لجريدة عمان:
2025-03-18@12:22:49 GMT

تحية أخيرة إلى أستاذي

تاريخ النشر: 10th, September 2024 GMT

أسمح لنفسي، هذه المرة، بأن أنقاد إلى الشخصي، والشخصي جدا. ربما كان القارئ المتابع ينتظر مني، كلاما آخر؛ لكنني أرغب، بهذه اللحظة، في أن تتفلت «الأنا» من عقالها لتأخذني إلى كلّ السنوات البعيدة، التي لا تزال حاضرة بكلّ عبقها. ربما لأن الأدب، في واقع الأمر، لم يكن، في يوم من الأيام، سوى هذه «الأنا»، على الرغم من عبارة الكلاسيكيين الشهيرة بأن «الأنا مبغوضة».

كل كتابة، هي ذات، ولولا هذه الذات، لما كان هناك... آخر.

صحيح أنني أكتب الآن عن رحيل شاعر ــ الشاعر اللبناني جورج شكور (الذي غيّبه الموت الأسبوع الماضي) ــ لكنه لم يكن شاعرا عابرا في حياتي، بل هو هذا الشخص الذي لعب دورا كبيرا وحقيقيا في تشكلي الأدبي، منذ أن كنّا على مقاعد الدراسة، بدءا من السنة الأولى من المرحلة الثانوية. عديدون هم الذين تتلمذوا على يديه؛ وعديدون هم الذين نالوا علامات عالية، من مدرستنا، في مادة الأدب العربي في شهادة الثانوية العامة، وعديدون أيضا هم الذين لا يزالون يحملون منه وعنه هذه الذكرى الطيبة. أولى الدروس التي تعلمناها منه، عدم الرجوع إلى كتاب المقرر العام، أي إلى الكتاب الرسمي الذي كان معمولًا به في غالبية مدارس تلك الفترة، إذ كان يراه مليئًا بالحشو الذي لا معنى له. كان «يخترع كتابه» خلال الحصة، ويطلب منّا أن ننسى ما قيل وما كُتب؛ وأن «نحفظ» إذ أردنا ــ إذ كان يفضل أن نبدع بدورنا كتاباتنا وتحليلنا ـــ ما يمليه علينا. وأنا أكتب ذلك الآن، أتذكر الفيلم السينمائي «مجتمع الشعراء الموتى»، حين دخل الأستاذ على طلابه وطلب منهم تمزيق الصفحات الأولى من المقرر، الخاصة بتعريف الشعر، لأن الشعر هو حتما في مكان آخر. بهذا المعنى، كان أستاذنا جورج شكور، يسبق فكرة الفيلم بسنين كثيرة.

كانت تجربة فريدة؛ فنحن الطلاب، نحبذ عادة أن يكون لدينا «درس» جاهز كي نحفظه ونكتبه في الامتحان الرسمي. ربما أحسسنا بصعوبة ما في البداية، لكن مع مرور الوقت، اكتشفنا أن الأدب ليس مجرد كلام مصفوف، نجتره، بل هو هذا الذهاب الأبدي إلى مساءلة دائمة للغة والفكر وكلّ ما توارثناه من أفكار كانت بحاجة إلى خلخلة (على الرغم من أن شكور كان شاعرا كلاسيكيا بامتياز، لم يتخلّ أبدا عن الوزن والقافية، ولم يستسغ يوما «قصيدة النثر»). ربما كان زمن بيروت يتيح لنا ذلك. كانت المدينة تقف على بون واسع ممّا هي عليه اليوم. كان طلاب القسم الأدبي، مشاريع حقيقية لأن يكونوا كتّابا أو على مقربة من فنون أخرى. هل لذلك كان يقيم وينظم (في المدرسة)، مهرجانا للإلقاء الشعري (لمختلف الصفوف الدراسية) في نهاية كل عام دراسي؟ يومها اكتشفنا، بين أعضاء لجنة التحكيم أسماء مثل: محمد الفيتوري، ولميعة عباس عمارة، وعبد الله الأخطل (ابن الأخطل الصغير) وباسمة بطولي وجورج زكي الحاج، وغيرهم من الأسماء التي أخذتنا بالشعر إلى أماكن أخرى، غير تلك الأسماء الواردة في المنهاج الرسمي. كأنه يريد بذلك أن يقول لنا، دائمًا ثمة شعر في أماكن أخرى.

لكن علاقتي معه، الحقيقية، كانت عبر الشعر. كنت قد بدأت ــ مثل قسم كبير ممّن كانوا في عمري ـــ بخط بعض «التهويمات» التي أسميناها شعرا. ذات يوم، طلبت منه أن يقرأ لي «قطعة شعرية» ويعطيني رأيه فيها. رحب بالأمر وقال إنه سيقرأها في «استراحة الساعة العاشرة» (الاستراحة الأولى بين الحصص الدراسية)، إذ لديه «صف في شعبة أخرى». المفاجأة كانت حين نزولي إلى باحة الملعب، خلال هذه الاستراحة، إذ تقدم مني زملاء الشعبة الأخرى يسألونني منذ متى أكتب الشعر. لم أفهم المقصود في البداية، وحين شرحوا لي، فهمت أن أستاذنا، أعجب بــ«قصيدتي» وقرأها على مسامعهم قائلا لهم: «لدينا شاعر جديد في المدرسة». لا أخفي فرحي الكبير بذلك، ولغاية اليوم. جملة، ربما حددت خياراتي فعلا، وجعلتني أذهب إلى دراسة الأدب والفلسفة لاحقا. ربما كانت كلمة تشجيعية منه. لكن تشجيعه هذا فتح لي مسارًا كنت أبحث عنه. ولا زلت أقيم فيه.

من دروسه أيضا، نبذه لكل أشكال الطائفية والمذهبية. كنّا في عز الحرب الأهلية. وقد رفض دائما الانزواء في «منطقته». كانت بيروت مقسومة إلى «مدينتين»، الغربية والشرقية. وبرغم كل الأهوال والمعارك، كان يجتاز كل يوم «المعبر» الفاصل بين «المدينتين، رافضا بذلك منطق «ملوك الطوائف» و«الميلشيات» سادة الحرب. كان «سلاحه» الوحيد الشعر، الذي أراد أن يواجه به، كل منطق الحرب. لذا لا عجب من هذا الشاعر «المسيحي» (وأعتذر على وضعي هذه الصفة، فقط من أجل التوضيح) أن يكتب ثلاث ملاحم شعرية هي «ملحمة الرسول» و«ملحمة الامام علي» و«ملحمة الحسين». كان يعتبر أن كل كاتب يكتب باللغة العربية، لا بدّ أن يشكل القرآن الكريم والدين الإسلامي، الجزء الأساسي من ثقافته، مهما كانت عليه طائفته أو كان عليه مذهبه.

المرة الأولى التي قرأت فيها أمامه، كانت في عام 2009. لم تكن قراءة شعرية. كنت يومها جزءا من فريق عمل «بيروت عاصمة عالمية للكتاب» وقد طلبت مني اللجنة المشرفة (على العاصمة)، أن أمثلها لألقي الكلمة الرسمية بمناسبة صدور موسوعة شعراء بلاد جبيل (المنطقة التي ولد فيها، في قرية شيخان). لم أكن أعرف أنه موجود بين الحضور. وحين صعدت إلى المنبر، رأيته بين الحاضرين. ارتبكت فعلا. شعرت بالخوف فعلا. أمامي الشخص الذي شجعني على هذه الرحلة بأسرها. هل كنت أمامه في «امتحان جديد»؟ ربما ليست الحياة سوى سلسلة متواصلة من الامتحانات. لنصل إلى امتحاننا الأخير: الرحيل. والامتحان الفعلي في هذا الرحيل: ذكرانا في الأرض. يومها كان لا يزال يتذكرني. بعد الحفل، ضمني وعانقني قائلا «لا زلت ذاك الذي أعرفه». هل هي كلمة تشجيعية أخرى؟

في أحيان كثيرة، لا داعي للبحث عن أجوبة. إذ ثمة دائما جواب وحيد: حين تفقد شخصا قريبا منك، وحين يرحل شاعر، لا بدّ أن تفقد الأرض بعض جاذبيتها، وأن تقف عن الدوران لبعض الوقت.

إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته.. عن لغة الشعر النبطي

تزوج شاعر البادية الأردنية محمد علي عذيمان من فتاة أحبها وكانت تنتقل معه في البادية حيث حل وارتحل، وبعد أن أنجبت له مولودته الأولى أصابتها حمى النفاس ومرضت وماتت في أثناء ولادتها.

وكانت الثلوج حينها تهطل بغزارة ولم يكن له في منزله ذاك جيران قريبون، فلم يتمكن من دفنها فجلس حاملا ابنته التي رفضت النوم في أحضانه، فما كان منه إلا أن ذهب بها إلى فراش أمها المسجّاة، ووضعها في حضنها فسكتت البنت عن البكاء ونامت، وفي منتصف الليل سكن الجو وتوقف الثلج عن الهطول وتوقفت الرياح وإذا عواء الذئب يجلجل بين تلك التلال، وفي ذلك الموقف الحزين قال الشاعر عذيمان:

يا ذيب ياللي توحش القلب بعواك

أظن حالك صاير(ن) مثل حالي

انت عويلك يوم فاتك معشاك

وانا عويلي من تيتَّمْ عيالي

وان كان صيدك فاقد(ن) من خوياك

انا فقدت من الخويا الغوالي

حذراك من سود الليالي تغشاك

ويعتم عليك الضو عقب الدلالي

وتعال أيها القارئ نستمع معًا إلى الشاعر الشيخ نمر بن عدوان وهو يبكي زوجته وضحاء، ويذكر حالها في القبر وحاله بفقدها، ويشنّع على لائميه داعيًا عليهم، وجرّب أن تقرأ الأبيات الآتية بتسكين أواخرها، واستحضِر في نفسك واجلب إلى مسامعك أسلوب إلقاء الشعر النبطي:

سار القلم بداجي الليل مهتاج

سار بهوى قليبي وحير دليلي

بكيت غرام بالحشا يوهج اوهاج

من وجد وجدي الويل فرقا خليلي

عيني تهل الدمع لاجن بلجلاج

ودموع عيني سيل دوما يسيلي

واجب علي أهله بكل ملعاج

ودموع عيني مثل نهر تسيلي

سمعت انا بظلمة القبر مهتاج

عفت الحياه وعند قبره نزيلي

ياقبر انا ما أظن من جاك يحتاج

تعريف هي وضحا أُو قلبي عليلي

ياقبرها يامنوة الروح وسراج

والله انا عندك طنيب ودخيلي

مجنون ليلى كان داير بلجلاج

ما أضن يشبهني ولا هو مثيلي

هات الكفن يا عقاب وتابوت من صاج

أو علي من رمل السبايب هيلي

واحفر على قبري بازميل وهاج

اللي جرى ياعقاب وانت الوكيلي

انقش سقيم عايف الطب واعلاج

أضحى طريح الحب وامسى قتيلي

من لامني يبلاه بالهم وهاج

عليه حسبي الله ونعم الوكيلي

الشعر النبطي أسلوب الإلقاء والقدرة على جعله غنائيا، إذ يلتقط كُتاب الأغاني الشعبية القصائد النبطية ويستثمرونها ويحولونها إلى أغانٍ (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

يُكتب الشعر النبطي كما ينطق، وقد استحدثت كل قبيلة مفردات وألفاظا جديدة، واستعملتها وأدخلتها على الشعر النبطي بقصد أو بدون قصد، فضم بذلك الشعر النبطي كثيرا من اللهجات المختلفة، وصار له قاموسه الخاص. وفي توصيف لغة الشعر النبطي وبُعدها عن الإعراب والحركات قال ابن خلدون "أساليب الشّعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم، فإنّ غالب كلماتهم موقوفة الآخر، ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2جماعة تحت السور التونسية.. أدباء ساخرون من المجتمع والاستعمار وكل شيءlist 2 of 2غيث حمور: أدب المنفى السوري وجد طريقه أخيرا للوطنend of list إعلان

يعتمد الشعر النبطي على اللهجة العامية الدارجة والمتداولة بين الناس والأسلوب البسيط الواضح قريب المأخذ في سرد الوقائع والقصص، وله قدرة عالية على نشر الحكمة وتوثيق الأحداث بأسلوب يسير ومشوق يربط بين الماضي والحاضر بسلاسة وعذوبة؛ وذلك لاستعماله لغة الناس المحكية.

قد يتعذّر عليك فهم بعض الكلمات وربما كثير منها لبعد اللهجات المحلية اليوم عن بعضها، غير أن ذلك لا يحجب عنك تذوق سحر اللغة و جمال الشعور والاستمتاع بعذوبة التراكيب؛ فالشعر النبطي يمتاز بقدرة عالية على سكب المشاعر الإنسانية في ألفاظ شعرية بسيطة وواضحة ومباشرة، وفي قوالب شعرية قريبة من قلوب عامة الناس، فهو في المحصلة شعر، والشعر يتكئ على الخيال والتصوير والفني، ويعتمد على ألوان البلاغة وأساليبها المتنوعة كالتشبيه والاستعارة، ويميل إلى تزيين النصوص الشعرية بألوان البديع التي تضفي على النصوص جمالًا وعمقًا.

ومن أهم ما يتميز به الشعر النبطي أسلوب الإلقاء والقدرة على جعله غنائيا، إذ يلتقط كُتاب الأغاني الشعبية القصائد النبطية ويستثمرونها ويحولونها إلى أغان تحقق شهرته وانتشاره وشعبيته بين الناس.

ما الذي يجعل بعض أبناء العربية ينظرون إلى الشعر النبطي نظرة سلبية؟

وُجّهت انتقادات كثيرة لناظمي هذا النوع من الشعر، لأنه يبدو تأصيلا للعامية على حساب الفصحى وتنحيتها، وقد أُلّف كتاب بهذا الهدف بعنوان (كَفُّ المُخْطِي عن الدَّعوةِ إلى الشِّعرِ النَّبَطِي)؛ رأى فيه المؤلف ذياب الغامدي أن الشعراء الذين ينظمون الشعر النبطي: "دُعاة العامِّيَّة، وما أدراك ما العامِّيَّة؟! سواء كانت دَعوتهم سافرة جِهارًا نهارًا، كما تبنَّتْه الصُّحف وغيرها، أو دعوة مُستَتِرة تحت ثوب فَضفاض نسجَتْه أيدي الأعداء فألبسَته أمَّة الإسلام، والعرب العَرْباء، وشباب الصَّحوة؛ وذلك فيما يُسمى بالشّعر النَّبَطيِّ".

وُجّهت انتقادات كثيرة لناظمي الشعر النبطي، وقد أُلّف كتاب بهذا الهدف بعنوان (كَفُّ المُخْطِي عن الدَّعوة إلى الشِّعر النَّبَطِي) (الجزيرة)

ويقول الغامدي في موضع آخر من هذا الكتاب "ولو استسلم العُلماء أمام هذه السَّفسَطة والجَهالة التي يتّكئ عليها عشاق النَّبَطيّ في القرن الثّاني عشر الهجريّ وما تلاه من قرون، لكانت اللّغة الفصحى اليوم خبرًا بعد عِيان، كما يراد لها… وما زلنا نظنّ أن جَذوة دُعاة النّبطي ستنطفئ، وتنهار قواهم، حتَّى اتّسع الخَرق، وتجاوز شِعرُهم حُدوده، وعَلَت أصواتُهم، حتى استباحوا الصُّحف والمجلَّات والإذاعات، وأقاموا النَّدَوات والأُمسِيات؛ تمجيدًا وتعزيزًا، وتقريرًا وتقنينًا لنشر النَّبَطيّ".

إعلان

يرى بعض الباحثين أن التغيير اللغوي أمر طبيعي في سياق مرور الزمن وتطور الحياة، ولا يمكن أن ننظر إلى الشعر النبطي لأنه يعتمد العامية على أنه فساد لغوي، لا سيّما في ظل إمكانية رد الألفاظ العامية إلى الفصيح منها استنادا إلى القواعد الصرفية والصوتية تحديدا، ناهيك عن أن عامل الزمن يفرض تغيُّرات وتطوّرات حتمية يقررها تقدُّم الحياة وتطوّرها، وتمر بها أي لغة حية في سيرورة الأيام.

إن أكبر سبب -في حقيقة الأمر- للنظرة السلبية التي يحملها بعض أبناء العربية تجاه الشعر النبطي تتعلق باعتماده على اللهجات المحكية الدارجة، وذلك ليس إلا تخوفا من شيوعها وانتشارها واستسهالها على حساب العناية باللغة العربية الفصيحة التي تعد حاملا للدين ومصادره وأداة لمعرفة التاريخ العربي الممتد عبر العصور، وجسرا لعبور المعارف والوقائع والأحداث من جيل إلى آخر.

تبدو هذه المخاوف مشروعة لكن ينبغي ألا نبالغ فيها، فالشعر النبطي لون من ألوان الفنون الكلامية، وشكل من أشكال الإبداع الشعري، لا يهدف إلى إزاحة الشعر العربي التقليدي عن عرشه ولا قدرة له على ذلك، وإن كنا نستمع إليه ونتذوق جمالياته لقرب عهده أو قرب لغته، فإن ذلك لا يعني أنه راجح على ما سواه من أشكال الشعر العربي في الذائقة العربية.

حافظت أرض الحجاز على كثير من أخبار الشعر النبطي الذي نشأ في شبه الجزيرة العربية، وأولته عناية خاصة لأنه يعكس كثيرا من القيم والعادات والتقاليد المهمة لدى المجتمعات الخليجية (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة) الشعر النبطي في مرايا العصر الحالي

تولي دول الخليج العربي أهمية كبيرة للشعر النبطي باعتباره امتدادا لأصالة عاشها الأجداد في غابر الزمن، واستمر عبقها أخاذا على مر العصور، يربط الماضي بالحاضر، ويوحد الذائقة الشعرية لدى الأجيال المتعاقبة، وكأنه الحبل الأصيل المتين الذي يربط إنسان العصر في بوادي العربية بالإنسان العربي القديم الذي عاش فيها وأثبت عراقته وبنى حضارة ما تزال مشعة بين صفحات التاريخ، لا سيما في بادية الحجاز وما والاها، لأنه سجل دقيق دوّنوا فيه أهم الأحداث التاريخية والاجتماعية، وهو وسيلة للحفاظ على اللهجات المحلية والتراث الثقافي، ناهيك عن أنه يعزز القيم البدوية كالكرم والشجاعة وغيرها.

إعلان

حافظت أرض الحجاز على كثير من أخبار الشعر النبطي الذي نشأ في شبه الجزيرة العربية، وأولته عناية خاصة لأنه يعكس كثيرا من القيم والعادات والتقاليد المهمة لدى المجتمعات الخليجية. غير أن مجال النظر في موضوع الشعر النبطي واسع جدا، ويحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق والجهد للوصول إلى نتائج دقيقة وأجوبة شافية، لا سيما في مسألة اللغة المحكية التي يعتمدها.

الشعر النبطي جزء أساسي لا يتجزأ من الثقافة البدوية، وقد شهد بمرور الأيام والعصور تحولات كبيرة جعلته يتماشى مع متطلبات العصر الحديث، فصار الشعراء يميلون إلى استخدام وسائل الإعلام والتواصل الحديثة لنشر قصائدهم وإبداعاتهم، فازدادت شعبية الشعر النبطي، وعمد بعض الشعراء إلى المزج بين الشعر الفصيح والنبطي فأضافوا بذلك أبعادا جديدة فنية وجمالية لقصائدهم وأشعارهم.

ومن أمثال ذلك الحديث عن القهوة العربيّة ومجالسها التي تعد أهم معالم الهويّة البدويّة، وقد قيل في ذلك كثير من الأشعار؛ منها ما قاله الشاعر حوشان بن عبود بن سويلم الشلواني العازمي:

لادك في قلبي من الهم هوجاس

حطيت فوق النار زين المحاميس

وحمست ما يجلى من الهم وعماس

بنٍّ من النيبار يجلى الحواسيس

لا ذاقه اللي من عنا الوقت محتاس

من لذته تنجال عنه النواحيس

ولننظر معا إلى قول الشاعر راكان بن فلاح بن مانع بن حثلين العجمي متغزلًا بفنجان القهوة راسمًا تفاصيل الشعور المرافق لاحتسائه القهوة في مجلس برفقة الأصحاب والأحباب؛ في صورة شعرية بديعة:

ياما حلى الفنجال مع سجّة البال

في مجلس ما فيه نفس ثقيله

هذا ولد عم وهذا ولد خال

وهذا رفيق ما لقينا مثيله

قصائد الشعر النبطي نلحظ بها جمال المزج بين الماضي والحاضر حين يعمد الشاعر إلى مفاجأة المستمع بنقله من الماضي السحيق إلى الواقع المعاصر (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة) القيم البدوية المجتمعية والإخوانيات في الشعر النبطي

يركز الشعر النبطي على القيم والأخلاق والعادات والتقاليد ويقدسها، ولا عجب في ذلك لأن الشاعر ابن بيئته، والشعر محاكاة للبيئة التي يُنظم فيها، والشعر النبطي بدوي في أصالته، يؤكد أهمية الحفاظ على القيم المجتمعية وتوارثها بين الأجيال، فالقيم الأخلاقية تحدد هوية الشعوب وانتماء المجتمعات، لذا يبدو الشعر النبطي ممتلئًا بكل ما يحض على مكارم الأخلاق ويزكيها في النفوس، ومن ذلك قول الشاعر محمد بن ناصر بن صقر السياري:

ياللي تعرف الجوهرة من نحاسَـــــهْ

خذ لك على درب التـــجاريب مرواس

مبنى على الغرمول ينــهد ساســـــه

ويثــبت إليــا عزيت مبنى على ســاس

واجب على الرجال يلبـــــس مقاسه

ويـصــير بعـيون الرياجــيل نــبراس

يرفع مجـــــاله عن دروب الـدناسـه

ونفــســه يدربـــها عـلى قــوة الـــباس

ويحــسن أخلا قـه بلــيّا شراســـــــه

لــو هـو شجاع ويلبس الـدرع والطاس

وياخذ تجاريب الـــــليالي دراســـه

ويمــيـّز الياقــوت من لمــعة الــــماس

ومن يصحب الأنذال وأهل النجاسه

يُــقـْـلب عــليه الهـرج في كل مجلاس

الذيــب يرفع هــمته عن مداســـــه

يوم يجوع وســاعـةٍ يــــرفــع الــراس

وبعض العرب مـــا همه إلا لباســـه

ودايم على عورات الأجواد عـــســاس

وحين نطالع قصائد الشعر النبطي نلحظ مدى سعة ثقافة الشعراء واطلاعهم على التراث الثقافي، ونلحظ جمال المزج بين الماضي والحاضر حين يعمد الشاعر إلى مفاجأة المستمع بنقله من الماضي السحيق إلى الواقع المعاصر، بذكر حكاية مشهورة من حكايا التراث القديم، وإسقاط المعاني بعدها على واقعنا المعيش بذكر أسماء أو رموز تدل عليه، وها هو الشاعر حمد بن علي بن مايقة الحبابي يَذكر في الأبيات الآتية حشدًا من الشُّعراء الأماجد في الفصحى؛ فيقول:

صناديد لهم باب النَّشيد

تفتَّح واستحلُّوا مغلقاتِهْ

الاخْطَل والفرزْدق مع جريرٍ

والاعْشى والذي سوَّى سواتِهْ

وابن ثابت وأبي سلمى زهير

وعمرٍو والضليلِ ومبكياتِهْ

وعنتر مَن هوى عبلةْ وقيس

هوى ليلى مسوِّي بهْ شراتِهْ

وذي الرمة والأقرع مع جميل

ومن قولهْ تسبَّب في وفاتِهْ

وبشار بن بردٍ والمهلهلْ

ومَن سمي الفحل بمقدماته

وحاتم والنوابغ وابن حلزهْ

وطرفة واطراف المعاني طراته

وأنا قصدي هو الشِّعر الفصيح

لهم فضْلُ القديمِ وسابقاتِه

إنّ الشعر النبطي  لم ينشَأ لمحاربة الفُصحى ولم يعرف عنه مزاحمتها، بل إنَّ التجارب المتراكمة تؤكد أنّه حاول أن يسير جنبًا إلى جنب معها واستقى منها واعتمد عليها ونهل من معينها، فقد اتخذ من طُرق الشعر التقليدي الذي يعتمد اللغة الفصيحة وأساليبه مرجعًا له.

إعلان

مقالات مشابهة

  • ربما تنتهي معركة الخرطوم في المقرن، ما يعني أننا قد لا نشهد معركة كبيرة في جبل أولياء
  • المنطقة الرمادية.. حوارات استقصائية معمقة مع ضيوف غير تقليديين
  • أولمبيك خريبكة يعين شبيل مدربا في خطوة أخيرة لتجنب الهبوط إلى قسم الهواة
  • حنان شومان عن شباب امرأة: تحية كاريوكا لو عايشة كانت ماتت
  • محافظ دمياط يرسل إنذارات أخيرة للمتعدين على الأراضي الزراعية
  • إحسان الترك يرحل في صمت.. رسالة أخيرة لمحمد رمضان وحلم ما اكتملش
  • كاراجر: صلاح لم يكن سيئًا..ليفربول بحاجة لمهاجمين جدد لدعمه
  • ترامب عن إنهاء حرب أوكرانيا: هناك فرصة كبيرة جدا والمناقشات بحثت تقسيم بعض الأصول
  • وداعا أستاذي وملاذي واخى وصديقي وتوأم روحي دكتور عبد الرحيم بلال
  • لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته.. عن لغة الشعر النبطي