ظهر من شرفة نافذته، وقال لي أنه قادم، انتظرت على رصيف مقابل منزله، فأقبل بملابس قطنية دافئة، وبين أصابعه يتدلى سيجار إليكتروني غريب ينفث دخانه بولع فتى مُرفّه، وأظهر لي توجهه العنصري قبل أن يركب سيارته الحديثة، قائلًا : لماذا لا نُسلِّم للحوثيين أمرنا، وتنتهي الحرب!
ثم أدار مفتاحًا وسط سيارته، وأخرج علبة خشبية بيضاء والتقط منها نظارة carter ، ورغم أن الجو كان غائمًا إلا أنه إرتداها متباهيًا بإطاراتها الذهبية اللامعة، وندت منه لحظة تهكم سريعة حين رأى سيارتي الصغيرة وسائقها المصري، ثم ذهب بي في جولة إلى مجمع بنايات فخم بمدينة أكتوبر ليمنحني لحظة إذلال يستمتع بها حين أشاهد "فلته الجديدة" !
فرددت إليه غروره : أتتركون صنعاء وتأتون إلى هنا، تفرون منها بعد أن أكلتم خيرها 50 سنة، وأشبعتكم، وأتخمتكم، وعلمتكم في مدن الدنيا، ثم تقول لي متباهيًا : هذا منزلي !، وهل ترى "علبة الكبريت هذه منزلًا" ؟
وفي طريقه، كان شديد الغضب من كل شيء، مني، ومن الرئيس العليمي ومجلس القيادة، والحكومة والجيش، ومن حياته في اليمن التي غادرها بعد أن فقد عيشته المدللة هناك، ولكنه كان مصرًا على إبداء رائحة متكبرة.
يرى أن على ابن الفلاح التصفيق له بإنبهار، الإندهاش لبراعته وتصديقه في كل حرف، أن يكره من يكرهه، ويثق في روايته للأحداث، وأن يرفع حاجبيه إعجابًا بإنجليزيته، وجنسيته الكندية، واستثماراته المصرفية، وقناعاته في من يقدسهم من الأسماء اللامعة بوسائل التواصل الاجتماعي
ارغمته على السكوت، ووصفته بأنه جزء من العائلات المدللة التي لم تكن تكسب رزقها إلا لأنها من صنعاء، تطوف في بلاط السلطة، وتنتقي أجمل القيعان، وأفخر المنازل، وأغلى النظارات، وأطيب الأكل، ولمّا جاءهم رئيس من أبين، ثم من تعز، أغلقت الأبواب، وانصرفوا إلى قوم آخرين، وجاء أناس جدد إلى بلاط كان محصورًا، فانتظروا عامين ليرحل، لكنه لم يفعل، ولما كانت لتلك العائلات نماذج مريعة من الثقافات المستعارة، أقنعتهم تلك الإستعارات أن إزاحة "هادي" لن يتم إلا بتسليم البلاط للحوثيين، لتنظيفه وإعادته إليهم لامعًا معطرًا من رجس الرئيس الجنوبي !
ظنوا أن الحوثي سيمارس دور رجل النظافة المهمش، مثل ذلك الأسود الذي يطهر مدنهم كل صباح من تخم مساءاتهم المزعجة، لحظتذاك صحوا على مشهد اغتيال كبير، أدركوا أن "عامل النظافة" صار سيدهم الجديد، فما كان من أشعرهم إلا أن استعار بيتًا لأبي الطيب المتنبي قاله في هجاء كافور الأخشيدي :
لا تشتري العبد إلا والعصا معه ..
ولم يكمل شاعرهم البيت، فقد كان منشغلًا بالعدو وسط جبال عالية، وشعاب منخفضة في ضواحي صنعاء متخطيًا حدودًا شائكة تدنو به نحو "مارب" التي كتب عنها قبل أشهر بوصفها "وكرًا للإرهاب" ! ، وصل نقطة الفلج، مفلوجًا، متحسسًا بقايا إكسسوارات ملابسه، وبرستيجه، وعند أول نقطة عبرت به إلى الأرض المحررة، ظل أيامًا هناك مبهوتًا من هول الفاجعة، يعيش ليالٍ تقض الكوابيس مضجعه، إذ يرى الحوثيين يسحبونه عاريًا من مسبحه المضاء بألوان بلورية، ويضربونه في أعضائه، ثم يلتهمونه قطعة قطعة، فيفز من نومه صائحًا، ويوقض كل الهاربين حوله، ثم لا يناموا حتى يطلع الصبح، ويتأكدوا أن ما شاهده صاحبهم مجرد أضغاث أحلام لا أكثر ولا أقل .
ومن مارب إلى سيئون، ثم مصر طائرًا بجوار الجرحى، وأنينهم الحقيقي، على كرسي ليس بالدرجة الأولى، ومرت أعوام الحرب بطيئة كما كانت ساعات الطيران، وكل يوم كانت صنعاء تسحبه باشتياق إلى "طيرماناتها الدافئة" ويسأل نفسه بذل أخير : لِمَ لا أعود وأكون عبدًا ؟ ثم يهز كتفيه ويجيب عن نفسه مبررًا : سأقنع "أبو الكرار" بالشراكة معي في شركة الصرافة! . ونفض عن رأسه بلاهة الخطة إذ تذكر أنه لا يعرف من هو أبو الكرار هذا ومن هم عائلته !
وعندما وجدني ألتفت في هيئة اليمني لاحت له فرصة للغضب على رجل عادي، إذا حمّلني مسؤولية ما يحدث، واكتفى بذلك، متوقعًا إذعاني لأناقته، ونظارته الذهبية، وألفاظه الإنجليزية، وجنسيته الكندية، وطقم أسنانه اللامع، وسيارته الفارهة، غير أني غضبت أكثر، قلت له : إذهب إليهم فلن تكون إلا واحدًا من مئات عادوا، وانشأوا اسماءً مستعارة لشتم كل شيء! ، ورفعت سبابتي محذرًا ولمع خاتمي من العقيق اليماني على شعاع أفلت من الشمس نافذًا وسط الغيم الكثيف، قلت : وأنا لا أثق فيمن لا يثقون في شجاعتهم ولا أرد عليهم ، فصنعاء بالنسبة لي لا شيء .
وتركته مبهوتًا، يردد قائلًا : أحقًا ما تقول ؟ ثم خطوت قليلًا، و أدرت رأسي، وابتسمت : بل كل شيء .. كل شيء
مضيت نحو سائقي، في سيارة الأجرة، جلست على مقعد يابس، مستريحًا وظافرًا، أشرت إليه بحزم : امض بنا لنأكل ديكًا روميًا، فقد نتفت ريشه قبل قليل .
المصدر: المشهد اليمني
كلمات دلالية: کل شیء
إقرأ أيضاً: