فرنسا ومعركة الوجود بأفريقيا.. محللون يرصدون أسباب الانتكاسات وفرص الاستدراك
تاريخ النشر: 11th, August 2023 GMT
على امتداد دول الساحل الأفريقي وجنوب الصحراء وحتى في شمال أفريقيا منيت فرنسا مؤخرا بالكثير من الانتكاسات الجيوسياسية، وما انفكت مشاعر العداء تتأجج ضدها كما تظهر بوضوح اللافتات والشعارات والأعلام الروسية التي رفعها متظاهرون في باماكو وواغادوغو ونيامي وغيرها من العواصم الأفريقية.
وبوتيرة متسارعة يتقلص النفوذ الفرنسي في عموم أفريقيا، خاصة في منطقة الساحل الأفريقي، ولم تكن النيجر سوى قطعة أخرى من قطع الدومينو الإقليمية التي باتت خارج دائرة هذا النفوذ.
ورغم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حاول إعادة ضبط وترتيب سياسات بلاده تجاه دول القارة السمراء وتأسيس شراكات جديدة قائمة على الاحترام المتبادل فإن ذلك لم يمنع استمرار تقلص نفوذ بلاده التقليدي ومواجهته العديد من التحديات والصعوبات.
واتفق محللون وخبراء تحدثوا لبرنامج "سيناريوهات" على أن العد العكسي في العلاقات الفرنسية الأفريقية قد بدأ وربما لن يتوقف، مرجعين ذلك لأسباب متعددة، أبرزها الإصرار الفرنسي على النظرة الفوقية لمستعمراتها السابقة، وتصريحات أدلى بها رؤساء فرنسيون أساءت إلى هذه الدول وزعمائها.
"حماقات" فرنسيةوفي حلقة (2023/8/10) من برنامج "سيناريوهات" أرجع أحمد جِدّه محمد البشير الأكاديمي التشادي والوزير السابق -وهو عضو في البرلمان الانتقالي في تشاد- بدء العد التنازلي لحضور فرنسا في أفريقيا إلى ما ارتكبته من "حماقات" استدعت ردود فعل يصعب التراجع عنها.
ويرى البشير أن الأمر لم يعد متوقفا على تغير المزاج الأفريقي فقط تجاه فرنسا وسياساتها، بل إن بعض دول الاتحاد الأوروبي عبرت عن استيائها من التحكم الفرنسي في الثروات الأفريقية وانفرادها بذلك، وهو الأمر الذي شجع دولا أفريقية على اتخاذ خطوات تجاه التحلل من النفوذ الفرنسي.
وأشار إلى أن ارتباط المنظومة الاقتصادية الفرنسية بالمنظومة السياسية في أفريقيا، ونفوذها الذي كان يسمح لها بأن تحدد من سيحكم البلاد يقابلهما الآن تمرد من جيل الشباب في أفريقيا، والذي بات يعتقد أن التحكم الفرنسي في اقتصاد البلاد هو سبب تدهورها.
ويلفت البشير إلى أن هذا الجيل هو أكثر تعلما ومعرفة من سابقيه، وقد وقف بشكل واضح على نماذج أخرى غير النموذج الفرنسي، لذا فهو يسعى حثيثا إلى الانسلاخ من الوصاية الفرنسية والخروج من سياجها، في ظل محاولات فرنسية غير فاعلة لاستدراك الأمر، وهي المحاولات التي لا يتوقع أن تحقق ثمرة حقيقية.
إصرار على الوصايةوفي هذا السياق، يعتبر البرلماني التشادي أن القادة الفرنسيين يتحدثون في العلن عن ضرورة تغيير السياسة تجاه أفريقيا، لكنهم في اللاشعور يرفضون فكرة أن تكون تلك الدول بعيدة عن مدار تحكمهم ونفوذهم ووصايتهم.
ويضيف أنه في الوقت الذي تقدم فيه روسيا والهند والصين مشاريع أمنية وزراعية وبنى تحتية لدول أفريقيا تأتي فرنسا لتقدم مشروعا لحماية الشذوذ الجنسي، وهي سياسة لا تنطلق من علاقة شراكة وإنما علاقة وصاية، وبالتالي فإن الوزير التشادي السابق يرى أن اللجوء إلى روسيا والصين أمر حتمي وضروري في هذه المرحلة لقطع الحبل السري مع فرنسا.
بدوره، يرى بيير برتيلو الباحث في المعهد الفرنسي للتحليل الإستراتيجي أن عوامل متعددة أوصلت الوضع إلى ما هو عليه، منها السلوك الفرنسي تجاه الأفارقة، ومن ذلك تصريحات رؤساء فرنسيين -كان آخرهم ماكرون- تسببت في غضب الأفارقة.
وفي حديثه لبرنامج سيناريوهات، اعتبر برتيلو أنه من المبالغ فيه تحميل فرنسا المسؤولية الكاملة عن هذا التدهور الحاصل في العلاقات مع أفريقيا، لكنه في الوقت ذاته يرى أنه على الفرنسيين أن يوجهوا إلى أنفسهم تساؤلا جادا عن حقيقة سعيهم لتقديم نهضة حقيقية لدول أفريقيا.
فرصة لتدارك الأمرومع إقراره بأن الأوضاع في تدهور مستمر يرى برتيلو أنه لا زالت هناك فرصة لتدارك الأمر في حال اعتمدت باريس سياسة جديدة في علاقاتها الأفريقية، والتي كانت وعدت بها سابقا لكنها لم تنفذها حتى الآن، محذرا من أنه إذا ما استمرت فرنسا في سياستها الاستعلائية فستخاطر بباقي علاقاتها الأفريقية.
بدوره، يرى الدكتور تاج الدين الحسيني أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الخامس بالرباط أن العد العكسي في العلاقات الفرنسية الأفريقية بدأ بالفعل، ليس فقط في دول جنوب الصحراء لكن حتى في شمال أفريقيا، وهو الأمر الذي قد يؤدي في نهاية المطاف إلى قطيعة نهائية بين هذه البلدان وفرنسا.
وفي حديثه لبرنامج سيناريوهات، يرى الحسيني أن فرنسا فشلت فشلا ذريعا في سياساتها المتبعة في أفريقيا، ومنها المتعلقة بمحاربة الإرهاب، وكانت لهذا الفشل مضاعفات شديدة، مشيرا في هذا السياق إلى أن عدد القتلى من المدنيين الأفارقة على يد الفرنسيين خلال الفترة بين 2012 و2021 وصل إلى 11 ألفا.
ويرى أن الأقوال التي يعلنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن تغير السياسة تجاه أفريقيا لا تتوافق مع الأفعال، لافتا إلى أن اليسار الفرنسي يعتبر سياسته ذات طبيعة سوقية لا تؤمن بالندية، ورغم جهوده المضنية للتقرب من أفريقيا خلال الفترات الأخيرة فإن الأوضاع لا تزال تتدهور.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی أفریقیا إلى أن
إقرأ أيضاً:
«المثالية».. مصدر التفكير الدينى
يُعرف المثالى بأنه وصف لكل ما هو كامل فى بابه، كالخلق المثالى واللوحة المثالية... إلخ. إنها تطلع إلى المستقبل المأمول من فوق قمة الواقع المعاش، أو قل إنها تخطيط لما ينبغى أن يكون بحساب دقيق لما هو كائن بالفعل، وليست، كما يزعم أعداؤها الماديون، مجرد أحلام طائرة فى الفراغ بغير قرار. و«المثالية» بوجه عام اتجاه قوامه رد كل وجود إلى الفكر بأوسع معانى هذه اللفظ، فوجود الأشياء مرهون بقوى الإدراك. فمن يكون ذلك الاتجاه المُسمى بالمثالية وما علاقته بالفلسفة؟
عزيزى القارئ اشتقت كلمة مثالية Idealism من كلمة مثال Ideal، والمثال عادة ما يكون صورة فى منتهى الكمال للشىء أو الفعل. وهى اتجاه فلسفى يبدأ من المبدأ القائل بأن الروحى أى اللامادى أولى، وأن المادى ثانوى، وهو ما يجعلها أقرب إلى الأفكار الدينية حول تناهى العالم فى الزمان والمكان وحول خلق الله له. فالمثالية كفلسفة، قديمة قدم التفكير الدينى وهى مصدره، إن لم تكن نابعة عنه. ارتباطها بالأفكار الدينية والأسطورية وهذا طابع مميز لمثالية افلاطون الموضوعية، وللمثالية القديمة بوجه عام، وأمتد هذا الارتباط حتى عصرنا هذا. فعن أى شىء تبحث المثالية؟
صديقى القارئ استخدم مصطلح المثالية لأول مرة فى القرن السابع عشر الفيلسوف الألمانى لايبنتز عندما أطلقه على فلسفة أفلاطون تميزًا لها عن الفلسفة المادية، والمثال عند أفلاطون هو الأصل الذى خُلِقَتَ الكائنات على صورته. والفلسفة المثالية هى الفلسفة العقلية الكلية التى ترى أن الواقع إن لم يكن منبثقًا عن الفكر ومعتمدًا عليه فى وجوده فهو على أقل تقدير مرتبط به. وتنظر المثالية إلى الوعى منعزلًا عن الطبيعة، كما أنها اتجاه فلسفى يبحث عن مسألة الوجود (الأنطولوجيا)، حيث إنها تعطى الأولوية فى الوجود للروح على أن يكون وجود المادة ثانويًا، فى حين أن المادة تعطى الأولوية فى الوجود للمادة على أن تكون الروح انعكاسًا للمادة وظلًا لها.
هذا بالإضافة إلى اختلاف المذاهب المثالية بين متطرف ومحافظ فى هذا الشأن، ومن المتطرفين نذكر على سبيل المثال، فلسفة باركلى المثالية الذاتية التى أنكرت الوجود المادى خارج الذات، الأمر الذى جعلها تقلب بالمثالية الذاتية Subjectivism أو اللامادية Immaterialism، وهنا نلمح وصف باركلى المثالية بأنها المذهب الذى يقول إن الروحى أو اللامادى هو الأولى، وأن المادى هو الثانوى. أما المذاهب المثالية المحافظة فيمكن أن نجدها عند أفلاطون الذى أقر بوجود عالم الحس وإن كان يراه فى درجة أدنى من درجة عالم المثل. ثم عند إيمانويل كانط الذى اعترف بوجود العالم الخارجى كشريك لعالم الفكر فى مجال المعرفة.
نستطيع القول إن المثالية الأفلاطونية مثالية «مطلقة» تتجه إلى ما هو بذاته، لأنها ترى فى الفكرة أو المثال موجودًا متميزًا متعاليًا، هو عنصر المعرفة المطلقة التى هى الموجود المطلق ذاته، ذلك الموجود الذى لا يتغير، والذى بفضله تجى الأشياء كلها إلى الوجود. أما المثالية الكانطية فهى مثالية «نسبية»، تنظر إلى العالم كما هو عندنا: فهى مثالية تقد العالم على قد الإنسان إن صح هذا القول. وهذا هو المعنى الذى قصد إليه كانط حين أعلن ما سماه باسم الثور الكوبرنيقية.
وختامًا، كانت المثالية ولا تزال فكرًا معارضًا لكل نظام – قديمًا كان أو حديث – يعتدى على كرامة الإنسان وحقوقه، فكرًا يدافع عن العدل والمساواة بينهم وعن حريتهم. فهى ذلك التوجه الفكرى الذى يقول بتعالى القيم والمثل فى الحياة العملية، بل هى تكشف العلل وتعطى حلولا للواقع، فيما يحتاج إليه الناس. كما أن المثالية تعنى بشكل مهم ذلك الاتجاه الذى يُقدم عالم الأفكار على غيره من الاتجاهات الفكرية. وفى جملة واحدة، الفلسفة المثالية هى الفلسفة التى تؤمن بأن الكل هو نقطة البداية والنهاية.
[email protected]