شفاء القلوب من داء الكروب
تاريخ النشر: 10th, September 2024 GMT
لم أكن على يقينٍ -وأنا أتصفّحُ بعضًا من الكُتب العربيَّة القديمة التي لا تختصُّ بالأدب- أنِّي واجِدٌ فيها أَثَرًا يُمكن أن يشفَّ عن ذات الإنسان، في ظلّ تآليف عربيّة يتوجَّه أغلبها إلى الآخر، وإلى مسائل الاختصاص التي يدخل فيها المؤلِّفون، غير أنّي مُحبٌّ لقديمِ الكُتب، راغبٌ في اكْتِشافها وقراءة عقول القدماء في توجّهاتها وأنساقها ومناويلها، هي كُتب يُمكن أن تُمثِّل لنا صورةً عن حياةِ الإنسان، فالكتاب -مهما كان تخصّصه- في منظوري هو مشروعٌ لقراءة أنتروبولوجيّة، منها يُمكن أن نعرف شعوبًا في طرق معاشها وممارساتها وأنماط علاقاتها، في ثقافتها، وعاداتها ومختلف أنماط حياتها وأشكال تعبيرها.
«شفاءُ القُلوب من داء الكروب» كتابٌ مبينٌ عن جملةٍ من المعارف والعلوم العمليّة، فصاحبه خائضٌ في الفقه والفتاوى، يتلبّسُ لبوس رجل الدّين، فيخوضُ في مسائله، ويعْرِضُ إلى ما تعقّد من حاجيات الإنسان لعلوم الشرع، في الميراث، وفي المفقود والغائب والحكم في مالهم وزوجاتهم، في الصوم، وفي الزهد، وفي الزواج وأحكامه وشروطه، دون قيْدٍ أو مانعٍ، يُمكن أن يحبسَ قوله أو يُحرجه، وهو أيْضًا داخِلٌ في مواضيع علميَّة، من علومٍ شعبيَّةٍ عمليَّة، سائدة، علم الفلك، وهو يُجْريه في صورته الاختباريّة، بعيدا عن التفصيل التنظيريّ أو النظريّ، فهو من العلوم الحياتيّة، الوسائل التي يلجأ إليها المرْء في «حفْر الآبار والأنهار» وفي تحديد السَّفر، وهو أيضًا يتَّخذُ لبُوس الطبيب العارف بالعلل وأدويتها، الخبير في التشخيص وفي إيجاد ما به تُطَبّبُ هذه العلل. من كلّ هذا يُمكن أن نتمثَّل صُورةً للعالِم العارف، مالكِ الدّين والدُّنيا، فعلوم الشَّرع لم تكن تُفصَل عن علوم الحياة، والشيخ العارف له إدراكٌ (باعتبار الثقة في علمه) بالأمراض وله خبرةٌ في الحياة، وله معرفة بالفلك، ولكلّ مُجتهد نصيب.
المسألة الأولى التي لفتت انتباهي في هذا النصّ، هي ثقة النَّاس في شيخ العلم (والعلم هنا هو علم الدّين)، ولذلك، يُمكن أن يقول في الطبِّ، وأن يقول في الطبخ، وأن يقول في تركيب الأدوية، وأن يقول في الحياة، وأن يفتي في الزواج والطلاق وحالات الحجّ، وموانع الصّوم، وأن يفتي في حفر الآبار، وفي الخروج إلى السّفر من عدمه.
المسألة الثانية، هي الدخولُ في تفاصيل الحياة اليوميَّة، فهذا الشيخ، العالم، العارف، له وصفاتٌ في الطبخ، وطرائقه، وأنواعه، وكيفيَّة إنجازه، ولذلك نجد فصولاً تامَّة في إعداد الأطباق الرئيسة والفواتح والخواتم، مع تفاصيل دقيقة تُظْهِر تمكُّنًا واقتدارًا، وهذا الشيخُ العالم، عارفٌ بأنَّ الرُكن النفسيّ في الإنسان هو مدخل الأمراض والاكتئاب والتعثُّر في الحياة، ولذلك، فإنّه يتوجّه إلى البحث عن مآتي السَّعادة، وهو لعمري المدخل الرئيس لوجود الإنسان، ألم يتوجَّه العقل البشريّ عبر مختلف تاريخه إلى إيجاد معنى السَّعادة، فتكرَّست فلسفاتٌ ومعارف وأديان وعلوم لوضْعِ الإنسان في حالٍ من السَّعادة التي تُبْهِجُ حياته. والشيخُ واجدٌ السَّعادة في الرغبة وطرائق تحقيقها، الرغبة في السَّفر، الرغبة في أكلةٍ هانئة، الرغبة في الزواج. لقد تعلّق شِطرٌ مهمٌّ من الكتاب بالخوضِ في مسائلِ العلاقات، وخاصّة العلاقة الزوجيّة، في بُعْدها العمليّ، تخيُّرا للزوجة، وبيانًا لمنافعها، وطرق التعامل معها، ولذلك، فلا غرابة أنَّ أغلب الأدويّة توجّهت إلى إنجاح العلاقة الزوجيّة، وجعْلِها نافعة وناعمة ومُخْصِبةً.
كلّ هذه المعارف، تُعْرَضُ أوَّلا بطريقةٍ مسْرحيَّة، إذ يُجرِّد الكاتب من ذاتهِ ذاتًا يُسميها «ذو الغبراء» ويُخاطِبُها، ويُسائِلها ويُحادثها، ويدفعها إلى الحديث، وتُعْرَضُ ثانيًا في شكلٍ قصَصيٍّ مثَّل أسلوبًا غالبًا على كليَّة الكتاب، وحفّزنا على التساؤل عن منزلة القصص في الرّواية والدّراية، وعن قُرْب القصّة من عامّة النّاس، وعن قوّةِ القصّة في التمثيل والإقناع والبيان. يفتحُ هذا الوعي باليوميِّ الحياتيّ في مُدرَك الفقهاء العلماء، وهذا التوسُّل بالنهج القصصيِّ لتمثيل العلم أو للإقناع به أو للتأثير في القارئ، بابًا من البحث لم ينصرف إليه الباحثون بالشكل الكافي الشافي، فهل بحث باحثٌ من علم الاجتماع -على سبيل التمثيل- في الأطعمة وتاريخها، وأبعادها الحضاريّة في عُمان من خلالِ كُتب شبيهة بكتاب «شفاء القلوب»؟ وهل بحث باحثٌ عن صُورة المرأة في كتب العلماء والفقهاء، وهي امرأة مهيَّأةٌ للزواج في أغلب حالاتها، يبدو هذا في النصائح التي يُمثِّلها الكاتب في حوارٍ بين ابن وابنه، إذ يُوجِدُ له لكلِّ زوجةٍ ممكنة خصالا تُميّزها، ويظهر ذلك أيضًا، في أغلب القِصص التي يُمثِّل بها الكاتب؟ أسئلةٌ عديدةٌ تنتج عن قراءة هذا الكتاب الخاصِّ بتعليم طريقةٍ مُثْلى في سعادة الحياة، ولذلك فيه دفْع للكروب وشفاء للقلوب، وأسئلةٌ أخرى تدفع إلى الوقوف على تسخير العلماء (على اختلاف علومهم) للقصّة أداةً، وأسئلة أخيرة تدفعنا إلى البحث عن معنى السّعادة في الثقافة العربيَّة، وهي المطلبُ الأجلُّ، وهي المقصَد الذي أعجز عقول البشر!
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أن یقول فی ی مکن أن التی ی
إقرأ أيضاً:
ديوغو جوتا.. قصة "طفل حالم" خطف القلوب ورحل مبكرا
كان ديوغو جوتا، باعترافه الشخصي، "شابا صغيرا" من بلدة في شمال البرتغال، لكنه كان يحمل حلما كبيرا هو اللعب في الدوري الإنجليزي الممتاز. وحقق جوتا، الذي توفي الخميس عن عمر 28 عاما، هذا الحلم وأكثر بكثير.
وخلال أسابيعه الأخيرة قبل الوفاة، حقق جوتا بعض الإنجازات المذهلة، حيث فاز بلقب الدوري الإنجليزي الممتاز مع ليفربول في مايو الماضي، وشارك كبديل في المباراة الأخيرة من الموسم أمام كريستال بالاس.
ومطلع يونيو، حقق إنجازا آخر مع البرتغال، حيث كان ضمن الفريق الذي توج بلقب دوري أمم أوروبا.
ويوم 22 يونيو، تزوج جوتا شريكته روت كاردوسو، أم أطفاله الثلاثة، ووصف الزواج على وسائل التواصل الاجتماعي قبل ساعات من وفاته بأنه "يوم لن ينساه أبدا".
النشأة
ونشأ جوتا في جوندومار، وكان والداه يواخيم وإيزابيل يدفعان له تكاليف اللعب في النادي المحلي حتى أتم عامه الـ16.
ويصف موقع جوندومار الرسمي هذا النادي بأنه "قصة شغف وتفان"، ولا شك أن هناك قلة من اللاعبين يجسدون هذه القيم أفضل من جوتا.
وفي تصريح لشبكة "سكاي سبورتس" في 2022، قال جوتا: "كان هذا الطموح معي دائما. في طفولتي ونشأتي، لم ألعب أبدا للأندية الكبرى".
وأضاف: "كان هناك القليل من زملائي الذين انتقلوا لبورتو وبنفيكا. خضت تجارب هناك، ولكنني لم أستمر أبدا. كنت دائما ضمن الأفضل، ولكنني لم أكن الأفضل أبدا".
وتابع: "منذ اللحظة التي أتيحت لي فيها الفرصة، لم أفرط فيها. أعتقد أننا عندما كنا صغارا، كانت لدينا ثقة دائمة في قدراتنا. ربما لم أكن اعتقد أنني سأصل إلى فريق بحجم ليفربول. كنت اتعامل مع الأمور خطوة بخطوة، يوما بيوم".
وأصبح جوتا لاعبا محترفا ضمن صفوف فريق باكوس دي فيراير في 2013، قبل أن يحقق ما بدا وكأنه حلم بالانتقال إلى العملاق الإسباني أتلتيكو مدريد في 2016.
ولكنه لم يلعب أي مباراة رسمية وعاد مرة أخرى للبرتغال، على سبيل الإعارة، لفريق بورتو.
وفي صيف 2017، انتقل معارا للمرة الثالثة لفريق وولفرهامبتون، وسجل 18 هدفا في 46 مباراة حيث ساعد الفريق في الصعود للدوري الممتاز.
وبفضل جهوده، حصل على عقد دائم مع الفريق، وعلى الفرصة في تحقيق حلم الطفولة باللعب في الدوري الإنجليزي الممتاز.
وتمكن جوتا مرة أخرى من تسجيل عدد مزدوج من الأهداف، بعدما تفادى وولفرهامبتون الهبوط، بل وتألق الفريق طوال الموسم، واحتل المركز السابع في أول موسم بالدوري الممتاز، وهو ما ساعد الفريق على التأهل للدوري الأوروبي، حيث وصل الفريق لدور الثمانية في الموسم التالي، الذي تأثر كثيرا بسبب جائحة فيروس كورونا.
كان شغف جوتا بكرة القدم يوازي شغفه واحترافه الألعاب الإلكترونية، وخاصة لعبة "فيفا"، حتى أنه توج بلقب النسخة الأولى من بطولة الدوري الإنجليزي الإلكتروني في عام 2020.
وقد منحه تألقه الفرصة للانتقال إلى ليفربول في سبتمبر 2020، حيث أسند إليه يورغن كلوب، مدرب ليفربول وقتها، مهمة تحدي الثلاثي الهجومي الأساسي المكون من محمد صلاح وروبرتو فيرمينو وساديو ماني.
وبدأ جوتا مسيرته مع ليفربول بقوة، حيث سجل هدفا بعد ثماني دقائق فقط من مشاركته الأولى أمام أرسنال، ليواصل بعدها رحلة التألق، دون تراجع.
وبفضل خطورته الكبيرة، بقدميه اليمنى واليسرى، كان جوتا عنصرا أساسيا سواء ضمن التشكيلة الأساسية أو عند مشاركته كبديل، وساهم بشكل كبير في مسيرة ليفربول نحو تحقيق رباعية تاريخية في موسم 2021 / 2022، قبل أن يكتفي الفريق في النهاية بثنائية محلية بعد أن خسر لقب الدوري بفارق نقطة واحدة أمام مانشستر سيتي، ونهائي دوري الأبطال أمام ريال مدريد.
وتجسدت قيمة جوتا الكبيرة بالنسبة للنادي في العرض الذي تلقاه لتجديد عقده في صيف 2022 حتى عام 2027.
وقال جوتا لشبكة "سكاي سبورتس" في الصيف الذي وقع فيه تمديد تعاقده: "الصعب ليس أن تصل إلى قمة الجبل، بل أن تبقى هناك. هذه العبارة تعني لي الكثير، وبالتأكيد أجدها معبرة جدا".
وأضاف: "هذا هو الجزء الأصعب، لأن هناك دائما من يسعى للوصول إلى القمة للمرة الأولى. ولا يمكنك أبدا أن تسمح لهم بأن تكون إرادتهم أكبر من إرادتك".
وقد أثبت جوتا وجهة نظره، وواصل التسلق، ليصبح مطلع هذا الصيف، بطلا للدوري الممتاز مع ليفربول.
وقال للموقع الرسمي لفريق ليفربول الشهر الماضي: "أن أصل إلى هذا الموسم تحديدا ومعي اللقب الذي كنت أسعى لتحقيقه لسنوات طويلة، وفي أفضل دوري في العالم، الدوري الذي حلمت باللعب فيه عندما كنت طفلا، هو لحظة سأظل أعتز بها إلى الأبد".
وأردف: "إنه إنجاز استثنائي لشاب صغير جاء من جونودمار، حيث راودني هذا الحلم. الوصول إلى هذه اللحظة كان أمرا رائعا للغاية".
وتوفى شقيق جوتا الأصغر أندريه سيلفا، أيضا، وهو لاعب كرة قدم محترف، معه في الحادث الذي وقع بزامورا في إسبانيا.
وترك جوتا وراءه والديه يواخيم وإيزابيل، وزوجته روت، وأطفاله الثلاثة.