أسمح لنفسي، هذه المرة، بأن أنقاد إلى الشخصي، والشخصي جدا. ربما كان القارئ المتابع ينتظر مني، كلاما آخر؛ لكنني أرغب، بهذه اللحظة، في أن تتفلت «الأنا» من عقالها لتأخذني إلى كلّ السنوات البعيدة، التي لا تزال حاضرة بكلّ عبقها. ربما لأن الأدب، في واقع الأمر، لم يكن، في يوم من الأيام، سوى هذه «الأنا»، على الرغم من عبارة الكلاسيكيين الشهيرة بأن «الأنا مبغوضة».
صحيح أنني أكتب الآن عن رحيل شاعر ــ الشاعر اللبناني جورج شكور (الذي غيّبه الموت الأسبوع الماضي) ــ لكنه لم يكن شاعرا عابرا في حياتي، بل هو هذا الشخص الذي لعب دورا كبيرا وحقيقيا في تشكلي الأدبي، منذ أن كنّا على مقاعد الدراسة، بدءا من السنة الأولى من المرحلة الثانوية. عديدون هم الذين تتلمذوا على يديه؛ وعديدون هم الذين نالوا علامات عالية، من مدرستنا، في مادة الأدب العربي في شهادة الثانوية العامة، وعديدون أيضا هم الذين لا يزالون يحملون منه وعنه هذه الذكرى الطيبة. أولى الدروس التي تعلمناها منه، عدم الرجوع إلى كتاب المقرر العام، أي إلى الكتاب الرسمي الذي كان معمولًا به في غالبية مدارس تلك الفترة، إذ كان يراه مليئًا بالحشو الذي لا معنى له. كان «يخترع كتابه» خلال الحصة، ويطلب منّا أن ننسى ما قيل وما كُتب؛ وأن «نحفظ» إذ أردنا ــ إذ كان يفضل أن نبدع بدورنا كتاباتنا وتحليلنا ـــ ما يمليه علينا. وأنا أكتب ذلك الآن، أتذكر الفيلم السينمائي «مجتمع الشعراء الموتى»، حين دخل الأستاذ على طلابه وطلب منهم تمزيق الصفحات الأولى من المقرر، الخاصة بتعريف الشعر، لأن الشعر هو حتما في مكان آخر. بهذا المعنى، كان أستاذنا جورج شكور، يسبق فكرة الفيلم بسنين كثيرة.
كانت تجربة فريدة؛ فنحن الطلاب، نحبذ عادة أن يكون لدينا «درس» جاهز كي نحفظه ونكتبه في الامتحان الرسمي. ربما أحسسنا بصعوبة ما في البداية، لكن مع مرور الوقت، اكتشفنا أن الأدب ليس مجرد كلام مصفوف، نجتره، بل هو هذا الذهاب الأبدي إلى مساءلة دائمة للغة والفكر وكلّ ما توارثناه من أفكار كانت بحاجة إلى خلخلة (على الرغم من أن شكور كان شاعرا كلاسيكيا بامتياز، لم يتخلّ أبدا عن الوزن والقافية، ولم يستسغ يوما «قصيدة النثر»). ربما كان زمن بيروت يتيح لنا ذلك. كانت المدينة تقف على بون واسع ممّا هي عليه اليوم. كان طلاب القسم الأدبي، مشاريع حقيقية لأن يكونوا كتّابا أو على مقربة من فنون أخرى. هل لذلك كان يقيم وينظم (في المدرسة)، مهرجانا للإلقاء الشعري (لمختلف الصفوف الدراسية) في نهاية كل عام دراسي؟ يومها اكتشفنا، بين أعضاء لجنة التحكيم أسماء مثل: محمد الفيتوري، ولميعة عباس عمارة، وعبد الله الأخطل (ابن الأخطل الصغير) وباسمة بطولي وجورج زكي الحاج، وغيرهم من الأسماء التي أخذتنا بالشعر إلى أماكن أخرى، غير تلك الأسماء الواردة في المنهاج الرسمي. كأنه يريد بذلك أن يقول لنا، دائمًا ثمة شعر في أماكن أخرى.
لكن علاقتي معه، الحقيقية، كانت عبر الشعر. كنت قد بدأت ــ مثل قسم كبير ممّن كانوا في عمري ـــ بخط بعض «التهويمات» التي أسميناها شعرا. ذات يوم، طلبت منه أن يقرأ لي «قطعة شعرية» ويعطيني رأيه فيها. رحب بالأمر وقال إنه سيقرأها في «استراحة الساعة العاشرة» (الاستراحة الأولى بين الحصص الدراسية)، إذ لديه «صف في شعبة أخرى». المفاجأة كانت حين نزولي إلى باحة الملعب، خلال هذه الاستراحة، إذ تقدم مني زملاء الشعبة الأخرى يسألونني منذ متى أكتب الشعر. لم أفهم المقصود في البداية، وحين شرحوا لي، فهمت أن أستاذنا، أعجب بــ«قصيدتي» وقرأها على مسامعهم قائلا لهم: «لدينا شاعر جديد في المدرسة». لا أخفي فرحي الكبير بذلك، ولغاية اليوم. جملة، ربما حددت خياراتي فعلا، وجعلتني أذهب إلى دراسة الأدب والفلسفة لاحقا. ربما كانت كلمة تشجيعية منه. لكن تشجيعه هذا فتح لي مسارًا كنت أبحث عنه. ولا زلت أقيم فيه.
من دروسه أيضا، نبذه لكل أشكال الطائفية والمذهبية. كنّا في عز الحرب الأهلية. وقد رفض دائما الانزواء في «منطقته». كانت بيروت مقسومة إلى «مدينتين»، الغربية والشرقية. وبرغم كل الأهوال والمعارك، كان يجتاز كل يوم «المعبر» الفاصل بين «المدينتين، رافضا بذلك منطق «ملوك الطوائف» و«الميلشيات» سادة الحرب. كان «سلاحه» الوحيد الشعر، الذي أراد أن يواجه به، كل منطق الحرب. لذا لا عجب من هذا الشاعر «المسيحي» (وأعتذر على وضعي هذه الصفة، فقط من أجل التوضيح) أن يكتب ثلاث ملاحم شعرية هي «ملحمة الرسول» و«ملحمة الامام علي» و«ملحمة الحسين». كان يعتبر أن كل كاتب يكتب باللغة العربية، لا بدّ أن يشكل القرآن الكريم والدين الإسلامي، الجزء الأساسي من ثقافته، مهما كانت عليه طائفته أو كان عليه مذهبه.
المرة الأولى التي قرأت فيها أمامه، كانت في عام 2009. لم تكن قراءة شعرية. كنت يومها جزءا من فريق عمل «بيروت عاصمة عالمية للكتاب» وقد طلبت مني اللجنة المشرفة (على العاصمة)، أن أمثلها لألقي الكلمة الرسمية بمناسبة صدور موسوعة شعراء بلاد جبيل (المنطقة التي ولد فيها، في قرية شيخان). لم أكن أعرف أنه موجود بين الحضور. وحين صعدت إلى المنبر، رأيته بين الحاضرين. ارتبكت فعلا. شعرت بالخوف فعلا. أمامي الشخص الذي شجعني على هذه الرحلة بأسرها. هل كنت أمامه في «امتحان جديد»؟ ربما ليست الحياة سوى سلسلة متواصلة من الامتحانات. لنصل إلى امتحاننا الأخير: الرحيل. والامتحان الفعلي في هذا الرحيل: ذكرانا في الأرض. يومها كان لا يزال يتذكرني. بعد الحفل، ضمني وعانقني قائلا «لا زلت ذاك الذي أعرفه». هل هي كلمة تشجيعية أخرى؟
في أحيان كثيرة، لا داعي للبحث عن أجوبة. إذ ثمة دائما جواب وحيد: حين تفقد شخصا قريبا منك، وحين يرحل شاعر، لا بدّ أن تفقد الأرض بعض جاذبيتها، وأن تقف عن الدوران لبعض الوقت.
إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
سبب رفض محمد رمضان تحية لاعبي الأهلي للجماهير.. تفاصيل مثيرة
كشف مصدر داخل النادي الأهلي، عن تفاصيل الأحداث المثيرة التي نشبت بين لاعبي الأهلي والجماهير خلال مواجهة شباب بلوزداد الجزائري بدوري الأبطال.
حقق الفريق الأول لكرة القدم بالنادي الأهلي، فوزًا كاسحًا أمام شباب بلوزداد بسداسية مقابل هدف، وذلك ضمن منافسات الجولة الثالثة من دور مجموعات بطولة دوري أبطال إفريقيا هذا الموسم 2024-2025.
وشهدت مباراة الأهلي واتحاد بلوزداد الجزائري، أحداثًا عقب إطلاق الحكم لصافرة النهاية، بحيث طالب محمد الشناوي، قائد المارد الأحمر، من اللاعبين بتحية الجماهير.
وقال مصدر في تصريحات خاصة لـ«الأسبوع»: «قبل المباراة الجماهير المتواجدة في ستاد القاهرة هاجمت اللاعبين بسبب مباراة باتشوكا والخسارة من الفريق المكسيكي واختصت الجماهير محمد الشناوي ومحمود كهربا وطالبوهم بالرحيل عن الفريق».
وواصل: «عقب المباراة محمد الشناوي كان بينادي اللاعبين للذهاب لتحية الجماهير بعد الفوز الساحق على شباب بلوزداد».
وشدد: «محمد رمضان رفض وطالب الشناوي بعدم الذهاب للجماهير وأمر الفريق بالكامل بالجهاز الفني بالدخول لغرفة الملابس وعدم تحية الجماهير بسببب ما حدث قبل المباراة».
واختتم: «الجماهير تفاجئت من رد فعل محمد رمضان واللاعبين وهتفوا ضدهم وضد الفريق».