صناعة الجوع وسيناريو التدخل الدولي في السودان
تاريخ النشر: 10th, September 2024 GMT
كيف لنا أن نصدّق أن السودان، الذي تمّ ترشيحه من قبل ليصبح "سلة غذاء العالم"، يعاني اليوم من المجاعة؟ وأن ما لا يقل عن سبعة ملايين شخص داخل البلاد يواجهون صعوبة في الحصول على الطعام الذي يسكت صرخات بطونهم الخاوية، بمن فيهم المزارعون أنفسهم في الولايات التي يحاصرها التمرد؟ لدرجة أن بعض الناس أكلوا أوراق الشجر، ولحوم الحيوانات الميتة!
منطلقات سياسيةهذا غيض من فيض الأرقام المفزعة لبرنامج الأغذية العالمي، الذي يكرّس كل جهوده منذ أشهر للتعامل مع أكبر أزمة إنسانية في العالم يشهدها السودان كنتيجة طبيعية للحرب.
المريب أن تلك الأزمة تتعامل معها الدول الغربية من منطلقات سياسية في المقام الأول، وهي دول فقدت الأهلية الأخلاقية للحديث عن أي قضية إنسانية بعد أن رأيناها تتفرج على أهل غزة وهم يتضورون جوعًا ويموتون تحت وطأة الحصار الإسرائيلي.
ومع ذلك، هنا في السودان تذرف دموع التماسيح، وتجتمع وتنفض لتقرر – باسم المجاعة – التخلص من القوى الوطنية واستبدالها بفئة رخيصة وفاسدة من الساسة وأرباب منظمات المجتمع المدني، الذين يعملون على خدمة مصالح المركز الاستعماري.
بالطبع، هذا ليس من أجل الجوعى أو المحاصرين تحت قصف المدافع، بل من أجل مآرب قديمة تنظر إلى السودان كمنطقة بِكر لم ينتفع أهلها بها. ولذلك، يُمهِّدون – من خلال مجلس الأمن ومن خلفه – لتدويل القضية، ونشر قوات أجنبية هدفها الظاهر حماية المدنيين، لكنها في حقيقتها قوات احتلال تريد أن تستكمل المخطط الذي أشعلت من أجله الحرب.
الطفلة والنسر الجائعفجأة، وبلا حيثيات منطقية، أوصت لجنة المراقبة التابعة للأمم المتحدة بنشر تلك القوات الأجنبية، وعلى الأرجح ستأتي تحت البند السابع الذي يسمح لهم باستخدام القوة. لكنها ربما كانت خطوة مؤجلة.
دعونا نتفحص أرقام المنظمات الأممية، التي تتحدث عن 10 ملايين سوداني في حاجة إلى الغذاء، وأحيانًا ترتفع الأرقام إلى 18 مليونًا. كيف تسنى لهم، دون آليات رصد دقيقة ولا فرق عمل على الأرض تفي بمعايير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، أن يطلقوا تلك الأرقام؟!
هذا إذا وضعنا في الاعتبار أرقام مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي تتحدث عن أكثر من عشرة ملايين شخص أجبروا على ترك منازلهم وتفرقوا داخل السودان وخارجه، وأغلبهم في مناطق سيطرة الحكومة التي تنكر وجود أزمة غذائية، وترى في تقارير الأمم المتحدة عملًا دعائيًا. فالعلاقة بين الأعداد المتناقصة من البشر، وكمية الغذاء المحدودة مسألة في غاية التناقض.
ومع ذلك، لا تلتزم دول العالم بتوفير الأموال الكافية للتعامل مع المأساة السودانية، حيث جُمِعَ أقل من نصف المبلغ المطلوب تقريبًا، وهي مبالغ تذهب عادةً وفق أولويات الصرف إلى الرواتب ونثريات الحركة.
معنى ذلك أن الانفعالات تتسرب بعيدًا عن الصواب. فهم نفس الجمهور الذي وقف من قبل أمام صورة الطفلة السودانية الجائعة والنسر الذي كان ينتظر موتها ليأكلها، حين التقطها المصور كيفين كارتر عام 1993 خلال المجاعة في السودان. ومع ذلك، صفق الجمهور كما لو كان مشهدًا من عرض سينمائي مؤثر، لينفضّ السامر بعد ذلك!
الذراع الكولونياليةلم تكن قوات الدعم السريع بريئة مما يحدث. فهي، في حقيقة الأمر، أقلّ من أن تخوض حربًا بهذه الكُلفة، لكنها فجأة انتشرت كعاصفة وحاصرت القرى والمدن. ثم، بطريقة غير مبرّرة عسكريًا، احتلّت المشاريع الزراعية في ولايتَي الجزيرة وسنار، ونهبت الأسواق ومخازن المحصول الإستراتيجي، وأغلقت أبواب التجارة ومداخل السلع الاستهلاكية، ودمّرت المصانع، وأحرقت الغابات، وعطّلت قنوات الري.
كل ذلك تحت لافتة البحث عن الديمقراطية، ومحاربة الإسلاميين. ولم تبدِ أيَّ اعتراض على التدخل الدولي، بل تتماهى معه لدرجة الحديث عن تشغيل مطارات دارفور للطيران الأجنبي. وهي بذلك تستعجل المجاعة المفضية إلى الهروب أو الموت، وتهيئة البلاد لسيناريو التقسيم، أو وضعها تحت انتداب المجتمع الدولي، تلك الذراع الأميركية الكولونيالية.
وعلى ما يبدو فإن مجموعة "متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح والسلام في السودان"- تمخضت عن مفاوضات جنيف، التي قاطعها الجيش – هي رأس الكائن المتحور الذي تفجّرت قرونه بعد ثورة ديسمبر/كانون الأول من عام 2018، حينها ظهرت أميركا وحلفاؤها عبر تحالف (الرباعية) التي صنعت ورعت الاتفاق الإطاري، وهي أي تلك الرباعية، بمثابة المخلب الجارح الذي أزهق روح الثورة السودانية؛ لأجل تمكين سلطة حميدتي، لكنها وجدت مشقة في إخضاع الجيش والقوى الوطنية، فلجأت إلى الحرب، ودفعت بالمبعوث الأميركي للسودان توم بيرييلو – ابن طبيب الأطفال والمهاجر الإيطالي (فيتو أنتوني)- لاستكمال المهمة، وذلك بعد فشل خيار الحسم العسكري.
لذلك لجأ بيرييلو ومعاونوه من "تنسيقية تقدم" – الظهير السياسي للجنجويد – للترويج لابتدار حملة المجاعة، وإثارة الشكوك حول جدوى الحرب عندما أدركوا أن قوات حميدتي تآكلت دون كسب المعركة.
حصار الضحايارغم حقيقة وجود نقص في الثمرات في المناطق التي تحاصرها "الدعم السريع"، مثل الفاشر، إلى جانب ظهور "التكايا" التي توزع الطعام على الأسر في الخرطوم، فإن المساعدات الغذائية التي دخلت معبر "أدري" غرب السودان تجاهلت مدينة الفاشر الصامدة، التي يقطنها نحو 1.8 مليون نسمة، وتحتضن معسكرات نزوح، وهي في حاجة ماسّة للمساعدات.
تكشفت المؤامرة بحرمان "الفاشر" من الغذاء وعرقلة قوافل "أطباء بلا حدود" من الوصول إليها كذلك، كما سقط مشروع الجزيرة الزراعي، ومشروع السوكي في ولاية سنار، دون أن يؤخذ في الاعتبار أن هؤلاء الضحايا منتجون، تعتمد حياتهم كليًا على بيع المحاصيل التي يزرعونها.
السودان ليس بحاجة إلى الغذاء، فهو دولة منتجة، تخترقها عشرات الأنهار الدائمة والموسمية. وأفضل طريقة للتخلص من المشكلة هي تنفيذ اتفاق جدة، الذي نصّ على ضرورة "الالتزام بالإجلاء والامتناع عن الاستحواذ، واحترام وحماية المرافق الخاصة والعامة، مثل: المرافق الطبية والمستشفيات، ومنشآت المياه والكهرباء، والامتناع عن استخدامها للأغراض العسكرية، وفك الحصار عن المدنيين".
وهذا يعني عمليًا إنهاء الحرب ومكافحة المجاعة. لكن الولايات المتحدة الأميركية لا ترغب في ذلك، إذ شكلت عقوباتها – لسنوات عديدة – أحد الأسباب الرئيسية وراء تدهور الأداء الاقتصادي للبلاد.
صناعة الجوعأصبح الغذاء في عالمنا سلاحًا سياسيًا يُستخدم ببراعة وبلا ضمير؛ لإضعاف مقاومة الشعوب الفقيرة وإخضاعها لسياسة الدول التي تمسك بمفاتيح مخازن الغلال في العالم. فضلًا عن أن المشكلة ليست في نقص الغذاء الذي يمكن تعويضه، بل تكمن في الأراضي الزراعية المحتلة، وعدم وجود آليات فاعلة لتوزيع الاحتياجات الضرورية للنازحين، وضعف الجهاز الحكومي.
من ناحية أخرى، أشار مؤلفا كتاب "صناعة الجوع"، فرانسيس مور لاييه وجوزيف كولينز، إلى أن إعادة توزيع الغذاء ليس الحل لمشكلة الجوع. وتشخيص الجوع على أنه نتيجة لندرة الغذاء والأرض، هو لوم للطبيعة على مشكلات من صنع البشر.
ويقدم الكتاب خلاصة قريبة من الواقع السوداني: "حيثما نجد أناسًا لا يطعمون أنفسهم الآن، يمكنكم التأكد من وجود عقبات قوية قد وضعت في طريقهم". ومن يقف وراء سيناريو الحرب وتشريد السودانيين يهدف إلى تقليص عدد السكان والسيطرة على الأرض لصالح الشركات الأجنبية.
وهذا تقريبًا نفس ما كان سيحدث في منطقة الفشقة الزراعية التي استعادها الجيش السوداني من إثيوبيا في العام 2021، وقد اقترحت دولة إقليمية إعادة تقسيمها بطريقة غير عادلة، 40% للسودان و40% لتلك الدولة، و20% للمزارعين الإثيوبيين، وهو ما رفضته الحكومة السودانية وقتها، وربما لذلك علاقة بالحرب الحالية.
عمومًا، فإنّ التدخل الدولي في الشأن السوداني يريد فرض واقع جديد ووصاية مجحفة، دون اكتراث بالإرادة الوطنية أو مراعاة للسيادة واستقلال القرار السياسي. وبالتالي، ليس طعام السودانيين وحده المهدد بالخطر، بل حياتهم كلها وبلدهم بالضرورة. فهل سيسمحون بتفعيل هذا السيناريو الخطير بعد كل هذه التّضحيات؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فی السودان
إقرأ أيضاً:
بعد هجمات ولاية الجزيرة.. تحذير أممي: حرب السودان تزداد خطورة على المدنيين
حذر مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك الجمعة من أن النزاع في السودان يأخذ منعطفا أكثر خطورة على المدنيين، عقب تقارير أفادت بوقوع هجومين طابعهما إثني في ولاية الجزيرة بوسط السودان.
وقال تورك في بيان، إن “الوضع بالنسبة إلى المدنيين في السودان يائس بالفعل، وهناك أدلة على ارتكاب جرائم حرب وجرائم فظيعة أخرى. أخشى أن الوضع يأخذ الآن منعطفا أكثر خطورة”.
وبحسب تورك "فقد وثّق مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الأسبوع الماضي مقتل ما لا يقل عن 21 شخصا في هجومين بولاية الجزيرة، مع احتمال أن تكون الأرقام الفعلية أعلى".
ووقع الهجومان في مخيمين يبعدان نحو 40 كلم عن ود مدني.
واستعاد الجيش السيطرة على مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة السبت، طاردا قوات الدعم السريع التي سيطرت على هذه الولاية في ديسمبر/ كانون الأول 2023.
وتُتهم قوات الدعم السريع بتنفيذ أعمال عنف إثنية، ما دفع الولايات المتحدة إلى اتهامها بارتكاب إبادة جماعية الأسبوع الماضي، لكن تقارير وردت أيضا عن استهداف مدنيين بسبب انتمائهم العرقي في المناطق التي يُسيطر عليها الجيش السوداني.
وسبق، أن أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية الخميس فرض عقوبات على قائد الجيش السوداني الجنرال عبد الفتاح البرهان، متهمة قواته بتنفيذ هجمات على مدارس وأسواق ومستشفيات واستخدام التجويع سلاح حرب.
وجاءت العقوبات بعد أسبوع على فرض الولايات المتحدة عقوبات على قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، متهمة مجموعته بارتكاب إبادة جماعية.
ووصف الجيش السوداني العقوبات الأمريكية بأنها غير أخلاقية قائلا إنها تفتقر إلى أبسط أسس العدالة والموضوعية.
واتُّهم طرفا النزاع السوداني باستهداف مدنيين وبالقصف العشوائي لمناطق مأهولة.
كما اتُّهمت قوات الدعم السريع بارتكاب تطهير عرقي وعنف جنسي منهجي وبحصار بلدات بكاملها.
وردا على تقارير لمسؤولين أمريكيين أفادت مؤخرا باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية، قالت المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان رافينا شامداساني الجمعة إنه بسبب محدودية القدرة على التنقل، “لم تُوَثّق تحديدا” ممارسات كتلك خلال الحرب.
وفي إحاطة الجمعة، وصفت شامداساني التقارير بأنها “مقلقة جدا”، مضيفة أنها “تتطلب مزيدا من التحقيق”.
وقالت إن الأمم المتحدة وثّقت “استخدام أسلحة ثقيلة جدا في مناطق مأهولة”، بما في ذلك ضربات جوية على أسواق.