لجريدة عمان:
2025-10-30@22:52:41 GMT

شفاء القلوب من داء الكروب

تاريخ النشر: 10th, September 2024 GMT

لم أكن على يقينٍ -وأنا أتصفّحُ بعضًا من الكُتب العربيَّة القديمة التي لا تختصُّ بالأدب- أنِّي واجِدٌ فيها أَثَرًا يُمكن أن يشفَّ عن ذات الإنسان، في ظلّ تآليف عربيّة يتوجَّه أغلبها إلى الآخر، وإلى مسائل الاختصاص التي يدخل فيها المؤلِّفون، غير أنّي مُحبٌّ لقديمِ الكُتب، راغبٌ في اكْتِشافها وقراءة عقول القدماء في توجّهاتها وأنساقها ومناويلها، هي كُتب يُمكن أن تُمثِّل لنا صورةً عن حياةِ الإنسان، فالكتاب -مهما كان تخصّصه- في منظوري هو مشروعٌ لقراءة أنتروبولوجيّة، منها يُمكن أن نعرف شعوبًا في طرق معاشها وممارساتها وأنماط علاقاتها، في ثقافتها، وعاداتها ومختلف أنماط حياتها وأشكال تعبيرها.

وقفتُ، وأنا أجُول في طيَّات صفحاتِ كتب قديمة، على كتابٍ يُمكن أن يكون مدخلًا لفهم عوالم وإدراك نمط عيشٍ النَّاسِ في مرحلة من تاريخ المنطقة العربيّة، وهو القرن التاسع عشر، حيث كانت الحياةُ -على نقيض ما نعتقد- سهْلةً، وكان الموت أيضًا يسيرًا، وهو كتابٌ لخميس بن راشد بن سعيد العبري «شفاء القلوب من داء الكروب»، والشيخ خميس العبري (ت 1271 هـ) هو المُلَقَّب بذي الغبراء «تواضُعًا وقناعةً أو انتسابًا إلى عُمان على أنّها تُسمَّى الغبراء أو الغبيراء»، وهو عالمٌ عمانيٌّ وفقيه وزاهِدٌ، وله قولٌ في مجالاتٍ متعدّدة من المعرفة، وله أقوالٌ في مجالاتٍ مختلفة مِن َيَوْميِّ حياة الإنسان. قيمةُ الكتاب في أنَّه كتابٌ جامعٌ موسوعيٌّ، ليس لنا الآن أن نُقَدّم له، وأن نعرض ما فيه، فقد تعرَّض له البعضُ تفصيلًا وبيانًا لما احتواه من معارف وخبرات، ولكن نريد أن نسْتَعْمله عينًا منها نرى حياة النَّاس في أواخر القرن التاسع عشر في عُمان، وقد توسَّلَ صاحبه بالقصَّة مركبًا وأداةً وواسطةً للتمثيل والبيان، فأبانت الواسطةُ رحابةَ صدور الفقهاء، ووفْرة معارفهم اليوميّة، وخوضِهم في مواضيع قد يعتبرها بعض المتشدِّدين اليوم من قبيل المحظور، غير المباح، فقصَّ الفقيه الشيخ، المباح والخاصّ والحميميّ، وصاغ الأخلاق الحميدة قصصًا، والحِكم والمواعظ قَصصًا، والأمراض وأدويتَها قصصًا، وقضايا الفتاوى ومسائل الشرع قصصًا، وإعداد أصناف الطّعام قصصًا.

«شفاءُ القُلوب من داء الكروب» كتابٌ مبينٌ عن جملةٍ من المعارف والعلوم العمليّة، فصاحبه خائضٌ في الفقه والفتاوى، يتلبّسُ لبوس رجل الدّين، فيخوضُ في مسائله، ويعْرِضُ إلى ما تعقّد من حاجيات الإنسان لعلوم الشرع، في الميراث، وفي المفقود والغائب والحكم في مالهم وزوجاتهم، في الصوم، وفي الزهد، وفي الزواج وأحكامه وشروطه، دون قيْدٍ أو مانعٍ، يُمكن أن يحبسَ قوله أو يُحرجه، وهو أيْضًا داخِلٌ في مواضيع علميَّة، من علومٍ شعبيَّةٍ عمليَّة، سائدة، علم الفلك، وهو يُجْريه في صورته الاختباريّة، بعيدا عن التفصيل التنظيريّ أو النظريّ، فهو من العلوم الحياتيّة، الوسائل التي يلجأ إليها المرْء في «حفْر الآبار والأنهار» وفي تحديد السَّفر، وهو أيضًا يتَّخذُ لبُوس الطبيب العارف بالعلل وأدويتها، الخبير في التشخيص وفي إيجاد ما به تُطَبّبُ هذه العلل. من كلّ هذا يُمكن أن نتمثَّل صُورةً للعالِم العارف، مالكِ الدّين والدُّنيا، فعلوم الشَّرع لم تكن تُفصَل عن علوم الحياة، والشيخ العارف له إدراكٌ (باعتبار الثقة في علمه) بالأمراض وله خبرةٌ في الحياة، وله معرفة بالفلك، ولكلّ مُجتهد نصيب.

المسألة الأولى التي لفتت انتباهي في هذا النصّ، هي ثقة النَّاس في شيخ العلم (والعلم هنا هو علم الدّين)، ولذلك، يُمكن أن يقول في الطبِّ، وأن يقول في الطبخ، وأن يقول في تركيب الأدوية، وأن يقول في الحياة، وأن يفتي في الزواج والطلاق وحالات الحجّ، وموانع الصّوم، وأن يفتي في حفر الآبار، وفي الخروج إلى السّفر من عدمه.

المسألة الثانية، هي الدخولُ في تفاصيل الحياة اليوميَّة، فهذا الشيخ، العالم، العارف، له وصفاتٌ في الطبخ، وطرائقه، وأنواعه، وكيفيَّة إنجازه، ولذلك نجد فصولاً تامَّة في إعداد الأطباق الرئيسة والفواتح والخواتم، مع تفاصيل دقيقة تُظْهِر تمكُّنًا واقتدارًا، وهذا الشيخُ العالم، عارفٌ بأنَّ الرُكن النفسيّ في الإنسان هو مدخل الأمراض والاكتئاب والتعثُّر في الحياة، ولذلك، فإنّه يتوجّه إلى البحث عن مآتي السَّعادة، وهو لعمري المدخل الرئيس لوجود الإنسان، ألم يتوجَّه العقل البشريّ عبر مختلف تاريخه إلى إيجاد معنى السَّعادة، فتكرَّست فلسفاتٌ ومعارف وأديان وعلوم لوضْعِ الإنسان في حالٍ من السَّعادة التي تُبْهِجُ حياته. والشيخُ واجدٌ السَّعادة في الرغبة وطرائق تحقيقها، الرغبة في السَّفر، الرغبة في أكلةٍ هانئة، الرغبة في الزواج. لقد تعلّق شِطرٌ مهمٌّ من الكتاب بالخوضِ في مسائلِ العلاقات، وخاصّة العلاقة الزوجيّة، في بُعْدها العمليّ، تخيُّرا للزوجة، وبيانًا لمنافعها، وطرق التعامل معها، ولذلك، فلا غرابة أنَّ أغلب الأدويّة توجّهت إلى إنجاح العلاقة الزوجيّة، وجعْلِها نافعة وناعمة ومُخْصِبةً.

كلّ هذه المعارف، تُعْرَضُ أوَّلا بطريقةٍ مسْرحيَّة، إذ يُجرِّد الكاتب من ذاتهِ ذاتًا يُسميها «ذو الغبراء» ويُخاطِبُها، ويُسائِلها ويُحادثها، ويدفعها إلى الحديث، وتُعْرَضُ ثانيًا في شكلٍ قصَصيٍّ مثَّل أسلوبًا غالبًا على كليَّة الكتاب، وحفّزنا على التساؤل عن منزلة القصص في الرّواية والدّراية، وعن قُرْب القصّة من عامّة النّاس، وعن قوّةِ القصّة في التمثيل والإقناع والبيان. يفتحُ هذا الوعي باليوميِّ الحياتيّ في مُدرَك الفقهاء العلماء، وهذا التوسُّل بالنهج القصصيِّ لتمثيل العلم أو للإقناع به أو للتأثير في القارئ، بابًا من البحث لم ينصرف إليه الباحثون بالشكل الكافي الشافي، فهل بحث باحثٌ من علم الاجتماع -على سبيل التمثيل- في الأطعمة وتاريخها، وأبعادها الحضاريّة في عُمان من خلالِ كُتب شبيهة بكتاب «شفاء القلوب»؟ وهل بحث باحثٌ عن صُورة المرأة في كتب العلماء والفقهاء، وهي امرأة مهيَّأةٌ للزواج في أغلب حالاتها، يبدو هذا في النصائح التي يُمثِّلها الكاتب في حوارٍ بين ابن وابنه، إذ يُوجِدُ له لكلِّ زوجةٍ ممكنة خصالا تُميّزها، ويظهر ذلك أيضًا، في أغلب القِصص التي يُمثِّل بها الكاتب؟ أسئلةٌ عديدةٌ تنتج عن قراءة هذا الكتاب الخاصِّ بتعليم طريقةٍ مُثْلى في سعادة الحياة، ولذلك فيه دفْع للكروب وشفاء للقلوب، وأسئلةٌ أخرى تدفع إلى الوقوف على تسخير العلماء (على اختلاف علومهم) للقصّة أداةً، وأسئلة أخيرة تدفعنا إلى البحث عن معنى السّعادة في الثقافة العربيَّة، وهي المطلبُ الأجلُّ، وهي المقصَد الذي أعجز عقول البشر!

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أن یقول فی ی مکن أن التی ی

إقرأ أيضاً:

عُشَّاق الحياة الخالدة في دروب المواجهة

 

في خضمّ سجالات الأمم وصراع الإرادات، تبرز حقيقةٌ ساطعةٌ كنورِ الشمسِ في وَضَحِ النهار نحن لسنا مُجَـرّد طلابِ نجاة عابرة، بل نحن عُشَّاق الحياة الأبدية الخالدة بحقّها وكمالها.

هذا العِشق ليسَ ترفًا عاطفيًّا، بل هو فلسفة وجود متكاملة، ترفض الانصياعَ لسلطان الجمود أَو لواقع القهر والاضمحلال، حَيثُ إنهُ إيمانٌ عميقٌ بـالحقّ في العيش الكريم، والنموّ المتصاعد، والازدهار الإنساني غير المنقوص.

ومن هذا المنطلق الإيماني والوجودي، كان اختيارنا لطريق المواجهة الشاقة والقاسية ضدّ قوى الاستكبار العالمي ليس مُجَـرّد رد فعل انفعالي، بل هو ضرورة وجودية وفعل عقلي مُتعمَّد.. فلِمَ اخترنا هذا الدرب الوعر؟ لأنّ هذه القوى، بطبيعتها وجوهر منهجها، هي أعداء الحياة.

وعلى رأس هذه القوى، يتربّع الشيطان الأكبر، الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُشكّل مركز الثقل للهيمنة والغطرسة، وتُشرعِنُ بـ»قوة القانون» أَو «قانون القوة» كُـلّ أشكال الظلم والتعدي على سيادة الشعوب وإلى جانبها، يقف الكيان الصهيوني، الذي يُجسّد الاستكبار في صورته الأكثر وقاحة ودموية، فهو مشروع اغتصاب وإبادة جماعية مُعلنة، ويُمثّل سرطانًا ينهش في جسد الأُمَّــة، يهدف إلى تجميد كُـلّ حراك حيويّ وتنمويّ في المنطقة.

إنّ الاستكبار بآلياته وأدواته وهيمنته الاقتصادية والعسكرية هو مرادفُ التجميد، والتبخيس، والتدمير المنهجي لكلّ ما هو حيّ ونابض بالحيوية والأمل، إنه نقيضُ الحُبّ، ونقيضُ البناء، ونقيضُ الامتداد الإنساني الطبيعي، حَيثُ إنهم لا يكتفون بقتل الأجساد، بل يستهدفون قتل الروح المعنوية، ووأد الإمْكَانات التنموية، وتجفيف منابع الكرامة الإنسانية.

لذلك اخترنا فلسفة الامتداد والخلود وهي الشهادة كضمانة للحياة الأبدية الخالدة، حَيثُ إنّ فقهنا للحياة يتجاوز النظرة القاصرة للوجود الزائل، وبالنسبة لنا، إن حياتنا الأُخرى هي امتداد طبيعي ومنطقي لحياتنا الدنيا، فليست الحياةُ الدنيويةُ جُزُرًا معزولة عن محيطٍ آخر، بل هي طورٌ أول، ومحطة عبور، ومزرعة للخلود، هذا الترابط العضوي بين العاجل والآجل يمنح معركتنا ضدّ الاستكبار بعدًا أعمق، فهي ليست معركة على حدودٍ جغرافية أَو موارد مادية فحسب، بل هي معركة على مفهوم الوجود ذاته.

وفي هذا السياق، يبرز مشروع الشهادة كأرقى صور العِشقة الحقيقية للحياة، فالشهادة ليست فعلَ يأسٍ أَو طلبًا للعدم، بل هي ذروة البذل لتأمين ديمومة الحياة الحرة الكريمة للأجيال القادمة وإن الشهيد هو عاشق الحياة الذي يرفض المساومة على جوهرها، فيُقدّم روحه ثمنًا لاستمرار حيوية الأُمَّــة، وهو بذلك يُحقّق أعلى درجات الامتداد الوجودي.

إنّها استثمار لا ينضب في هذا الامتداد الأبدي، نُطهّر به مسيرتنا من شائبة الرضوخ التي تحول دون الوصول إلى الكمال الوجودي.

ولذلك، فإنّ كُـلّ خطوة نخطوها على هذا الطريق، وكلّ قطرة عرق أَو دم تُسال، هي بمثابة رُفعةٍ وتقدم نحو الغاية العُظمى، أن يوصلنا هذا الطريق إلى المُستقرّ الأبديّ الآمن، والحياة الخالدة التي لا انقطاع لها أبدًا، وهذا المستقر ليس وعدًا ضبابيًّا، بل هو النتيجة المنطقية لجهادِ الصابرين والمُحافظين على قيمة الحياة في أسمى صورها.

إنّ الاستكبار يُقدِّم للمستضعفين خيارين: إما حياةُ الذلّ الدنية في ظلال هيمنته، أَو الموتُ والاندثار.. أما نحن، عُشّاق الحياة، فقد اكتشفنا الخيار الثالث والوحيد الذي يليق بكامل إنسانيتنا مواجهةُ الموتِ بالحقّ، لِنَنَالَ الحياةَ الخالدةَ المُمتدّة.

إنّ المعركة إذَا ليست انتحارا ولا هروبًا من الواقع، بل هي قمة الالتزام بمتطلبات الحياة السليمة وهي شهادةٌ عمليّة على أنّ الحياة ليست مُجَـرّد نفس يتردّد في الصدر، بل هي كرامة، وحرية، وعدالة، وفتحٌ مُستمرّ، وفي ميزان الوجود، لا يُمكن لهذه القيم السامية أن تتحقّق وتستمر إلا بنبذ أعدائها الألدّاء.

فلنمضِ، ونحن مُتوشّحون بعباءة اليقين، وندرك أنّنا نقف على أرضٍ صلبةٍ من الوعي والتبصّر ونحن أصحاب مشروعِ حياةٍ لا يزول، ومشروعِ خلودٍ لا يفنى، وهذا هو جوهرُ القوة التي لا تُقهر في وجه جبروت قوى الهيمنة والجحود، إنّها لعِشقةٌ تستحقّ كُـلّ هذا العناء، وإنه لثمنٌ زهيدٌ مقابل الخلود الأبديّ الآمن.

مقالات مشابهة

  • براءة على لوحات الأمل.. شروق وميرفت تواجهان السرطان بالألوان
  • أطراف الأمل.. مستشفى حمد يعيد الحياة لمبتوري الحرب في غزة
  • فيديو - 50 ألف قطعة أثرية تسرد تفاصيل الحياة في مصر القديمة
  • طفلتان تهزمان السرطان بالألوان..ميرفت وشروق تحوّلان رحلة العلاج إلى لوحات أمل
  • طلاب الفنون الجميلة يرسمون الأمل ويزرعون البهجة في قلوب أطفال السرطان
  • عُشَّاق الحياة الخالدة في دروب المواجهة
  • حكم أداء العمرة عن شخص على قيد الحياة
  • علي جمعة: الحياة دار الابتلاء وتداول للأيام بين الناس
  • «الذكرى في القلوب محفورة».. فريدة سيف النصر تودع شقيقها برسالة مؤثرة
  • شريكة الحياة