في أكثر من مناسبة قلت إن نصوصَ الدينِ في قضايا السياسة الشرعية  "نادرةُ" الوجود، أو "عرية عن مسالك القطع خلية عن مدارك اليقين" على حد تعبير إمام الحرمين الجويني..

وشريعتنا تجنّبَت التفصيلَ والتفريعَ في نُظم السياسة عن حكمة وقصد، لا عن سهو ونسيان؛ وذلك حتى لا يُشقُ على الناس ويُضيق عليهم في أكثر مجالات حياتهم تجددا وتسارعاً واتساعاً، ولتتسعَ أَحكامُ العمل السياسي أيضاً، فتستوعب تبدُّلَ الزمان والأحوال والمكان، وما يطرأ على موزاينَ القوة والضعف.

.

إن العمل السياسي في شريعتنا ـ كما أفهمه ـ فعلٌ حركيٌ متجدد، يتناوله الحكم الشرعي، لأن الحكم الشرعي هو خطابُ الله تعالى المتعلِق "بأفعال" المكلفين، والسياسة "فعلٌ" تشمله الأحكام، فالسياسة والحكم من الدين، وإن كانت من جنس الوسائل.وكلُ مَن توسّعَ في الاستدلال بالنصوص الشرعية، أو بالَغَ في تكييف المصطلحات الفقهية فيما تجدَّد من  نوازل الزمان، وحوادث الأعيان، فإنه لا يسلمُ من تكلِّف تخريج الأحكام، وتعسف تحقيق المناط!

وقد يقع ـ عاجلا أم آجلا ـ في التناقض، إذا ما عالج أشباه المسائل التي قطع فيها بقول، إذا ما تجددت صورة النازلة !

وهذا قد يسيء لشخصية الباحث ومقام المفتي أكثر مما يسيء لمجال البحث ومقام الفتوى ..

ـ 2 ـ

إن العمل السياسي في شريعتنا ـ كما أفهمه ـ فعلٌ حركيٌ متجدد، يتناوله الحكم الشرعي، لأن الحكم الشرعي هو خطابُ الله تعالى المتعلِق "بأفعال" المكلفين، والسياسة "فعلٌ" تشمله الأحكام، فالسياسة والحكم من الدين، وإن كانت من جنس الوسائل.

ولكن حركةَ السياسي، حركةٌ تتبدل فيها المواقف، ولا تتبدل فيها القيم، وتُستَبدَلُ عندها الأولويات، ولا تتنكر للمبادىء... ويأخذ الممارس لها، والمجتهد فيها ـ بعد تصحيح النية ـ بكل ما يوصله لجلب المصالح ودرء المفاسد، وِفقَ مصفوفةِ القيم السياسية، والموازنات، وبحسب مراتب متفاوتة، ومجالات متنوعة؛  فقد تكون المفسدة خاصة أو عامة، وقد تكون قاصرة أو متعدية، وقد تكون واقعة أو متوقعة، وقد تكون مؤقتة أو طويلة الأجل، والمفاسد إما تُعالَجُ بالدرءِ عند توقُعِها، أو بالدفع والرفع بعد تحققها ووقوعها، وقُلْ مثلَ ذلك في جلب المصالح واستدامتها ..

كما أن هذه المصالح والمفاسد قد تتعلق بكُلّيِ الدين، أو كُلي النفس أو كلي العقل والمال والنسل،.. وقد تتصل بالضرورات أو الحاجيات أو التحسينيات، وقِس على مِثالِه وانسُج على مِنواله .

ـ 3 ـ

والسياسة في ديننا تدور في فلك القيم الإسلامية العليا ـ كالعدل، والحرية، والشورى، وتجنب الكبائر السياسية كالاستبداد والظلم، ونهب المال العام، ـ وفق نظرية التقريب والتغليب، وبحسب وسع الفرد والجماعة والدولة،ورعايةِ حال العافية والإكراه..

إن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، قاتل أقواما ، ثم هادنهم وصالحهم! وليس في ذلك تنكر لمبدأ أو ركون للظالم أو رضى بالدنية في الدين ـ حاشا ـ  كما أنه قتلَ بعض الأسرى كعقبة والنضر بن الحارث، ومَنّ على بعضهم وقَبِلَ الفديةَ في الآخرين، وأعطى صلى الله عليه وسلم بعض الأقوام من الغنائم ومنع آخرين، وكان في كل تصرفاته السياسية يصدر عن مصلحة تُرجَى، أومفسدة تُدفَع وتُدرأ ..

ورأينا ما فعل أصحابه الكرام رضي الله عنهم من بعده، فقد شَجَرَ بينهم ما شجر، حتى ارتفعت بينهم السيوف، وانعقدت الملاحم، ولم يقل أحد من الأئمة المتبوعين أن اختلافهم وما شجر بينهم كان اختلاف دين وإيمان، بل كان اختلاف حجة وبرهان، ورعايةٌ للمصلحةو مقتضيات العصر والزمان.

ـ 4 ـ

ومن الخطأ وضع مصطلحات السابقين على نوازل العصر دون رعاية لما طرأ مِن تَبدُل في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، أو رعايةِ الفروق بين زمن التمكين والاستخلاف، أو زمن التخلف والاستضعاف، كما لا ينبغي للمفكر أو الفقيه، تجاهل الظرف التاريخي الذي نشأت فيه المصطلحات الفقهية، فيقع فيما سماه بعضهم " التشغيل القسري للمصطلح " كأن نستحضر ونستورد المصطلحات الشرعية التاريخية القديمة مثل: ولي الأمر ، وأهل الحل والعقد ، والسمع والطاعة، ودار الإسلام و الحرب، وثم نستنبتها في تربة أخرى، وسياقات اجتماعية وثقافية وسياسية معاصرة، لا تَمُتُ بأي صلة إلى تلك الفترة.

أو نقوم بعكس الأمر؛ حيث نأتي إلى مصطلحات سياسية معاصرة كالديمقراطية، والدولة المدنية، والمواطنة،... فنكسوها ثوب مصطلحات فقهية أو مفاهيم دينية دون رعاية الفروق، واستحضار ثقافة عصرها الذي نبتت فيه واستقرت .

ـ 5 ـ

إن تنزيه الحكم الشرعي عن "القطع" في مسائل السياسة، وتجنب الجزم بمصطلحات التخوين والتأثيم، ليس تمييعا للحق والحقيقة كما يظن المُتعجل، بل هو توقيرٌ وتعظيمٌ وتنزيهٌ لمقام التحريم والتحليل الذي عظّمهُ الله وقَرَنَهُ بالشرك! وحفاظا على أعراض المسلمين من التدنيس دون بينة، أو تكفيرهم دون قضاء!  وشاهدُهُ ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم عن  سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، إلى أن قال: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا"، وهو نهي محمول على التنزيه والاحتياط كما قال الإمام النووي رحمه الله .

السياسة في ديننا تدور في فلك القيم الإسلامية العليا ـ كالعدل، والحرية، والشورى، وتجنب الكبائر السياسية كالاستبداد والظلم، ونهب المال العام، ـ وفق نظرية التقريب والتغليب، وبحسب وسع الفرد والجماعة والدولة،ورعايةِ حال العافية والإكراه..وفي هذه الحديث خيرُشاهدٍ على نهي الأمير أو الحاكم أو المفتي، عن القطع في أحكامه، والتعجل في نسبة ذلك للمُشَرِع،  وعلة النهي منصوصٌ عليها في الحديث نفسه ( فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ) فإن كان ذلك في أهل الحصون المحاربين من المشركين والكافرين، فكيف بأهل القبلة من الموحدين المسلمين المخالفين في الفروع .

ـ 6 ـ

أخيراً: لكل مسلم الحق في إبداء رأيه في أحداث الشأن العام فهما وتحليلا وحوارا، مادام ينطلق عن معرفة بتلك الأحداث، ولكن تقدير المصالح والمفاسد السياسية يعود بالدرجة الأولى لمن يخوض غمار العمل السياسي اليومي، ويعاني من إكراهاته وتوازناته، ويعاين عن كثب سيرورته المتسارعة، أما ربط أحكام الحلال والحرام بالعمل السياسي فإنها من أخطر مجالات الإفتاء، وأكثرها تداخلا مع فروع المعارف السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأخرى، كما أنه يتعلق بقوام حياة الناس ويتصل بمقدساتهم من دماء وأعراض وأموال، والخطأ في الإفتاء أو الإرشاد السياسي يتسع ضرره وخطره حتى يشمل الفرد والمجتمع والدولة، مما يحتّم على كل عالمٍ مُحقِق وفقيهٍ مُدقق، توسيع دائرة المشورة وتقليب الرأي وحسن صياغة الخطاب، هذا شيء من عفو الخاطر، ولكنه يحتاج لقراءة منصفة متأنية، وما فيه من زلل فمن نفسي، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.

*الأمين العام المساعد للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير السياسة الدين رأيه العالم سياسة رأي دين سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صلى الله علیه وسلم العمل السیاسی الحکم الشرعی حکم الله

إقرأ أيضاً:

لسنا متمردون – نحن نمارس حق الدفاع الشرعي

في حرب السودان الآخذة في تطورات خطيرة كشفت عن حقيقة تحولها لحرب جهوية صارخة، جعلت الكثيرين يصطفون خلف مجتمعاتهم، نود أن نؤكد على أن قوات الدعم السريع والمجتمعات المحسوبة عليها، لم تقم يوماً بالتمرد على السلطة، وقد لعبت هذه الكيانات الاجتماعية الدور المحوري في إنجاح الثورة المهدية، التي حررت السودان من جبروت الحكم التركي، ولهذه الجماعات قصب السبق في التحولات الوطنية الكبرى، ومهما حاول الإعلام المضلل لفلول النظام البائد تزييف الحقيقة، والكذب والتدليس الساعي لاصطناع إدانة خيالية لا أساس لها من الصحة، تظل الحقيقة بيضاء ناصعة وكاشفة تحت ضوء نهار شمس الظهيرة، وهي أن القوات التي كانت داعمة للقوات المسلحة، والسريعة في هبّة ونهضة جندها الأشاوس، هوجمت بتدبير خطة محكمة من كتائب الاخوان المسلمين، فجر يوم الخامس عشر من ابريل من العام المعلوم، ومازالت أرض معسكرات جبل سركاب والمدينة الرياضية وطيبة، شاهدة على أثر العدوان الأثيم الذي شنّه طيران الجيش الرهين لأجندة الإرهابيين والمتطرفين والأجانب، وجريمة معسكر جبل سركاب ما تزال هي الأبشع منذ انطلاقة شرارة الحرب، هذه الحقائق وثقتها الاقمار الصناعية التي ليس لفلول النظام البائد يد في مسح وإزالة محتويات تسجيلاتها المحفوظة، لذلك نرى أمراء الحرب من جيش الاخوان يرتجفون رعباً من أي طرح يشير إلى إيفاد محققين دوليين، ومحاولات أجهزة النظام البائد الإعلامية المأجورة طمس معالم هذا الجرم مصيرها الفشل، وتاريخ بلادنا في مقبل السنوات لن يكتبه سلاطين باشا، ولا نعوم شقير، ولا أصحاب الطبقات المختزلين للوطن في مخيلتهم الجهوية المريضة.
لا يوجد صاحب حق مشروع في هذه الحرب سوى جنود وضباط وضباط صف قوات الدعم السريع، يليهم المواطنون المحكوم عليهم بالإعدام، لا لجريمة ارتكبوها ولكن فقط (بسبّة) أنهم ينحدرون من “المجلد” و”بابنوسة” و”الضعين” و”الكومة”، وقد كفلت جميع الشرائع السماوية حق الدفاع عن النفس لكل من يتعرض للعدوان، والأشاوس قد فعلوا الصواب، فلم يركنوا أو يستسلموا للعدوان الغادر والمباغت، ولن يركعوا لمن أراد بهم ذلاً وانكسارا، فقاتلوا بكل جسارة وما زالوا يقتحمون حصون الفاسدين والعملاء والمرتزقة، وقد يأتيك أحدهم مستنكراً وطارحاً عليك هذا السؤال: طيب، ما دام قد دحروا عدوهم في عقر داره الخرطوم لماذا يهاجمون مدني والجيلي؟، أقول لهؤلاء السذج أن الشر الذي عبأ الطائرات المصرية بالبراميل المتفجرة بمطار مروي، ووضعها على أهبة الاستعداد للانقضاض على قوات الدعم السريع، لن ينجو من هذا الشر أحد لو اكتفى الأشاوس بالارتكاز في مواقعهم، هذا العدو اللئيم الوالغ في دماء السودانيين، إن هادنته ضمر لك الشر وغدر بك وقتلك وانت رافع للراية البيضاء بيمينك وممسك بحمامة السلام بيسارك، هذا الشر المستطير لابد أن يلاحق في كل شبر من أرض السودان، ولقد فعل الأشاوس خيراً بتمديد ألسنة لهب مدافعهم للجزيرة والفاو والأحجار الكريمة، فالموت بعزة في مواجهة هذا العدوان الذي استباح وسفك دماء أهلنا في نيالا والكومة والمالحة، لا يجب التوصل معه إلى هدنة، لأنه ينتهز وقف اطلاق النار في تجييش المرتزقة العابرين للحدود، ليستعيد مشروعه العدواني المتجذر، لذا لا مفر من وضع الخطط الطويلة الأمد، لاستئصاله وبذات الطريقة التي يتعامل بها مع مجتمعاتنا المستقبلة لحمم براكين القصف الجوي، فأسلم الطرق لدحره التعامل بالمثل والخروج من جلباب الفضيلة لأن هذا العدو لا فضيلة له.
هذه الحرب وجودية بالدرجة الأولى لسكان الجهات المستهدفة بالقصف الجوي، لذا وجب على هؤلاء السكان تغيير نمط حياتهم وادخار القوة لحرب قادمة هي الأكثر بشاعة والأطول أمد، وليعلموا أن العدو يتربص بهم الدوائر، فلا راحة لهم إلّا بشرط واحد هو دحر العدو واقتلاعه من أرض السودان، كما لا يجب على الوطنيين الشرفاء القبول بأنصاف الحلول في أي منبر يدعو للسلام، فكما أدى الثلاثي الوطني – المهدي، الخليفة، دقنه – دوره التاريخي كاملاً غير منقوص بتحرير البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً، على الجنود وضباط الصف والضباط بقوات الدعم السريع، أن يضعوا نموذجي لوران كابيلا (زائير) وبول كاقامي (رواندا) في حسبانهم، وهو التحرير الكامل والتنظيف الشامل، فالطوفان القادم من الغرب يجب أن لا يتوقف إلّا عند الحدود الاثيوبية والارترية والمصرية، وأن تلحق مشروع المليون جندي فزعة كبرى تنادي الأهل في البوادي والقرى، أن هبوا لاستكمال مشروع التحرير الوطني، الهادفة لتخليص البلاد من عملاء المستعمر، الذين رفعوا سقف المواجهة لاستدعاء الجيوش الأجنبية من وراء الحدود الشمالية والشرقية، فحرب الكرامة المزعومة قد أتت بالغزو الخارجي، ومن اليوم وصاعداً يجب أن تتمايز الصفوف، بين من انحنوا وبسطوا ظهورهم ليمتطيها الغزاة، وأولئك الصامدين الحاملين للواء التغيير والتحرير، فلقد نادى المنادي للموت بشموخ وعزّة وكبرياء في مواجهة الغزاة، ومن أجل حسم العملاء والمرتزقة والجواسيس، وجب على استخبارات الدعم السريع أن تفعّل كفاءتها لتواكب مكافحة التجسس بالأراضي المحررة، ولتضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه تقديم الاحداثيات لطيران العدو، وكل من يعمل على نقل المعلومة للجهات المعادية.

إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com

   

مقالات مشابهة

  • حسام موافى: المبالغة في الحزن تتعارض مع تعاليم الدين
  • كيف علقت القوى السياسية اللبنانية على تصريحات جعجع بشأن سلاح حزب الله؟
  • عاجل من صنعاء.. بيان هام للمكتب السياسي لأنصار الله
  • دليل السلوك السياسي لقيمة الثورة الحق: المفاهيم والإجراءات الواجبة
  • هل يجب على ورثة الكفيل سداد الدين المؤجل فور وفاته؟
  • تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 14-11-2024 في محافظة البحيرة
  • لسنا متمردون – نحن نمارس حق الدفاع الشرعي
  • علامات السحر والحسد وطرق العلاج الشرعي.. الإفتاء توضح
  • مصطفى الفقي: علاقة السيسي بترامب أفضل من علاقته بالرؤساء الأمريكيين السابقين
  • محلل سياسي: رغم كل الجهود والمفاوضات سيظل الميدان هو الحكم لوقف الحرب