من فقهنا السياسي.. من الخطأ وضع مصطلحات السابقين على نوازل العصر
تاريخ النشر: 10th, September 2024 GMT
في أكثر من مناسبة قلت إن نصوصَ الدينِ في قضايا السياسة الشرعية "نادرةُ" الوجود، أو "عرية عن مسالك القطع خلية عن مدارك اليقين" على حد تعبير إمام الحرمين الجويني..
وشريعتنا تجنّبَت التفصيلَ والتفريعَ في نُظم السياسة عن حكمة وقصد، لا عن سهو ونسيان؛ وذلك حتى لا يُشقُ على الناس ويُضيق عليهم في أكثر مجالات حياتهم تجددا وتسارعاً واتساعاً، ولتتسعَ أَحكامُ العمل السياسي أيضاً، فتستوعب تبدُّلَ الزمان والأحوال والمكان، وما يطرأ على موزاينَ القوة والضعف.
إن العمل السياسي في شريعتنا ـ كما أفهمه ـ فعلٌ حركيٌ متجدد، يتناوله الحكم الشرعي، لأن الحكم الشرعي هو خطابُ الله تعالى المتعلِق "بأفعال" المكلفين، والسياسة "فعلٌ" تشمله الأحكام، فالسياسة والحكم من الدين، وإن كانت من جنس الوسائل.وكلُ مَن توسّعَ في الاستدلال بالنصوص الشرعية، أو بالَغَ في تكييف المصطلحات الفقهية فيما تجدَّد من نوازل الزمان، وحوادث الأعيان، فإنه لا يسلمُ من تكلِّف تخريج الأحكام، وتعسف تحقيق المناط!
وقد يقع ـ عاجلا أم آجلا ـ في التناقض، إذا ما عالج أشباه المسائل التي قطع فيها بقول، إذا ما تجددت صورة النازلة !
وهذا قد يسيء لشخصية الباحث ومقام المفتي أكثر مما يسيء لمجال البحث ومقام الفتوى ..
ـ 2 ـ
إن العمل السياسي في شريعتنا ـ كما أفهمه ـ فعلٌ حركيٌ متجدد، يتناوله الحكم الشرعي، لأن الحكم الشرعي هو خطابُ الله تعالى المتعلِق "بأفعال" المكلفين، والسياسة "فعلٌ" تشمله الأحكام، فالسياسة والحكم من الدين، وإن كانت من جنس الوسائل.
ولكن حركةَ السياسي، حركةٌ تتبدل فيها المواقف، ولا تتبدل فيها القيم، وتُستَبدَلُ عندها الأولويات، ولا تتنكر للمبادىء... ويأخذ الممارس لها، والمجتهد فيها ـ بعد تصحيح النية ـ بكل ما يوصله لجلب المصالح ودرء المفاسد، وِفقَ مصفوفةِ القيم السياسية، والموازنات، وبحسب مراتب متفاوتة، ومجالات متنوعة؛ فقد تكون المفسدة خاصة أو عامة، وقد تكون قاصرة أو متعدية، وقد تكون واقعة أو متوقعة، وقد تكون مؤقتة أو طويلة الأجل، والمفاسد إما تُعالَجُ بالدرءِ عند توقُعِها، أو بالدفع والرفع بعد تحققها ووقوعها، وقُلْ مثلَ ذلك في جلب المصالح واستدامتها ..
كما أن هذه المصالح والمفاسد قد تتعلق بكُلّيِ الدين، أو كُلي النفس أو كلي العقل والمال والنسل،.. وقد تتصل بالضرورات أو الحاجيات أو التحسينيات، وقِس على مِثالِه وانسُج على مِنواله .
ـ 3 ـ
والسياسة في ديننا تدور في فلك القيم الإسلامية العليا ـ كالعدل، والحرية، والشورى، وتجنب الكبائر السياسية كالاستبداد والظلم، ونهب المال العام، ـ وفق نظرية التقريب والتغليب، وبحسب وسع الفرد والجماعة والدولة،ورعايةِ حال العافية والإكراه..
إن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، قاتل أقواما ، ثم هادنهم وصالحهم! وليس في ذلك تنكر لمبدأ أو ركون للظالم أو رضى بالدنية في الدين ـ حاشا ـ كما أنه قتلَ بعض الأسرى كعقبة والنضر بن الحارث، ومَنّ على بعضهم وقَبِلَ الفديةَ في الآخرين، وأعطى صلى الله عليه وسلم بعض الأقوام من الغنائم ومنع آخرين، وكان في كل تصرفاته السياسية يصدر عن مصلحة تُرجَى، أومفسدة تُدفَع وتُدرأ ..
ورأينا ما فعل أصحابه الكرام رضي الله عنهم من بعده، فقد شَجَرَ بينهم ما شجر، حتى ارتفعت بينهم السيوف، وانعقدت الملاحم، ولم يقل أحد من الأئمة المتبوعين أن اختلافهم وما شجر بينهم كان اختلاف دين وإيمان، بل كان اختلاف حجة وبرهان، ورعايةٌ للمصلحةو مقتضيات العصر والزمان.
ـ 4 ـ
ومن الخطأ وضع مصطلحات السابقين على نوازل العصر دون رعاية لما طرأ مِن تَبدُل في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، أو رعايةِ الفروق بين زمن التمكين والاستخلاف، أو زمن التخلف والاستضعاف، كما لا ينبغي للمفكر أو الفقيه، تجاهل الظرف التاريخي الذي نشأت فيه المصطلحات الفقهية، فيقع فيما سماه بعضهم " التشغيل القسري للمصطلح " كأن نستحضر ونستورد المصطلحات الشرعية التاريخية القديمة مثل: ولي الأمر ، وأهل الحل والعقد ، والسمع والطاعة، ودار الإسلام و الحرب، وثم نستنبتها في تربة أخرى، وسياقات اجتماعية وثقافية وسياسية معاصرة، لا تَمُتُ بأي صلة إلى تلك الفترة.
أو نقوم بعكس الأمر؛ حيث نأتي إلى مصطلحات سياسية معاصرة كالديمقراطية، والدولة المدنية، والمواطنة،... فنكسوها ثوب مصطلحات فقهية أو مفاهيم دينية دون رعاية الفروق، واستحضار ثقافة عصرها الذي نبتت فيه واستقرت .
ـ 5 ـ
إن تنزيه الحكم الشرعي عن "القطع" في مسائل السياسة، وتجنب الجزم بمصطلحات التخوين والتأثيم، ليس تمييعا للحق والحقيقة كما يظن المُتعجل، بل هو توقيرٌ وتعظيمٌ وتنزيهٌ لمقام التحريم والتحليل الذي عظّمهُ الله وقَرَنَهُ بالشرك! وحفاظا على أعراض المسلمين من التدنيس دون بينة، أو تكفيرهم دون قضاء! وشاهدُهُ ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، إلى أن قال: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا"، وهو نهي محمول على التنزيه والاحتياط كما قال الإمام النووي رحمه الله .
السياسة في ديننا تدور في فلك القيم الإسلامية العليا ـ كالعدل، والحرية، والشورى، وتجنب الكبائر السياسية كالاستبداد والظلم، ونهب المال العام، ـ وفق نظرية التقريب والتغليب، وبحسب وسع الفرد والجماعة والدولة،ورعايةِ حال العافية والإكراه..وفي هذه الحديث خيرُشاهدٍ على نهي الأمير أو الحاكم أو المفتي، عن القطع في أحكامه، والتعجل في نسبة ذلك للمُشَرِع، وعلة النهي منصوصٌ عليها في الحديث نفسه ( فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ) فإن كان ذلك في أهل الحصون المحاربين من المشركين والكافرين، فكيف بأهل القبلة من الموحدين المسلمين المخالفين في الفروع .
ـ 6 ـ
أخيراً: لكل مسلم الحق في إبداء رأيه في أحداث الشأن العام فهما وتحليلا وحوارا، مادام ينطلق عن معرفة بتلك الأحداث، ولكن تقدير المصالح والمفاسد السياسية يعود بالدرجة الأولى لمن يخوض غمار العمل السياسي اليومي، ويعاني من إكراهاته وتوازناته، ويعاين عن كثب سيرورته المتسارعة، أما ربط أحكام الحلال والحرام بالعمل السياسي فإنها من أخطر مجالات الإفتاء، وأكثرها تداخلا مع فروع المعارف السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأخرى، كما أنه يتعلق بقوام حياة الناس ويتصل بمقدساتهم من دماء وأعراض وأموال، والخطأ في الإفتاء أو الإرشاد السياسي يتسع ضرره وخطره حتى يشمل الفرد والمجتمع والدولة، مما يحتّم على كل عالمٍ مُحقِق وفقيهٍ مُدقق، توسيع دائرة المشورة وتقليب الرأي وحسن صياغة الخطاب، هذا شيء من عفو الخاطر، ولكنه يحتاج لقراءة منصفة متأنية، وما فيه من زلل فمن نفسي، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
*الأمين العام المساعد للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير السياسة الدين رأيه العالم سياسة رأي دين سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صلى الله علیه وسلم العمل السیاسی الحکم الشرعی حکم الله
إقرأ أيضاً:
أمين مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي: مواجهة تحديات الأمن الفكري تتطلب وعيًا إفتائيًّا رفيعًا
أكدت الدكتورة ماريا الهطالي، الأمين العام لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، خلال كلمتها في الجلسة الافتتاحية للندوة الدولية الأولى لدار الإفتاء المصرية، على أهمية دور الفتوى في تحقيق الأمن الفكري في المجتمعات، مشيرةً إلى التحديات المعاصرة التي تتطلب وعيًا إفتائيًّا رفيعًا.
شيخ الإسلام بتايلاند: الأمن الفكري حجر الأساس للوقاية من الأفكار المنحرفةبدأت الدكتورة ماريا الهطالي كلمتها بتعبيرها عن سرورها للمشاركة في هذا الحدث المهم، حيث قالت: "إنَّه لمن دواعي السرور والغبطة أن نلتقي بكم في هذا الصرح الإسلامي العريق: أزهر المجد، ونور الفكر، وبهاء العلم، وضياء الحكمة، ومصنع العلماء؛ حيث أتيت إليكم وأنا أحمل لكم أجمل التحايا وأرقَّ العبارات وأزكاها من بلدكم الثاني، دولة الإمارات العربية المتحدة." وأعربت عن شكرها للأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم على جهودها في تنظيم هذه الندوة تحت الرعاية الكريمة لفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، متمنيةً لمصر دوام الأمان والاستقرار والتقدم.
وفي سياق حديثها عن موضوع "الفتوى وتحقيق الأمن الفكري"، أكدت الأمين العام لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي أن هذا العصر يشهد تحديات كبرى تتطلب منا جميعًا التصدي لها. حيث قالت: "إنَّ الحديث عن "الفتوى وتحقيق الأمن الفكري" والذي أحسنت الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم اختياره - زمانًا ومكانًا وموضوعًا وتنظيمًا - ليس من نافلة القول؛ فإنَّنا هذا العصر الذي نعيش فيه نتعرض لتحديات كبرى راهنة ومستقبلية."
وأشارت إلى أن الأجيال الحالية تواجه مخاطر متعددة، على رأسها تأثير العوالم المفتوحة ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي أدت إلى ظهور ظواهر، مثل: "الإفتاء الافتراضي" و"السيولة الإفتائية" و"الصراع الإفتائي".
وأضافت الدكتورة ماريا الهطالي: "كادت الفتوى الشرعية مع وجود هذه الظواهر أن تفقد هويتها الوطنية، وصميم تقاليدها وواقعها الحقيقي، ووسطها الثقافي والاجتماعي، وتصبح أداةً ومعولًا لتهديم الأوطان والقيم والأخلاق؛ بعد أن كانت أداةً رئيسةً في البناء وتحقيق الأمن الفكري والعدل والاستقرار والسعادة في المجتمعات." وشددت على ضرورة بناء "الوعي الإفتائي" كضرورة ملحة، قائلة: "إنَّ بناء "الوعي الإفتائي" وقيام الفتوى بدَورها في تحقيق الأمن الفكري ضرورة هذا العصر."
وأوضحت الأمين العام لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي أن عصر التقنية والذكاء الاصطناعي يتطلَّب منا فهم طبيعة التساؤلات التي تطرحها الأجيال الجديدة، وعدم الاكتفاء بالتحليل السطحي لهذه التحديات. وأكدت أن مواجهة هذه التحديات ليست خيارًا بل واجب وطني وديني. وأشارت إلى أهمية تقديم إجابات شافية لهذه التساؤلات، وإلا فإن الفراغ الفكري سيتيح للجماعات المتطرفة استغلال هذه الحاجة لنشر أفكارها السامة. وقالت: "لا أجد للتعبير عن خطورة هذه الآفة أبلغ من الحكمة التي سمعتها من الوالد صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي: "إنَّ البطون إذا جاعت أكلت الجيف، كذلك العقول إذا جاعت أكلت عفونة الأفكار.""
وفي إطار الحديث عن الأمن الفكري، أكدت الدكتورة الهطالي أن هذا الأمن يقوم على خمس دعائم أساسية: العدالة، التعليم، الإعلام، الانتماء للوطن، ووعي المجتمع وقيمه الأخلاقية، حيث تعد الفتوى جزءًا أساسيًّا في تشكيل هذا الوعي. وقالت: "لا شكَّ أنَّ الفتوى الشرعية هي جزءٌ رئيسيٌّ في تشكيل الوعي المجتمعي وصيانة قيمه وحماية أخلاقه، وضمان استقراره ورخائه."
واستعرضت تجربة دولة الإمارات الشقيقة في مجال الفتوى، مشيرة إلى دَور مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، برئاسة معالي الشيخ عبد الله بن بيه، في مواجهة التحديات.
حيث أوضحت: "عندما قامت جماعة الإخوان المسلمين المتطرفة بتهديد النسيج المجتمعي في عالمنا العربي والإسلامي، لم يتأخر المجلس في إصدار فتوى شرعية بتجريم هذه الجماعة واعتبارها منظمةً إرهابية." كما أكدت على أهمية الفتوى في تعزيز التعايش بين أبناء الوطن من خلال إجازة تهنئة غير المسلمين في أعيادهم، وتقديم إجابات علمية حول الأسئلة الناشئة بسبب جائحة كورونا.
وفي ختام كلمتها، دعت الدكتورة ماريا الهطالي الأمين العام لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي الحضور إلى التعاون من أجل وضع خطة شاملة للتصدي لتحديات الأمن الفكري، معبرةً عن أملها في الوصول إلى نتائج ملموسة من خلال الندوة. وقالت: "إنني لأرجو أن نتوصل من خلال هذه الندوة إلى نتائج ملموسة، وذلك من خلال حصر التحديات التي تهدد أمننا الفكري، ووضع خطة تعاونية نتشارك من خلالها في تقديم حلول واقعية".
وأعربت عن شكرها للأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، ولدار الإفتاء المصرية، وللجهود المبذولة في تنظيم هذه الندوة.