هل أصبح العالم أكثر نضجًا؟
تاريخ النشر: 9th, September 2024 GMT
محمد بن علي بن حمد العريمي
منذ بزوغ فجر البشرية، كانت الحروب والصراعات جزءًا لا يتجزأ من المسيرة الإنسانية كالظل المرافق لتطور الإنسان، مشهدًا يتجسد فيه الصراع على السلطة والسيادة والثروات، ومسرحًا تُعبر فيه الأمم عن طموحاتها وأهدافها. لم تكن الحروب مجرد مواجهات عسكرية دموية، بل كانت مرايا تعكس طموحات الأمم وأهدافها.
كما تطورت الحروب والصراعات العالمية من فجر التاريخ حتى الآن في العصور القديمة، ومن أهدافها لتحقيق النفوذ والسيطرة على الأراضي والشعوب. على سبيل المثل تحتمس الثالث (1481- 1425 ق.م)، الذي كان يقود المعارك بنفسه، كان بمثابة مهندس الإمبراطورية المصرية، حيث وسع حدود مصر وجعلها مركز الثروة والنفوذ وظهرت بعد ذلك حروب من أجل الاستيلاء على الثروات التي كانت بمثابة المحرك الرئيسي الحروب منذ العصور القديمة. إلى أن انتهى الأمر بنا إلى حرب بالوكالة مع تطور في العصر الحديث، تحولت الحروب من مواجهات مباشرة إلى حروب بالوكالة، كساحة شطرنج تديرها القوى العظمى من خلف الكواليس.
كما شاهدنا خلال الحرب الباردة (1947- 1991)، تنافست الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على النفوذ العالمي من خلال دعم حلفائهما في مختلف الصراعات الإقليمية. أصبحت وسيلة لتجنب المواجهة المباشرة بين القوى العظمى وتقليل خطر نشوب حرب نووية شاملة.
كذلك سنجد أسباب الصرعات بين الدول كثيرة ومتنوعة، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة محاور رئيسية: العرقية والدينية، الاقتصادية.
الصراعات العرقية والدينية الصراعات العرقية والدينية غالبًا ما تكون دوافع قوية للحروب، تمثلها الصراعات التاريخية التي غيرت مجرى الأمم. على سبيل المثال، الهنود الحمر، أو الشعوب الأصلية في الأمريكتين، شهدوا العديد من النزاعات والصراعات العرقية على مر التاريخ، خاصة خلال فترة الاستعمار الأوروبي. أبرز هذه النزاعات تشمل الحروب الهندية (1600- 1900) سلسلة من النزاعات المسلحة بين القوى الاستعمارية الأوروبية (والتي لاحقًا أصبحت الولايات المتحدة) والشعوب الأصلية كانت الحروب تشمل معارك وصراعات على الأرض والموارد.
الفتوحات الإسلامية التي بدأت في القرن السابع الميلادي، لم تكن مجرد حملات عسكرية، بل كانت بمثابة زحف رياح التغيير التي أحدثت تحولًا دينيًا وجغرافيًا كبيرًا بعد انهيار الإمبراطورية الفارسية. الفتح الإسلامي لمناطق واسعة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كان له تأثير عميق على الهويات الثقافية والدينية، مما أسس لحقبة جديدة في تاريخ المنطقة.
الحروب الاقتصادية كانت دومًا من الدوافع الرئيسية وراء الحروب عبر التاريخ. سعي الدول للسيطرة على الموارد الطبيعية، مثل النفط والمعادن الثمينة، جعل الحروب الاقتصادية شائعة جدًا. مثال بارز على ذلك هو الحروب العالمية الأولى (1914- 1918) والثانية (1939- 1945)؛ حيث سعت القوى العظمى لتأمين مصادر الثروات وإعادة توزيع النفوذ العالمي. في الحرب العالمية الأولى، سعت الدول الأوروبية الكبرى للسيطرة على المستعمرات الغنية بالموارد في إفريقيا وآسيا. أما في الحرب العالمية الثانية، فكان الاستحواذ على الموارد الطبيعية مثل النفط في الشرق الأوسط والمواد الخام في شرق آسيا أحد العوامل الأساسية للصراع إلى جانب الأسباب الاقتصادية، كانت هناك حروب تهدف مباشرة إلى نهب الثروات، وهي ممارسات تعود إلى العصور القديمة.
الإمبراطورية الرومانية، على سبيل المثال، خاضت حروبًا متعددة لنهب الثروات من الدول المجاورة وتعزيز اقتصادها، مثل الحملة على مملكة بونت في القرن الأول قبل الميلاد.
الإمبراطورية الفارسية، كذلك، كانت تسعى لبسط نفوذها في المناطق المحتلة لزيادة قوتها الاقتصادية والعسكرية.
وتستمر هذه الأنماط في الصراعات الحديثة؛ حيث يجري تبني استراتيجيات مشابهة ولكن بأدوات ووسائل جديدة، مما يبرز التداخل المستمر بين الدوافع الاقتصادية والسياسية والدينية في الصراعات الدولية.
الصراع في أوكرانيا: في عام 2014، اندلعت الأزمة الأوكرانية بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، مما أشعل فتيل صراع معقد بين الحكومة الأوكرانية والانفصاليين المدعومين من روسيا في شرق أوكرانيا. هذا الصراع يعتبر مثالًا حديثًا على الحروب من أجل النفوذ؛ حيث تسعى روسيا إلى تأمين مصالحها الجيوسياسية في المنطقة.
الصراعات في الشرق الأوسط: المنطقة شهدت حروبًا متعددة لأسباب عرقية ودينية واقتصادية. وكذلك الربيع العربي، الذي بدأ في 2011 شكل من اشكال الصراع العالمي ونوع من انواع الحروب والتي تسمى حروب الجيل الخامس وهي حرب تنفذ من خلال العمل العسكري غير حركي، مثل الهندسة الاجتماعية، والتضليل، والهجمات الإلكترونية، إلى جانب التقنيات المستجدة مثل الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة تمامًا. حرب الجيل الخامس هي حرب "معلومات وإدراك"، كان واحدًا من أعقد الحروب الحديثة، حيث تشابكت فيه الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية.
الحروب التكنولوجية بين الصين واليابان: في العصر الرقمي، اتخذت الحروب أشكالًا جديدة تتجاوز الميادين العسكرية التقليدية. الصين واليابان، باعتبارهما من القوى الاقتصادية الكبرى، تتنافسان بشراسة في مجال التكنولوجيا والابتكار.
هذه الحروب الاقتصادية والتكنولوجية تتضمن سباقًا للتفوق في مجالات الذكاء الاصطناعي، والاتصالات، والتكنولوجيا الحيوية، وهي تعكس تحول الحروب من ميدان القتال إلى ميدان الاقتصاد والمعرفة.
ومن المعطيات السابقة وعلى الرغم من استمرار الصراعات والحروب في العصر الحديث، يمكن القول إن العالم أصبح أكثر نضجًا في تعامله مع الحروب. والتحول من الحروب الشاملة إلى حروب أقل وحشية، يعكس رغبة الدول في تجنب الدمار الشامل والبحث عن حلول دبلوماسية. مقارنة بالفترات التاريخية السابقة؛ حيث كانت الحروب تندلع لأسباب كثيرة ومتعددة وتستمر لفترات طويلة، أصبح هناك توجه نحو تفاهمات وحلول سلمية هناك وعي أكبر بأهمية السلام والتفاهم بين الأمم.
العالم اليوم، رغم التحديات والصراعات المستمرة، يسعى نحو تجنب الحروب الشاملة والبحث عن حلول دبلوماسية وسياسية للنزاعات، مما يعكس نضجًا متزايدًا في التعاطي مع قضايا الحرب والسلام، والصراعات في الشرق الأوسط، والحروب التكنولوجية بين الصين واليابان، كلها أمثلة على أنماط جديدة من الصراعات التي تتطلب حلولًا مبتكرة وتعكس تعقيدات العصر الحديث.
وفي نهاية المطاف، يمكن القول إنَّ الإنسانية تسعى بخطوات ثابتة نحو تحقيق نضج أكبر في إدارة النزاعات وتجنب ويلات الحروب.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
حروب وأزمات.. حصاد 45 عاما من التدخل الإيراني في الشؤون العربية
منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، شهد الشرق الأوسط تحولات جذرية كان معظمها ناتجا عن اعتماد الجمهورية الإسلامية الجديدة سياسة "تصدير الثورة" إلى دول الجوار.
وعانت الدول التي امتدت إليها أذرع النظام الإيراني، وأبرزها العراق ولبنان وسوريا واليمن وفلسطين، من اضطرابات سياسية واقصادية، وتورط بعضها في حروب أو مواجهات عسكرية مدمرة بدفع إيراني.
العراقوبينما كان الشيعة العراقيون متعاطفين مع الثورة الإيرانية في بادئ الأمر، إذ رأوا فيها مثالا لإحداث تغيير سياسي واجتماعي، نظرت إليها السلطات العراقية بقيادة صدام حسين وحزب البعث على أنه "تهديد وجودي"، خصوصا مع شعارات تصدير الثورة التي تبنتها القيادة الإيرانية الجديدة، وفقا للباحث الأكاديمي عقيل عباس.
يضيف عباس أن حزب الدعوة الشيعي العراقي تأثر بالثورة الإيرانية، ودخل في مواجهات مع نظام صدام حسين الذي أمعن في ملاحقة أفراد الحزب ونفذ كثيرا من الإعدامات بحقهم.
"كانت الثورة الإيرانية وبالا على العراق"، وفق تعبير عباس.
ويشير تقرير صادر في يوليو 2018 عن مجموعة الأزمات الدولية (ICG)، إلى أن إيران استغلت الفراغ السياسي الذي تبع سقوط نظام صدام حسين عام 2003، فعززت نفوذها في العراق من خلال دعمها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وميليشيات الحشد الشعبي وقوى أخرى، بمساعدات مالية وأسلحة وتدريب عسكري،
وساهمت فصائل مسلحة موالية لإيران، في قتل واختفاء مئات الأشخاص في ما عرف بـ"احتجاجات تشرين" 2019، وفقا لتوثيق منظمة "هيومن رايتس ووتش"، فضلا عن سقوط آلاف الجرحى، على مدى ثلاثة أشهر من الاحتجاجات على تدهور الأوضاع المعيشية والتدخل الإيراني في شؤول البلاد.
وحرق المحتجون مباني دبلوماسية تابعة لإيران في مناطق عدة في بغداد والجنوب العراقي.
وكشفت عمليات قتل المحتجين هشاشة الوضع الأمني، ودور ميليشيات مدعومة من إيران، مثل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله العراقي، في تقويض سلطة الدولة وإضعاف أجهزة الأمن العراقية الرسمية.
ومنذ 2003 حولت طهران العراق إلى ساحة مواجهة في الصراع الإيراني الأميركي، وشنت ميليشياتها هجمات على القواعد الأميركية والبعثات الدبلوماسية، مما أضر بالبنية التحتية وعرقل عجلة الاستثمار الأجنبي في البلاد.
سوريا"التدخل الإيراني في سوريا مر بثلاث مراحل متميزة"، يقول محمد العبدالله من المركز السوري للعدالة والمساءلة.
في البداية، كان الدور الإيراني متجها نحو نشر الوعي الديني في أوساط السوريين، وخاصة بين العلويين والشيعة. ثم، بعد عام 2000، أصبح الدور الإيراني أكثر وضوحا في نشر المذهب الشيعي بعد أن بدأ بشار الأسد في تسهيل جهود التشيع الإيراني. وأخيرا، بعد عام 2011، تدخلت إيران بشكل عسكري وأمني واضح في سوريا، وزجت بميليشيات شيعية للقتال إلى جانب النظام السوري.
يرى العبد الله إن شعار "تصدير الثورة" كان غطاء لتمكين إيران من توسيع نفوذها الإقليمي.
ووفقا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في عام 2022، بلغ عدد المقاتلين الإيرانيين والميليشيات التابعة لها في سوريا نحو 100 ألف مقاتل. وقدمت إيران لنظام الأسد خطوطا ائتمانية بقيمة حوالي ستة مليارات دولار، مما ساعد في تخفيف آثار العقوبات الدولية، ولكن ساهم أيضا في تدهور الاقتصاد السوري، وفق مخرجات تقرير نشرته في عام 2023 مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
لبناناستطاعت إيران تصدير ثورتها إلى لبنان عبر تأسيس حزب الله الشيعي، يقول الصحفي اللبناني عماد شدياق.
أوجد حزب الله شقاقا بين الأحزاب اللبنانية وعقّد الوضع السياسي. وأثر تصنيف حزب الله منظمة إرهابية على القطاع المصرفي اللبناني، إذ بدأت المنظومة المصرفية العالمية تحاربه، مما أضر بالاقتصاد اللبناني.
على المستوى الأمني، نفذ حزب الله العديد من الاختراقات لأجهزة الدولة، مما زاد من تعقيد الوضع الأمني في البلاد، وفقا لشدياق الذي يرى أن تصدير الثورة الإيرانية أثر على لبنان على كل المستويات.
وفقا لتقرير مجموعة الأزمات الدولية (2020)، أدى الوضع السياسي الهش الذي تسبب فيه حزب الله إلى تعرض لبنان لضغوط إقليمية ودولية، وخلق فراغا سياسيا في البلاد. وساهم الدعم المالي الإيراني لحزب الله في مفاقمة أزمة لبنان الاقتصادية، التي وصفها البنك الدولي بأنها واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم.
وقد تمكن الحزب من السيطرة على إمدادات الوقود وزيادة الاعتماد على إيران في هذا القطاع الحيوي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وفقا لتقرير المركز اللبناني للدراسات السياسية (2023).
وتورط الحزب في تجارة المخدرات، وفقا لتقارير دولية عديدة، منها تقرير معهد واشنطن (2020) وإدارة مكافحة المخدرات، فجمع، جراء ذلك، أموالا ضخمة زادت من تأثيره على الاقتصاد اللبناني.
اليمنيقول الباحث الأكاديمي اليمني، عبد القادر الخراز، إن الدعم الإيراني للحوثيين في اليمن أدى إلى حرب مستمرة منذ سنوات، وأزمة إنسانية كبيرة، وعمليات اختطاف وتعذيب وقتل داخل السجون.
خاض الحوثيين بدعم إيران ستة حروب قبل عام 2011، وفقا للخراز، مما أثر بشكل كبير على محافظة صعدة، شمال غربي العاصمة صنعاء. وبعد عام 2011، لعبت ميليشيا الحوثي دورا كبيرا في تغيير المعادلات داخل اليمن، واحتلت صنعاء وسيطرت على العديد من المحافظات الشمالية.
قدمت إيران للحوثيين حديثا صواريخ باليستية وطائرات مسيرة، فسيطروا على مناطق واسعة من اليمن، وتمكنوا من استهداف السعودية والإمارات اللتين شنتا ضمن تحالف عام 2015 حربا على الحوثيين دعما للحكومة اليمنية المعترف بها دوليا.
ووصفت تقارير دولة الأزمة الإنسانية في اليمن، جراء الحرب، بـ"الكارثية". ويعاني ملايين اليمنيين من نقص حاد في الغذاء والماء والدواء، وفقا لتقارير الأمم المتحدة (2023).
وتواصل إيران مد الحوثيين بالدعم المالي والعسكري، بينما تتواصل الأزمة الإنسانية جراء عدم قدرة المنظمات الدولية على إدخال المساعدات بسبب الحصار وتدمير الموانئ والمطارات، في سياق النزاعات المسلحة.
فلسطينفي 7 أكتوبر 2023، استهدفت حماس الداخل الإسرائيلي، بهجوم أسفرت عن مقتل نحو 1200 إسرائيلي واختطاف عشرات آخرين كرهائن وفقا للسلطات الإسرائيلية. وكان الرد الإسرائيلي سريعا وعنيفا، أسفرت حتى الآن عن مقتل أكثر من 43 ألف فلسطيني، وفقا لوزارة الصحة في قطاع غزة، بالإضافة إلى تدمير واسع للبنية التحتية ونزوح حوالي 85% من السكان.
تعود جذور العلاقة بين إيران وحماس إلى ما بعد الثورة الإسلامية في إيران، حين شرعت طهران في دعم الحركة في إطار استراتيجيتها لتوسيع نفوذها الإقليمي.
وبلغت قيمة المساعدات الإيرانية لحماس نحو 100 مليون دولار سنوياً، وفقا لتقرير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (2023). وساهم الدعم الإيراني في تعزيز القدرات العسكرية لحماس، لكنه عمق في الوقت ذاته عزلة الفلسطينيين على الساحة الدولية، وجعل غزة بؤرة للصراعات الإقليمية، مما أضاف مزيدا من المعاناة على كاهل الشعب الفلسطيني.