في قلب القرن التاسع عشر، وفي ظل التجديدات الثقافية والتعليمية التي شهدتها مصر، يأتي كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» للعلامة رفاعة الطهطاوي كواحد من أبرز النصوص التي وثّقت تجربة الشرق في استكشاف الغرب.. نُشر الكتاب عام 1834م بعد عودة الطهطاوي من بعثة علمية دامت خمس سنوات في باريس، ويعد هذا العمل ملحمة ثقافية تبرز التفاعل بين الحضارتين الإسلامية والغربية.


«تخليص الإبريز» ينقسم إلى عدة أبواب رئيسة تغطي جوانب متعددة من الحياة الفرنسية والأوروبية، بدءاً من التعليم والنظام السياسي، مروراً بالتقنيات والعلوم، وانتهاءً بالعادات الاجتماعية والدينية، من أهم الأبواب: (التعليم والمدارس) وفيه يصف الطهطاوي بتفصيل كبير النظام التعليمي الفرنسي، مشيداً بدور المدارس والجامعات في بناء الدولة، أما الباب الثاني فهو (النظام السياسي) الذي يهتم بشرح تنظيم الدولة الفرنسية، مقدماً نظرة تحليلية للمؤسسات السياسية وكيفية إدارة الحكم.
وفي باب (العلوم والتقنية) يتحدث رفاعة عن التقدم العلمي والتقني الذي شهدته فرنسا، مشيراً إلى الاختراعات والابتكارات التي أثرت في العالم، كما لم ينسَ المؤلف في باب (الأخلاق والدين) أن يناقش الديانة الكاثوليكية، ويقارن بين الأخلاق الإسلامية والمسيحية في سياق تعزيز الفهم المتبادل.
استخدم الطهطاوي أسلوباً سردياً وصفياً محكماً في كتابته، معتمداً اللغة العربية الفصحى بتراكيبها البلاغية الرائعة، كان أسلوبه واضحاً وجذاباً، يمزج بين التحليل العقلاني والوصف العاطفي، مما جعل من كتابه وسيلة فعالة لنقل صورة حضارية متكاملة عن الغرب إلى القراء العرب.
«تخليص الإبريز» لم يكن مجرد رواية سفر، بل كان محاولة جادة لبناء جسور الفهم بين العالم العربي والغرب، ويُعد هذا العمل من النصوص الأساسية التي لعبت دوراً كبيراً في توجيه النظر إلى أهمية التعليم والانفتاح على الثقافات الأخرى، وقد استطاع الطهطاوي أن يقدم رؤية معتدلة تنبذ التعصب وتقدر العلم والمعرفة، مما جعل من كتابه مرجعاً دائماً للعديد من الأجيال.
بهذه الرحلة المعرفية الفريدة التي قدمها رفاعة الطهطاوي عبر «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، نجد أنفسنا أمام مصدر ثقافي غني وعميق، فالكتاب ليس فقط توثيقاً لحضارة، بل هو دعوة للتفكير والتأمل في كيفية التعايش بين الثقافات المختلفة بروح من التقدير والاحترام المتبادل، من هنا أثرى رفاعة الطهطاوي الأدب العربي بعمل لا يقدر بثمن، وسيظل شاهداً على تاريخ ثقافي مشترك يمتد عبر الزمان والمكان.

أخبار ذات صلة علي يوسف السعد يكتب: يوم في قصر دراكولا علي يوسف السعد يكتب: جوهرة أرمينيا المائية

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: علي يوسف السعد

إقرأ أيضاً:

يوسف إدريس يحسد "تولستوي"!!

"لم أحسد في حياتي رجلاً على رقدته مثلما حسدت تولستوي، وما تمنيت في حياتي أن أمتلك قطعة أرض خاصة لي إلا أن أمتلك الأمتار المُخضرة بالعشب التي لا يتميز فيها الإنسان إلا ببضعة سنتيمترات قليلة".. هكذا وصف أديبنا الكبير يوسف إدريس قبر أديب روسيا الأشهر "ليون تولستوي" على صفحات كتابه "جبرتي الستينات"، الذي نحتفل بمرور أربعة عقود على صدوره (صدر عام 1984م).

وفي هذا الجزء، وصف إدريس زيارته لقبر "تولستوي" الكائن في ضيعته (عزبته) بقرية "المروج البيضاء" التي تبعد عن موسكو بنحو (200) كم، حيث وصف إدريس بدقة وإبداع الضيعة قائلاً: ".. .و(سراية) تولستوي، والغرفة التي كتب فيها (أنا كارنينا)، والأخرى التي بدأ فيها الملحمة الكبرى (الحرب والسلام)، ومكتبة تولستوي التي تضم كتبًا عربية وهندية وفارسية وبحوثًا كثيرة عن الإسلام، بل لاحظت فيها وجود كتاب ضخم عن ملح الطعام، و(رُوبّه) الذي يشبه القفطان، والعصا والكرسي والحجرة التي كان يستضيف فيها وينام تشيكوف وجوركي وطبيبه الخاص، وسكرتيره في أواخر أيام حياته".

وعن وصيته بأن يُدفن في ضيعته، يقول إدريس: ".. لقد أوصى ذلك الرجل الفنان، القديس المتواضع إلى حد الصلف والغرور، والجاد إلى حد الهزل، الواقعيّ إلى حد الخيال، الحالم إلى حد اليقظة، الذي عشق الأرض، وأحبها إلى درجة أن يرفض احتكارها لنفسه، واعتبرها كالسعادة جديرة بالتوزيع على كل الناس.. أوصى بأن يدفن في الأرض كما تدفن أمواتنا في مصر".

مقالات مشابهة

  • علي يوسف السعد يكتب: «200 يوم حول العالم»
  • محمد عبدالجليل: إيهاب جلال كان شخصية رائعة.. وأتمنى أن يتعلم فتوح الدرس جيدًا
  • أمن سيدي يوسف بن علي يوقع بأخطر مروج لماء الحياة .
  • Tomba لا تزال رائعة بعد مرور 20 عامًا
  • يوسف إدريس يحسد "تولستوي"!!
  • برشلونة يكتسح جيرونا برباعية ويواصل الانتصارات في ديربي كتالونيا
  • الحلقة المقبلة.. الشاب خالد ضيف ببرنامج بيت السعد
  • مدافع برينتفورد: قدمنا مباراة رائعة ضد مانشستر سيتي
  • أين وصلت مراجعة ساعات العمل بقطاع التعليم التي وعدت بها الوزارة كجزء من الاتفاق؟
  • "كانت سيدة رائعة ومحترمة".. عمرو محمود ياسين ينعي الراحلة ناهد رشدي