لماذا يقترف الإسرائيليون المجازر؟ تجليات عقيدة المحو والإبادة
تاريخ النشر: 10th, September 2024 GMT
"عندما أرغب في استبدال بناية جديدة ببناية قديمة فعليّ هدم القديمة" (تيودور هيرتزل)
عشرات العائلات الفلسطينية دفنها القصف الإسرائيلي فجر العاشر من أيلول/ سبتمبر، مع خيامها التي أوت إليها في منطقة المواصي بخانيونس في قطاع غزّة. سيدور السؤال عن الرسائل والأهداف الإسرائيلية من هذه المجزرة التي استهدفت بنحو مفضوح مكانا لإيواء النازحين؛ سبق لـ"إسرائيل" وأن صنفته مكانا إنسانيّا آمنا.
ليس ثمّة حاجة لمناقشة الأكاذيب الإسرائيلية، بما في ذلك هذا الاستخفاف المريع بالعالم بادعاء استخدام الذخائر الدقيقة والحرص على تجنيب المدنيين القصف، لكننا بحاجة لمناقشة السؤال المتكرّر عند كل مجزرة إسرائيلية عن رسائل الاحتلال المرادة منها، وبالرغم من الخطأ في هذا السؤال، فإنّه ينطوي على معنى مهمّ من حيث استخفاف الإسرائيلي بالدم الفلسطيني، بجعله المجازر بريدا لرسائله. فالمدنيون الفلسطينيون، وأماكن إيواء النازحين، وعموم معالم الحياة الحضرية والعمرانية، وجميع أشكال التشبث بالحياة وإرادة تجاوز التدمير الممنهج؛ كالإدارات المحلية والمرافق الصحية والدفاع المدني ونقاط توزيع المساعدات، ذلك كلّه يحوّله الإسرائيلي إلى صندوق بريد من الدم والنار، إلا أنّ الخطأ في السؤال في عزله الضمنيّ للمجازر الإسرائيلية عن بعضها وعن سياقها التأسيسيّ الواسع.
بالتأكيد لا ننفي وجود أغراض آنية من كلّ مجزرة قد تندرج في سياق سياسيّ جار، ولكنّ ذلك كلّه جزء مما هو أوسع، وقائم على أساس سابق، فمجزرة المواصي هذه تنضمّ إلى مجزرة المواصي السابقة في تموز/ يوليو الماضي، وهما بعض من المجازر الناجمة عن الاستهداف المتعمّد لأماكن إيواء النازحين، وهذه المجازر كلّها صور أخرى من حرب الإبادة الشاملة، التي استهدفت بنحو شديد الوضوح، لا يقبل الالتباس أو التساؤل، إزاحة الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة عن فلسطين. وقد بلغ ضحايا الإزاحة هذه حتى اللحظة 41 ألف شهيد، وأكثر من 94 ألف مصاب، في غمرة النزوح المفتوح الشامل، حرب الإبادة هذه، استمرار صهيونيّ بديهيّ لحرب الإبادة في العام 1948، إذا كان المقصود من ذلك إبادة الوجود الفلسطيني في الأرض الفلسطينية، فبقطع النظر عن النقاش المفاهيمي، حول الاختلاف بين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، فإنّه من الممكن وضعهما في إطار أوسع، وهو "المحو"وفي قبضة حصار التجويع، وبين ركام الحياة المدمّرة بالكامل، وفي تجسيد عمليّ لعدّ الغزّيين مذنبين كلّهم، وتصويرهم بالحيوانات البشرية، والدعوة لتجويعهم حتى الموت أو الاستسلام، والإعلان الصريح عن مخطّط تهجيرهم، وقد بلغ الاختلال العقلي والانحطاط الأخلاقي، عند بعض رؤوس الاحتلال، حدّ الدعوة إلى ضرب الفلسطينيين في غزّة بالقنابل النووية، وقتل عشرات الآلاف منهم في ضربة واحدة لا على دفعات!
حرب الإبادة هذه، استمرار صهيونيّ بديهيّ لحرب الإبادة في العام 1948، إذا كان المقصود من ذلك إبادة الوجود الفلسطيني في الأرض الفلسطينية، فبقطع النظر عن النقاش المفاهيمي، حول الاختلاف بين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، فإنّه من الممكن وضعهما في إطار أوسع، وهو "المحو"، وهو التعبير الذي استخدمه وزير مالية الكيان الإسرائيلي، زعيم حزب الصهيونية، بتسلئيل سموتريتش، حينما دعا مرّة إلى "محو" بلدة حوّارة جنوبيّ نابلس. فالوجود الإسرائيلي تأسّس على عملية محو شاملة، محو الذاكرة التاريخية للأرض الفلسطينية، وإحلال ذاكرة أخرى أسطورية مصطنعة لتسويغ الاستعمار الصهيوني لفلسطين، ومحو الهوية القومية والكيانية السياسية للسكان الأصليين، وقد استمرّ هذا المحو مطّردا بنزع إنسانية الفلسطينيين وإهدار كرامتهم الآدمية، وليس فقط بنفي حقهم السياسي وهويتهم القومية الخاصة، ثمّ كانت أشكال المحو الأكثر عنفا وماديّة، بإزاحة الوجود الفلسطيني عن فلسطين، سواء بالترحيل (الذي يسميه البعض التطهير العرقي)، أو بالقتل الواسع كما في حرب الإبادة الجماعية الجارية الآن، وبهذا يتبين تراكب عمليات المحو هذه على بعضها، لانطلاقها من عقيدة واحدة، وقصدها الغرض ذاته، بحيث لا تختلف جوهريّا الإبادة الجماعية عن التطهير العرقي، ولا الإبادة المادية عن المعنوية، فنفي المعنى نفي وجود في حقيقة الأمر.
تتأسس عقيدة نفي الفلسطيني عن فلسطين على الطبيعة الكولونيالية الخاصّة للاستعمار الصهيوني الاستيطاني في فلسطين، المحاكي لنماذج الاستعمار الأوروبية التي أبادت أمما وشعوبا كاملة في قارات العالم الجديد، ولأجل تحقيق الغرض الغربي من تأسيس الكيان الاستيطاني اليهودي في فلسطين، لا بدّ من فرض أكثرية يهودية لا يمكن لها التحقّق إلا بمحو الفلسطينيين، وقد تطلّب ذلك كلّه صياغة سردية تقوم عليها الأيديولوجيا الصهيونية وتتكفل بمهمة الاستقطاب الاستيطاني، بخلق ذاكرة قومية تاريخية متخيلة لمجتمع المستوطنين، تنفي بدورها الحقيقة الماثلة للسكان الأصليين وما تتصل بها من ذاكرة تاريخية لهم. وهذه الذاكرة المتخيلة لمجتمع المستوطنين، تنهض على خطاب إبادة صريح، كما يقول بن غوريون، عن التواصل التاريخي من يشوع بن نون الذي أباد البلدات التي دخلها في أرض كنعان إلى "جيش الدفاع الإسرائيلي"، فلا فرق هنا بين بن غوريون ومائير كاهانا، ولا بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية؛ من حيث الموقف من سكان الأرض الأصليين.
يتضح بذلك خطأ الفصل، أيْ فصل المجازر الإسرائيلية عن بعضها، وفصل عمليات المحو الإسرائيلية عن بعضها، وفصل راهن السياسات الإسرائيلية عن ماضيها، وفصل تيارات الاحتلال ومؤسساته عن بعضها، من حيث الموقف من الفلسطيني، فمثلا جرى، من بعض المعقّبين، تفسير الحملة الإسرائيلية الأخيرة على مخيمات شماليّ الضفّة الغربية بسياسات حكومة نتنياهو المعززة بالتيار الديني القومي، واستُخدِمت الخلافات الإسرائيلية الداخلية في تأكيد هذا التفسير الغريب، وكأنّ تاريخ العنف الإسرائيلي بدأ للتوّ مع سموتريتش وبن غفير! وكأنّ الأخيرين هما من كان يقتل الفلسطينيين في الضفّة الغربية طوال العقود الماضية لا الجيش ولا "الشاباك"!
إذا كان من الخطأ أخذ حوادث المحو الإسرائيلي للوجود الفلسطيني معزولة عن بعضها، وكأنها حوادث عابرة أو طارئة أو متحوّلة عن التحوّلات الإسرائيلية الداخلية، فمن الخطأ الأكبر تفسيرها بالفعل الفلسطيني المقاوم
لا يُجمع الإسرائيليون على شيء إجماعهم على ضرورة اجتثاث أيّ ظاهرة مقاومة للفلسطينيين في الضفّة الغربية قبل تناميها واتساعها وتطوّرها، ويتولّى مسؤولية ذلك تخطيطا وتنفيذا الجيش و"الشاباك"؛ ولكنّهم قد يختلفون على أدوات الاحتواء الناعم، وعلى مستويات الاستيطان و"الاستفزاز" وأشكالهما.
هنا لا ينبغي كذلك فصل سياسات المحو عن بعضها كالتفريق بين المحو العنيف، كما في القتل والتهجير المدفوع بالقتل كذلك، والمحو الناعم الهادف إلى تجريد الفلسطينيين من تصوّرهم عن أنفسهم بنفي تاريخهم وهويتهم السياسة وتجريف وعيهم بجعل الاقتصاد بديلا عن حقوقهم القومية وعن هويتهم السياسية، مع تحفّز سياسات المحو العنيف دائما، المتفطّن دائما لاحتمالات مقاومة الشعب الحيّ، والمتصل، أي تحفّز المحو العنيف، بالوعي الصهيوني الأيديولوجي التأسيسي بضيق هذه الأرض على قوميتين اثنتين، من التاريخ المتخيل المكوّن لذاكرة مجتمع المستوطنين، وصولا لمقولات هرتسل، ومقولات الصهيونيين المسيحيين واليهود عن الأرض التي زعموها "بلا شعب لشعب بلا أرض".
وإذا كان من الخطأ أخذ حوادث المحو الإسرائيلي للوجود الفلسطيني معزولة عن بعضها، وكأنها حوادث عابرة أو طارئة أو متحوّلة عن التحوّلات الإسرائيلية الداخلية، فمن الخطأ الأكبر تفسيرها بالفعل الفلسطيني المقاوم، كما يفعل عدد من المثقفين اليوم، الذين يفسّرون أفعال الإبادة والمحو الإسرائيلية بتمرّد الفلسطيني على محاولات محوه متعددة الأدوات والأوجه، وكأنّه لولا فعل الضحية ما كانت الإبادة. وفي مثل هذه التصورّات من التناقض الفكري والاختلال الأخلاقي ما فيها، ممّا بيّنا بعضه سابقا، وسنبيّن بعضه لاحقا؛ إن شاء الله.
x.com/sariorabi
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال المجازر الإبادة الصهيونية غزة الاحتلال مجازر الصهيونية الإبادة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة صحافة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإبادة الجماعیة الإسرائیلیة عن حرب الإبادة عن بعضها من الخطأ
إقرأ أيضاً:
الكشف عن إجراء مراجعة شاملة لمشاريع نيوم.. بعضها لم يبدأ العمل بها
كشفت صحيفة فايننشال تايمز، أن الرئيس التنفيذي بالإنابة، لمشروع نيوم في السعودية، أيمن المديفر، أطلق مراجعة شاملة، خلال الأسابيع الماضية، لنطاق وأولوية المشاريع.
وأوضحت الصحيفة، نقلا عن مصدرين مطلعين لم تسمهما، أن بعض المشاريع قيد المراجعة من حيث نطاقها، وبعض مشاريع التطوير السياحي على البحر الأحمر، تأخرت ولم يبدأ العمل فيها بعد.
ولفتت إلى أن المراجعة تجري في بيئة ذات موارد محدودة وبعض الأمور التي تم القيام بها تحتاج إلى إعادة النظر.
وقال أحد المصادر، إن المراجعة تجري لتحديد ما يجب التركيز عليه، والأمر مرتبط بإعادة ضبط الإنفاق، وهناك ضغط هائل على نيوم، لتحقيق أهدافها إذ ينظر إليها على أنها مشروع رمزي وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا برؤية 2030، كونه مشروعا غير مسبوق في السعودية، ولا يتعلق بها فقط.
وكانت صحيفة "إل باييس" الإسبانية نشرت تقريرا، تناول تحديات تحيط بمشروع نيوم، أبرزها يتعلق بالتكاليف الزائدة لهذا المشروع.
ومن المتوقع أن يكلف المشروع 8.8 تريليون دولار، وهو ما يعادل 25 ضعف الميزانية السنوية للمملكة. وقد بذلت جهود لتجميل التكاليف الزائدة بالتعاون مع كبار المسؤولين.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"؛ إن بريدا إلكترونيّا كشف أن أنطوني فيفيس، الكتالوني الذي كان في السابق اليد اليمنى لعمدة برشلونة خافيير ترياس، والذي كان رئيسا لأحد المشاريع الرئيسية في "نيوم"، قد حث زملاءه في الإدارة عبر البريد الإلكتروني قائلا: "لا يجب أن نذكر التكاليف بشكل استباقي".
وقد كشف تدقيق داخلي عن "دليل تلاعب متعمّد لتبرير زيادة التكاليف" من قبل "بعض أعضاء الإدارة".
وأوضحت الصحيفة، أن فيفيس لم يكن يهدف فقط إلى أن يصبح نسخة من المهندس المدني الفرنسي هاوسمان، بل أيضا غاص في عالم الأعمال المشبوهة. وفي نهاية عام 2022، أمرت المحكمة الوطنية بفتح محاكمة علنية ضد حوالي ثلاثين شخصا بتهم تمويل غير قانوني لحزب "التقارب الديمقراطي في كتالونيا". وقد طالبت النيابة العامة بحبس فيفيس لمدة ست سنوات، بسبب العديد من المخالفات في قضية أطلق عليها "3 بالمئة".
بعد إعادة تأهيله بفضل الدورة وانتظار محاكمته في قضية الـ 3 بالمئة، قرر فيفيس تجربة حظه في المملكة العربية السعودية. وصل نائب العمدة السابق إلى أراضي الحويطات.
ومن أبواب خليج العقبة، أصبح فيفيس مسؤولا عن مشروع "سندالة"، أحد المشاريع الأربعة التي تشكل "نيوم". وكانت جمعيات حقوق الإنسان قد حذرت من أن زعيم الحويطات -الذين كانوا يرفضون مغادرة المنطقة- قد قُتل بالرصاص على يد الشرطة، وأن ثلاثة آخرين من أفراد القبيلة قد أُعدموا، وفقا لـ"بي بي سي". وفي النهاية، تم إخلاء الحويطات من المنطقة، ليصبح الحلم خاليا من الكوابيس.
وفي نهاية عام 2024، ترك فيفيس منصبه. ولا يزال غير معروف ما إذا كان ذلك بسبب غياب حقوق الإنسان، أو التضامن الوطني مع الحويطات، أو لأسباب أكثر دنيوية.