكمها الوظيفية العميلة إلى مزبلة التاريخ.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: ن القوى الاستعماریة الأنظمة العربیة الشعوب العربیة البلاد العربیة تلک الحرکات ة العربیة هذه القوى ف ــإن ة التی
إقرأ أيضاً:
“اللجنة” لصنع الله إبراهيم: كيف تسائل الرواية أنظمة القهر؟
إبراهيم برسي
تُعد رواية “اللجنة” لصنع الله إبراهيم أحد أهم الأعمال التي كسرت القوالب التقليدية للسرد العربي الحديث. فمن خلال بنيتها التجريبية، وتحليلها العميق للسلطة والاستلاب،
تقدم الرواية قراءة نقدية لأنظمة القهر السياسي والاقتصادي، مما يجعلها وثيقة أدبية تحمل بعدًا فلسفيًا يتجاوز زمنها. حيث تجاوزت القوالب التقليدية للسرد لتقدم نصًا عميقًا ومتعدد الأبعاد.
استطاع صنع الله إبراهيم أن يمزج بين السرد الفني والنقد الاجتماعي والفلسفي، مما يجعل الرواية وثيقة إنسانية تكشف عن تحولات النظام العالمي وهيمنة الرأسمالية وآليات الاستلاب.
يستنطق صنع الله واقع الهيمنة السياسية والاقتصادية عبر أسلوبه الفريد. يتعامل مع الكلمات كأدوات مواجهة ضد البنى الفوقية التي تمارس استلابها اليومي على الفرد والمجتمع.
إن نصوصه، والتي منها “اللجنة”، ليست مجرد سرديات أدبية بل مساحات للتحليل البنيوي للسلطة والهوية. تجعل القارئ أمام مرآة تعكس تناقضاته مع النظام السائد.
صنع الله، الذي ينهل من تجارب الواقعية الاشتراكية ويناهض الهياكل الاقتصادية النيوليبرالية، يقدم الأدب كفعل مقاومة لا كوسيلة ترفيه.
تُعد رواية “اللجنة” نموذجًا أدبيًا جريئًا يستنطق منظومة الاستبداد السياسي والاقتصادي.
في الرواية، يتم استدعاء البطل أمام ‘اللجنة’ ليخضع لاستجوابات غامضة حول قضايا لا تُوضح طبيعتها بالكامل. تتلاعب اللجنة بأسئلتها وتوقعاته، مما يضعه في حالة دائمة من القلق والارتباك.
هذا الغموض يعكس كيف تعمل السلطة الحديثة على تحييد الفرد وتجريده من إرادته تحت مبررات بيروقراطية لا يمكنه فهمها أو مقاومتها، والتي تتخفى خلف أقنعة البيروقراطية.
يظهر هذا بوضوح في التجربة العبثية التي يخوضها البطل مع “اللجنة”، حيث تكشف الرواية عبر سيرورتها عن كيفية استلاب الفرد من خلال الإذعان لسلطة غامضة وغير محددة، ما يجعل الإنسان خاضعًا لنظام يفرغ هويته المتجذرة من محتواها ويضعه في حالة وجودية من الانفصال عن الذات.
هذا المظهر يتقاطع مع تحليلات فوكو حول السلطة التي لا تتجلى في مؤسسات محددة فقط، بل تتخلل أنسجة المجتمع عبر خطابها وآلياتها الرمزية. “اللجنة” ليست مجرد مؤسسة، بل هي تعبير عن عقلية التحكم التي تحكم العالم الحديث، حيث تُطمس الحدود بين ما هو واقعي وما هو تمثيلي.
تعتمد الرواية على بنية سردية تتسم بالتجريبية والعبثية. يعكس هذا فلسفة عدمية مضمرة تسائل جدوى الأنظمة الوضعية في احتواء الوجود الإنساني.
يمكن قراءة ذلك من خلال عدسة التحليل البنيوي الذي يركز على كيف أن السرد ذاته يتحول إلى أداة للتشكيك في الثنائيات الكبرى.
تشبه تجربة البطل في ‘اللجنة’ ما طرحه ألبير كامو في ‘أسطورة سيزيف’، حيث يجد الإنسان نفسه في مواجهة أنظمة عبثية، لا يستطيع فهمها أو التكيف معها. البطل، رغم محاولاته للإجابة على أسئلة اللجنة أو فهم دوافعها، يبقى عالقًا في دائرة مغلقة من القهر وعدم اليقين.
هذا الانفصال عن المنطق والعدالة يعكس أزمة الوجود الإنساني في عالم تتحكم فيه قوى فوقية مجهولة، مما يثير تساؤلات حول الثنائيات الكبرى: المعرفة والجهل، الحقيقة والوهم، الفرد والجماعة.
نجد هنا صدى لأفكار رولان بارت حول “موت المؤلف”، حيث يغيب صوت الكاتب ليحل مكانه نص مفتوح للتأويل.
في “اللجنة”، يصبح البطل رمزًا لذواتنا المعذبة، العاجزة عن فهم عالمها، ما يخلق نوعًا من التوتر النفسي بين القارئ والنص.
من خلال تسليط الضوء على مركزية “اللجنة”، تُبرز الرواية نقدًا عميقًا للرأسمالية العالمية التي تحكمها “لجان” رمزية تسير الاقتصاد والسياسة في الخفاء. إن استعراض الرواية لهذه الفكرة يقترب من رؤية ماركس حول الهيمنة الطبقية، حيث تُصبح السلطة أداة لشرعنة الاستغلال الممنهج للأفراد.
يبرز صنع الله إبراهيم الصراع بين الهويات المحلية والأدوات الرأسمالية الكونية، في محاولة لاستعادة ما يسميه غرامشي بـ“الهيمنة الثقافية”.
ففي الرواية، يتم توظيف وسائل الإعلام والتعليم والبيروقراطية كوسائل لفرض هذه الهيمنة، مما يؤدي إلى إنتاج سرديات تتلاعب بالوعي الجمعي وتُعيد تشكيله وفقًا لمصالح الطبقة المسيطرة.
اختيار صنع الله للغة حادة ومتقشفة يعكس الرغبة في فضح زيف البنية الخطابية السائدة.
تتسم اللغة بالواقعية والجفاف، ما يجعلها أداة لزعزعة الاستقرار العاطفي للقارئ.
تُستخدم اللغة في الرواية بأسلوب يتجنب الوصف الزائد أو الزخرف.
فعلى سبيل المثال، وصف مشهد استدعاء البطل أمام اللجنة يأتي مباشرًا وجافًا، ما يجعل القارئ يشعر بثقل اللحظة وعدميتها.
هذه الحدة اللغوية ليست مجرد اختيار أسلوبي، بل هي أداة تُظهر الانفصال بين الفرد والمؤسسات المحيطة به ووضعه في مواجهة مباشرة مع وحشية الواقع.
يشبه ذلك استخدام كامو في “الغريب” للغة كوسيلة لتجسيد العبثية.
النصوص في “اللجنة” ليست فقط أدوات تعبير، بل هي أيضًا كيانات فلسفية تُحرض على التفكير.
الرواية تُمثل مثالًا على ما يُمكن أن نُسميه بـ“اللغة المقاومة”، تلك التي لا تخضع للقواعد المألوفة التي تهدف إلى تسكين القارئ أو جذبه، بل تصدمه وتعيد ترتيب علاقته بالعالم.
بهذا المعنى، تتجاوز الرواية حدود السرد التقليدي لتصبح نصًا فلسفيًا يطرح أسئلة حول كيفية استخدام الخطاب لتكريس الهيمنة أو لفضحها.
تتقاطع هذه الفكرة مع رؤى جاك دريدا حول التفكيك؛ حيث اللغة ليست ثابتة ولا بريئة، بل هي وسيط يتلاعب بالمعاني وينزعها من يقينيتها.
بهذا، تتحول “اللجنة” إلى مختبر تفكيكي يُظهر هشاشة الأنظمة السياسية والثقافية، ويُعيد للقارئ دور المُفكر والمُفسر بدلًا من كونه مستهلكًا للنص.
“اللجنة” ليست مجرد نص أدبي، بل هي نص فلسفي متعدد الطبقات يحاكم السلطة وهيمنتها على الأفراد في عالم يعج بالسرديات المتجذرة في أنظمة الاستلاب والقهر.
إن الرواية، عبر بنائها المعماري المعقد ولغتها المتقشفة والعبثية، تدفع القارئ إلى إعادة التفكير في موقعه كفرد ضمن منظومة أوسع تحاول استلابه من ذاته.
في هذه الرواية، يكشف صنع الله إبراهيم كيف يمكن للسردية الأدبية أن تكون مرآة فلسفية تجسد قضايا الإنسان الحديث: قضايا الهوية، والاغتراب، والاستلاب في مواجهة هيمنة الرأسمالية العالمية وآلياتها الخفية.
إن “اللجنة” تُعيد طرح تساؤلات وجودية كبرى عن موقع الفرد بين القوى الأكبر التي تتحكم بمصيره، مما يجعلها نصًا يتجاوز أبعاده السردية ليصبح فعلًا فكريًا ومقاومًا في آنٍ واحد.
لا يمكن قراءة الرواية دون التفكير في تأثيرها البعيد على وعي القارئ.
فهي تقدم نقدًا عميقًا للأنظمة القمعية، بطريقة تجعل القارئ متورطًا عاطفيًا وفكريًا.
كما أن تجربة البطل في مواجهة اللجنة تُذكرنا بتحليل أدورنو وهوركهايمر عن “جدل التنوير”، حيث تصبح الأدوات التي يفترض أن تحرر الإنسان هي ذاتها التي تقيده وتخضعه.
صنع الله إبراهيم يدعو القارئ، بشكل غير مباشر، إلى المقاومة الفكرية لتلك السرديات الهيمنية، وإلى التفاعل معها بتساؤل دائم.
ختامًا، يمكننا القول إن “اللجنة” ليست مجرد عمل أدبي، بل هي وثيقة إنسانية تحمل في طياتها رؤية فلسفية عميقة لنظام الهيمنة العالمية.
بهذا المعنى، تقف ‘اللجنة’ في مصاف الروايات العالمية الكبرى التي تناقش قضايا الإنسان المعاصر مثل ‘1984’ لجورج أورويل و’محاكمة’ كافكا.
إنها ليست مجرد انعكاس للواقع العربي، بل هي أيضًا صرخة إنسانية ضد كل أشكال القهر والاغتراب التي يعاني منها الفرد في مواجهة أنظمة تسعى لتفريغه من جوهره.
بمهارة نادرة، يجعل صنع الله من السردية وسيلة لتفكيك الخطابات السلطوية وكشف تناقضاتها، ليبقى النص شاهدًا حيًا على قدرة الأدب على الوقوف في وجه التسلط، والتحريض على استعادة الإنسان لإنسانيته المسلوبة
zoolsaay@yahoo.com