الحزب الشيوعي السوداني مخترق أم مختطف (3)
تاريخ النشر: 10th, September 2024 GMT
الحزب الشيوعي السوداني مخترق أم مختطف (3)
صراع فكري ... صراع شخصي
أي صراع فكري لا تتم معالجته بطريقة صحيحة ولم يتوفر له المناخ المناسب ولا التربة الصالحة كي يثري ويغني حياة الحزب، ويسهم في تطوره، فإنه يتحور كالفيروسات إلى صراع شخصي.
الصراع الفكري جذوره قديمة، ربما صاحبت الحزب منذ نشأته. وقد بلغت أوجها بعد انهيار الكتلة الاشتراكية ذلك الانهيار المفاجئ الذي لم يخطر على عقل بشر! حيث قبل بضعة أيام من إعدام تشاوشيسكو كان الاتحاد السوفيتي قد منحه وسام نجمة لينين.
رغم توفر الحياة المادية من تعليم وغذاء وعلاج وعمل وسكن في دول المعسكر الاشتراكي، إلا أنه انهار لافتقاده لما هو أهم للإنسان وهو حرية الإرادة وتقرير المصير. وحينما هبت رياح االقلاسنوست والبيرسترويكا على جليد الإتحاد السوفيتي انهار كأنه كان أكذوبة أو مغرور طلعت عليه الشمس.
ذلك الانهيار فرض على الحزب الشيوعي السوداني فتح باب لمناقشة القضايا الفكرية التي تتعلق بمستقبل الحزب، بعد الإقرار بأنّ الماركسية اللينينية تمرُّ بأزمة مُستحكمة تتعلّق بوجودها وجدواها.
كانت المناقشة العامة ساحة للنزال الفكري بين تيارين رئيسين، تيار التغيير وتيار المحافظين، أو والبيروقراطيين. ولكن نسبة لعدم معالجة ذلك الصراع الفكري وسبر أغواره بطريقة علمية، على الرغم من تبلوره بصورة واضحة في المناقشة العامة، فقد أتخذ شكّل الصراع الشخصي بين رموز وأفراد التيارين. تيار التغيير الذي يمثله المثقفون الطليعيون، وهم واجهة الحزب، عملهم وَسْط الجماهير أكسبهم مرونة التفكير وتجدد الأفكار وتقبل الرأي الآخر، سلطت عليهم الأضواء بفضل الظهور في الأجهزة الإعلامية والندوات، وقد تميزوا بإسهاماتهم في مجال الفكر والسياسة والأدب. وكان على رأسهم الأستاذ الخاتم عدلان، الذي نشر ورقته في الشيوعي عدد 157 بعنوان (آن أوان التغيير) التي وجدت تأييد لا حدود له داخل كواليس الحزب خاصة وَسْط الشباب والطلاب.
التيار الثاني هو تيار البيروقراطيين التنفيذيين، ونجد أن معظمهم ممن عمل في النشاط الحزبي الداخلي، آلفوا العمل السري الذي يتطلب الانضباط، والحرص والانغلاق. يقدسون اللوائح وتنفيذ القرارات والتوجيهات التي ترد من الهيئات الأعلى أو توجه للهيئات الأدنى. لذا امتازوا بالصرامة والانضباط. ولا غرو في أن يطلق عليهم في كواليس الحزب، على سبيل المزاح (الشاويشية).ولم ينج معظمهم من السلبيات والعيوب المصاحبة للعمل السري من انكماش وإحجام، وانغلاق أمام الجديد وأمام الجماهير.
كان على رأس ذلك التيار المحافظ الأستاذ التجاني الطيب بابكر، الذي كتب عدة أوراق في المناقشة العامة يدافع فيها بضراوة عن المركزية الديمقراطية، والماركسية اللينينية. وكان السكرتير العام محمد إبراهيم نقد يميل للتغيير. لكنه ظل يسعى بتوازن بين التيارين لإيجاد أرضية مشتركة تقي الحزب شر الانقسام. وكان يدرك أن كلا التيارين لا غنى لأحدهما عن الآخر من أجل استمرار نشاط الحزب بشقية التنظيمي والجماهيري.
الصراع الفكري بين تيار الديوانيين وتيار الكادر الجماهيري، يعزيه الماركسيون الأصوليون للتركيبة الطبقية لكلا التيارين، حيث نجد أن تيار الكادر التنظيمي والإداري ينحدر معظمهم من بيئة ريفية. أما الكادر الجماهيري، جلهم إن لم يكن جميعهم، ينحدرون من طبقة البرجوازية الصغيرة التي تمتلك القدرة على الإنتاج الفكري والمادي، جميعهم مهنيون، وجامعيون، وإن كانوا قد انسلخوا عن طبقتهم ومصالحها الطبقية. إلا انهم متهمون بالتأثر بكثير من أمراض البرجوازية الصغيرة مثل حب السيطرة والفردانية والتمرد على القوانين واللوائح والنظم بحكم تأثير الأضواء المسلطة عليهم، وللنجومية والشهرة التي خلقها العمل الجماهيري والدعائي وإنتاجهم الإبداعي السياسي والأدبي والثقافي والفكري. والاتهام الموجهة لتيار البيروقراطيون بأنهم ستالينيون وشوفينيون حزبيون، أي متعصبون ومتطرفون ومغالون في حزبيتهم. فالحزب بالنسبة لهم صار غاية وليس وسيلة لتطبيق برنامج سياسي.
إلا أن هذا التصنيف، وإن كان قريبا من الواقع، إلا أنه قد جانبته الدِّقَّة. فالتحليل الماركسي للطبقات لا يعمل بهذه الطريقة الميكانيكية. المجتمع السوداني متداخل الطبقات تسيطر عليه القبلية والجهوية. والكادر الجماهيري، وإن كان ينحدر أغلبهم من أوساط البرجوازية الصغيرة، إلا أنهم دون شك قد إنسلخوا من طبقتهم بمجرد انتمائهم للحزب الشيوعي. وفي رأيي أن سبب الصراع بين التيارين يرجع إلى طبيعة المهام والواجبات الحزبية لكل تيار. فالتيار التنظيمي المتشدد، أو الدواويني- لو صحت التسمية - مناط به الحفاظ على جسد الحزب، خاصة في ظروف العمل السري، وتأمين الكادر الجماهيري وقادة الحزب ووثائقه وأرشيفه. لذا نجد معظمهم يميل إلى العزلة والانغلاق على الذات والعيش في وسط مغلق من الشيوعيين. وتتشكل علاقاتهم وحياتهم على نمط محدود. لذا نجد أن معظمهم لا يتقبل اختلاف الآراء وتعدد المنابر. بينما نجد الكادر الجماهيري منفتح على الغير وأكثر تقبلا لوجهة النظر المختلفة وللرأي الآخر. وهم، على الرغم من الفردانية التي تتقمصهم أحياناً، قد ظلوا على الدوام روح الحزب ويمثلون همزة الوصل بين الحزب والجماهير. وبفضلهم استطاع الحزب أن يستقطب العديد من المبدعين من شعراء ومطربين وأدباء وتشكيليين حتى كاد الحزب في حقبة ما أن يسيطر سيطرة شبه كاملة على هذا المضمار الهام.
لذا فلا عجب أن يظل علو كعب تيار الطليعيين من الكادر الجماهيري الذين ينحدرون من الطبقة الوسطى البرجوازية، في دفة قيادة الحزب. وهذا الوضع ليس حصراً على الحزب الشيوعي السوداني، بل هو لازم الأحزاب الشيوعية منذ ولادتها. فأربابها ماركس وأنجلز ولينين، أصولهم برجوازية. وحتى على المستوى الحديث نجد قيادات ومفكري الأحزاب الشيوعية جلهم من الطبقة الوسطى، مثال حسن حمدان المعروف باسم مهدي عامل (لبنان)، وذكي مراد (مصر)، وعبد الخالق ونقد (السودان)...
وكأن كلا التيارين متفقان على أن يكون منصب السكرتير العام من التيار الجماهيري، لأن منصب سكرتير الحزب - ببساطة - ليس منصبا شرفيا أو تنظيميا محصورا في العمل الإداري الحزبي. فالسكرتير العام يمثل رأس الرمح في الحزب وسط الجماهير، صقل تجاربه بفضل العمل الجماهيري ومع قادة الأحزاب الأخرى، ووسط الديمقراطيين، ويتسم دوماً باتساع علاقاته الاجتماعية. وقد ظل على الدام - منذ تأسيس الحزب - زعيم الحزب، قائده الملهم صاحب الكاريزما والشخصية القوية الواثقة الذكية، الذي يملك القوة الخفية الجاذبة لأي شخص والقادرة على التأثير على أي شخص. لذا فإنتخابه دائماً ما يتم وفق معايير عالية ومواصفات غاية في الدقة. ولنا في تجربة انتخاب محمد إبراهيم نقد السكرتير العام السابق خير مثال.
بعد استشهاد عبد الخالق محجوب ظن الجميع أن من سيخلفه في قيادة الحزب لن يخرج من ثلاثة: الأستاذ التيجاني الطيب أو قاسم أمين أو فاطمة أحمد إبراهيم. وهناك من كان يعطي الأستاذ إبراهيم زكريا أو الدكتور مصطفى خوجلي الأفضلية، إلا أن الجميع تفاجأ بصعود محمد إبراهيم نقد الشاب الذي لم يتجاوز الأربعين عاماً لقيادة الحزب. وهو، وإن كان خير خلف لخير سلف، فإنه لا يوجد شيوعي واحد، ولا حتى نقد نفسه، يزكيه على التيجاني الطيب أو قاسم أمين. إلا أن ما يتمتع به نقد من مميزات ومكونات شخصية قدمته على كليهما. وخلال حقبة تولي نقد وقبل قيام المؤتمر الخامس واستقالة الخاتم عدلان، كان الجميع على قناعة راسخة بأن الخاتم عدلان هو خليفة نقد... وقد جرى فعلًا خلال الحجر المنزلي والرقابة التي فرضت على نقد خلال سنوات الإنقاذ الأولى أن تولى عملياً الخاتم عدلان مهام وواجبات السكرتير العام.
الناس بطبعهم يحتاجون إلى رمز Icon شخصا يلتفوا حوله ليمدهم ببعض الأمل. والآن الحزب يفتقد لمثل تلك الشخصية، الرمز. لذا نجده قد انفرط عقده بهذه الصورة المروعة. والمصيبة إن القلة الذين بيدهم الأمر لا يأبهون بذلك ... وأنا هنا لا أدعو لعبادة الفرد وتأليه القيادة، إلا أن تأثير الحزب لم يكن يوماً بالكم، بل بالكيف. فعضو الحزب الشيوعي مطالب على الدوام بالتحصيل الثقافي والمعرفي. فمن البداهة أنه يجب على من يتصدى للقيادة - على كافة المستويات - أن يكون موسوعي المعرفة، خاصة في مجال العلوم الإنسانية وتفاصيل الواقع السوداني بكل تعقيداته.
وللحديث بقية ...
في اللقاء القادم (4) سمات الصراع الشخصي وأسس الصراع الفكري
عاطِف عبدالله قسم السيد
atifgassim@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحزب الشیوعی السودانی السکرتیر العام وإن کان إلا أن
إقرأ أيضاً:
وحوش الشر والظلام..؟
بات الكثير من الناس يؤمنون اليوم بأن لا طمأنينة ولا استقرار فى العالم اليوم بعد أن تبدد الشعور بذلك وسط أحداث جسام سادت العالم عامة ومنطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة. غابت الطمأنينة والاستقرار بعد أن باتت الأوطان مهددة من جديد من وحوش الشر والظلام، فلقد أهدرت الحريات وضاعت الأحلام بعد أن تسيدت إسرائيل فى المنطقة، وبدأت تعيث فسادا فى أرجائها من جديد. ساد عدم الاستقرار فى أكثر من دولة فى الشرق الأوسط، غزة وسوريا والعراق واليمن وليبيا، فباتوا مهددين من محتل غاصب شرع فى القتل واستباحة الأرض. جرى كل ذلك أمام العالم الذى اكتفى بالمشاهدة دون أن يحرك ساكنا.
اجتاح الدمار الأرض العربية بعد أن استباحها الكيان الصهيونى المحتل الغاصب الذى انغمس فى ارتكاب جرائم حرب، وتمادى فى ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، ومارس القتل واستباحة الأرض العربية، ولوث مقدساتها، وشجعه على الإمعان فى ذلك دعم الغرب المريض له. ولهذا بات الكثير فى الأمة العربية يعانون الجوع والموت، وباتت الشعوب مشردة وهدمت بيوتها، وقتل أطفالها أمام عدو غاصب لا يرحم، عدو أدمن القتل والدمار والتخريب والتدمير. وجرى كل ذلك على مرأى من العالم كله. وللأسف جرى كل ذلك أمام عصر افتقد معايير العدل والحكمة وكل المشاعر وتحول إلى ساحة للظلم والطغيان.
ولا شك أن من حق الشعوب العربية أن تتنفس الصعداء وتعيش فى ازدهار وحياة كريمة، وأن يتم نقل السلطة من مربع الصراع والحروب والتناحر إلى مربع السلام والطمأنينة والازدهار والتنمية. ولهذا بدا من الضرورى إنهاء الحروب الداخلية المفتوحة فى بعض الدول العربية، وإعادة بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها الشرعية، وإنهاء نظام الميليشيات والتنظيمات المسلحة، والانخراط بعد ذلك فى عملية تنمية شاملة، وبناء نظام سياسى ديمقراطى يرتكز على مفهوم المواطنة الذى يساوى بين الجميع فى الحقوق والواجبات، ويرتكز أيضا على وجوب العمل على وقف كل أشكال التدخلات الخارجية فى شؤون الدول العربية ورفع اليد عنها، ووقف منطق الوصاية الذى تنتهجه بعض القوى الإقليمية والدولية.
كما يجب أن ترتكز العلاقات بين القوى الإقليمية والدول العربية على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل فى الشئون الداخلية. كما بات من الأهمية بمكان أن تؤخذ فى الاعتبار ضرورة تغليب منطق التعاون على منطق الصراع، وهنا لا بد من تعزيز المناعة الداخلية، والذى من شأنه أن يمثل حائط صد ضد كل التدخلات الخارجية. وما من شك فى أن العامل الرئيسى هنا والذى يجب تفعيله كأولوية هو التركيز على ضرورة إنهاء الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، وإعطاء الأولوية لاقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 بما فيها القدس الشرقية. ولا شك أنه فيما إذا تم الأخذ بذلك فإن منطقة الشرق الأوسط ستعيش عندئذ فى فيض زاخر من السلام والطمأنينة بعيدا عن النزاعات والحروب والصراعات. وهذا ما يتمنى المرء رؤيته على أرض الواقع.