لجريدة عمان:
2024-09-17@10:54:00 GMT

شفاء القلوب من داء الكروب

تاريخ النشر: 10th, September 2024 GMT

لم أكن على يقينٍ -وأنا أتصفّحُ بعضًا من الكُتب العربيَّة القديمة التي لا تختصُّ بالأدب- أنِّي واجِدٌ فيها أَثَرًا يُمكن أن يشفَّ عن ذات الإنسان، في ظلّ تآليف عربيّة يتوجَّه أغلبها إلى الآخر، وإلى مسائل الاختصاص التي يدخل فيها المؤلِّفون، غير أنّي مُحبٌّ لقديمِ الكُتب، راغبٌ في اكْتِشافها وقراءة عقول القدماء في توجّهاتها وأنساقها ومناويلها، هي كُتب يُمكن أن تُمثِّل لنا صورةً عن حياةِ الإنسان، فالكتاب -مهما كان تخصّصه- في منظوري هو مشروعٌ لقراءة أنتروبولوجيّة، منها يُمكن أن نعرف شعوبًا في طرق معاشها وممارساتها وأنماط علاقاتها، في ثقافتها، وعاداتها ومختلف أنماط حياتها وأشكال تعبيرها.

وقفتُ، وأنا أجُول في طيَّات صفحاتِ كتب قديمة، على كتابٍ يُمكن أن يكون مدخلًا لفهم عوالم وإدراك نمط عيشٍ النَّاسِ في مرحلة من تاريخ المنطقة العربيّة، وهو القرن التاسع عشر، حيث كانت الحياةُ -على نقيض ما نعتقد- سهْلةً، وكان الموت أيضًا يسيرًا، وهو كتابٌ لخميس بن راشد بن سعيد العبري «شفاء القلوب من داء الكروب»، والشيخ خميس العبري (ت 1271 هـ) هو المُلَقَّب بذي الغبراء «تواضُعًا وقناعةً أو انتسابًا إلى عُمان على أنّها تُسمَّى الغبراء أو الغبيراء»، وهو عالمٌ عمانيٌّ وفقيه وزاهِدٌ، وله قولٌ في مجالاتٍ متعدّدة من المعرفة، وله أقوالٌ في مجالاتٍ مختلفة مِن َيَوْميِّ حياة الإنسان. قيمةُ الكتاب في أنَّه كتابٌ جامعٌ موسوعيٌّ، ليس لنا الآن أن نُقَدّم له، وأن نعرض ما فيه، فقد تعرَّض له البعضُ تفصيلًا وبيانًا لما احتواه من معارف وخبرات، ولكن نريد أن نسْتَعْمله عينًا منها نرى حياة النَّاس في أواخر القرن التاسع عشر في عُمان، وقد توسَّلَ صاحبه بالقصَّة مركبًا وأداةً وواسطةً للتمثيل والبيان، فأبانت الواسطةُ رحابةَ صدور الفقهاء، ووفْرة معارفهم اليوميّة، وخوضِهم في مواضيع قد يعتبرها بعض المتشدِّدين اليوم من قبيل المحظور، غير المباح، فقصَّ الفقيه الشيخ، المباح والخاصّ والحميميّ، وصاغ الأخلاق الحميدة قصصًا، والحِكم والمواعظ قَصصًا، والأمراض وأدويتَها قصصًا، وقضايا الفتاوى ومسائل الشرع قصصًا، وإعداد أصناف الطّعام قصصًا.

«شفاءُ القُلوب من داء الكروب» كتابٌ مبينٌ عن جملةٍ من المعارف والعلوم العمليّة، فصاحبه خائضٌ في الفقه والفتاوى، يتلبّسُ لبوس رجل الدّين، فيخوضُ في مسائله، ويعْرِضُ إلى ما تعقّد من حاجيات الإنسان لعلوم الشرع، في الميراث، وفي المفقود والغائب والحكم في مالهم وزوجاتهم، في الصوم، وفي الزهد، وفي الزواج وأحكامه وشروطه، دون قيْدٍ أو مانعٍ، يُمكن أن يحبسَ قوله أو يُحرجه، وهو أيْضًا داخِلٌ في مواضيع علميَّة، من علومٍ شعبيَّةٍ عمليَّة، سائدة، علم الفلك، وهو يُجْريه في صورته الاختباريّة، بعيدا عن التفصيل التنظيريّ أو النظريّ، فهو من العلوم الحياتيّة، الوسائل التي يلجأ إليها المرْء في «حفْر الآبار والأنهار» وفي تحديد السَّفر، وهو أيضًا يتَّخذُ لبُوس الطبيب العارف بالعلل وأدويتها، الخبير في التشخيص وفي إيجاد ما به تُطَبّبُ هذه العلل. من كلّ هذا يُمكن أن نتمثَّل صُورةً للعالِم العارف، مالكِ الدّين والدُّنيا، فعلوم الشَّرع لم تكن تُفصَل عن علوم الحياة، والشيخ العارف له إدراكٌ (باعتبار الثقة في علمه) بالأمراض وله خبرةٌ في الحياة، وله معرفة بالفلك، ولكلّ مُجتهد نصيب.

المسألة الأولى التي لفتت انتباهي في هذا النصّ، هي ثقة النَّاس في شيخ العلم (والعلم هنا هو علم الدّين)، ولذلك، يُمكن أن يقول في الطبِّ، وأن يقول في الطبخ، وأن يقول في تركيب الأدوية، وأن يقول في الحياة، وأن يفتي في الزواج والطلاق وحالات الحجّ، وموانع الصّوم، وأن يفتي في حفر الآبار، وفي الخروج إلى السّفر من عدمه.

المسألة الثانية، هي الدخولُ في تفاصيل الحياة اليوميَّة، فهذا الشيخ، العالم، العارف، له وصفاتٌ في الطبخ، وطرائقه، وأنواعه، وكيفيَّة إنجازه، ولذلك نجد فصولاً تامَّة في إعداد الأطباق الرئيسة والفواتح والخواتم، مع تفاصيل دقيقة تُظْهِر تمكُّنًا واقتدارًا، وهذا الشيخُ العالم، عارفٌ بأنَّ الرُكن النفسيّ في الإنسان هو مدخل الأمراض والاكتئاب والتعثُّر في الحياة، ولذلك، فإنّه يتوجّه إلى البحث عن مآتي السَّعادة، وهو لعمري المدخل الرئيس لوجود الإنسان، ألم يتوجَّه العقل البشريّ عبر مختلف تاريخه إلى إيجاد معنى السَّعادة، فتكرَّست فلسفاتٌ ومعارف وأديان وعلوم لوضْعِ الإنسان في حالٍ من السَّعادة التي تُبْهِجُ حياته. والشيخُ واجدٌ السَّعادة في الرغبة وطرائق تحقيقها، الرغبة في السَّفر، الرغبة في أكلةٍ هانئة، الرغبة في الزواج. لقد تعلّق شِطرٌ مهمٌّ من الكتاب بالخوضِ في مسائلِ العلاقات، وخاصّة العلاقة الزوجيّة، في بُعْدها العمليّ، تخيُّرا للزوجة، وبيانًا لمنافعها، وطرق التعامل معها، ولذلك، فلا غرابة أنَّ أغلب الأدويّة توجّهت إلى إنجاح العلاقة الزوجيّة، وجعْلِها نافعة وناعمة ومُخْصِبةً.

كلّ هذه المعارف، تُعْرَضُ أوَّلا بطريقةٍ مسْرحيَّة، إذ يُجرِّد الكاتب من ذاتهِ ذاتًا يُسميها «ذو الغبراء» ويُخاطِبُها، ويُسائِلها ويُحادثها، ويدفعها إلى الحديث، وتُعْرَضُ ثانيًا في شكلٍ قصَصيٍّ مثَّل أسلوبًا غالبًا على كليَّة الكتاب، وحفّزنا على التساؤل عن منزلة القصص في الرّواية والدّراية، وعن قُرْب القصّة من عامّة النّاس، وعن قوّةِ القصّة في التمثيل والإقناع والبيان. يفتحُ هذا الوعي باليوميِّ الحياتيّ في مُدرَك الفقهاء العلماء، وهذا التوسُّل بالنهج القصصيِّ لتمثيل العلم أو للإقناع به أو للتأثير في القارئ، بابًا من البحث لم ينصرف إليه الباحثون بالشكل الكافي الشافي، فهل بحث باحثٌ من علم الاجتماع -على سبيل التمثيل- في الأطعمة وتاريخها، وأبعادها الحضاريّة في عُمان من خلالِ كُتب شبيهة بكتاب «شفاء القلوب»؟ وهل بحث باحثٌ عن صُورة المرأة في كتب العلماء والفقهاء، وهي امرأة مهيَّأةٌ للزواج في أغلب حالاتها، يبدو هذا في النصائح التي يُمثِّلها الكاتب في حوارٍ بين ابن وابنه، إذ يُوجِدُ له لكلِّ زوجةٍ ممكنة خصالا تُميّزها، ويظهر ذلك أيضًا، في أغلب القِصص التي يُمثِّل بها الكاتب؟ أسئلةٌ عديدةٌ تنتج عن قراءة هذا الكتاب الخاصِّ بتعليم طريقةٍ مُثْلى في سعادة الحياة، ولذلك فيه دفْع للكروب وشفاء للقلوب، وأسئلةٌ أخرى تدفع إلى الوقوف على تسخير العلماء (على اختلاف علومهم) للقصّة أداةً، وأسئلة أخيرة تدفعنا إلى البحث عن معنى السّعادة في الثقافة العربيَّة، وهي المطلبُ الأجلُّ، وهي المقصَد الذي أعجز عقول البشر!

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أن یقول فی ی مکن أن التی ی

إقرأ أيضاً:

الشيخ أحمد الأزهري: مسجد سيدنا الحسين مكان يجمع فيه القلوب على المحبة والخير

أعرب الشيخ أحمد مكي الأزهري، إمام وخطيب مسجد سيدنا الحسين، عن سعادته بالاحتفالات الجارية في المسجد بمناسبة المولد النبوي الشريف، مشيرًا إلى أن هذه الاحتفالات تعكس مدى قوة الترابط والتلاحم بين أبناء الشعب المصري، مضيفا: «نشهد اليوم احتفالات عظيمة تدل على وعي الشعب المصري وحبه الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الكرام، إن هذه المناسبة ليست فقط للتعبير عن الحب، ولكنها أيضًا تدريب عملي على الالتزام بالنظام واحترام القيم العامة».

الترابط بين الشعب المصري وأمنه واستقراره

وأضاف «مكي» في تصريح خاص لـ«الوطن»، أن الأجواء الحالية تشير إلى أن الحالة العامة في مصر هي حالة أمن واستقرار، لافتًا إلى أن مسجد سيدنا الحسين دائمًا ما يكون في طليعة الاحتفالات الدينية الكبرى، مؤكدًا أن مسجد سيدنا الحسين سيظل مكانًا يجمع فيه القلوب على المحبة والخير.

وأوضح أن إدارة المسجد، بالتعاون مع المؤسسات المختلفة، تبذل جهودًا مضاعفة خاصة في المناسبات الكبرى، لضمان تنظيم الزحام وتيسير الزيارة للمصلين والرواد في أجواء من الأمن والنظام، مؤكدا أن وزير الأوقاف يحرص دائمًا على راحة الجمهور وتوفير الأجواء المناسبة لتأدية الشعائر بكل يسر وسهولة.

واختتم حديثه قائلاً: «في هذه المناسبة الكريمة، أقول: يا رسول الله أحبك، وحبك هو رأس مالي، وكما قال الإمام الجزولي: يا رحمة الله إني خائف وجل يا نعمة الله إني مفلس عاني وليس لي عمل ألقي الجليل به سوي محبتك العظمي وإيماني فكن أماني من شر الحياة ومن شر الممات ومن إحراق جثماني صلى الله عليك وسلم يا خير خلق الله».

مقالات مشابهة

  • الأنبا رافائيل يرسم شمامسة جدد بأكاديمية مفرح القلوب
  • أغنية مهداة لـ فهد الزاهد.. لوليتا: “القلوب فيك تذوب”
  • إجراء 270 ألف جلسة علاج اشعاعى بمستشفيات شفاء الأورمان بالأقصر
  • 7 معلومات عن المنشد مصطفى عاطف.. خطف القلوب في احتفالية المولد النبوي الشريف
  • الجابري وصراع القلوب
  • الشيخ أحمد الأزهري: مسجد سيدنا الحسين مكان يجمع فيه القلوب على المحبة والخير
  • إطلاق خدمة الاستخدام الأمثل للمواعيد الصحية عبر "شفاء"
  • تفاصيل حالة السعودي فهد المولد الصحية بعد تعرضه لحادث خطير
  • دبي للإعلام: بعصاه وابتسامته وقلبه الكبير..بوراشد يزرع البهجة في القلوب
  • شفاء الأورمان عضوا في جمعية الاتحاد الدولى للحد من الأورام السرطانية