السجاد اليدوي .. على طريق سقارة تصطف البيوت الريفية المقامة على طابقين كرقعة شطرنج بثنائية لوني البني والرمادي على الجانبين، يسحب خضار الحرانية الغض البساط من الجيزة وجمودها ومبانيها المصمتة ليأخذك في جولة بين رحابة الطبيعة البكر.

على مساحة نصف فدان، يفتح مركز مهندس العمارة والنساج الشهير رمسيس ويصا واصف مصرعيه مرحبًا بالزائرين، يستقبلك عبير زهور الصيف الآخاذة ويصطحبك شذي العشب اليانع حديث التقليم في جولة بين دروب حديقته الغناء، وتصب عبقرية العمارة المصرية القديمة الحسن في روحك صبًا، بمشربيات مطعمة من خشب التكى، وتفتح فتحات التهوية، الكوات، المصممة على الطراز النوبي منافذ للنسيم العليل فينساب إلى وجدانك.

عبقرية اختيار المكان

تجلت عبقرية مهندس العمارة بكلية الفنون الجميلة، رمسيس ويصا واصف، وباكورة حسًا فنيًا رافقه طيلة حياته، في اختيار قرية الحرانية عام 1951م، معقلاً لتجربته الرائدة في حفظ حرفة النسج اليدوي من النسيان والزود بها من براثن الإندثار. 

قرية بكر لم يعرف لها الحس الفني سبيلاً من قبل، وبين وجوه تشربت بحمرة الصبا وجد المعماري ضالته في نواة الرعيل الأول، جيل يكتب للنسج اليدوي النجاة بأحرف من الخيوط، وسط أرض زراعية جادت تربتها بأفضل أنواع نباتات الصبغة: الفوة للون الأحمر، والرزدة لدرجات الأصفر المشرق والنيلة للأزرق الزاهي.

النسج شغل قلب رمسيس واصف وشاغل عقله

استقر هوى النسج في نفس رمسيس ويصا واصف، ووقع عشقه مبلغًا من قلبه فستأنس بجمال ألوان الخيوط ولاقى إنتظام بنيان النول الخشبي ميلاً في صدره، وفي لوحة بعرض 30 سم جسد رمسيس ثور "أبيس" المقدس في مصر القديمة يرفقه سنابل القمح في سجادة يدوية أثيرة، ففاقد الشئ لايعيطه، علم رمسيس نفسه النسج بنفسه حتى أضحى واحدًا من شيوخ الطريقة.

أرسى واصف قوعد ذهبية لوضع اللبنة الأولى من رعيل النسج، أولها: تحرير خيال الصبا من قيد التلقين وجمود التقليد، فالخيال هو السراج الذي ينير عتمة الجهل ويأخذ بيد النساجين الصغار إلى ضياء الفهم، ثانيها: لامحل للانتقاد فالتشجيع هو سبيل تنمية عفوية الإبداع وإطلاق العنان للحس الفني، ثالثها: أن يتحول المركز إلى بيت ثاني للأطفال يجدون بين حجراته ألفة بيت الجد وعفوية الأسرة ودفء العائلة، ففتح لهم واصف حجرات للأنشطة وخصص لهم ملعبًا لكرة القدم وأغدق عليهم بالهدايا؛ الدمى للبنات والأحصنة للصبيان.  

سوزان ويصا واصف تستكمل مسيرة والدها

 حملت مدام سوزان وزوجها المهندس إكرام نصحي الراية خلفًا للمعماري الشهير رمسيس وزوجته السيدة صوفي من بعده، فأعدت جيلاً جديدًا من النساجين وسلحتهم بكل مايلزم من عدة وأدوات للشروع في العمل وإثراء معرض المركز الدائم بأجمل القطع الفنية من السجاد اليدوي، بجانب تلبية طلبات العملاء الخاصة بعد الإتفاق على الفكرة فقط ومنح النساج حرية اختيار عناصر التكوين دون تسلط على خياله أو توجيه لفنه.

محروس عبده .. سجادة "سوق القرية"

بجلباب فضفاض يلائم بشرة خضبتها أشعة الشمس وقسمات تحمل مسحة من ملاحة بائدة، يقبع عم محروس لايبارح كرسي صغير إلى نوله في مشغل صغير يحمل يافطة نقش عليها اسمه بمركز "ويصا واصف"، يضفر الجمال خيوطًا على نول خشبي عريض يحمل أيضًا اسمه، ينثر ألوان من خيط الصوف على السداء فيحصد سنابل القمح تهفها نسائم الصبائح على السجاد اليديوي حتى تكاد ترأها أمامك رأي العين، عفوية عم محروس لم تروضها سوى نصائح مدام سوزان واصف التي أصقلت موهبة شب عليها وشاب بها.

سجادة يدوية تعكس ذائقة عم محروس الخاصة في رؤية حياة ماتحت سطح البحر، تشغل حيزًا يقارب المترين داخل أحد متاحف الفنون في بريطانيا، هي أعظم ما أنجبت بنات أفكاره، وإنجاز عم محروس الأثير ومصدر فخره واعتزاز أسرته وأبنائه.

حياة تسير على وقع عقارب الساعة تبدأ في التاسعة صباح كل يوم، تسبقها جولة من التأمل وتصفية الذهن بين حقول الحرانية النضرة، شجرها ونخلها وسنابل قمحها وزهورها تمده بجمال خيال يتضافر في ذهن عم محروس وينساب سحره من أطراف أصابعه وصولاً إلى "اللِحمة" الصوف ينفض غزله مرة وينكثه أخرى حتى يرضى عما تجلى أمام نظاريه من آيات الفن والجمال، ثم يأتي دور المشط الذي يهذب مايلضمه عم محروس على خيوط السداء.

 

بسيمة محمد .. لوحة "حلقة السمك"

تشق خيوط شمس الضحى غيوم نوفمبر الكثيفة لتوقظ بسيمة محمد من ثباتها، تنزع عنها وشاح الدفء تاركة خلفها آثار إرهاق الأمس مستقبلة رسائل الأمل من تغريد العصافير في صباح يوم جديد.

تحمل بسيمة ابنها الأكبر محمود على كتفيها صوب حي إمبابة ليخضع لواحدة من جلسات العلاج لطبيعي الأسبوعية، تسير به على درب يفترش بعزيمتها الفلاذية التي تجابه بها شلل الأطفال الذي ألم ببكرها رضيعًا، ثم تودعه المدرسة قبل أن تنزع عنها ثوب الأسى لتلقيه على عتبات مركز رمسيس ويصا واصف.

تجلس بسيمة على مقعد خشبي عتيق يتدثر بوسادة حالت السنون ألوان قماشها، تطلق العنان لخيالها راكضًا إلى قرية كرداسة المجاورة ليخطف صورة من زمن بائد لحركة البيع والشراء، أقدام شتى تزور السوق فيه يجاور الجلباب الفلاحي البدلة الأفرنجي ويزاحم فيه التوب "أبو سفرة" "التيير" المدرن، ويعود خيال بسيمة حاملاً صورة كبصمة اليد فريدة من نوعها جلية في جمال تفاصيلها تودعها بين خيوط السداء وتلضمها في النير على النول الخشبي. 

كنجمة هوليوودية مخضرمة تستقبل بسيمة معجبيها في مشغلها الخاص بمركز "ويصا واصف"، يلتقطون معها لصور ويتجاذبون أطراف الأحاديث حول مكمن إلهام الجمال الذي يصل خيال بسيمة بأنامها الذكية، وكالمريد المخلص سعود كل من إبتاع قطعة فنية من السجاد اليدوي ليقتني المزيد بعد أن أسكرهم حلو ماصنعت يدا بسيمة.

يد حانية ربتت على بسيمة في مرض ولدها ونهضت لتشد عضدها وتستكمل معها مايلزم من أموال لبناء منزل خاص بها وبأولادها، كانت سوزان واصف، ابنة المهندس رمسيس فارسة تدافع عن المظلومين، ساعدها ممدود دومًا للأهل والأصحاب في المشغل، قائدة من طراز خاص تلطفت مع الجميل فدللناها بـ "سوسو" ربطتها بهم وجمعتهم بها علاقة من الألفة والمحبة قبل شغل الغزل، فنشأن سويًا على لعبة الجيلان و"مال" وشبت هبة ابنة بسيمة يدًا بيد مع ماريان ابنة مدام سوزان، وحفيدة النساج الشهير.

تترفق مدام سوزان مع فنانات مركز ويصا واصف فتفك قيود رتابة المواعيد عن أيديهم وتخفف وطأة تباين عوائد حركة بين "الشغل اليدوي" عن كواهلهم فيسرح خيالهم أبعد، وتمدهم برواتب منتظمة تقع في أيديهم حتى قبل أن يصل السجاد إلى مشتريه.

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: السجاد العمارة المصرية القديمة العمارة المصرية ويصا واصف ابيس السجاد الیدوی خیوط ا

إقرأ أيضاً:

أمير عبد المجيد لـ«بالخط العريض»: رفدوني من المدرسة لأني ضربت مدرسًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قال الملحن والموسيقار أمير عبد المجيد، إن الموسيقى لم تكن حلمه في البداية، بل كان يريد أن يصبح ضابطًا في الجيش المصري كأغلب أحلام الشباب والأطفال آنذاك، لكنه نشأ نشأة موسيقية وتربى على الموسيقى، فأبوه كان موسيقيًا وعازفًا، وكان يعيد توزيع وتلحين الأغاني هو وأصدقاؤه.

أمير عبدالمجيد وعلاقته بوالده

وتابع عبد المجيد، خلال لقائه مع الإعلامية إيمان أبو طالب في برنامجها "بالخط العريض" على شاشة "الحياة": كنت متأثرًا بوالدي جدًا، ودائمًا ما كنت أرافقه لأنه كان كفيفًا، فكنت أصاحب في كل سهراتي  كل أصدقاء أبي، وأحضر معهم حفلات أم كلثوم الشهرية بالراديو، وحاول أبي أن يعلمني العزف على العود في صغري لكني لم أنجح في ذلك، وكان أبي يحلم بأن أكون موسيقيًا مثله، لكني لم أكن أريد ذلك.

أمير عبد المجيد ودراسته

وواصل عبد المجيد: "التحقت بالمدرسة الثانوية العسكرية، لكني رُفدت منها في أول عام، ثم التحقت بمدرسة حكومية ورُفدت منها أيضًا لأني ضربت مدرسًا ضربني بالمسطرة على يدي. وبعدها قررت أن أترك مصر وأذهب للدراسة أو العمل عند عمتي في السعودية.

الالتحاق بالمعهد العالي للموسيقى

وتابع: لكن بعدما أنهيت إجراءات السفر وقبل السفر بأيام، قرأت إعلانًا بأن المعهد العالي للموسيقى فتح أبوابه لاستقبال الطلاب الجدد، فقررت الالتحاق بالمعهد، وفرح أبي بذلك القرار وقال لي: "ده اللي قولته لك من الأول"، وبالفعل التحقت بالمعهد واخترت دراسة آلة الكمان في أول عام لأني أحب صوتها، لكني رسبت فيها بسبب الأستاذ الذي كان يدرسها لي، فأسلوبه جعلني أنفر من دروسه وكنت أتغيب كثيرًا، فرسبت بسبب كثرة الغياب، وإدارة المعهد خيرتني بين أمرين: إما أن أختار آلة أخرى أدرسها خلال ثلاثة أشهر الصيف وأدخل الدور الثاني، أو أن يتم فصلي نهائيًا، ومديرة المعهد هي من أجبرتني على دراسة آلة القانون، واضطررت أن أقبل لأنه لم يكن أمامي خيار آخر.

العزف على القانون

واستطرد قائلًا: "حينما لمست آلة القانون لأول مرة وقعت في حبها لدرجة أني بقيت في غرفتي 15 يومًا لا أفعل شيئًا سوى العزف على القانون، وأول قانون اشتريته في حياتي كان بـ360 جنيهًا، وكان مبلغًا كبيرًا جدًا بالنسبة لي. 

العزف واحتراف الآلة الموسيقية 

وأكمل: التحقت بامتحان الدور الثاني ونجحت فيه وتفوقت على زملائي، وأصبحت أول الدفعة، ووصلت خلال فترة وجيزة إلى مستوى يسمح لي بالعزف واحتراف الآلة وأنا ما زلت في العام الثاني بالدراسة.

بداية الاحتراف

ويضيف: "نصحني أحد أصدقائي بالذهاب إلى مقهى شهير في شارع محمد علي، يجلس عليه الكثير من العازفين الذين يبحثون عن عمل، عسى أن يطلبني أحد للعزف. وبالفعل بعد فترة طلبني أحد أصحاب الأماكن للعمل معه والعزف مع فرقته الموسيقية، وكانت هذه بداية انطلاقي كموسيقي حقيقي وبداية الاحتراف."

جدير بالذكر أن برنامج "بالخط العريض" يُذاع على شاشة "الحياة" كل يوم جمعة في الثامنة مساءً، تقديم الإعلامية إيمان أبو طالب.

مقالات مشابهة

  • أمير عبد المجيد لـ«بالخط العريض»: رفدوني من المدرسة لأني ضربت مدرسًا
  • من بين خيوط الصمت.. سيدة مصرية تنسج المجد من قلب «الحرانية»
  • قصة كفاح مصرية.. حوّلت خيوط المكرمية إلى منصة رقمية تحمي تراث مصر
  • خريجة تجارة.. سلمي تعمل في غسيل السجاد لمساعدة زوجها بالقاهرة|فيديو
  • رياضة كفر الشيخ تحتفل باليوم العالمي للمرأة وأطفال التوحد | صور
  • بعد اكتشاف أول خرطوش ملكى له فى الأردن .. ماذا يقول التاريخ عن الملك «رمسيس الثالث»؟
  • 16 ساعة من العزف المتواصل.. إيغور ليفيت يشعل لندن بمقطوعة من صفحة واحدة