عن ضرورة التسامح والتنوع الدينيين
تاريخ النشر: 9th, September 2024 GMT
د. هيثم مزاحم **
الأديان والمذاهب كثيرة، لكن ما يجمعها هو حب الله، أو كما يقول الإمام محمد الباقر: "هل الدين إلاّ الحب؟". لكن الواقع العربي والإسلامي اليوم يفتقد إلى الحب الذي هو جوهر العلاقة بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، بينما يحل مكانه الكره والعنف باسم الدين وفي سبيل التقرّب إلى الله.
لكن الصراعات المذهبية والطائفية التي تسود العالم الإسلامي اليوم ليست ظاهرة فريدة أو جديدة، فقد عرف العالم الإسلامي سابقًا بعض هذه الصراعات التي كانت ذات بعد مذهبي أو طائفي أو كانت سياسية وسلطوية ولكن تم استخدام الغطاء الديني والطائفي كإطار للتعبئة والحشد لدعم هذا السلطان أو ذاك النظام.
الغرب المسيحي عرف بدوره صراعات وانقسامات طائفية بين الكاثوليك والأرثوذكس ثم بين الكاثوليك والبروتستانت، أفضت إلى حروب طاحنة في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا أسفرت عن مقتل ملايين الأشخاص حيث سقط في ألمانيا وحدها خلال حرب الثلاثين عامًا (1618-1648) بين البروتستانت والكاثوليك أكثر من ستة ملايين شخص، وهبط عدد سكان ألمانيا من 20 مليونًا إلى 13.5 مليون نسمة. ولم تتوقف الحرب حتى وقعت اتفاقية وستفاليا للسلام العام 1648، وكان من أبرز بنودها الاعتراف بحرية الاعتقاد والعبادة للبروتستانت.
واقترح الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في القرن السابع عشر نظرية مفصلة لفكرة التسامح، اشتملت على مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة والذي شكّل الحجر الأساس لمبادئ الديمقراطية الدستورية. وكان قانون التسامح البريطاني للعام 1689 حصيلة للجهود الفكرية والسياسية المبذولة حول فكرة التسامح. لكن انتشار الفكر العلماني وفصل الدولة عن الكنيسة في أوروبا قد حدثا فعليًا في القرن التاسع عشر ونتيجة للثورة الفرنسية سنة 1789. وقد ساهمت سيادة العلمانية في الغرب في ترسيخ أسس الدولة المدنية ومفاهيم المواطنة والقانون وحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وبينها حريات الدين والاعتقاد والعبادة. لكن، على الرغم من الحريات الدينية التي كفلها الدستور الأميركي عام 1788، لم يقدر الكاثوليك واليهود على التمتع الفعلي بها في الولايات المتحدة حتى القرن العشرين.
إذن.. يمكن القول إن الغرب تمكن من تجاوز مشكلاته الطائفية وصراعاته الدموية، وذلك من خلال مبادئ العلمانية والليبرالية والديمقرطية، وخصوصًا الحريات الفكرية والسياسية والتسامح الديني وقبول الاختلاف واللجوء إلى الوسائل السلمية والديمقراطية في صراعاته السياسية وحسم الخلافات داخل المجتمعات والدول.
ولعلّ من بين أهم أسباب الصراعات الطائفية والمذهبية في العالم العربي والإسلامي اليوم هو الإيمان بحصرية الحق والحقيقة المُطلقة، وعدم قبول الاختلاف وعدم احترام التعددية الدينية، وذلك انطلاقًا من تفسير للنصوص الدينية يعزز هذه الحصرية وينفي وجود إمكانية لوجود الإيمان والحقيقة لدى الأديان والمذاهب الأخرى.
وادعاء حصرية الحق وتكفير وشيطنة الآخرين دعوة يقول بها معظم رجال الدين وأتباع الديانات السماوية والمذاهب الإسلامية. يستند بعض المسلمين إلى تفسير آية "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (آل عمران: 85)؛ ليؤكدوا هذه الحصرية وينفوا إمكان وجود الحق والهداية عند الديانات السماوية الأخرى، وذلك في ما يبدو تعارضًا أو نسخًا لآيات تقول بالتعددية الإيمانية ومنها الآيات التالية: "إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون" (البقرة: 62)، و"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (المائدة: 5)، و"إِنَّ الذِينَ آمَنُوا والذِينَ هَادُوا والصَّابِئِينَ والنَّصَارَى والمَجُوسَ والذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيد" (الحج: 17).
وظاهر آية "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا" القول بحصرية الإسلام كدين وصراط للنجاة في الآخرة والوصول إلى الله، لكن تفسير الآية، بحسب سبب نزولها، لا يفيد معناها الظاهري. فقد ذكر بعض المفسّرين أن هذه الآية نزلت في اثني عشر من المنافقين الذين أظهروا الإيمان، ثمّ ارتدوا وخرجوا من المدينة إلى مكّة، فنزلت الآية وأنذرتهم بأنه من اعتنق غير الإسلام فهو من الخاسرين.
أما الآيات الأخرى التي تصف المؤمنين بالله واليوم الآخر من الديانات الأخرى بأن لهم أجرًا إذا عملوا صالحًا ولا خوف عليهم في الآخرة، فظاهرها يفيد قبول القرآن بالتعددية الدينية. ولكن بعض المفسرين يرون أن المقصود بالمؤمنين السابقين على دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليس الذين عاشوا زمن نبوته أو بعدها، في تأكيد على حصرية الإسلام كدين الله الأوحد والصراط المستقيم للنجاة يوم القيامة.
أما داخل الإسلام، فتقوم حصرية الهداية والنجاة باتباع مذهب واحد أو فرقة ناجية واحدة، كل مذهب وكل فرقة تدعي أنها المختارة استنادًا إلى الحديث المنسوب إلى النبي: "لتفترقنّ أمتي على ثلاث وسبعين، فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار"، والذي تلقاه بعض المسلمين بالقبول بغض النظر عن سنده ومضمونه. والحديث ورد بصيغ مختلفة لا تخلو من تضارب. وقد ذهب الإمام محمد بن علي الشوكاني (ت 1250ه) إلى عدم صحة الحديث سندًا ومتنًا. كما كتب الباحث عبدالله السريحي دراسة بعنوان "حديث افتراق الأمة" أوضح فيها أن هذا الحديث موضوع لعدم صحة إسناده، وعدم صحة متنه لمعارضته لكثير من قواعد الإسلام، ومع النصوص القطعية المعارضة له.
ما قصدتُ قوله إنَّنا كمسلمين وعرب نحتاج إلى نظرية دينية تعددية تقبل الاختلاف والتعدد الإيماني ولا تكفّر المختلف في الدين والمذهب، وذلك انطلاقًا من إعادة قراءة للنصوص (القرآن والسنّة) وخصوصًا الآيات القائلة بالتعدد والتسامح الديني من جهة، وتوافق المسلمين على مختلف مذاهبهم بإسلام من شهد الشهادتين ولو لفظًا وحرمة دمه وماله وعرضه من دون الحاجة إلى شق قلبه واختبار إيمانه وبحث تفاصيل عقائده وفقهه لتكفيره، من جهة أخرى، انطلاقًا من عقيدة إرجاء الأمر إلى الله تعالى ليفصل في ذلك يوم القيامة.
فالله سبحانه وتعالى هو الحق وهو الذي خلق التنوع والتعدد إذ يقول في كتابه الكريم: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين" (هود: 118)، و"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13). فهو يصرّح بأنه أراد خلق هذا التنوع في الجنس والشعوب والقبائل والأمم والأديان، وإلا لكان خلق الناس من جنس واحد أو عرق واحد أو شعب واحد أو جعلهم كلهم من دين واحد.
يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في هذا الصدد:
"لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي.. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلبي قابلًا كلَ صُورةٍ .. فمرعىً لغزلانٍ ودَيرٌ لرُهبانِ وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن
أدينُ بدينِ الحبِ أنّى توجّهتْ ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيمَاني".
بينما يقول الشاعر والعالم الصوفي جلال الدين الرومي في وصف الدين الحقيقي: إن ملّة العشق قد انفصلت عن جميع الأديان؛ فمذهب العشاق ومِلتهم هو الله.
** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية - لبنان
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
خطيب الجامع الأزهر: السلام ضرورة وسنة كونية.. وإذا اختل النظام عمت الفوضى
كتب - علي شبل:
أكد الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية أ.د. محمد الجندي خلال خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالجامع الأزهر، بعنوان: «السلام ضرورة وجودية»، أن السلام سنة كونية من شذَّ عنها شذَّ عن الحياة، مشيرًا إلى أن الحرب دمار وخراب لا بناء وعمار، متسائلًا: «ماذا أثمرت الحروب غير الدمار والتشريد وانتهاك الحرمات والتجويع؟».
وقال فضيلته: «فيا أيها الكون، أما آن لك أن تعود إلى فطرتك الأولى حيث السلام؟ فالحياة من غير سلام تشبه حياة الغابة، وحوشٌ منطحِنة ووعولٌ متصارعة»، مؤكدًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلَّص الكون كله من عناء الحروب، ورسّخ السلام في الأرض والقلوب.
وأضاف الأمين العام أن السلام منطلق مركزي في كل الرسالات السماوية، وأنه قيمة أصيلة في فطرة الإنسان وسنن الكون، فالكون يدور بانتظام من الذرّة إلى المجرّة، كما قال تعالى: (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)، محذرًا من أن أيّ اختلال في هذا النظام يؤدي إلى اضطراب في الحياة، تمامًا كما يؤدي اضطراب الصفائح التكتونية إلى الزلازل.
وأوضح فضيلته أن سكون الكون وأمانه مرهون بانتظامه لا بانتقامه، فالسلام سنة كونية إذا تحقق قامت قائمته، وإذا انقشع قامت القيامة، مؤكدًا أن السلام في الإنسان والمجتمع يقوم على ثلاثة أركان: الأولى، العفو وكظم الغيظ، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ: «من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من الحور ما شاء»، وبموقف النبي الكريم مع أهل مكة حين قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، والثانية، وحدة الشعور الإنساني، وهي التي تجعل الإنسان يحسّ بغيره، فينفق في سبيل الله ويشعر الغني بالجائع والصحيح بالمريض، مستشهدًا بقول النبي ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد»، أما الثالثة، محبة الخير للغير، مستدلًا بما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال في دعائه لها: «اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، ما أسرت وما أعلنت، ثم قال لها: «والله إنها لدعائي لأمتي في كل صلاة».
وأشار الأمين العام إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن السلام عنده مجرد قول، بل كان منهج حياة، حتى الجماد والحيوان شعرا بأمانه، فقد سلّم عليه الحجر والشجر، كما في حديث عليٍّ رضي الله عنه: «ما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله»، كما رقّ قلبه لجمل اشتكى إليه الجوع والتعب فقال لصاحبه: «أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملككها الله؟ إنها شكت إليّ أنك تجيعها وتدئبها».
وأوضح فضيلته أن الإيمان الحق هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، وأن الشعور بالآخرين هو عنوان هذا الإيمان، مستشهدًا بحديث السيدة عائشة رضي الله عنها عندما ذبحت شاة فقال النبي ﷺ: «ما بقي منها؟» قالت: ما بقي منها إلا كتفها، فقال ﷺ: بقي كلها غير كتفها»، مبينًا أن النفس الإنسانية عزيزة حرّم الله الاعتداء عليها، لقوله ﷺ: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا».
واختتم فضيلته خطبته بالتأكيد على أن السلام هو الإطار الجامع لاستقرار الكون والبشرية، وأن من خرج عنه خرج عن فطرته، قائلًا: «ان سكون الكون كله وأمانه مرهون بانتظامه لا بانتقامه، فالسلام سنة كونية إذا تحقق قامت قائمته، وإذا انقشع قامت القيامة».
لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
الجامع الأزهر مجمع البحوث الإسلامية محمد الجندي خطبة الجمعة أحدث الموضوعاتفيديو قد يعجبك:
أخبار مصر المفتي يؤدي صلاة الجمعة بمسجد القدوس بالعاصمة الماليزية منذ 15 دقيقة
إعلان
يوم على الافتتاح
أخبار مهرجان الجونة
المزيدأخبار
المزيدإعلان
خطيب الجامع الأزهر: السلام ضرورة وسنة كونية.. وإذا اختل النظام عمت الفوضى
روابط سريعة
أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلامياتعن مصراوي
اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصيةمواقعنا الأخرى
©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا
القاهرة - مصر
32 21 الرطوبة: 36% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب مهرجان الجونة السينمائي رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك