سلطت سلسلة الهجمات الأخيرة التي شنها الهندوس على المسلمين في الهند، الضوء على كيفية استمرار العنف الطائفي في كونه مشكلة خطيرة، حتى مع سعي البلاد إلى تعريف نفسها على المسرح العالمي كديمقراطية قوية تتمتع بحقوق متساوية للجميع، حسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز".

وقالت الصحيفة في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إنه على الرغم من فوز رئيس الوزراء ناريندرا مودي بفارق ضئيل في الانتخابات في حزيران/ يونيو، والذي فسره كثيرون على أنه رفض، فقد كانت هناك حالات عديدة من مثل هذا العنف، وفقا لمنظمات حقوق الإنسان التي تركز على الهند وإحصاء صحيفة "نيويورك تايمز" للتقارير الإخبارية المحلية.



وتشمل ما لا يقل عن اثنتي عشرة حالة ما يسمى بحراس الأبقار، وهو العنف المرتبط بذبح الأبقار أو تهريبها، أو الاشتباه في مثل هذه الأفعال. 

في آب/ أغسطس، اعتدت مجموعة من الرجال الهندوس بالضرب على رجل مسلم يبلغ من العمر 72 عاما لأنهم اعتقدوا أنه يحمل لحم بقر في حقيبته. وفي ذلك الشهر أيضا، أطلقت مجموعة تصف نفسها بأنها من "حماة الأبقار" النار على طالب هندوسي يبلغ من العمر 19 عاما حتى الموت لأنهم اعتقدوا أنه مسلم يهرب الأبقار، وفقا لعائلته. 


وشدد الصحيفة على أن قضية الأبقار مثيرة للانقسام لأنها تضع المعتقدات الدينية لمجموعة ضد النظام الغذائي لمجموعة أخرى. الأبقار مقدسة في الهندوسية، وخاصة بين الطبقات العليا، وتحظر العديد من الولايات الهندية ذبحها، فضلا عن بيع أو تهريب لحوم البقر. لكن لحوم البقر يستهلكها العديد من المسلمين. 

وأشارت إلى أن العنف الديني ليس نادرا في الهند، حيث يتعايش أكثر من مليار هندوسي، وحوالي 200 مليون مسلم، و30 مليون مسيحي، و25 مليون سيخي وأقليات دينية أخرى، في بعض الأحيان بشكل غير مريح. 

في عهد مودي، الذي سعى إلى تحقيق أجندة قومية هندوسية منذ توليه السلطة في عام 2014، أصبح المسلمون بشكل متزايد هدفا للجماعات الهندوسية المتشددة التابعة لحزب بهاراتيا جاناتا.

تحدث مئات حالات العنف الديني، بما في ذلك الإعدام خارج نطاق القانون والضرب والإساءة، كل عام، وفقا لبيانات من مكتب سجلات الجرائم الوطنية. 

ونقل التقرير عن هارش ماندر، الناشط في مجال حقوق الإنسان والسلام، قوله إن الهجمات شائعة لدرجة أنها فقدت قدرتها على الصدمة تقريبا. 

وأضاف أن العنف ضد المسلمين على وجه الخصوص، "أولا يتم تطبيعه، وثانيا يتم إضفاء الشرعية عليه وثالثا يتم تقديره. لذا ليس من الطبيعي القيام بذلك فحسب، بل إنه من الجيد القيام به". 

وأشارت الصحيفة إلى أن حراسة الأبقار هي مجموعة فرعية من العنف الديني، حيث تعمل فرق "gau rakshaks" (حماة الأبقار) كقوة شرطة بحكم الأمر الواقع.


وبحسب التقرير، فإن القوانين الخاصة بذبح الأبقار تحددها الولايات، ولكن مودي جعل من حماية الأبقار حجر الزاوية في استراتيجيته السياسية الوطنية، الأمر الذي شجع حركة لها جذور عميقة في التاريخ الهندي. ونادرا ما يعلق مودي علنا على عنف الجماعات المسلحة. 

من عام 2019 وحتى قبل بدء الهند في الذهاب إلى صناديق الاقتراع في نيسان/ أبريل، كان أكثر من خُمس الهجمات المبلغ عنها من قبل الهندوس على المسلمين مرتبطة بحراس الأبقار، وهي الفئة الأكبر، وفقا لتحليل أجرته ACLED، وهي منظمة غير ربحية مستقلة تراقب الأزمات وتحلل البيانات. 

من غير المرجح أن تصبح مثل هذه الحوادث أقل تكرارا في فترة ولاية مودي الثالثة، على الرغم من الفوز بهامش أضيق من المتوقع لحزبه في الانتخابات، كما قال محمد أكرم، الباحث الذي شارك في تأليف ورقة بحثية عام 2021 حول حراس الأبقار. 

وقال أكرم للصحيفة الأمريكية، إنه "على الرغم من التوقعات بأن ضعف مودي سياسيا قد يؤدي إلى انخفاض في خطاب العنف المناهض للمسلمين، فقد كان هناك أكثر من اثنتي عشرة حادثة من عنف حراس الأبقار خلال هذه الفترة وحدها". 

وفي ما وصفته عائلة الضحية بحالة خطأ في تحديد الهوية، تعرض آريان ميشرا، 19 عاما، لإطلاق النار في ولاية هاريانا بعد مطاردة بالسيارات في 24 آب/ أغسطس. ألقت الشرطة القبض على خمسة رجال، كان أحدهم معروفا محليا بأنه حارس للأبقار. 

صرح سياناند ميشرا، والد الضحية، للصحفيين هذا الأسبوع أن ابنه لا يعرف الجناة، الذين افترضوا أن ابنه كان مهربا للأبقار. وأضاف: "نحن لا نقاتل أحدا"، موضحا أن عائلته تنتمي إلى طبقة هندوسية عليا.
 
نأت إحدى أكبر الجماعات الهندوسية العنصرية في الهند، فيشوا هندو باريشاد، بنفسها عن الهجمات الأخيرة. قال ألوك كومار، الرئيس الدولي للمجموعة: "نحن ندين جميع أشكال العنف والميل إلى أخذ القانون بأيدي المرء". وقال كومار إن مجموعته تدرب العمال على التدخل فقط إذا تم تهريب الأبقار والإبلاغ عن مثل هذه الحالات للشرطة. 

وقال كومار إنه من المهم أن يلتزم الهندوس بنفس القوانين التي تحكم جميع المواطنين الهنود. وأضاف أن حالات العنف الأخيرة كانت أكثر من مجرد مصادفة من كونها تشكل توجها. 

في 28 آب/ أغسطس، صعد الحاج أشرف علي سيد حسين، وهو رجل مسلم يبلغ من العمر 72 عاما، على متن قطار في ولاية ماهاراشترا، وفقا للتقرير.


وقال حسين إنه كان مسافرا لزيارة ابنته عندما بدأ حشد من الشباب في السخرية منه بعد أن حددوا هويته كمسلم من خلال لحيته وقلنسوته، واتهموه بحمل لحم البقر في حقيبته. (وفقا لابنه، كان لحم الجاموس، وهو أمر مسموح به عموما). 

وقال حسين للصحفيين: "سألتهم، من أنتم لتسألوا؟" وعند ذلك، بدأ الرجال - الذين كانوا في طريقهم لامتحانات التأهيل ليصبحوا ضباط شرطة - في ضربه. وقد أصيب بإصابات متعددة، بما في ذلك في العينين والرأس والصدر. 

وقال أرشانا دوسان، ضابط شرطة كبير يحقق في القضية، إن أربعة رجال اتُهموا بارتكاب جرائم خطيرة بما في ذلك الضرب المبرح والنهب. 

وفي كثير من الأحيان، يتم تصوير العنف بالكاميرات وتداوله على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما في حالة حسين. وقال ماندر للصحيفة "إنك تخلق دليلا على جريمة بموجب القانون الهندي"، مضيفا أن هذا كان عنفا "استعراضيا. وهذا يعني أنك متأكد من أنك لن تُعاقب". 

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية الهند مودي المسلمون الهند المسلمون مودي سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العنف الدینی فی الهند أکثر من فی ذلک

إقرأ أيضاً:

رؤى في تعدد مداخل تقاطع مع الديني والسياسي.. مشاتل التغيير (10)

تعد فكرة تعدد العوالم لدى مالك بن نبي فكرة مفتاحية في هذا المقام وهي ثلاث؛ عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء. إلا أن هذه العوالم بتفاعلاتها وتشابكاتها إنما تؤكد على توليد عوالم أخرى مثل عالم الرموز حينما يتفاعل عالم الأشياء مع عالم الأفكار، وكذلك حينما يتفاعل عالم الأشخاص والأفكار فإنه يتحول الشخص إلى فكرة تحوله إلى رمز؛ فإن هيمن الشخص تحول إلى وثن؛ أي أن تحول الشيء إلى فكرة يحوله إلى رمز، وتحول الرمز إلى شيء يقدمه كوثن.

وهناك عالم الأحداث الذي هو ناتج لتفاعل العوالم الثلاثة ليس هناك عالم أحداث خلو من أفكار وإدراكات وعالم أشخاص يتفاعل فيها وعالم أشياء يشكل مساحة للتفاعل، وهناك عالم الإمكانية، وهو يمكن أن يتولد نتاج التفاعل بين العوالم المختلفة. وفي هذا الإطار فإن العلاقة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية ليست بعيدة عن هذه العوالم جميعا وليست بعيدة عن مولداتها، ومن هنا وجب علينا ألا نخلط بين عوالم بعوالم وألا نخلط بين من يتولد من تفاعل عوالم بعوالم، وألا نخطئ النظر في وضع هذه العوالم وتفاعلاتها.

العلاقة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية ليست بعيدة عن هذه العوالم جميعا وليست بعيدة عن مولداتها، ومن هنا وجب علينا ألا نخلط بين عوالم بعوالم وألا نخلط بين من يتولد من تفاعل عوالم بعوالم، وألا نخطئ النظر في وضع هذه العوالم وتفاعلاتها
المدخل الأول يتعلق بسيطرة عالم الأشخاص على عوالم أخرى، فإنما يشكل مؤشرا على أن يتحول الأمر إلى عبادة لأشخاص يتحول فيه استخدام عالم الأشياء من أجل شخص، وتتحول فيه الأفكار إلى شخص، وتصير الشخصانية هي الحالة المميزة والصفة لكافة العلاقات. هذا الوضع لا يمكن أن يولد إلا حالة استبدادية في هذا المقام؛ إن معنى ذلك في طبيعة علاقة الديني بالسياسي أنه وفقا للتطورات التي حدثت بشأن الدولة القومية من جانب والدولة المركزية التي ورثت الإدارة الكولونيالية المركزية في سلوكها وسياساتها من جانب آخر؛ إنما جعل الديني مصدر خوفٍ مستمر لأي سلطة، ذلك لأن الدين قام بدور كبير في حفز السياقات الوطنية والجماعة الوطنية في التاريخ المصري والخبرة التي حملها، إذ شكل تيارا أساسيا استطاع أن يحقق عناصر مهمة في إحكام النسيج الاجتماعي، وهو أمر لم يكن مصدر خوف للإدارة الكولونيالية فحسب، ولكن للأسف الشديد أنه صار مصدر خوف وعدم ثقة لإدارة الدولة المركزية التي ورثت الاستعمار.

المدخل الثاني في عمليات التقاطع والتفاعل بين هاتين الظاهرتين (السياسية والدينية)؛ دخول عناصر في تحليل العلاقة بين الظاهرتين، وأهم هذه العناصر التي دخلت هي الثقافي والقيمي، فنحن أمام معادلة ترتكن في أصولها إلى أربعة عناصر أساسية؛ الأول إعادة تعريف السياسي؛ الثاني إعادة تحديد المجال الديني؛ الثالث إعادة الاعتبار للقيم؛ الرابع إعادة بروز الثقافي في عملية التحليل. على سبيل المثال فقد أصبح الديني يشكل مصدرا ومرجعية للقيم؛ ورد الاعتبار للقيم في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

وتأثير القيمي في السياسي جزء لا يتجزأ من تدهور مقولة علم خال من القيم؛ فأصبح السياسي لا يمكنه بأي حال من الأحوال تجاهل الديني أو تهميشه، وأصبح الديني طاقة لا يمكن إنكارها في عالم السياسة والعلاقات الدولية. والتساؤل الذي يتعلق بذلك: أين عناصر تلك العلاقة الرشيدة المتوازنة بين عناصر المعادلة الأربعة في تكوينها؟ أين الوسط الذي يشكل دافعا أو حافزا لعلاقات سوية بين هذه التقاطعات الأربعة فيما بينها لضبط العملية؟

المدخل الثالث الذي يحسن أن نتوقف عنده ببعض من التأني؛ فهو المجالات التأسيسية التي ترتبط بالظواهر عامة وهو ما يمكن أن نطلق عليه "4 Ps"، والتي تتكون من أربع مجالات الشخصي (Personal) والخاص (Private)، والعام (Public)، والسياسي (Political)، ويضاف إلى ذلك العولمي (Plus Global)، لأن العولمي يحيط بالأربعة، فقد تداخل فيه ما هو شخصي، وخاص، وعام وسياسي.

إن دخول الديني على هذه المعادلة من المجالات المختلفة يمكن أن يحدث ارتباكا كما يحدث ترشيدا في سياق هذه المعادلة، ومن هنا وجب النظر إلى طبيعة العلاقات بين هذه المداخل المختلفة في إطار وضع كل مجال في مقامه، بحيث لا تتعدى على بعضها، أو تطغى على بعضها، ولكنها تستطرق استطراقا جميلا من غير اعتساف أو ضغط أو تهرُؤ أو غير ذلك من أمور تُخرج هذه المجالات عن طبيعتها.

المدخل الرابع: العلاقة بين الداخلي والخارجي لا تحدث العلاقة بين الديني والسياسي بمعزل عن العلاقة بين الداخلي والخارجي، بل ربما كانت هذه العلاقة الأخيرة هي أحد أهم الدواعي التي تدفع إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الديني والسياسي وإعادة تعريف السياسي من جانب وإعادة تحديد المجال الديني من جانب آخر.

وفقا للتطورات التي حدثت بشأن الدولة القومية من جانب والدولة المركزية التي ورثت الإدارة الكولونيالية المركزية في سلوكها وسياساتها من جانب آخر؛ إنما جعل الديني مصدر خوفٍ مستمر لأي سلطة
وفي هذا السياق، يبدو لنا من جملة ما قررنا أن العولمة قد تكون لعبت دورا أفسد طبيعة العلاقة بين الشخصي والخاص والعام والسياسي، وأن هذا الإفساد قد تم نظرا لعدم مراعاة النسب المقررة والمتوازنة بين هذه المجالات، فإنه من نافلة القول أن نؤكد أن البعض قد قرن العولمة باعتبارها "دينا وضعيا" أو ما أسماه البعض "ديانة السوق"؛ أكدت ضمن مساراتها وعملياتها على حالة من تنميط البشر على شاكلتها في عملية تبدو في دخول البشر دين العولمة.

في هذا السياق، لا بد وأن نؤكد على أن زحف الخارج على الداخل في شئون كثيرة ومنها الديني؛ قد طال الإسلام كدين أكثر من أي دين آخر، خاصة وفق عملية صناعة الصورة، فصار هو الدين الذي يرتبط بالعنف وكذا بالإرهاب، صار هو الدين الذي يُرمز له بالعدو الأخضر، صار هو الذي يمثل قوس الأزمات الحالي والمحتمل، صار هو مجال الفعل لأى عملية سيطرة أو تحكم في المعمورة.

المدخل الخامس: الحالات والمقامات والآليات والمآلات. ومن الأهمية بمكان أن نؤكد بشأن العلاقات بين العوامل والمتغيرات المختلفة والمجالات المتنوعة؛ أن تلك العلاقات تفرز بطبيعتها شأنا عملياتيا (العمليات)، والوصل ما بين هذه العمليات الأربع في العلاقة بين السياسي والديني إنما يتطلب منا دراسة عدد من الموضوعات منها:

1- الخبرات والتجارب والنماذج التاريخية السلبية والإيجابية للعلاقة بين الظاهرة السياسية والدينية في الأديان المختلفة وخبراتها المختلفة.

2- مدى تأثير الدين ضمن تلك الخبرات والنماذج التاريخية والخبرات المعاصرة.

3- الآليات التي يمكن استخدامها لتعظيم تأثير الدين لتأسيس علاقات سوية صحيحة إيجابية دون اتخاذ موقف مسبق يتعلق باستبعاد الدين من جملة الحياة الدنيوية والمدنية (قواعد العيش المشترك، أصول التعايش، التربية الدينية الحاضرة الجامعية، الجماعة الوطنية الصالح المشترك العام، سفينة الوطن.. الخ).

4- المآلات وفهم تلك الحالات والمقامات والآليات وما تنتجها من آثار محتملة على أرض الواقع.

المدخل السادس: تمويه الحدود بين السياسي والديني. من جملة ما تراكم لدينا من فهم عوالم كل المداخل السابقة؛ من الضروري أن نعطى مجموعة من المؤشرات والمعايير التي يمكن أن نستند إليها في "رفع الالتباس بين الديني والسياسي والعام من شئونهم عن عموم الناس". ونشير إلى جملة من التنبيهات:

أولها أن استبعاد أحد طرفي العلاقة لمصلحة الآخر إنما يشكل نظرة تعسفية غير منهاجية، ومن هنا وجب علينا من الناحية البحثية المنهاجية -وليس من ناحية الرأي والفكر أو اتخاذ مواقف فكرية- أن نقف بحدة وبشدة ضد توجيهات وتوجهات العلمانية الفجة، التي تستبعد الدين من جملة فاعليات الحياة، وتحاول أن تفسر ذلك الواقع على غير طبيعة العوامل الفاعلة فيه؛ إن ذلك المتدين المتطرف في رؤيته هذه لا يختلف عن العلماني الفج لأن كلا منهما يسحب الآخر لصالح تصوره، فمنهج من يجعل الدنيا بلا دين والآخر يجعل الدين بلا دنيا. والاثنان يعبّران عن حالة انسحابية لا يمكن أن تنتج إلا علائق غير سوية غير صحيحة وغير صحية.

ثانيها أن التأويل الصحيح للقول الصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث تأبير النخل "أنتم أعلم بشئون (أمور) دنياكم" التي لا تفتأ بعض التوجهات العلمانية من أن تتبنى بعض مقولات دينية في تسويغ رؤاها، فقد أراد الفريق الأول أن ينفي مطلقا الصلة بين أمور الدنيا بأمر الدين من قريب أو من بعيد، وهو تزيّد في تفسير وتأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بينما يعني الفريق الثاني أن ما من شأن للدنيا مهما دق أو صغر إلا وللدين وصفه تفصيلية له في مجراه ومرساه وفي سائر أحواله، وهذا اتجاه يصادر على حقيقة الاجتهاد كأصل بنياني من أصول البنيانية للشريعة؛ وما عبّر عنه السيوطي في رسالته التي عنونها بـ"الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض".

ثالثها أنه في هذا السياق وجب علينا أن نؤصل ونفصل معنى الشأن الذي يقوم بـ"شئون" على سبيل الجمع؛ و"أمور" على سبيل الجمع، وأيضا على سبيل التنكير فإن هذا الأمر كما هو مبين من سياق الحديث النبوي إنما يعبر عن شئون فنية وأمور تتعلق بالآليات والوسائل. بدا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يؤصل معنيين لا يجب التفريط فيهما في شأن العلاقة بين السياسة والدين؛ أما الأمر الأول فإنه يتعلق بأن الولاية الدينية لا تعطي أهلية لأي إنسان كائنا من كان أن يتدخل في الأمر الفني من دون اختصاص، وفي ذلك الشأن يجب أن نأخذ قول الحباب بن المنذر في غزوة بدر حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم "أَبِوَحْيٍ فَعَلْتَ أَوْ بِرَأْيٍ؟ قَالَ: بِرَأْيٍ يَا حُبَابُ".

صارت عملية التجديد عملية مستمرة وحدتها الزمنية "القرن" تؤكد على أنه كلما خبت الشريعة من تقصير البشر المؤمنين بها في فاعليتها، وجب عليهم أن يبحثوا من كل طريق عن سبل تجديدها؛ ومسالك نهوض الأمة بها؛ ووصلها بأصلها، وهذا بحق هو معنى التجديد؛ ومشاتل التغيير والإصلاح مشرعة مفتوحة
إن هذا التمييز بين المسائل التي تلتقي بالدين الموحى والأمور التي تتعلق بعمليات الحرب "الفنية" فقد كان لها مدخلا في هذا. ومن ثم كان على صاحب الولاية الدينية أن يذكّر بأمر ثانٍ هو أنتم أعلم بأمور دنياكم، فمن حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى إلى لفت النظر إلى الإيمان بقدرة الله، ومن حيث إن الأمر أدى إلى إخراج من غير تأبير النخل شيصا (أي لم يثمر ثمرته الأصلية)، كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على أن في كل اختصاص لا بد وأن يعود الناس إلى صاحب الولاية الفنية والاختصاصية، وأن التخصص وجب أن يكون في خدمة الأمة والإنسان والعمران.

رابعها أن الدين الإسلامي على وجه الخصوص يقدم رؤية في فهم الدين قد تختلف عن تلك الرؤية التي شاعت في تصور الدين كعلاقة شخصية، أو كما تتصوره بعض التوجهات العلمانية. شمول الدين الإسلامي فرض تصوره على أنه له رؤية كلية لكافة مجالات الحياة، ترتبط بالأصول المعرفية والأصول القيمية والأصول السلوكية والأصول المقاصدية؛ السياسي فيه ليس بعيدا عن الدين، ولكن ليس معنى عدم بعده عنه أن يسيطر أو يتحكم شخوص الدين بالسياسي،ولكن بمعنى كيف يمكن أن يرفد الدين المجال السياسي بكل ما يؤدي إلى تنظيم فعاليته وتقويم مساراته واستثمار طاقاته.

خامسها أن من المبادئ العامة المرتبطة بخصائص هذه الشريعة أن تلك الشرعية انتظمت في مساق عام يؤكد على معنى أنها "أجملت ما يتغير، وفصلت فيما لا يتغير"، وظل ذلك أساسا معرفيا ومنهاجيا للشريعة الإسلامية في هذا المقام لتؤكد على المعنى الذي يؤكد على العلاقة بين عالمين؛ عالم الثابت وعالم المتغير فيما يتعلق بالعلاقة فيما بينهما، فكلما انتهى الأمر إلى دائرة الثبات كان ذلك أكثر تفصيلا، وكلما ارتبط الأمر بدائرة التغير كان ذلك أكثر إجمالا، وهو يتعلق بما سبق وأن قررناه من أن الاجتهاد أصل بنيوي في الشريعة، وأن التجديد من الفروض الواقعة ما حدثت الحوادث وما تراكمت القضايا وما نزلت النوازل وما طرأت الطوارئ.

وصارت عملية التجديد عملية مستمرة وحدتها الزمنية "القرن" تؤكد على أنه كلما خبت الشريعة من تقصير البشر المؤمنين بها في فاعليتها، وجب عليهم أن يبحثوا من كل طريق عن سبل تجديدها؛ ومسالك نهوض الأمة بها؛ ووصلها بأصلها، وهذا بحق هو معنى التجديد؛ ومشاتل التغيير والإصلاح مشرعة مفتوحة.. ولنا في ذلك عودة ومعالجة في مقال آخر.

x.com/Saif_abdelfatah

مقالات مشابهة

  • «حكماء المسلمين»: يوم زايد يجسد معاني الأخوّة الإنسانية
  • هل لحوم الأبقار التي تتغذى على العشب أكثر استدامة بيئيًا؟ دراسة جديدة تكشف الإجابة
  • رؤى في تعدد مداخل تقاطع مع الديني والسياسي.. مشاتل التغيير (10)
  • مجلس حكماء المسلمين يرحب بإتمام مفاوضات السلام بين أرمينيا وأذربيجان
  • مجلس حكماء المسلمين يدين بشدة الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة
  • رتيبة النتشة: إسرائيل لا تحترم مشاعر المسلمين في الحرب على قطاع غزة| فيديو
  • الهند تعلن حظر تجوال.. عاجل
  • جماعة الإخوان المسلمين تدين تجدد العدوان على قطاع غزة وتوجه رسالة للدول العربية
  • نقابات حراس الأمن الخاص تتخوف من تشريد مليون عامل بعد إلغاء وزير الصحة صفقات الحراسة والنظافة في المستشفيات
  • بين الانقسام والانتقام.. سوريا تدخل مرحلة اضطرابات جديدة