جريدة الرؤية العمانية:
2025-12-08@21:41:12 GMT

عن ضرورة التسامح والتنوع الدينيين

تاريخ النشر: 9th, September 2024 GMT

عن ضرورة التسامح والتنوع الدينيين

 

د. هيثم مزاحم **

 

الأديان والمذاهب كثيرة، لكن ما يجمعها هو حب الله، أو كما يقول الإمام محمد الباقر: "هل الدين إلاّ الحب؟". لكن الواقع العربي والإسلامي اليوم يفتقد إلى الحب الذي هو جوهر العلاقة بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، بينما يحل مكانه الكره والعنف باسم الدين وفي سبيل التقرّب إلى الله.

لكن الصراعات المذهبية والطائفية التي تسود العالم الإسلامي اليوم ليست ظاهرة فريدة أو جديدة، فقد عرف العالم الإسلامي سابقًا بعض هذه الصراعات التي كانت ذات بعد مذهبي أو طائفي أو كانت سياسية وسلطوية ولكن تم استخدام الغطاء الديني والطائفي كإطار للتعبئة والحشد لدعم هذا السلطان أو ذاك النظام.

الغرب المسيحي عرف بدوره صراعات وانقسامات طائفية بين الكاثوليك والأرثوذكس ثم بين الكاثوليك والبروتستانت، أفضت إلى حروب طاحنة في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا أسفرت عن مقتل ملايين الأشخاص حيث سقط في ألمانيا وحدها خلال حرب الثلاثين عامًا (1618-1648) بين البروتستانت والكاثوليك أكثر من ستة ملايين شخص، وهبط عدد سكان ألمانيا من 20 مليونًا إلى 13.5 مليون نسمة. ولم تتوقف الحرب حتى وقعت اتفاقية وستفاليا للسلام العام 1648، وكان من أبرز بنودها الاعتراف بحرية الاعتقاد والعبادة للبروتستانت.

واقترح الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في القرن السابع عشر نظرية مفصلة لفكرة التسامح، اشتملت على مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة والذي شكّل الحجر الأساس لمبادئ الديمقراطية الدستورية. وكان قانون التسامح البريطاني للعام 1689 حصيلة للجهود الفكرية والسياسية المبذولة حول فكرة التسامح. لكن انتشار الفكر العلماني وفصل الدولة عن الكنيسة في أوروبا قد حدثا فعليًا في القرن التاسع عشر ونتيجة للثورة الفرنسية سنة 1789. وقد ساهمت سيادة العلمانية في الغرب في ترسيخ أسس الدولة المدنية ومفاهيم المواطنة والقانون وحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وبينها حريات الدين والاعتقاد والعبادة. لكن، على الرغم من الحريات الدينية التي كفلها الدستور الأميركي عام 1788، لم يقدر الكاثوليك واليهود على التمتع الفعلي بها في الولايات المتحدة حتى القرن العشرين.

إذن.. يمكن القول إن الغرب تمكن من تجاوز مشكلاته الطائفية وصراعاته الدموية، وذلك من خلال مبادئ العلمانية والليبرالية والديمقرطية، وخصوصًا الحريات الفكرية والسياسية والتسامح الديني وقبول الاختلاف واللجوء إلى الوسائل السلمية والديمقراطية في صراعاته السياسية وحسم الخلافات داخل المجتمعات والدول.

ولعلّ من بين أهم أسباب الصراعات الطائفية والمذهبية في العالم العربي والإسلامي اليوم هو الإيمان بحصرية الحق والحقيقة المُطلقة، وعدم قبول الاختلاف وعدم احترام التعددية الدينية، وذلك انطلاقًا من تفسير للنصوص الدينية يعزز هذه الحصرية وينفي وجود إمكانية لوجود الإيمان والحقيقة لدى الأديان والمذاهب الأخرى.

وادعاء حصرية الحق وتكفير وشيطنة الآخرين دعوة يقول بها معظم رجال الدين وأتباع الديانات السماوية والمذاهب الإسلامية. يستند بعض المسلمين إلى تفسير آية "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (آل عمران: 85)؛ ليؤكدوا هذه الحصرية وينفوا إمكان وجود الحق والهداية عند الديانات السماوية الأخرى، وذلك في ما يبدو تعارضًا أو نسخًا لآيات تقول بالتعددية الإيمانية ومنها الآيات التالية: "إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون" (البقرة: 62)، و"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (المائدة: 5)، و"إِنَّ الذِينَ آمَنُوا والذِينَ هَادُوا والصَّابِئِينَ والنَّصَارَى والمَجُوسَ والذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيد" (الحج: 17).

وظاهر آية "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا" القول بحصرية الإسلام كدين وصراط للنجاة في الآخرة والوصول إلى الله، لكن تفسير الآية، بحسب سبب نزولها، لا يفيد معناها الظاهري. فقد ذكر بعض المفسّرين أن هذه الآية نزلت في اثني عشر من المنافقين الذين أظهروا الإيمان، ثمّ ارتدوا وخرجوا من المدينة إلى مكّة، فنزلت الآية وأنذرتهم بأنه من اعتنق غير الإسلام فهو من الخاسرين.

أما الآيات الأخرى التي تصف المؤمنين بالله واليوم الآخر من الديانات الأخرى بأن لهم أجرًا إذا عملوا صالحًا ولا خوف عليهم في الآخرة، فظاهرها يفيد قبول القرآن بالتعددية الدينية. ولكن بعض المفسرين يرون أن المقصود بالمؤمنين السابقين على دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليس الذين عاشوا زمن نبوته أو بعدها، في تأكيد على حصرية الإسلام كدين الله الأوحد والصراط المستقيم للنجاة يوم القيامة.

أما داخل الإسلام، فتقوم حصرية الهداية والنجاة باتباع مذهب واحد أو فرقة ناجية واحدة، كل مذهب وكل فرقة تدعي أنها المختارة استنادًا إلى الحديث المنسوب إلى النبي: "لتفترقنّ أمتي على ثلاث وسبعين، فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار"، والذي تلقاه بعض المسلمين بالقبول‏ بغض النظر عن سنده ومضمونه. والحديث ورد بصيغ مختلفة لا تخلو من تضارب. وقد ذهب الإمام محمد بن علي الشوكاني (ت 1250ه) إلى عدم صحة الحديث سندًا ومتنًا. كما كتب الباحث عبدالله السريحي دراسة بعنوان "حديث افتراق الأمة" أوضح فيها أن هذا الحديث موضوع لعدم صحة إسناده، وعدم صحة متنه لمعارضته لكثير من قواعد الإسلام، ومع النصوص القطعية المعارضة له.

ما قصدتُ قوله إنَّنا كمسلمين وعرب نحتاج إلى نظرية دينية تعددية تقبل الاختلاف والتعدد الإيماني ولا تكفّر المختلف في الدين والمذهب، وذلك انطلاقًا من إعادة قراءة للنصوص (القرآن والسنّة) وخصوصًا الآيات القائلة بالتعدد والتسامح الديني من جهة، وتوافق المسلمين على مختلف مذاهبهم بإسلام من شهد الشهادتين ولو لفظًا وحرمة دمه وماله وعرضه من دون الحاجة إلى شق قلبه واختبار إيمانه وبحث تفاصيل عقائده وفقهه لتكفيره، من جهة أخرى، انطلاقًا من عقيدة إرجاء الأمر إلى الله تعالى ليفصل في ذلك يوم القيامة.

فالله سبحانه وتعالى هو الحق وهو الذي خلق التنوع والتعدد إذ يقول في كتابه الكريم: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين" (هود: 118)، و"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13). فهو يصرّح بأنه أراد خلق هذا التنوع في الجنس والشعوب والقبائل والأمم والأديان، وإلا لكان خلق الناس من جنس واحد أو عرق واحد أو شعب واحد أو جعلهم كلهم من دين واحد.

يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في هذا الصدد:

"لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي.. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صارَ قلبي قابلًا كلَ صُورةٍ .. فمرعىً لغزلانٍ ودَيرٌ لرُهبانِ وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن

أدينُ بدينِ الحبِ أنّى توجّهتْ ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيمَاني".

بينما يقول الشاعر والعالم الصوفي جلال الدين الرومي في وصف الدين الحقيقي: إن ملّة العشق قد انفصلت عن جميع الأديان؛ فمذهب العشاق ومِلتهم هو الله.

** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية - لبنان

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

وقفة.. حجب المواقع الإباحية في مصر «ضرورة»

وقفتنا هذا الأسبوع تتعلق بموضوع أراه أصبح في غاية الأهمية بوقتنا هذا ألا وهو مطلب حجب المواقع الإباحية عن مواقع الإنترنت فى مصر، خاصة بعد انتشار موجة من التحرش والاغتصاب وهتك العرض، وكان آخرها ما حدث من بعض العاملين بإحدى المدارس مع أطفال فى عمر الزهور.

ما هذا يا سادة كنا زمان لا نسمع عن التحرش، أو هتك الأعراض، أو الشذوذ بتاتًا، وأقصي ما سمعنا عنه كانت قضية فتاة المعادي، وكانت وقتها حدثًا جللاً ظللنا نتحدث عنه فى الجرائد، والتليفزيون أيامًا، وشهورًا، وسنين حتى علمنا بإعدام الجناة جميعهم، وكان ذلك قبل الدش والنت والموبايل، الآن حدث ولا حرج عن النت والدش والموبايل العالم كله استفاد، ويستفيد منه بحق ونحن ننزلق مع تلك الأدوات إلى الهاوية.

أظن حان الوقت أن يقوم السيد وزير الاتصالات مع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات باعتباره الجهة الفنية ومسئولي وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بتنفيذ أحكام محكمة القضاء الإداري التى نما إلى علمي صدور أحكام منذ عام 2009 تتعلق بالحجب، وذلك من خلال إخطار شركات الإنترنت بحجب مواقع إباحية محددة والضغط قانونًا وإداريًّا لتنفيذ الحجب، حتى نقلل بقدر الإمكان من أفعال جرائم التحرش وهتك العرض والاغتصاب، مع وضع خطة بالتعاون بين وزارة الاتصالات والهيئة الوطنية للإعلام ومؤسسة الأزهر ووزارة الأوقاف والكنيسة المصرية تتعلق بالجانب الديني والأخلاقي، وتوضيح مدى خطورة الاغتصاب وهتك العرض والتحرش فى الدنيا، والآخرة، وخاصة للنشء، والشباب من الجنسين قبل فوات الأوان.

إلى هنا، انتهت وقفتنا لهذا الأسبوع أدعو الله أن أكون بها من المقبولين، وإلى وقفة أخرى الأسبوع القادم إذا أحيانا الله، وأحياكم إن شاء الله.

اقرأ أيضاًمجمع إعلام القليوبية يُطلق حملة «معًا ضد التحرش»: حماية براءة الأطفال صونًا لمستقبلهم

التحرش في المدارس.. الأسباب العميقة وخريطة العلاج

عنف وتنمر وهتك أعراض.. هل تحولت المدارس الدولية إلى أوكار لاغتيال البراءة؟

مقالات مشابهة

  • "الشؤون الإسلامية": تخصيص خطبة الجمعة القادمة عن عناية الإسلام بالمرأة وحفظه لحقوقها
  • كيف أتغلب على الشكوك في الدين؟.. أمين الفتوى يجيب
  • ماهي البشعة وحكمها في الإسلام ؟
  • وقفة.. حجب المواقع الإباحية في مصر «ضرورة»
  • فضل بر الأم وكيف يكون البر في الإسلام؟
  • عمرو الليثي: السعادة في التسامح والرضا بما قسمه الله لك
  • خلوا بيني وبين الناس
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس…)
  • قال عنه رسول الله ﷺ "مخ العبادة" فضل الدعاء في الإسلام
  • إستراتيجية خامنئي الجديدة في إيران