صلالة تعيد التعريف الأسطوري للخريف
تاريخ النشر: 9th, September 2024 GMT
كان عليّ أن أجد المعادل المكاني مع صديقي الشاعر سيف الرحبي وهو يتأمل المدن البريطانية بوصفها متحفا شعريا كبيرا في كتابه الشيق «صالة استقبال الضواري» بينما أقف على جبال صلالة محاطا بالنرجس البري والزعتر والحندقوق والنعناع والأعشاب التي تستظل بالنخلة الاستوائية النارجيل، وهي تغدق بثمرها على أهل عُمان كشجرة فريدة في الإقليم برمته.
الرحبي العماني يكتب بغريزة الشاعر عن المدن البريطانية، وأنا القادم من لندن أكتب بحس الصحفي عن جوهرة عُمان، مدينة منحت رئتاي ما يجعل الطب عاجزا عن تقديمه للإنسان، فلا أخلص من الطبيعة عندما يكون الإنسان رؤوما بها. ذلك ما يفعله العمانيون.
هذه البراري الرائعة أكثر من كل ما يمكن أن يتخيله أي مسافر إلى الدول العربية. فهي جميلة بشكل مذهل، والمناظر الطبيعية متوجة بدراما مكانية تجعل من التاريخ يفتح بواباته على وسعها. والناس ودودون بشكل لا يصدق. كذلك هم متحمسون لـ«رؤية عُمان 2040» ويفخرون بمشاركة تفاصيلها مع زوار سلطنة عُمان.
في مدينة أرض اللبان المحمية وفق مصنفات اليونسكو، يتوج الخريف بحلة لم يجدها على مر الأزمان عندما يرتدي حلة خضراء ويعيد التعريف الأسطوري له، عندما يرتبط بصلالة، فخريف صلالة هو زمن مستقطع من الفصول الأربعة يمتلك من الحيوية ما يجعل المرء يعيش وقتا باهرا لا يجده بأي مدن العالم.
فعلى مدار أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر في كل عام، تغدق الرياح الموسمية المتقلبة في المحيط الهندي لتغسل وجه بحر عمان وتهطل زخات خفيفة من المطر.
هذه المدينة الواقعة في محافظة ظفار جنوب سلطنة عُمان مليئة بالمنحدرات المغطاة بالأعشاب والأشجار الضخمة والأنهار المتدفقة، ومع ذلك فهي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن الصحراء! كيف لك أن تتخيل ذلك من دون أن تتجول في منحدرات صلالة؟
في موسم الخريف، وهو ماركة مناخية مسجلة باسم صلالة وحدها من دون مدن العالم، تكون السماء ملبدة بالغيوم ولا يمكن رؤية الشمس عادةً طوال الموسم. فيصبح ارتقاء الجبال وكأنك في أرجوحة من الغيوم. ألا يكفي ذلك ليحطم التعريف التاريخي للخريف بأنه فصلًا يبعث على الخمول والوحدة، بينما هو في صلالة المدينة التي تبعث على الإلهام عبارة عن بساط أخضر مغسول بنثيث المطر المنعش.
ثمة أسطورة تقول إن صلالة قلب شجرة اللبان كانت تحرسها آلهة القمر، فتلك الأشجار العطرية الثمينة المتوجة بسحرها كانت تمد مدن العالم القديم برمتها باللبان المقدس. وهكذا كانت تحميها الآلهة وبقيت، فلا أحد يجرؤ على سرقة ثمارها. تحولت الأسطورة على مرّ السنين إلى تقليد اجتماعي يُجمع أهل عُمان عليه، عليك أن تطمئن ولا تفكر أن تتعرض للسرقة.
أشجار اللبان لا ترتفع عاليا مع ذلك تتطلب عملية استخراج عطرها الساحر مهارة عالية، حيث يقوم المزارعون بشق صغير في أغصانها كي تنهمر «الدموع» وتتحول إلى اللون الأبيض وتتصلب تحت حرارة الشمس قبل أن يتم قطفها من الشجرة.
عطر اللبان يحضر في كل مدن العالم مع أعياد الميلاد، فولادة السيد المسيح تعني بالضرورة البخور والزيت العطري، ذلك هو اللبان القادم من أرض عُمان ليعطر ولادة المسيح. فقصة عيد الميلاد هي قصة اللبان في جانبها الآخر.
كانت المنطقة التي تشكل أقصى جنوب عُمان تُعرف باسم أرض اللبان الذي يعد أحد أشهر المنتجات الطبيعية وأكثرها قيمة منذ العصور القديمة، ويمكن استنشاق رائحته العطرية بشكل لا يمكن أن تحسه مع أرقى ماركات العطور العالمية في كل مكان، حيث تنتشر رائحته في المنازل والمساجد والأسواق وحتى في المباني المكتبية الحديثة ومداخل الفنادق.
لم أزر صلالة بعين السائح، بل كنت أعيش تحت وطأة الشغف الصحفي، وهو ما يدفعني إلى اقتباس وصف مارتن هيسب الصحفي البريطاني المهووس بالرحلات حول العالم، الذي وصف صلالة بأنها واحدة من أكثر الأماكن المسكونة بالدهشة التي زارها على الإطلاق.
بطريقة ما، أنت على دراية بهذا الجانب الذي يعود إلى زمن سحيق من المناظر الطبيعية بينما تترنح وتقفز على طول المسارات التي تمر عبر الوديان، وهي وديان الأنهار أو المنحدرات التي كان الإنسان وحيواناته الأليفة يتنقلون فيها صعودًا وهبوطًا منذ ما قبل العصر الجليدي.
مع كل من التقيت بهم من الأوروبيين في صلالة، بدأ واضحًا أنهم يدركون حقيقة مفادها أن صلالة تمتلك خصوصية نادرة لا يمكن أن تجدها في أي مدينة أخرى، لذلك زادت الرحلات الجماعية إليها كما أن مطار صلالة الإقليمي الصغير على وشك أن يحل محله مبنى مطار ضخم أكبر من مطار ستانستيد في بريطانيا.
أراهن، كما يراهن غيري من الصحفيين الذين زاروا المنطقة أن صلالة سوف تصبح خلال أعوام وجهة أخرى لأشعة الشمس في فصل الشتاء، بينما سيبقى الخريف في هذه المدينة متوجا بتعريفه الحصري كماركة مناخية مسجلة باسم صلالة.
كرم نعمة كاتب عراقي مقيم في لندن
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مدن العالم
إقرأ أيضاً:
المحكمة تعيد قضايا فيلم "الملحد" إلى المرافعة وتحدد جلسة 8 يوليو
قررت محكمة القضاء الإداري، اليوم، إعادة جميع الدعاوى المتعلقة بفيلم "الملحد" إلى المرافعة بجلسة 8 يوليو المقبل، بدلًا من إصدار حكم نهائي، في ظل جدل واسع يحيط بمصير عرض الفيلم.
وتضمنت إحدى الدعاوى مطالبات بالتصدي لمن وصفتهم بـ "خفافيش الظلام وفلول التيارات التكفيرية الرجعية"، مع إحالتهم إلى النيابة العامة بتهم الإرهاب، والتطرف الفكري، والسعي لهدم دعائم الدولة المدنية والحداثية.
وكان الدكتور هاني سامح، المحامي، قد تقدم بإحدى هذه الدعاوى، مطالبا بعرض فيلم "الملحد" في السينمات المصرية. وأوضح سامح أن الفيلم حاصل على ترخيص رسمي من الرقابة على المصنفات السمعية والسمعية البصرية تحت رقم 121 لسنة 2023، وهو من تأليف الكاتب إبراهيم عيسى وإنتاج السبكي للإنتاج السينمائي.
وفي مرافعته، دفع سامح بعدم قبول دعوى مرتضى منصور، مستندًا إلى نص المادة 67 من الدستور المصري، التي تحصر تحريك دعاوى وقف أو مصادرة الأعمال الفنية في يد النيابة العامة وحدها دون غيرها. وأكد أن التصدي لمحاولات بعض التيارات الرجعية فرض وصاية فكرية على الفن ضرورة قصوى، مشيرًا إلى أن ترك الساحة لهؤلاء "سيقود إلى نسف التراث الفني المصري لصالح التكفير والإرهاب والرجعية".
وأشار سامح إلى أن الدستور يكفل حرية الإبداع الفني، محذرًا من محاولات الضغط لوقف عرض الفيلم باعتبارها تهديدًا مباشرًا لمدنية الدولة. وأكد أن الحركة التنويرية في مصر انطلقت منذ عهد محمد علي باشا، وواصلت مسيرتها مع الخديوي إسماعيل، الذي تصدى بدوره للتيارات الرجعية، وواجه دعاة الجمود الديني، كما أشار إلى واقعة تاريخية عزل فيها شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية دفاعًا عن قيم التحديث والنهضة.
وأكدت الدعوى أن الفن المصري كان ولا يزال سلاحًا فاعلًا في مواجهة الفكر الظلامي، مستشهدًا بأعمال سينمائية رائدة مثل أفلام "الإرهابي"، و"طيور الظلام"، و"بخيت وعديلة"، و"المصير"، التي شكلت محطات بارزة في مقاومة التطرف.
كما استندت الدعوى إلى قانون تنظيم الرقابة على المصنفات الفنية رقم 430 لسنة 1955، الذي قصر سلطة الترخيص ومنح التصاريح للأعمال الفنية على الجهات الرقابية المختصة وحدها. وطالبت الدعوى بإلزام وزارة الثقافة بإحالة كل من يتجاوز اختصاصات الرقابة إلى النيابة العامة، بتهمة الاعتداء على مدنية الدولة ومحاولة فرض وصاية فكرية.
واختتم هاني سامح دفاعه بالتأكيد على أن "الفن المصري سيظل صامدًا في مواجهة كل محاولات إعادته إلى عصور الظلام"، مشددًا على ضرورة حماية حرية الإبداع كجزء أساسي من هوية الدولة المصرية الحديثة